فلما كانت الليلة ٦٢٧

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن القوم لما انتبهوا من منامهم وسمعوا غريبًا وقومه يصيحون ويقولون: يا آل قحطان. تخيل لهم أن آل قحطان هجموا عليهم، فحملوا سلاحهم ووقعوا في بعضهم قتلًا، فتأخَّرَ غريب وقومه، ولم تزل الأعداء يقتلون بعضهم إلى أن طلع النهار، فحمل غريب ومرداس والتسعون بطلًا على بقية الأعداء، فقتلوا منهم جملة وانهزم الباقون، وأخذ بنو قحطان الخيل الشاردة والعدد المهيَّأة وتوجهوا إلى حيِّهم، وما صدق مرداس أنه تخلَّصَ من الأعداء. ولم يزالوا سائرين حتى وصلوا إلى حيهم، فلاقاهم المقيمون وفرحوا بسلامتهم، ونزلوا في خيامهم ونزل غريب في خيمته، واجتمعت عليه شباب الحي وحيَّاه الكبار والصغار، فلما نظر مرداس إلى غريب والشباب حوله، بغضه أكثر من الأول، والتفت إلى عشيرته وقال: قد زاد بُغْضُ غريب في قلبي، وما غَمَّني إلا اجتماع هؤلاء حوله، وفي غدٍ يطلب مني مهدية. فقال له المشير: يا أمير، اطلب منه ما لا يقدر عليه. ففرح مرداس وبات إلى الصباح، فجلس في مرتبته ودارت العرب حوله، وجاء غريب برجاله والشباب حوله، فأقبل على مرداس وقبَّلَ الأرض بين يديه، ففرح به وقام إليه وأجلسه بجنبه، فقال غريب: يا عم، قد وعدتَني وعدًا فأنجِزْه. فقال مرداس: يا ولدي، هي لك على طول المدى، ولكن أنت قليل المال. فقال غريب: يا عم، اطلب ما شئتَ حتى أُغِير على أمراء العرب في مواطنهم، وعلى الملوك في مدائنهم، وأجيء لك بمالٍ يسدُّ الخافقين. فقال مرداس: يا ولدي، إني حلفت بجميع الأصنام أني لا أعطي مهدية إلا لمَن يأخذ لي ثأري، ويكشف عني عاري. فقال غريب: قل لي يا عم ثأرك عند مَنْ مِنَ الملوك، حتى أسير إليه وأكسر تخته على رأسه؟ فقال مرداس: يا ولدي، قد كان لي ولد بطل من الأبطال، فخرج في مائة بطل لطلب الصيد والقنص، فسار من وادٍ إلى وادٍ، وقد بعد بين الجبال حتى وصل وادي الأزهار، وقصر حام بن شيث بن شداد بن خلد، وذلك المكان يا ولدي ساكن فيه رجل أسود طويل، طوله سبعون ذراعًا يقاتل بالأشجار، فيقتلع الشجرة من الأرض ويقاتل بها، فلما وصل ولدي إلى ذلك الوادي، خرج عليه هذا الجبَّار فأهلكه هو والمائة فارس، فما سلم منهم إلا ثلاثة أبطال أتوا أخبرونا بما جرى، فجمعتُ الأبطال وسرتُ لقتاله فما قدرنا عليه، وأنا مقهور على ثأر ولدي، وقد حلفتُ أني لا أزوِّج ابنتي إلا لمَن يأخذ ثأر ولدي.

فلما سمع غريب كلام مرداس قال: يا عم، أنا أسير إلى هذا العملاق وآخذ ثأر ولدك بعون الله تعالى. قال مرداس: يا غريب، إن ظفرتَ به تغنم منه ذخائر وأموالًا لا تأكلها نيران. فقال غريب: اشهد لي بالزواج حتى يقوى قلبي وأسير في طلب رزقي. فاعترف وأشهَدَ كبارَ الحي، وانصرف غريب وهو فرحان ببلوغ الآمال، ودخل على أمه وأخبرها بما تمَّ له، فقالت له: يا ولدي، اعلم أن مرداسًا يبغضك، وما بعثك لذلك الجبل إلا ليعدمني حسَّك، فخذني معك وارحل من ديار هذا الظالم. قال غريب: يا أمي، لا أرحل حتى أبلغ أملي وأقهر عدوي. وبات غريب حتى أصبح الصباح وأضاء بنوره ولاح، فما ركب جواده حتى أقبل أصحابه الشباب، وكانوا مائتا فارس شداد وهم غارقون في السلاح، وصاحوا على غريب وقالوا له: سِرْ بنا نعاونك ونؤانسك في طريقك. ففرح غريب بهم وقال لهم: جزاكم الله عنَّا خيرًا. وقال لهم: سيروا يا أصحابي. فسار غريب بأصحابه أول يوم وثاني يوم، ثم نزلوا عند المساء تحت جبل شامخ، وعلقوا على خيولهم، فغاب غريب يتمشى في ذلك الجبل حتى وصل إلى مغار، فطلع منه نور، فسار غريب إلى صدر المغار فوجد شيخًا له من العمر ثلاثمائة وأربعون سنة، حاجباه غطَّيَا عينيه، وشاربه غطَّى فمه، فلما نظر غريب إلى ذلك الشيخ هابه واستعظم خلقته، فقال له الشيخ: كأنك من الكفار يا ولدي، الذين يعبدون الأحجار دون الملك الجبَّار، خالق الليل والنهار والفلك الدوار؟

فلما سمع غريب كلام الشيخ ارتعدت فرائصه وقال: يا شيخ، أين يكون هذا الرب حتى أعبده وأتملى برؤيته؟ قال الشيخ: يا ولدي، هذا الرب العظيم لا ينظره أحد في الدنيا، وهو يَرَى ولا يُرَى، وهو بالمنظر الأعلى، وهو حاضر في كل مكان بآثار صنْعِه، ومكوِّن الأكوان ومدبِّر الزمان، خلق الإنس والجان، وبعث الأنبياء لهداية الخلق إلى طريق الصواب، فمَن أطاعه أدخله الجنة، ومَن عصاه أدخله النار. فقال غريب: يا عم، فما يقول مَن يعبد هذا الرب العظيم الذي هو على كل شيء قدير؟ قال الشيخ: يا ابني، إني من قوم عاد الذين طغوا في البلاد فكفروا، فأرسل الله إليهم نبيًّا اسمه هود فكذَّبوه، فأهلكهم بالريح العقيم، وكنتُ أنا آمنتُ مع جماعة من قومي، فسلمنا من العذاب، وحضرتُ قومَ ثمود وما جرى لهم مع نبيهم صالح، وأرسل الله تعالى بعد صالح نبيًّا اسمه إبراهيم الخليل إلى نمرود بن كنعان، وجرى له معه ما جرى، ومات قومي الذين آمنوا، فصرت أعبد الله في هذا المغار، والله تعالى يرزقني من حيث لا أحتسب. فقال غريب: يا عم، ماذا أقول حتى أصير من حزب هذا الرب العظيم؟ قال له الشيخ: قل: لا إله إلا الله، إبراهيم خليل الله. فأسلَمَ غريب قلبًا ولسانًا، فقال له الشيخ: ثبتت في قلبك حلاوة الإسلام والإيمان. ثم علَّمَه شيئًا من الفرائض وشيئًا من الصحف، وقال له: ما اسمك؟ قال: اسمي غريب. قال له الشيخ: وأين تقصد يا غريب؟ فحكى له ما جرى من أوله إلى آخره حتى وصل إلى حديث غول الجبل الذي جاء في طلبه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤