فلما كانت الليلة ٧٢٠

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن ابن الملك لما بلغه هذا الخبر، دخل على أبيه الملك وقبَّلَ الأرض بين يديه وقال له: أيها الملك الأعظم، لا تكلف نفسك بشيء من هذا، وتجرد هذه الأبطال وهذا العسكر وتنفق مالك، فإنك أقوى منه، ومتى جرَّدْتَ عليه هذا العسكر الذي معك أخربت دياره وبلاده، وقتلت رجاله وأبطاله، ونهبت أمواله ويقتل هو أيضًا، فيبلغ ابنته ذلك مما حصل لأبيها وغيره من تحت رأسها، فتقتل نفسها وأنا أموت بسببها، ولا أعيش بعدها أبدًا. فقال له الملك: فما يكون رأيك يا ولدي؟ قال له: أنا أتوجَّه في حاجتي بنفسي، وألبس لبس التجار وأتحيَّل في الوصول إليها، وأنظر كيف يكون قضاء حاجتي منها. فقال له أبوه: هل اخترتَ هذا الرأي؟ فقال له: نعم يا والدي. فدعا الملك بالوزير وقال له: سافِرْ مع ولدي وثمرة فؤادي، وساعِدْه على مقاصده، واحتفظ عليه ودبِّرْه برأيك الرشيد، فإنك معه عوضًا عني. فقال الوزير: سمعًا وطاعة. ثم إن الملك أعطى ولده ثلاثمائة ألف دينار من الذهب، وأعطاه جواهر وفصوصًا ومصاغًا ومتاعًا وذخائر وما أشبه ذلك. ثم إن الولد دخل إلى والدته وقبَّلَ يديها وسألها الدعاء، فدعَتْ له، ثم قامت من ساعتها وفتحت خزانتها وأخرجت له ذخائر وقلائد ومصاغًا وملابس وتُحَفًا، وجميع الشيء الذي كان مدَّخَرًا من عهد الملوك السالفة ممَّا لا تعادله أموال. ثم أخذ معه من مماليكه وغلمانه ودوَّابه جميعَ ما يحتاج إليه في الطريق وغيره، وتزيَّا بزي التجار هو والوزير ومَن معهما، وودَّعَ والدته وأهله وقرائبه وساروا يقطعون البراري والقفار آناء الليل والنهار، فلما طالت عليه الطريق أنشد هذه الأبيات:

غَرَامِي مِنَ الْأَشْوَاقِ وَالسَّقْمِ زَائِدُ
وَمَا لِي عَلَى جَوْرِ الزَّمَانِ مُسَاعِدُ
أُرَاعِي الثُّرَيَّا وَالسِّمَاكَ إِذَا بَدَا
كَأَنِّيَ مِنْ فَرْطِ الصَّبَابَةِ عَابِدُ
أُرَاقِبُ نَجْمَ الصُّبْحِ حَتَّى إِذَا أَتَى
أَهِيمُ بِأَشْوَاقِي وَوَجْدِي زَائِدُ
أُحِبُّكُمُ لَسْتُ أُحِبُّ سِوَاكُمُ
سَقِيمٌ فُؤَادِي سَاهِرُ الْجَفْنِ وَاجِدُ
فَإِنْ عَزَّ مَا أَرْجُوهُ زَادَ بِيَ الضَّنَا
وَقَلَّ اصْطِبَارِي بَعْدَكُمْ وَالْمُسَاعِدُ
صَبَرْتُ إِلَى أَنْ يَجْمَعَ اللهُ شَمْلَنَا
وَتَكْمَدُ مِنْ ذَاكَ الْعِدَى وَالْحَوَاسِدُ

فلما فرغ من شعره غُشِي عليه ساعة، فرشَّ الوزير عليه ماء الورد، فلما أفاق قال له: يابن الملك صبِّرْ نفسك، فإن الصبر عاقبته الفرج، وها أنت سائر إلى ما تريد. ولم يزل الوزير يلاطفه ويسليه إلى أن سكن روعه وجدُّوا في السير، فلما طالت على ابن الملك الطريقُ تذكَّرَ محبوبته، فأنشد هذه الأبيات:

طَالَ الْبِعَادُ وَزَادَ الْهَمُّ وَالْقَلَقُ
وَمُهْجَتِي فِي لَهِيبِ النَّارِ تَحْتَرِقُ
وَشَابَ رَأْسِيَ مِمَّا قَدْ بُلِيتُ بِهِ
مِنَ الْغَرَامِ وَدَمْعُ الْعَيْنِ يَنْدَفِقُ
أَقْسَمْتُ يَا مُنْيَتِي يَا مُنْتَهَى أَمَلِي
بِخَالِقِ الْخَلْقِ مِنْهَا الْغُصْنُ وَالْوَرَقُ
سَهْلًا حَمَلْتُ عَذَابًا مِنْكِ يَا قَدَرِي
فَلَمْ يُطِقْ حَمْلَهُ فِي النَّاسِ مَنْ عَشِقُوا
فَاسْتَخْبِرُوا اللَّيْلَ عَنِّي فَهْوَ يُخْبِرُكُمْ
إِنْ كَانَ جَفْنِيَ طُولَ اللَّيْلِ يَنْطَبِقُ

فلما فرغ من إنشاد شعره بكى بكاءً شديدًا مما يلاقيه من شدة الغرام، فلاطفه الوزير وسلاه ووعده ببلوغ مُنَاه، وساروا أيامًا قلائل حتى أشرفوا على المدينة البيضاء بعد طلوع الشمس، فقال الوزير لابن الملك: أبشِرْ يا ابن الملك بكل خير، وانظر هذه المدينة البيضاء التي أنت طالبها. ففرح ابن الملك بذلك فرحًا شديدًا، وأنشد هذه الأبيات:

خَلِيلَيَّ إِنِّي مُغْرَمُ الْقَلْبِ هَائِمُ
وَوَجْدِي مُقِيمٌ وَالْغَرَامُ مُلَازِمُ
أَنُوحُ كَمَا الثَّكْلَانُ أَسْهَرَهُ الْأَسَى
إِذَا جَنَّ لَيْلِي لَيْسَ فِي الْعِشْقِ رَاحِمُ
وَإِنْ هَبَّتِ الْأَرْيَاحُ مِنْ نَحْوِ أَرْضِكُمُ
وَجَدْتُ لَهَا بَرْدًا عَلَى الْقَلْبِ قَادِمُ
وَتَنْهَلُّ أَجْفَانِي كَغَيْمٍ مَوَاطِرٍ
فَفِي بَحْرِ دَمْعِي ذَا فُؤَادِي عَائِمُ

فلما وصلا إلى المدينة البيضاء دخلاها وسألا عن خان التجار ومحل أرباب الأموال، فدلُّوهما عليه، فنزلا فيه وأخذا لهما ثلاثة حواصل، فلما أخذا المفاتيح فتحاها وأدخلا فيها بضائعهما وأمتعتهما، وأقاما حتى استراحَا، ثم قام الوزير يتحيَّل في أمر ابن الملك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤