فلما كانت الليلة ٥٨٢

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن ابن الملك لما خاطبته بنت الملك الطياخ وقالت له: لما نظرتك طمعتُ في الحياة. أدرك ابن الملك عليها الرأفة، فأركبها وراءه على جواده، وقال لها: طيبي نفسًا وقري عينًا، إنْ ردَّني الله سبحانه وتعالى إلى قومي وأهلي أرسلتك إلى أهلك. ثم سار ابن الملك يلتمس الفرج، فقالت له الجارية التي وراءه: يا ابن الملك، أنزلني حتى أقضي حاجتي تحت هذا الحائط. فوقف وأنزلها ثم انتظرها، فتوارت في الحائط، ثم خرجت بأشنع منظر، فلما رآها ابن الملك اقشعَرَّ بدنه وطار عقله، وخاف منها وتغيَّرَتْ حالته، ثم وثبت تلك الجارية فركبت وراء ظهره على الجواد وهي في صورة أقبح ما يكون من الصور، ثم قالت له: يا ابن الملك، ما لي أراك قد تغيَّرَ وجهك؟ فقال لها: إني تذكرت أمرًا أهَمَّني. فقالت له: استعِنْ عليه بجيوش أبيك وأبطاله. فقال لها: إن الذي أهَمَّني لا تزعجه الجيوش ولا يهتمُّ بالأبطال. فقالت له: استعِنْ عليه بمال أبيك وذخائره. فقال لها: إن الذي أهَمَّني لا يقنع بالمال ولا بالذخائر. فقالت له: إنكم تزعمون أن لكم في السماء إلهًا يرى ولا يُرى، وإنه قادر على كل شيء. فقال لها: نعم ما لنا إلا هو. قالت له: فادعوه لعله أن يخلِّصك مني. فرفع ابن الملك طرفه إلى السماء وأخلص بقلبه الدعاء وقال: اللهم إني استعنت بك على هذا الأمر الذي أهَمَّني. وأشار بيده إليها، فسقطت على الأرض محرقة مثل الفحمة، فحمد الله وشكره. وما زال يجدُّ في المسير والله سبحانه وتعالى يهوِّن عليه السير ويدلُّه في الطرق، إلى أن أشرف على بلاده، ووصل إلى مُلْك أبيه بعد أن كان قد يئس من الحياة، وكان ذلك كله برأي الوزير الذي سافَرَ معه لأجل أن يُهلِكه في سفرته، فنصره الله تعالى. وإنما أخبرتك أيها الملك لتعلم أن وزراء السوء لا يصفون النية ولا يُحسِنون التوبة مع ملوكهم، فكُنْ من ذلك الأمر على حذر. فأقبل عليها الملك وسمع كلامها، وأمر بقتل ولده، فدخل الوزير الثالث وقال: أنا أكفيكم شر الملك في هذا النهار. ثم إن ذلك الوزير دخل على الملك وقبَّلَ الأرض بين يديه، وقال له: أيها الملك، إني ناصحك وشفيق عليك وعلى دولتك، ومشير عليك برأي سديد، وهو ألَّا تعجل على قتل ولدك، وقرة عينك، وثمرة فؤادك، فربما كان ذنبه أمرًا هينًا قد عظَّمَتْه عندك هذه الجارية. فقد بلغني أن أهل قريتين أفنوا بعضهم على قطرة عسل. فقال له الملك: وكيف ذلك؟

حكاية قطرة العسل

فقال: اعلم أيها الملك أنه بلغني أن رجلًا صيادًا كان يصيد الوحوش في البرية، فدخل يومًا من ذات الأيام كهفًا من كهوف الجبل، فوجد فيه حفرة ممتلئة عسل نحل، فجمع شيئًا من ذلك العسل في قربة كانت معه، ثم حملها على كتفه، وأتى بها إلى المدينة ومعه كلب صيد، وكان ذلك الكلب عزيزًا عليه، فوقف الرجل الصياد على دكان زيات، وعرض عليه العسل، فاشتراه صاحب الدكان، ثم فتح القربة وأخرج منها العسل لينظره، فقطرت من القربة قطرة عسل، فسقط عليها طير، وكان الزيات له قطٌّ فوثَبَ على الطير، فرآه كلب الصياد فوثب على القطِّ فقتله، فوثب الزيات على كلب الصياد فقتله، فوثب الصياد على الزيات فقتله، وكان للزيات قرية وللصياد قرية، فسمعوا بذلك، فأخذوا أسلحتهم وعُدَدهم وقاموا على بعضهم بعضًا، والتقى الصفان؛ فلم يزل السيف دائرًا بينهم إلى أن مات خلق كثير لا يعلم عَدَدهم إلا الله تعالى.

حكاية امرأة والدرهم الضائع

وقد بلغني أيها الملك من جملة كيد النساء أن امرأة دفع لها زوجها درهمًا لتشتري به أرزًا، فأخذت منه الدرهم وذهبت به إلى بياع الأرز، فأعطاها الأرز وجعل يلاعبها ويغامزها ويقول لها: إن الأرز لا يطيب إلا بالسكر، فإن أردتِه فادخلي عندي قدر ساعة. فدخلت المرأة عنده في الدكان، فقال بياع الأرز لعبده: زن لها بدرهم سكرًا. وأعطاه سيده رمزًا، فأخذ العبد المنديل من المرأة وفرغ منه الأرز، وجعل في موضعه ترابًا، وجعل بدل السكر حجرًا، وعقد المنديل وتركه عندها، فلما خرجت المرأة من عنده أخذت منديلها وانصرفت إلى منزلها وهي تحسب أن الذي في منديلها أرز وسكر. فلما وصلت إلى منزلها وضعت المنديل بين يدي زوجها، فوجد فيه ترابًا وحجرًا، فلما أحضرت القدر قال لها زوجها: هل نحن قلنا لك أن عندنا عمارة حتى جئتِ لنا بتراب وحجر؟ فلما نظرت إلى ذلك، علمت أن عبد البياع نصب عليها، وكانت قد أتت بالقدر في يدها، فقالت لزوجها: يا رجل، من شغل البال الذي أصابني ذهبتُ لأجيء بالغربال فجئت بالقدر. فقال لها زوجها: وأي شيء أشغل بالك؟ قالت له: يا رجل، إن الدرهم الذي كان معي سقط مني في السوق، فاستحييت من الناس أن أدور عليه، وما هان عليَّ أن الدرهم يروح مني، فجمعت التراب من ذلك الموضع الذي وقع فيه الدرهم وأردت أن أغربله، وكنت رائحة أجيء بالغربال فجئت بالقدر. ثم ذهبت وأحضرت الغربال وأعطته لزوجها، وقالت له: غربله فإن عينك أصح من عيني. فقعد الرجل يغربل في التراب إلى أن امتلأ وجهه وذقنه من الغبار وهو لا يدرك مكرها وما وقع منها. فهذا أيها الملك من جملة كيد النساء، وانظر إلى قول الله تعالى: إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ، وقوله سبحانه وتعالى: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا.

فلما سمع الملك من كلام الوزير ما أقنعه وأرضاه وزجره عن هواه، وتأمَّلَ ما تلاه عليه من آيات الله، سطعت أنوار النصيحة على سماء عقله وخلده، ورجع عن تصميمه على قتل ولده، فلما كان اليوم الرابع دخلت الجارية على الملك وقبَّلَتِ الأرض بين يديه وقالت له: أيها الملك السعيد ذو الرأي الرشيد، قد أظهرتُ لك حقي عيانًا، فظلمتَني وأهملت مقاصصة غريمي لكونه ولدك ومهجة قلبك، وسوف ينصرني الله سبحانه وتعالى عليه كما نصر الله ابن الملك على وزير أبيه. فقال لها الملك: وكيف كان ذلك؟

حكاية عين الماء المسحورة

فقالت له الجارية: بلغني أيها الملك أنه كان ملك من الملوك الماضية له ولد، ولم يكن له من الأولاد غيره، فلما بلغ ذلك الولد زوَّجَه أبوه بابنة ملك آخَر، وكانت جاريةً ذات حُسْن وجمال، وكان لها ابن عم قد خطبها من أبيها، ولم تكن راضيةً بزواجها منه، فلما علم ابن عمها أنها تزوَّجت بغيره أخذته الغيرة، فاتفق رأي ابن عم الجارية أن يرسل الهدايا إلى وزير الملك الذي تزوَّجَ بها ابنه، فأرسل إليه هدايا عظيمة، وأنفذ إليه أموالًا كثيرة، وسأله أن يحتال على قتل ابن الملك بمكيدةٍ تكون سببًا لهلاكه، أو يتلطف به حتى يرجع عن زواج الجارية، وبعث يقول له: أيها الوزير، لقد حصل عندي من الغيرة على ابنة عمي ما حملني على هذا الأمر. فلما وصلت الهدايا إلى الوزير قبلها وأرسل إليه يقول: طب نفسًا وقر عينًا، فلك عندي كل ما تريده.

ثم إن الملك أبا الجارية أرسل إلى ابن الملك بالحضور إلى مكانه لأجل الدخول على ابنته، فلما وصل الكتاب إلى ابن الملك أذن له أبوه في المسير، وبعث معه الوزير الذي جاءت له الهدايا، وأرسل معهما ألف فارس وهدايا ومحامل وسرادقات وخيامًا، فسار الوزير مع ابن الملك وفي ضميره أن يكيده بمكيدة، وأضمر له في قلبه السوء، فلما صاروا في الصحراء تذكَّرَ الوزير أن في هذا الجبل عينًا جارية من الماء تُعرَف بالزهراء، وكلُّ مَن شرب منها إذا كان رجلًا يعود امرأة، فلما تذكَّرَ ذلك الوزير أنزل العسكر بالقرب منها، وركب الوزير جواده، ثم قال لابن الملك: هل لك أن تروح معي نتفرَّج على عين ماء في هذا المكان؟ فركب ابن الملك وسار هو ووزير أبيه وليس معهما أحد، وابن الملك لا يدري ما قد جرى له في الغيب، ولم يزالا سائرين حتى وصلا إلى تلك العين، فنزل ابن الملك من فوق جواده وغسل يديه وشرب منها، وإذا به قد صار امرأةً، فلما عرف ذلك صرخ وبكى حتى غُشِي عليه، فأقبل عليه الوزير يتوجَّع لما أصابه، ويقول: ما الذي أصابك؟ فأخبره الولد، فلما سمع الوزير كلامه توجَّع له وبكى لما أصاب ابن الملك، ثم قال له: يعينك الله تعالى من هذا الأمر، كيف قد حلَّتْ بك هذه المصيبة، وعظمت بك تلك الرزية، ونحن سائرون بفرحة حيث تدخل على ابنة الملك، والآن لا أدري هل نتوجَّه إليها أم لا؟ والرأي لك، فما تأمرني به؟ فقال له الولد: ارجع إلى أبي، وأخبره بما أصابني، فإني لست أبرح من ها هنا حتى يذهب عني هذا الأمر، أو أموت بحسرتي. فكتب الولد كتابًا لأبيه يُعلِمه بما جرى له، ثم أخذ الوزر الكتاب وانصرف راجعًا إلى مدينة الملك، وترك العساكر والولد وما معه من الجيوش عنده وهو فرحان في الباطن بما فعل بابن الملك.

فلما دخل الوزير على الملك أعلَمَه بقضية ولده وأعطاه كتابه، فحزن الملك على ولده حزنًا شديدًا، ثم أرسل إلى الحكماء وأصحاب الأسرار أن يكشفوا له عن هذا الأمر الذي حصل لولده، فما أحد ردَّ عليه جوابًا، ثم إن الوزير أرسَلَ إلى ابن عم الجارية يبشِّره بما حصل لابن الملك، فلما وصل إليه الكتاب فرح فرحًا شديدًا، وطمع في زواج ابنة عمه، وأرسل إلى الوزير هدايا عظيمة وأموالًا كثيرة، وشكره شكرًا زائدًا. وأما ابن الملك فإنه أقام على تلك العين مدة ثلاثة أيام بلياليها لا يأكل ولا يشرب، واعتمد فيما أصابه على الله سبحانه وتعالى الذي ما خاب مَن توكَّلَ عليه، فلما كان في الليلة الرابعة، وإذا هو بفارس على رأسه تاج، وهو في صفة أولاد الملوك، فقال له الفارس: مَن أتى بك أيها الغلام إلى ها هنا؟ فأعلمه الولد بما أصابه، وأنه كان مسافرًا إلى زوجته ليدخل عليها، وأعلمه أن الوزير أتى به إلى عين الماء، فشرب منها فحصل له ما حصل. وكلما تحدَّثَ الغلام يغلبه البكاء فيبكي.

فلما سمع الفارس كلامه رثى لحاله وقال له: إن وزير أبيك هو الذي رماك في هذه المصيبة؛ لأن هذه العين لم يعلم بها أحدٌ من البشر إلا رجل واحد. ثم إن الفارس أمره أن يركب معه فركب الولد، وقال له الفارس: امضِ معي إلى منزلي، فأنت ضيفي في هذه الليلة. فقال له الولد: أَعْلِمني مَن أنت حتى أسير معك. فقال له: أنا ابن ملك الجان، وأنت ابن ملك الإنس، فطِبْ نفسًا وقرَّ عينًا بما يزيل همك وغمك، فهو عليَّ هيِّن. فسار معه الولد من أول النهار وأهمل جيوشه وعساكره، وما زال سائرًا معه إلى نصف الليل، فقال له ابن ملك الجن: أتدري كم قطعنا في هذا الوقت؟ فقال له الغلام: لا أدري. فقال له ابن ملك الجن: قطعنا مسيرةَ سنةٍ للمُجِدِّ المسافِر. فتعجَّبَ ابن الملك من ذلك، وقال له: كيف العمل والرجوع إلى أهلي؟ فقال له: ليس هذا من شأنك إنما هو من شأني، فحيث تبرأ من علتك تعود إلى أهلك في أسرع من طرفة العين، وذلك عليَّ هين. فلما سمع الغلام من الجني هذا الكلام طار من شدة الفرح، وظنَّ أنه أضغاث أحلام، وقال: سبحان القدير على أن يرد الشقي سعيدًا. وفرح بذلك فرحًا شديدًا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤