خرافات إضافية

  • (١)

    يقول الكتاب المقدس: «النظافة من الإيمان»، و«طرق عمل الله خفية»، و«اكره الخطيئة، وأَحبَّ الخاطئ»، و«يساعد الله من يساعدون أنفسهم»، و«المال أصل كل الشرور»، و«أدبوا أولادكم بقضيب من حديد»، و«كن صادقًا مع نفسك»، و«ستزول هذه أيضًا»، و«المعصية من شيم البشر، والغفران من شيم الله»، و«الأيدي العاطلة مشغل الشيطان.»

  • (٢)

    يحرم الكتاب المقدس أكل لحم الخنزير لأنه يسبب المرض.

  • (٣)

    الأبوكاليبس هو نهاية العالم التي تنبأ بها الكتاب المقدس.

  • (٤)

    يعذب الشيطان وأجناده الناس في الجحيم.

  • (٥)

    الكروبيم ملائكة حِسان كالأطفال.

  • (٦)

    عانى المسيحيون الاضطهاد المُمنهج على أيدي الرومان.

  • (٧)

    كانت هناك بابا أنثى تُدعى جون.

  • (٨)

    طرد القديس باتريك الثعابين من أيرلندا.

(١) يقول الكتاب المقدس: «النظافة من الإيمان»، و«طرق عمل الله خفية»، و«اكره الخطيئة، وأَحِبَّ الخاطئ»، و«يساعد الله من يساعدون أنفسهم»، و«المال أصل كل الشرور»، و«أدبوا أولادكم بقضيب من حديد»، و«كن صادقًا مع نفسك»، و«ستزول هذه أيضًا»، و«المعصية من شيم البشر، والغفران من شيم الله»، و«الأيدي العاطلة مشغل الشيطان.»

ثمة كثير من الأقوال المأثورة التي تبدو كتابية (أي واردة في الكتاب المقدس). وحالما يتكرر ذكرها كثيرًا على مسامع الناس، ولا سيما من قِبل مَن هم في السلطة، يسود الاعتقاد بأنها من الكتاب المقدس.

«النظافة من الإيمان.»

ورد أول ذكر لقول مشابه لهذه العبارة في اللغة الإنجليزية على لسان فرانسيس بيكون (١٥٦١–١٦٢٦) في عمله «إتقان المعرفة وتقدُّمها»: «لطالما كانت نظافة الجسد تُعَد من الخشوع لله» (بيكون، ٢٠٠١). ولا بد أن التعبير شاع في زمن جون ويسلي (١٧٠٣–١٧٩١)، أحد مؤسسي الحركة الميثودية، لأن ويسلي وضعه بين علامتي اقتباس: «ليست الرثاثة من الدين. «فالنظافة حقًّا من الإيمان»» (أوتلر، ١٩٨٦).

إذا فتَّشنا الكتاب المقدس بحثًا عن قول مشابه، فسنجد في سفر المزامير (١٩: ٩) في نسخة الملك جيمس الجديدة: «مخافة الرب نظيفة، ثابتة إلى الأبد.» الكلمة العبرية المترجمة هنا إلى «نظيفة» هي «طَهور» التي تعني غير دنس من حيث الطقوس والأخلاق.

«طرق عمل الله خفية.»

ورد هذا القول في ترنيمة من تأليف ويليام كوبر (١٧٣٤–١٨٠٠)، بعنوان «الله يتحرك بطريقة خفية». يقول المقطع الأول:
الله يتحرك بطريقة خفية،
يصنع العجائب؛
ويطأ البحار،
ويمتطي الرياح.
وفقًا للأسطورة، كانت هذه آخر ترنيمة كتبها كوبر، وقد اهتدى إلى كتابتها في أعقاب محاولته الانتحار؛ ففي إحدى الليالي، فيما كان مصابًا بنوبة اكتئاب، قرر كوبر أن يتخلص من حياته غرقًا في نهر التيمز. استدعى سيارة أجرة، وطلب من السائق أن يُقله إلى النهر، لكن الضباب الكثيف عسَّر سيرهما في شوارع لندن. ظل السائق يجوب الشوارع تائهًا ومحبطًا لوقت طويل إلى أن استسلم أخيرًا وتوقف لإنزال كوبر من السيارة. ودون أن يدري كلاهما، وجدا أنهما قد عادا إلى منزل كوبر. فكَّر كوبر في نفسه أن الضباب الكثيف كان طريقة الله الخفية لإنقاذ حياته.

«اكره الخطيئة، وأحِبَّ الخاطئ.»

يبدو هذا الشعار المتسامح وكأنه من أقوال يسوع أو بولس الرسول، ويتردد من حين إلى حين في العِظات المسيحية، لكنه في حقيقة الأمر ورد بعد زمن المسيح وبولس بتسعة عشر قرنًا. كتب موهانداس غاندي في سيرته الذاتية عام ١٩٢٩: «أَحِبَّ الخاطئ، لكن اكره الخطيئة.» وثمة قول مشابه لهذا الشعار كتبه القديس أوغسطينوس أسقف هيبو أيضًا؛ إذ يستخدم في رسالته رقم ٢١١ عبارة «مع خالص حبي للإنسان وكرهي للخطايا.»

«يساعد الله من يساعدون أنفسهم.»

هذا القول قديم لكنه لم يرد في الكتاب المقدس. وحقيقة الأمر أنه يتنافى مع الفكرة الكتابية التي مفادها أن الله يتدخل في العالم ليفعل من أجل الناس ما يعجزون عن فعله لأنفسهم. من المرات الأولى لظهور هذا القول ما جاء في خرافة إيسوب «هرقل وسائق العربة»، التي ورد فيها أيضًا تعبير Put your shoulder to the wheel بمعنى كدَّ في العمل:

ذات مرة كان سائق عربة ينقل حمولة ثقيلة عبر طريق موحولة بشدة. وحدث أن غاصت عجلات العربة في منتصف الطريق، وكلما حاولت الأحصنة جرَّ العربة، كانت تغوص أكثر في الوحل. خر سائق العربة على ركبتيه وصلى لهرقل القوي قائلًا: «أيا هرقل، أغثني في محنتي.» إلا أن هرقل ظهر، وقال له: «لا تنبطح هكذا يا رجل، انهض وكدَّ في العمل. تساعد الآلهة من يساعدون أنفسهم.» (جاكوبز، غير مؤرخ)

بعدها بأكثر من ألفَي عام، في ١٧٣٦، ظهر القول باستخدام اللفظة المفردة «الله» في صحيفة بن فرانكلين السنوية «بور ريتشارد ألماناك». توافقت هذه الفكرة مع أفكار فرانكلين؛ لأنه كان ربوبيًّا وليس مسيحيًّا؛ فالربوبيون يؤمنون بأن الله خلق العالم والقوانين العلمية التي يعمل بها، لكنه بعدئذٍ تركه يعمل بذاته وفق هذه القوانين. ولأن الله لا يتدخل في العالم، بحسب فكر فرانكلين؛ فإن الصلوات المرفوعة إلى الله من أجل أن يمد يد الغوث عديمة الجدوى. وفي أوقات الصعاب، على الناس أن يُعوِّلوا على مهاراتهم وقدرتهم على الابتكار.

«المال أصل لكل الشرور.»

الأرجح أن هذا القول هو نسخة مُبالغ فيها من قولٍ ورد في الكتاب المقدس. يقول بولس في رسالته الأولى إلى تيموثاوس (٦: ١٠): «لأَنَّ مَحَبَّةَ الْمَالِ أَصْلٌ لِكُلِّ الشُّرُورِ، الَّذِي إِذِ ابْتَغَاهُ قَوْمٌ ضَلُّوا عَنِ الإِيمَانِ، وَطَعَنُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَوْجَاعٍ كَثِيرَةٍ» (نسخة الملك جيمس). يشمل هذا بعض أنواع الشرور التي ليس سببها حب المال. لكن تتفق جميع الترجمات على أن المشكلة تكمن في «حب» المال، وليست في المال نفسه.

«أدبوا أولادكم بقضيب من حديد.»

كثيرًا ما يستشهد الأشخاص الذين يؤمنون بأهمية العقاب البدني للأطفال بهذا القول باعتباره من الكتاب المقدس. ومع أن هذا القول لم يرد في الكتاب المقدس؛ فإنه يشبه أربع فقرات وردت في سفر الأمثال:

مَنْ يَمْنَعُ عَصَاهُ يَمْقُتُ ابْنَهُ وَمَنْ أَحَبَّهُ يَطْلُبُ لَهُ التَّأْدِيبَ. (سفر الأمثال ١٣: ٢٤)

الْجَهَالَةُ مُرْتَبِطَةٌ بِقَلْبِ الْوَلَدِ. عَصَا التَّأْدِيبِ تُبْعِدُهَا عَنْهُ. (سفر الأمثال ٢٢: ١٥)

لَا تَمْنَعِ التَّأْدِيبَ عَنِ الْوَلَدِ لأَنَّكَ إِنْ ضَرَبْتَهُ بِعَصًا لَا يَمُوتُ. تَضْرِبُهُ أَنْتَ بِعَصًا فَتُنْقِذُ نَفْسَهُ مِنَ الْهَاوِيَةِ. (سفر الأمثال ٢٣: ١٣-١٤)

الْعَصَا وَالتَّوْبِيخُ يُعْطِيَانِ حِكْمَةً وَالصَّبِيُّ الْمُطْلَقُ إِلَى هَوَاهُ يُخْجِلُ أُمَّهُ. (سفر الأمثال ٢٩: ١٥)

وعليه، مع أن هذا القول غير مذكور مباشرة في الكتاب المقدس؛ فإن فكرة حاجة الأطفال إلى التأديب البدني موجودة فيه.

«كن صادقًا مع نفسك.»

إن النصح بالصدق مع النفس وتجنُّب الانغماس في خداع النفس هو نصح سليم أخلاقيًّا، ويتفق مع قيم الكتاب المقدس. علاوة على أن التقديم والتأخير في عبارة «نفسك فاصدقها» واستخدام كلمة thine (بمعنى نفسك) يجعلانه يبدو مثل اللغة الإنجليزية التي كانت سائدة منذ أربعة قرون، وهي اللغة التي كُتبت بها نسخة الملك جيمس من الكتاب المقدس. ذلك لأن هذا البيت ألفه ويليام شكسبير قريبًا من زمن كتابة نسخة الملك جيمس من الكتاب المقدس. وجاء في مسرحيته التراجيدية «هاملت»، في المشهد الثالث من الفصل الأول، حيث يقول بولونيوس ناصحًا ابنه لايرتس:
فوق كل شيء: نفسك فاصدقها،
احفظ هذا بحذافيره، كتعاقب الليل والنهار،
إن فعلت، فستكون صادقًا مع الجميع.
يقول بولونيوس قبل هذه الأبيات مباشرة بيتًا آخر أحيانًا ما يُظن أنه من الكتاب المقدس: «مدينًا أو دائنًا لا تكن.»

«ستزول هذه أيضًا.»

مهما يكن سوء تجربة، فإنها حتمًا ستنتهي، ومهما تكن جودة تجربة، فهذه أيضًا ستنتهي. في الشرق الأوسط أمثال شبيهة بمَثل «ستزول هذه أيضًا» في اللغات العبرية والفارسية والعربية والتركية. ينسبها البعض إلى شعراء الصوفية الفارسيين في العصور الوسطى. ويحفل الفولكلور اليهودي بقصص فيها يقول الملك سليمان الحكيم المَثَل. بل وهناك أيضًا قصة خرافية جاء فيها أن المثل منقوش على خاتم. ولأن من يرتدي هذا الخاتم يدرك أن كل شيء زائل، يصير التعساء سعداء، ولكن السعداء يصيرون تعساء بدورهم. انتشرت هذه القصة الخرافية والمَثَل في القرن التاسع عشر حينما استهوت الغربيين الأشياء القادمة من بلاد فارس والشرق. ظهرت نسخة أولية من المَثل في اللغة الإنجليزية في قصيدة ظهرت في القرن العاشر بعنوان «ديور»، وفيها ينتحب البطل ديور لفقدانه وظيفته شاعرًا للبلاط. يقارن ديور المحن التي يمر بها بتلك التي اجتازها كثير من أبطال الفولكلور الإنجليزي القديم، حيث يختتم كل مقارنة بالبيت «زالت تلك، وستزول هذه أيضًا.»

«المعصية من شيم البشر، والغفران من شيم الله.»

في إنجيل متَّى، حينما يسأل بطرس يسوع هل ينبغي عليه أن يغفر لأخيه سبع مرات، يجيبه يسوع «بَلْ إِلَى سَبْعِينَ مَرَّةً سَبْعَ مَرَّاتٍ» (متَّى ١٨: ٢٢). وفي الصلاة الربانية التي ألفها يسوع، يطلب من الله أن «يغْفِر لَنَا ذُنُوبَنَا كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ أَيْضًا لِلْمُذْنِبِينَ إِلَيْنَا» (متَّى ٦: ٩–١٣، لوقا ١١: ٢–٤). وبالنظر إلى التركيز على الغفران في العهد الجديد، فمن الواضح أن الناس قد يظنون أن مقولة «المعصية من شيم البشر، والغفران من شيم الله» تأتي من شيء يشبه «الموعظة على الجبل» لكنها ليست كذلك، وإنما كتبها بعد يسوع بسبعة عشر قرنًا الشاعر والفنان البريطاني ألكسندر بوب (١٦٨٨–١٧٤٤)، في مقاله «أطروحة في النقد». يحتوي هذا المقال أيضًا على بيت شهير يساعدنا في تفسير كيف نُسِب بعض هذه الأقوال إلى الكتاب المقدس: «التعليم القليل أمر خطِر.»

«الأيدي العاطلة مشغل الشيطان.»

هذا المثل شهير في البلدان الأمريكية المتحدثة بالإنجليزية منذ أن جلب البيوريتانيون أخلاق العمل البروتستانتية إلى سواحل نيو إنجلاند. لطالما اعتبر المسيحيون الأمريكيون العمل الشاق فضيلة على قدم المساواة مع الإيمان والرجاء والإحسان. من هذا المنظور تعتبر البطالة واللعب — التوقف عن العمل — خطِرَين، إن لم يكونا من الرذائل. يعرض كتاب قواعد الإقامة في إحدى المدارس الداخلية الميثودية بولاية كونيتيكت هذا التوجُّه:

يتعين على التلميذ الاستيقاظ في تمام الخامسة صباحًا صيفًا وشتاءً، مع دقات الناقوس … سيكون التلميذ منغمسًا في لا شيء وهو ما يصفه العالم باللعب. فلتُرَاعَ هذه القاعدة بلا هوادة، لأن أولئك الذين يلعبون وهم صغار سيلعبون وهم كبار. («القيود المفروضة على الطلاب ١٧٩٦»؛ صحيفة «نورثويسترن كريستيان أدفوكيت»، ١٩١٦)

قبل كتابة هذه القاعدة بعقود، أدمج القس الإنجليزي، كاتب الترانيم، آيزاك واتس هذا البيت في واحدة من الترانيم التي يؤلفها للأطفال («التراتيل المقدسة للأطفال»، ١٧١٥): «حينما أنهمك في عمل أو حرفة أكون مشغولًا للغاية. وحينما أكون بلا عمل يوجِد لي الشيطان أعمالًا شريرة لأزاولها.» ظهرت نسخ متنوعة لهذا القول مثل «الأدمغة البطالة مَعامل الشيطان» في القرن الثامن عشر، وبيت في مسرحية «رجل الموسيقى» لميريديث ويلسون في القرن العشرين يقول: «يا أصدقائي، الدماغ البطال ملعب للشيطان.»

على الرغم من شعبية القول؛ فإنه لم يَرِد في الكتاب المقدس بأي شكل من الأشكال. والواقع أن كل تبجيل العمل الشاق ليس كتابيًّا بالمرة. لم يرد في الأناجيل الأربعة على الإطلاق أي ذكر لمزاولة يسوع عمل اليوم، في العهد القديم قواعد صارمة ضد العمل في يوم السبت، وهي قواعد ما زالت باقية حتى اليوم في اليهودية. يقول سفر الخروج (٣١: ١٥) «كُلُّ مَنْ صَنَعَ عَمَلًا فِي يَوْمِ السَّبْتِ يُقْتَلُ قَتْلا.»

ماذا تكشف لنا هذه الأمثلة عن السهولة التي ننسب بها الأقوال المأثورة إلى الكتاب المقدس؟

المراجع

  • Bacon, F. (2001) The Proficience and Advancement of Learning, ed. Stephen Jay Gould, Book 2 X, Random House, New York. p. 11.
  • Franklin, B. (1736) Poor Richard’s Almanac, New Printing Office, Philadelphia.
  • Gandhi, M. (1929/2009) An Autobiography: The Story of My Experiments with Truth. The Floating Press, Auckland, New Zealand, p. 439.
  • Jacobs, J. (Undated) The Fables of Aesop, Selected, Told Anew, and Their History Traced. The Edward Publishing Co., New York, http://archive.org/stream/fablesaeso00aesouoft/fablesaeso00aesouoft_djvu.txt (accessed January 10, 2014).
  • Leinenweber, J. (1992) Letters of St. Augustine, ed. John Leinenweber. Baker Books, Ada, MI, Letter 211.
  • Northwestern Christian Advocate (1916) Volume 64. Available at: http://books.google.co.uk (accessed January 10, 2014).
  • Pope, A. (2008) Essay on Criticism, Forgotten Books, London, Part II, line 15.
  • Outler, A.C. (1986) Sermons 88 and 98, in The Works of John Wesley, III: Sermons iii ed. Albert C. Outler, Abingdon, Nashville TN, pp. 249, 392.

قراءات إضافية

  • Lang, S, (2003) What the Good Book Didn’t Say: Popular Myths and Misconceptions about the Bible, Kensington, New York.
  • Watts, I. (1866) Divine and Moral Songs for Children. Hurd & Houghton, New York, Song 20, p. 65.

(٢) يحرِّم الكتاب المقدس أكل لحم الخنزير لأنه يسبب المرض

يعرف الله ما هو الأفضل لنا، وفي زمن الكتاب المقدس كان الخنزير يُعتبر نجسًا … أحد الأسباب الرئيسة لهذا هو أن الخنزير يأكل أي شيء؛ فالخنزير يأكل القمامة والنفاية … الخنزير يأكل ابنه الميت! الخنزير يأكل الحيوانات الأخرى المريضة والمصابة. الخنازير زبَّالة. (جويل أوستين، راعي كنيسة ليك وود، بمدينة هيوستن ولاية تكساس. (أوستين، على الإنترنت))

يحتوي الكتاب المقدس العبري (العهد القديم المسيحي) على مئات من القواعد التي تحكم الحياة اليومية. من أشهرها تلك القواعد المتعلقة بالحيوانات «الطاهرة» و«النجسة» في سفرَي اللاويِّين والعدد. الحيوانات «الطاهرة»، كالبقر والغنم، مقبولة طعامًا. لكن الأنواع «النجسة» مثل الخنزير والكركند «رجسة» ولا يجوز تناولها البتة. ويطلق عليها «تريفا»، بمعنى أنها لم تُذبح وفقًا للشريعة، وهي محرَّمة بصفة عامة.

يقع القس أوستين، صاحب التعليق المذكور أعلاه على هذه التحريمات الكتابية لتناول أنواع معينة من الطعام، في الخطأ الشائع المتمثل بتقديم سبب منطقي حديث لوصية قديمة. فيشرح أن كلمة «نجس» تعني أنه «يعيش في القاذورات والقمامة»، وأن الله حرم تناول الحيوانات «النجسة» لأنها ستصيبنا بالأمراض. ويقول أوستين إن الحيوانات «الطاهرة» مثل الماشية والغنم، على الطرف النقيض، لا تقتات على بقايا الطعام، وإنما تأكل الحشائش الطازجة. ثم يسأل الجمع ومشاهدي التليفزيون، «هل تؤثر أن تتناول لحم حيوان يتغذَّى على القمامة والقاذورات، أم حيوان يتغذى على الحشائش الطازجة والنظيفة؟» يقدِّم أوستين التعليل نفسه لوصف الله الكائنات البحرية مثل الكركند والجمبري بأنها «نجسة»، فيقول عنها إنها تعيش في أعماق المحيط حيث تتناول فضلات الكائنات الأخرى.

في الوقت الحالي، نربط الطعام غير النظيف بالجراثيم التي تسبب الأمراض، لكن الجراثيم لم تُكتشف حتى القرن السابع عشر، ولم يتضح ارتباطها بالأمراض إلا في القرن التاسع عشر. وحتى لو لم يكن كُتَّاب الكتاب المقدس على دراية بالجراثيم، فهل ظنوا أن الحيوانات «النجسة» هي الحيوانات التي تسبب الأمراض، من خلال حملها للطفيليات؟ لم يكن القس أوستين أول من يفترض هذا. تذكر عالمة الإنسانيات ماري دوجلاس (٢٠٠٢) مفسرًا مبكرًا لهذا الموقف. كتب إس إتش كيلوج في عمله الصادر عام ١٨٤١، «الكتاب المقدس للمفسِّر» (لندن):

من المحتمل أن المبدأ الرئيس المحدِّد لنواميس هذا السِّفر [اللاويين] يقع في نطاق الصحة العامة والصحة الوقائية … إن فكرة الأمراض الطفيلية والمعدية التي احتلت مكانة كبيرة في علم الأمراض الحديث، يبدو أنها استحوذت بشدة على فكر موسى وهيمنت على كل شرائعه الخاصة بالصحة العامة. (دوجلاس، ٢٠٠٢: ٣١)

بقدر ما تبدو نظرية الصحة الوقائية لشرائع الطعام الكتابية منطقية، تشير دوجلاس إلى أنها تنطوي على مغالطة تاريخية، وأنه يوجد في الواقع تفسير آخر معقول تمامًا في السياق الكتابي. أعلن سِفرا اللاويين والتثنية أن بعض الحيوانات «نجسة» و«رجسة» لأنها لا تُلبي المعايير الراسخة كتابيًّا للحيوانات من نوعها. تُصنَّف الحيوانات في هذين السفرين، كما في سفر التكوين أيضًا، إلى ثلاث مجموعات: حيوانات تعيش على اليابسة، وحيوانات تعيش في المياه، وحيوانات تحلق في الهواء.

أما حيوانات اليابسة، فثَمَّ معياران لقبولها: لا بد أن يكون لديها ظلف مشقوق، ولا بد أن تكون «مجترَّة» — تجترُّ طعامها لتمضغه مرة أخرى.

وَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى وَهَارُونَ: «قُولا لِبَنِي إسْرَائِيلَ: هَذِهِ هِيَ الْحَيَوَانَاتُ الَّتِي تَأكُلُونَهَا مِنْ جَمِيعِ الْبَهَائِمِ الَّتِي عَلَى الأرْضِ: كُلُّ مَا شَقَّ ظِلْفًا وَقَسَمَهُ ظِلْفَيْنِ وَيَجْتَرُّ مِنَ الْبَهَائِمِ فَإيَّاهُ تَأكُلُونَ. إلَّا هَذِهِ فَلا تَأكُلُوهَا مِمَّا يَجْتَرُّ وَمِمَّا يَشُقُّ الظِّلْفَ: الْجَمَلَ لأنَّهُ يَجْتَرُّ لَكِنَّهُ لا يَشُقُّ ظِلْفًا، فَهُوَ نَجِسٌ لَكُمْ. وَالْوَبْرَ لأنَّهُ يَجْتَرُّ لَكِنَّهُ لا يَشُقُّ ظِلْفًا فَهُوَ نَجِسٌ لَكُمْ. وَالأرْنَبَ لأنَّهُ يَجْتَرُّ لَكِنَّهُ لا يَشُقُّ ظِلْفًا فَهُوَ نَجِسٌ لَكُمْ. وَالْخِنْزِيرَ لأنَّهُ يشُقُّ ظِلْفًا وَيَقْسِمُهُ ظِلْفَيْنِ لَكِنَّهُ لا يَجْتَرُّ فَهُوَ نَجِسٌ لَكُمْ.» (سفر اللاويين ١١: ١–٧. وانظر سفر التثنية ١٤: ٣–٨)

وثمة قواعد مختلفة للحيوانات التي تعيش في الماء؛ فلكي تكون مقبولة فلا بد أن يكون لها زعانف وحراشف.

وَهَذَا تَأكُلُونَهُ مِنْ جَمِيعِ مَا فِي الْمِيَاهِ: كُلُّ مَا لَهُ زَعَانِفُ وَحَرْشَفٌ فِي الْمِيَاهِ فِي الْبِحَارِ وَفِي الأنْهَارِ فَإيَّاهُ تَأكُلُونَ. لَكِنْ كُلُّ مَا لَيْسَ لَهُ زَعَانِفُ وَحَرْشَفٌ فِي الْبِحَارِ وَفِي الأنْهَارِ مِنْ كُلِّ دَبِيبٍ فِي الْمِيَاهِ وَمِنْ كُلِّ نَفْسٍ حَيَّةٍ فِي الْمِيَاهِ فَهُوَ مَكْرُوهٌ لَكُمْ. (سفر اللاويين ١١: ٩-١٠. وانظر سفر التثنية ١٤: ٩-١٠)

وعليه، فالسَّلمون والتونة والأسماك الأخرى هي طعام مقبول، غير أن الجمبري والكركند والمحار، والكائنات البحرية الأخرى عديمة الزعانف والحراشف غير مقبولة.

إذًا، ما يَصِم بعض الأطعمة بأنها «نجسة» في الكتاب المقدس، ليس أنها تسبب الأمراض، وإنما أنها تنقصها بعض الخصائص التي تُعَد ضرورية لكونها حيوانات تعيش على اليابسة أو حيوانات تعيش في البحر؛ فقد صُنفت الخنازير بأنها «نجسة» للسبب نفسه الذي صُنفت لأجله الجِمال والأرانب بأنها «نجسة»: أنها ينطبق عليها أحد المعيارَين الكتابيَّين وليس كلاهما بشأن حيوانات اليابسة. وما يجعل سرطانات البحر تُصنَّف على أنها «نجسة» هو أنها تفتقر إلى صفتين ضروريتين من صفات الكائنات البحرية — ألا وهي الزعانف والحراشف.

لماذا يستخدم كُتَّاب الكتاب المقدس لفظة «نجسة» هكذا؟ توضح دوجلاس أنه عندما أعلن الله أن بعض الأنواع مقبولة طعامًا والبعض الآخر غير مقبول؛ فإنه يقول مكررًا: «فَتَكُونُونَ قِدِّيسِينَ لأنِّي أنَا قُدُّوسٌ» (على سبيل المثال في سفر اللاويين ١١: ٤٥، ١٩: ١-٢).

وبالنظر إلى أن كلًّا من الأوامر تُستهل بالأمر بالقداسة؛ فإنه لا بد من تفسيرها في ضوء هذا الأمر. لا بد أن يكون هناك تعارضٌ ما بين القداسة والرجاسة وهو ما يقدم مغزًى شاملًا لكل القيود المُفصلة. (دوجلاس، ٢٠٠٢: ٥١-٥٢)

ما القداسة وكيف يمكن تطبيقها على الحيوانات؟ تقول دوجلاس إن جذر لفظة «مقدس» هو «مفصول»؛ فالمقدس مميز ومفصول عن باقي الأشياء. ولكي يمكن فصل الشيء، فلا بد من أن يكون مكتملًا وصحيحًا: لا بد من أن يتمتع بكل الخصائص التي تميِّز نوعه. الله قدوس على نحوٍ مطلقٍ — لكونه كاملًا ومميزًا تمامًا من كل شيء آخر. قطعًا، لا يوجد مخلوق كامل ومميز تمامًا من سائر المخلوقات، لكن يمكن للمخلوقات أن تصير مقدسة بتمتعها بكل الصفات التي من المفترض أن تميز الأشياء من نوعها، وخلوها من الصفات التي تخص أنواعًا أخرى من المخلوقات.

نرى فكرة القداسة والكمال في سفر اللاويين، حيث يأمر الله بأن كل حيوان يُقدَّم تقرُّبًا إلى الله، وكل كاهن يتولى تقديم القربان، لا بد وأن يكونا كاملين لا تشوبهما شائبة.

إذَا كَانَ رَجُلٌ مِنْ نَسْلِكَ فِي أجْيَالِهِمْ فِيهِ عَيْبٌ فَلا يَتَقَدَّمْ لِيُقَرِّبَ خُبْزَ إلَهِهِ. لأنَّ كُلَّ رَجُلٍ فِيهِ عَيْبٌ لا يَتَقَدَّم. لا رَجُلٌ أعْمَى وَلا أعْرَجُ وَلا أفْطَسُ وَلا زَوَائِدِيٌّ وَلا رَجُلٌ فِيهِ كَسْرُ رِجْلٍ أوْ كَسْرُ يَدٍ وَلا أحْدَبُ وَلا أكْثَمُ وَلا مَنْ فِي عَيْنِهِ بَيَاضٌ وَلا أجْرَبُ وَلا أكْلَفُ وَلا مَرْضُوضُ الْخُصَى. (سفر اللاويين ٢١: ١٧–٢٠)

أي شيء يجعل أحد المخلوقات أقل من نموذج كامل من نوعه، يجعله، بعبارة أخرى، أقل من المكتمل، ومِن ثَمَّ غير مقدس.

ومن الطرق الأخرى التي تجعل الأشياء غير مميزة التوليف بين أنواع مختلفة من الأشياء. فالخلائط غير نقية ومِن ثَمَّ غير مقدسة. وعليه يقول سفر اللاويين (٩: ١٩): «لا تُنَزِّ بَهَائِمَكَ جِنْسَيْنِ وَحَقْلَكَ لا تَزْرَعْ صِنْفَيْنِ، وَلا يَكُنْ عَلَيْكَ ثَوْبٌ مُصَنَّفٌ مِنْ صِنْفَيْنِ.» وحتى اليوم، في اليهودية الأرثوذكسية، هناك رجال وظيفتهم فرز الأثواب لضبط «الشاتنز» المُحرمة؛ أي خليط الألياف من قبيل الكتان والصوف.

كيف يمكن تطبيق كل هذا التشديد على التميز والكمال في الحيوانات التي يمكن تناولها وتلك التي لا يمكن تناولها؟ أولًا؛ إذا كان البشر يثابرون من أجل بلوغ القداسة، فلا بدَّ إذًا من أن يكون الطعام الذي يتناولونه مقدسًا. خليق بهم ألا يتناولوا إلا الأطعمة الكاملة، بمعنى الأطعمة التي يُضرب بها المثل في الكمال من نوعها. كان الإسرائيليون رعاة في المقام الأول، مِن ثَمَّ، كانت نماذج حيوانات اليابسة من وجهة نظرهم هي الحيوانات التي كانوا يرعونها: من غنم وماعز وماشية. وما كان يميز هذه الأنواع من الكائنات الأخرى هو أنها كانت مشقوقة الظلف ومجترة. ومِن ثَمَّ صنف كُتَّاب الكتاب المقدس حيوانات اليابسة التي لديها هاتان الصفتان على أنها كاملة وصحيحة، ومِن ثَمَّ فهي مقدسة وطاهرة. أما الحيوانات التي افتقرت لكلتا الصفتين، مثل الخنازير، فكانت نجسة. وفي تصنيف كُتَّاب الكتاب المقدس للحيوانات المائية أيضًا، اتخذوا الحيوانات التي يعرفونها بقدر أكبر نماذج لهم، ألا وهي الأسماك. والسمة المميزة للأسماك عن سائر الكائنات البحرية هي الزعانف والحراشف. ومِن ثَمَّ، فهاتان هما الصفتان الأساسيتان المميزتان لكائنات مائية كاملة. لا يملك المحار زعانف ولا حراشف، ومِن ثَمَّ فهو حيوان بحري ناقص. وبحسب هذه المعايير يكون الكركند أكثر إزعاجًا، بالنظر إلى أنه لا يفتقر إلى كلتا الصفتين فحسب، ولكن لأنه أيضًا يتحرك بطريقة أشبه بحركة حيوانات اليابسة، أي المشي. وعليه، لا يكون الكركند ناقصًا فقط، ولكن تتداخل صفاته مع صفات حيوانات اليابسة. ومن ثم يزيد على الخنازير في كونه غير مميز، ولا يمتلك صفات قائمة بذاتها قابلة للفصل عن بقية الأنواع، ومِن ثَمَّ فهو نجس.

هكذا تخلُص دوجلاس إلى أن قواعد الكتاب المقدس لتحريم تناول لحم الخنازير والمحار لا تتعلق بتجنب الأمراض، بل تجنُّب النجاسة، تمامًا مثلما يقول الكتاب المقدس.

المراجع

  • Douglas, M. (2002) Purity and Danger: An Analysis of Concepts of Pollution and Taboo, Taylor and Francis, London.
  • Osteen, J. (online) Joel Osteen Teaches Christians Clean Unclean Foods! No Pork, YouTube Video uploaded February 27, 2012, www.youtube.com/watch?v=7dYheb6OwVQ (accessed January 10, 2014).

(٣) الأبوكاليبس هو نهاية العالم التي تنبأ بها الكتاب المقدس

فَنَظَرْتُ وَإِذَا فَرَسٌ أَخْضَرُ، وَالْجَالِسُ عَلَيْهِ اسْمُهُ الْمَوْتُ، وَالْهَاوِيَةُ تَتْبَعُهُ، وَأُعْطِيَا سُلْطَانًا عَلَى رُبْعِ الأَرْضِ أَنْ يَقْتُلَا بِالسَّيْفِ وَالْجُوعِ وَالْمَوْتِ وَبِوُحُوشِ الأَرْضِ. (وصف الفارس الرابع في سفر الرؤيا ٦: ٨، نسخة الملك جيمس الجديدة)

الاعتقاد بالنهاية القادمة للعالم كما نعرفها مشترك بين الأديان التوحيدية (الزرادشتية واليهودية والمسيحية والإسلام والبهائية)، وكلها تقول إن نهاية العالم سوف تميزها أمارات معينة. على سبيل المثال، يخبرنا سفر دانيال من الكتاب المقدس العبري بمجيء أربعة وحوش عظيمة، سيكون آخرها بشعًا حقًّا؛ إذ سيكون له عشرة قرون، وسيسحق الأرض كلها برجليه ثم يأكلها. لكن يجب ألَّا يخشى المؤمنون ذلك، كما يقول دانيال، لأن كثيرين من الموتى سيعودون إلى الحياة. «وَكَثِيرُونَ مِنَ الرَّاقِدِينَ فِي تُرَابِ الأَرْضِ يَسْتَيْقِظُونَ هَؤُلَاءِ إِلَى الْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ وَهَؤُلَاءِ إِلَى الْعَارِ لِلازْدِرَاءِ الأَبَدِيِّ» (سفر دانيال ١٢: ٢).

تشير النصوص المقدسة المسيحية إلى سفر دانيال، وتكرر أن «نهاية الأزمنة» ستميِّزها «رِجْسَة الْخَرَابِ»، ومجيء «ضِيق عَظِيم لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ مُنْذُ ابْتِدَاءِ الْعَالَمِ» (متَّى ٢٤: ١٥–٢٢، مرقس ١٣: ١٤–٢٠). ويقدِّم إنجيل لوقا مؤشرات أكثر تفصيلًا عن «أمارات آخر الأيام» حتى يتمكن القراء من الاستعداد: «وَتَكُونُ عَلَامَاتٌ فِي الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ وَعَلَى الأَرْضِ كَرْبُ أُمَمٍ بِحَيْرَةٍ. الْبَحْرُ وَالأَمْوَاجُ تَضِجُّ» (٢١: ٢–٣٣).

أوصاف القرآن لنهاية الأيام مذهلة بالمثل:

إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ * وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ. (سورة التكوير: ١–١٤)

لكن المسيحيين هم من يولون أكبر اهتمام للنهاية الوشيكة للعالم وأماراتها. الأمارات مذكورة بالتفصيل في السفر الأخير من الكتاب المقدس المسيحي (العهد الجديد)، وهو سفر يُطلق عليه غالبًا سفر الرؤيا، إلا أنه معروف في الأصل باسم «أبوكاليبس يوحنا». وهو يخبرنا عن «السِّفر المختوم بسبعة أختام». وبفتح الختم الأول، يظهر أربعة فرسان، كلٌّ منهم يمتطي فرسًا؛ أبيض، وأحمر، وأسود، و«أخضر» — «أربعة فرسان الأبوكاليبس». وبفتح الختم الخامس تظهر رؤيا لأولئك الذين ذُبحوا «مِنْ أَجْلِ كَلِمَةِ اللهِ». ويسبب فتح الختم السادس زلزلة عظيمة، «وَالشَّمْسُ صَارَتْ سَوْدَاءَ كَمِسْحٍ مِنْ شَعْرٍ، وَالْقَمَرُ صَارَ كَالدَّمِ، وَنُجُومُ السَّمَاءِ سَقَطَتْ إِلَى الأَرْضِ … وَالسَّمَاءُ انْفَلَقَتْ كَدَرْجٍ مُلْتَفٍّ، وَكُلُّ جَبَلٍ وَجَزِيرَةٍ تَزَحْزَحَا مِنْ مَوْضِعِهِمَا.» هذا هو ما يحدث في يوم يُوصف بأنه «يَوْمُ غَضَبِهِ الْعَظِيمُ» (سفر الرؤيا ٦). وبالنظر إلى الطبيعة المذهلة لهذه الأوصاف، صار يُقصد بلفظة «أبوكاليبس» أحداث كارثية تشير إلى نهاية العالم. وعادة ما تستخدم لفظة «أبوكاليبسي» لوصف سيناريوهات يوم القيامة، أما «الأدب الأبوكاليبسي» فهو ذاك الذي يتناول الأحداث المرتبطة بنهاية الأيام. وبالبحث على الإنترنت عن أسئلة متعلقة بالأبوكاليبس، نجد مئات المراجع التي تشير إلى نهاية العالم — أو إلى أفلام وألعاب تدور حول نهاية العالم (مثل: www.goodreads.com/quotes/tag/apocalypse وأيضًا www.brainyquote.com/quotes/keywords/apocalypse.html).
وإذ فهم كثير من الناس الأوصاف الواردة في الكتاب المقدس فهمًا حرفيًّا، فقد تنبئوا بنهاية الأيام بتفاصيل مذهلة، وإن كانت لحسن الحظ غير دقيقة. وكثر ما اقترنت هذه التنبؤات بالويلات السياسية، إلى حد مماهاة الطغاة وغيرهم من الأعداء المفترضين بكثير من شخصيات أبوكاليبس يوحنا، وتأويل الاضطرابات التي تسببوا فيها على أنها أمارات على أن النهاية وشيكة. ومن المفارقة أن مثل هذه التأويلات كانت تبعث الراحة في نفوس بعض الناس، لأنه من المفترض أن يتبع هذه الأحداث المرعبة في نهاية الأيام المجيء الثاني ليسوع، المسيَّا الذي يحارب عدو المسيح ويبشِّر بفترة من السلام والطمأنينة. على سبيل المثال، تنبأ هيلاري، أسقف بواتييه، الذي كان يحارب بدعة آريوس — وهي تأويل للمسيحية اعتبره مجمع القسطنطينية الذي عُقد عام ٣٨١ بدعة هرطقية — بأن نهاية العالم ستكون عام ٣٦٥ (www.religioustolerance.org). وأشار البابا إنوسنت الثالث إلى أن المسلمين هم سبب الهلاك، وتنبأ بأن العالم سوف ينتهي بعد ٦٦٦ عامًا من ظهور الإسلام؛ أي عام ١٢٨٤ (شوارتز، ١٩٩٦). لماذا رقم ٦٦٦ تحديدًا؟ لأن اسم أحد الوحوش الواردة في «أبوكاليبس يوحنا» — الوحش ذي الرءوس السبعة والقرون العشرة (رؤيا ١٣: ١–١٠) — له قيمة عددية (تُحدَّد بناءً على حسابات تستخدم مطابقة الأرقام والحروف) تساوي ٦٦٦ (سفر الرؤيا ١٣: ١٨؛ ١٥: ٢). ومِن ثَمَّ يُطلَق على هذا العدد «أمارة الوحش». ورد في المذكرات اليومية للزعيم البيوريتاني كوتون ميذر (على الإنترنت)، أحد المؤمنين ﺑ «أبوكاليبس يوحنا»، أنه رأى عدو المسيح يعمل في البعثات التبشيرية الكاثوليكية في الهند، وتنبأ بأن نهاية الأيام ستكون عام ١٦٩٧، ثم في عام ١٧١٦، ثم ١٧٣٦ (تُوفي عام ١٧٢٨).

بيد أن لفظة «أبوكاليبس» في حقيقة الأمر لا تعني نهاية العالم أو أي شيء من هذا القبيل. وإنما تعني «رؤيا»، وهي مشتقة من كلمة «أبوكاليبسيس» اليونانية التي تعني الكشف أو إماطة اللثام عما كان مخفيًّا. علاوة على ذلك، يرى الباحثون عمومًا في «الأدب الأبوكاليبسي» انعكاسات للتوتر السائد وقت كتابته. يعتقد كثير من الباحثين أن الفقرات الأبوكاليبسية في سفرَي دانيال وأشعياء كُتبت أثناء تعرُّض اليهود للاضطهاد على أيدي اليونانيين. أما سفر الرؤيا (أبوكاليبس يوحنا) فقد كُتب بعد هجوم الرومان على أورشليم، وخراب الهيكل، وسبي اليهود (عام ٧٠). واليوم، يؤوِّل الباحثون بصفة عامة الأحداث الواردة في هذا السفر على أنها إشارات رمزية إلى أحداث معاصرة لها، وليست تكهنات مستقبلية. وكان من اللازم أن تكون الأوصاف رمزية لأنها كانت سلبية للغاية. كانت تحمل انتقادًا لاذعًا للسلطات الحاكمة؛ وكان من شأن تقديمها صراحة أن يستتبع عقابًا قاسيًا. على سبيل المثال، حدث أن الرقم الذي يدل على وحش البحر العظيم هو المكافئ العددي لنيرون، الإمبراطور الروماني الذي كان يمقته المسيحيون (كوري ٢٠٠٦: ٦١). يشرح كوري أن العدد ٦٦٦ محسوب بناءً على أرقام منسوبة إلى الحروف العبرية المستخدمة للترجمة الصوتية لاسم «نيرون». يذكر السفر نفسه أن «السَّبْعَة الرُّءُوس هِيَ سَبْعَةُ جِبَالٍ» (سفر الرؤيا ١٧: ٩). ويمكن أن تكون هذه إشارة أخرى إلى روما، تلك المدينة التي بُنيت على سبعة جبال، أو أنها أيضًا إشارة إلى أورشليم، التي بُنيت هي أيضًا على سبعة جبال. بالمثل «زانية بابل» — الموصوفة في الإصحاح السابع عشر بأنها يدمرها وحش البحر العظيم — غالبًا ما تُفهم على أنها تعني أولئك الذين عملوا في الحكومة الرومانية التي كانت تسيطر على أورشليم حينها.

هذا التأويل العلمي للإشارات الواردة في سفر الرؤيا منعكس بوضوح في التأويلات السائدة للمسيحية. على سبيل المثال، ترى الكنيسة الكاثوليكية أن سفر الرؤيا لم يُكتب من أجل التنبؤ بالمستقبل البعيد، وإنما لتشجيع المسيحيين الذين عاشوا في القرن الأول، الذين كانوا يعيشون في ظل الحكم الروماني التعسفي. وباستخدام اللغة الرمزية، أشار السفر إلى أن روما سرعان ما ستسقط، وسوف يُكافَئون مكافأة عظيمة من أجل إيمانهم وجلَدهم. وسينزل العقاب بمضطهديهم. على كل حال، يرفض أغلب علماء اللاهوت فكرة أن الناس يمكنهم التنبؤ بنهاية العالم، مؤكدين القول الوارد في إنجيل متَّى بأنه لا أحد يستطيع أن يعرف متى سيأتي يسوع مرة أخرى. ومع ذلك، واضح أن كثيرًا من الناس يستشعرون الراحة في فكرة أنه لا ينبغي أن يكون الاضطراب السياسي والكوارث الأخرى سببًا للقلق المفرط. بالعكس، هي تشير إلى أن مجازاة البِر تلوح في الأفق.

المراجع

  • Cory, C. (2006) The Book of Revelation. Liturgical Press, Collegeville, MN.
  • Mather, C. (online) An American on Patmos, www2.lib.virginia.edu/exhibits/brimstone/mather.html (accessed January 10, 2014).
  • Ontario Consultants on Religious Tolerance, (2011) “46 failed end-of-the-world predictions that were to occur between 30 & 1920 CE, but didn’t” June 14 http://www.religioustolerance.org/end_wrl2.htm (accessed January 11, 2014).
  • Schwartz, H. Century’s End: An Orientation Manual Toward the Year 2000. Doubleday, New York, p. 181.

قراءات إضافية

  • Browne, Silvia. (2008). End of Days: Predictions and Prophecies about the End of the World.: Dutton/Penguin. New York.
  • McIver, Tom. (1999). The End of the World: An Annotated Bibliography. McFarlane & Co. Jefferson NC.
  • Weber, Eugen. (1999). Apocalypses. Harvard University Press. Cambridge MA.

(٤) يعذب الشيطان وأجناده الناس في الجحيم

ظل الشيطان شخصية شهيرة في الأدب والفن والفلكلور على مدى ألف سنة. ويبدو في صورة شائعة بقرون، وأجنحة سوداء أو حمراء، وأرجل ماعز، وذيل مدبب. وكثيرًا ما يحمل رمحًا ذا ثلاث أسنان، سلاحًا ذا ثلاث شُعَب يُسمى أحيانًا شوكة. وفي جامعة ولاية أريزونا، يُطلق على الفرق الرياضية «صن ديفلز»، ويحمل فريق المشجعين المعروف باسم «سباركي ذي صن ديفل» رمحًا ثلاثيًّا.

ظهر كثير من صور الشيطان في المسيحية في العصور الوسطى، حينما قدم الرسَّامون والنحاتون مئات من التمثيلات للجحيم؛ حيث يتولى الشياطين تعذيب الناس. وقُدِّم كثير منها في صورة نقش غائر يعبر عن الدينونة الأخيرة فوق مداخل الكنائس. وحالما يمر الناس من تحت هذه البوابات، يرفعون أنظارهم إليها إمعانًا في الخوف من الجحيم. وفي عام ١٤١٦، صنع الإخوة ليمبرج — بول، وهيرمان، وجان — لوحة مصغرة للجحيم، أصبحت جزءًا من «كتاب الساعات»، وهو كتاب أجبية للدوق جان دو بيري، أخي الملك شارل الخامس ملك فرنسا. وفي اللوحة، يتوسط الشيطان المشهد، مستلقيًا على مجمرة ضخمة، يُشوَى الناس أسفلها. وعلى جانبَي المجمرة، يستخدم أتباعه من الشياطين أدوات نفخ كبيرة للحفاظ على ألسنة اللهب مشتعلة. ويعتصر الشيطان في كلتا يديه الجسدين المتلوِّيين لزوجين عاريين. ويلفظ من فمه الكبير حممًا مشتعلة، بها ما يزيد على اثنتي عشرة ضحية أكثر عريًا. وتسحق قدماه آخرين يُعذَّبون بالأفاعي أيضًا. وأمام المجمرة، شياطين آخرون يتولَّون تعذيب المزيد من الناس، بينما توجد في الخلفية جبال شاهقة مخروطية الشكل تُستخدم كغلايات لطهي المزيد من الضحايا.

تعد لوحة «الجحيم» لهيرونيموس بوش، التي رسمها نحو عام ١٥٠٠، نسخة أكبر للموضوع نفسه، حيث ينشغل الشياطين بأساليب تعذيب مبتكرة.

كل هذه الأعمال التخيلية هي موضوع جيد للوحات الخيالية في الرسومات الكاريكاتورية لمجلة «نيويوركر»، وأزياء الهالوين، إلا أنها ليست من الكتاب المقدس، وليست جزءًا من تعاليم الكنائس المسيحية.

ماذا يقول الكتاب المقدس «حقًّا» عن الشيطان؟ لا يكاد الكتاب المقدس العبري/العهد القديم يقول شيئًا إلا أنه كان «ابنًا لله» — أي إنه ملاك — يعني اسمه «المُشتكي»؛ ففي سفر أيوب، الشيطان وكيل لله يجوب الأرض ويُبلغه بما يفعل الناس.

أما العهد الجديد فيطرح صورة مختلفة تمامًا عن الشيطان؛ فهو ليس عميلًا ولكن عدو لله. ويتمثل الكثير من الشر الذي يفعله في غواية الناس للسقوط في الخطيئة؛ فوفقًا لما جاء في أناجيل متَّى، ومرقس، ولوقا، حاول الشيطان إغواء يسوع نفسه؛ فبعد معموديته، صام يسوع في البَرِّيَّة ٤٠ يومًا، ثم جرَّبه الشيطان ثلاث مرات (متَّى ٤: ١–١١؛ مرقس ١: ١٢-١٣؛ لوقا ٤: ١–١٣). ولم ينتهره يسوع قائلًا: «اذْهَبْ يَا شَيْطَانُ!» إلا بعد التجربة الثالثة — بأن يسجد للشيطان في مقابل منحه كل ممالك العالم.

أما عن الفكرة الرائجة التي تقول إن الشيطان يقطن الجحيم، فلها مصدران في الكتاب المقدس. يقول يسوع في إنجيل متَّى (٢٥: ٤١)، إنه في الدينونة الأخيرة، سيفصل الملك الغنم عن الماعز — الأبرار عن الأشرار — ويقول للأشرار «اذْهَبُوا عَنِّي يَا مَلَاعِينُ إِلَى النَّارِ الأَبَدِيَّةِ الْمُعَدَّةِ لِإِبْلِيسَ وَمَلَائِكَتِهِ.»

أما المصدر الكتابي الآخر لفكرة أن الشيطان يقطن الجحيم فهو الإصحاح العشرون من سفر الرؤيا؛ إذ يقول إنه بعد تقييد الشيطان ألف عام؛ فإنه سيُطلَق سراحه ليُضلَّ أمم الأرض.

وَرَأَيْتُ مَلَاكًا نَازِلًا مِنَ السَّمَاءِ مَعَهُ مِفْتَاحُ الْهَاوِيَةِ، وَسِلْسِلَةٌ عَظِيمَةٌ عَلَى يَدِهِ. فَقَبَضَ عَلَى التِّنِّينِ، الْحَيَّةِ الْقَدِيمَةِ، الَّذِي هُوَ إِبْلِيسُ وَالشَّيْطَانُ، وَقَيَّدَهُ أَلْفَ سَنَةٍ، وَطَرَحَهُ فِي الْهَاوِيَةِ وَأَغْلَقَ عَلَيْهِ، وَخَتَمَ عَلَيْهِ … ثُمَّ مَتَى تَمَّتِ الأَلْفُ السَّنَةِ يُحَلُّ الشَّيْطَانُ مِنْ سِجْنِهِ، وَيَخْرُجُ لِيُضِلَّ الأُمَمَ الَّذِينَ فِي أَرْبَعِ زَوَايَا الأَرْضِ … فَنَزَلَتْ نَارٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مِنَ السَّمَاءِ وَأَكَلَتْهُمْ. وَإِبْلِيسُ الَّذِي كَانَ يُضِلُّهُمْ طُرِحَ فِي بُحَيْرَةِ النَّارِ وَالْكِبْرِيتِ، حَيْثُ الْوَحْشُ وَالنَّبِيُّ الْكَذَّابُ. وَسَيُعَذَّبُونَ نَهَارًا وَلَيْلًا إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ. (سفر الرؤيا ٢٠: ١–٣، ٧-٨، ٩-١٠)

هكذا، ما يقوله العهد الجديد عن الشيطان وملائكته، أنهم أشرار يُغوون الناس للوقوع في الخطيئة، وأن الجحيم قد أُعِدَّت لتكون مكانًا لعقوبتهم الأبدية. ويقول إن الأشرار من البشر سوف يُعاقَبون في الجحيم أيضًا عند الدينونة الأخيرة. ما لا يقوله هو أن الشيطان وملائكته في الجحيم الآن، قبل الدينونة الأخيرة. ولا يقول إن الجحيم مملكتهم، أو إنهم في الجحيم يعذبون البشر.

والرؤيا التي تنبأت بالشيطان مُلقًى في البحيرة المتقدة بالنار الواردة في سفر الرؤيا هي حدث مستقبلي، سيحدث في نهاية العالم. يعني هذا أن الشيطان لم يُوضع في الجحيم بعدُ. علاوة على أنه إن كان الشيطان في الجحيم فكيف يمكنه أن يجوب الأرض مغويًا الناس؟

بالتفكير في الخرافتين الثانيتين — اللتين تقولان إن الجحيم في قبضة الشيطان وجنوده، وإنهم يعذبون البشر هناك — يمكننا أن نرى أنهما فاسدتان من ثلاث طرق على الأقل.

المشكلة الأولى في فكرة أن الشيطان يعذب الأشرار من البشر هي أن البشر الأشرار هم من يفعلون ما يريد منهم فعله؛ فهم يوافقون على خططه ويفعلون ما يرضيه. لماذا إذًا قد يرغب في تعذيبهم إلى أبد الدهر؟ أليس حريًّا به أن يرغب في مكافأتهم على خدمتهم المخلصة؟ تصوَّر وصول هتلر وستالين إلى الجحيم؛ ألن يرحِّب بهم الشيطان بحفاوة، باعتبارهم زملاءه؟ كيف يمكنه أن يستمتع بعقاب بعض وكلائه؟

المشكلة الثانية في التصور الشائع بأن الشياطين يعذبون الناس في الجحيم هي أنها تجعل من الشياطين وكلاء الله؛ فالله، وليس الشيطان، هو الذي يريد إنزال العقاب بالناس على فعلهم الشر. فإن كان الشيطان وجنوده معارضين لله ويريدون إحباط مخططه، فلماذا يساعدونه — بل ويعملون لحسابه بمعاقبة الناس الأشرار أبد الدهر؟

ثالث مشكلة في الخرافة القائلة إن الشياطين يعذبون الناس في الجحيم هي الاعتقاد بأنهم يستمتعون بعملهم. وبالفعل يظهر الشياطين في الكثير من الأيقونات المسيحية وهم يتلذَّذون بتعذيب الناس باستخدام شوكات ثلاثية وقضبان ساخنة وهكذا. وتبدو ممارساتهم في الجحيم وكأنها متعة لهم. لكن أيمكن أن تكون الجحيم فعلًا مكانًا ينعم الشياطين فيه بوقت طيب؟ يقول الكتاب المقدس إن الجحيم أُعِدَّت لتكون مكانًا للعقاب وليست منتجعًا ترفيهيًّا للساديِّين. في إنجيل متَّى (٢٥: ٤١) يصفها المسيح بأنها «النَّار الأَبَدِيَّة الْمُعَدَّة لِإِبْلِيسَ وَمَلَائِكَتِهِ.» فإذا كان الشيطان وجنوده يمارسون عمليات تعذيب في الجحيم، ويحومون في كل الأرجاء يجربون أشكال التعذيب الجديدة على البشر، فلن تكون الجحيم عقابًا بالنسبة إليهم.

إذا كان مظهر الشيطان وجنوده وممارساتهم ليسا بحسب ما ورد في الكتاب المقدس، فمن أين جاءا إذًا؟ يخمن العلماء أن كليهما انبثق في العصور الوسطى من مصادر عدة. ولعل قرون الشيطان، ورجليه اللتين على شكل أرجل الماعز، وذيله، مأخوذة من الأوصاف الإغريقية للإله «بان» أو أوصاف ساتير الذي كان جزء منه ماعزًا وجزء منه إنسانًا. أما الأجنحة والذيل فلعلهما مأخوذان من أوصاف التنين في سفر الرؤيا (في الجزء المُقتبس أعلاه)، المقترن ﺑ «الوحش» و«النبي الكذَّاب». وعن الرمح ثلاثي الأسنان أو الشوكة الثلاثية، أوضح علماء كثيرون أنها كانت تُستخدم من حيث الأساس لصيد الأسماك، ومِن ثَمَّ اقترنت بآلهة البحر مثل بوسيدون ونبتون، لكنها صارت تُستخدَم سلاحًا في الحرب والمعارك القتالية. وباجتماع كل صور الشر تلك، إضافة إلى الاعتقاد بأن الشيطان يعيش في الجحيم مع البشر، لم يكن هناك مناص من تخيُّل المرء للشيطان وهو يواصل حيله الشريرة فيعذب البشر هناك. أما الرمح ثلاثي الأسنَّة فلعلَّه أداة مُثلى لمزاولة مثل هذه الأعمال.

(٥) الكروبيم ملائكة حِسان كالأطفال

بلغت الشعبية التقليدية للملائكة أوْجَها في الثقافات المسيحية في العقود الثلاثة الأخيرة. طُبع كثير من الطبعات من كتاب المبشِّر المسيحي بيلي جراهام الصادر عام ١٩٧٧ بعنوان «الملائكة: رُسل الله السرِّيون»، وبِيع منه ما يزيد على ثلاثة ملايين نسخة، مروجًا بذلك لبيع عشرات من الكتب التي تدور حول الملائكة منذ ذلك الحين. وصارت قصص الملائكة موضوعًا مهمًّا في التليفزيون الأمريكي، بدءًا من برنامج «هاي وِاي تو هيفين» عام ١٩٨٤. واستمر عرض سلسلة أخرى بعنوان «تاتشد باي آن أنجل» من عام ١٩٩٤ حتى عام ٢٠٠٣. وشاع ظهور الملائكة في الأفلام قبل ظهور كتاب القس بيلي جراهام بوقتٍ طويل. وكان فيلم عيد الميلاد «إتس أ وندر لايف» (١٩٤٦) يدور حول ملاك يثني الشخصية البطلة عن الانتحار. وحقق الفيلم رواجًا كبيرًا لدرجة أن مناقشات تدور الآن في هووليود حول إنتاج جزء جديد منه. وفي فيلم «ذي بيشوبس وايف» الذي أُنتج عام ١٩٤٦ أيضًا، من بطولة كاري جرانت ولوريتا ينج، يساعد أحد الملائكة في إنقاذ زواج بطل الفيلم من الفشل. وأُعيد إنتاج الفيلم مرة أخرى عام ١٩٩٦، هذه المرة من بطولة دنزل واشنطن وويتني هوستن. وفي فيلم «أنجلز إن ذي آوتفيلد» الذي أُنتج عام ١٩٥١، تساعد الملائكة أحد فرق البيسبول في كسر سلسلة متوالية من الهزائم. وأُعيد إنتاجه مرة أخرى عام ١٩٩٤. وفي فيلم «مايكل» عام ١٩٩٦، يؤدي جون ترافولتا دور رئيس ملائكة غير تقليدي. وفي فيلم «فولن» (٢٠٠٦)، يسعى مراهق نصفه ملاك ونصفه إنسان إلى إنقاذ الملائكة الساقطين وإعادتهم إلى السماء.

ومن الواضح أن النسخ الحديثة الشعبية من الملائكة هي من نتاج المخيلات الإبداعية. لكن الصور الإبداعية عن الملائكة ليست مجرد نتاج الصناعة الترفيهية الحديثة وحسب؛ ففي عصر النهضة، بدأ الفنانون يصورون الكروبيم على أنهم أطفال حِسان المنظر ممتلئو الأجساد لهم أجنحة — وما زلنا نرى هذا الشكل للكروبيم في احتفالات أعياد الميلاد وعيد الفالانتين، التي أثرت في فكرنا بأن الصفة «كروبيمي» صارت تعني «أن يكون للمرء البراءة الطفولية لملاك أو جاذبيته الممتلئة.»

بيد أننا لو أمعنَّا النظر فيما يقوله الكتاب المقدس عن الكروبيم، فسنُكوِّن صورة مختلفة تمامًا. ظهر الكروبيم أول ما ظهروا في سفر التكوين بعد اكتشاف الله أن آدم أكل من شجرة معرفة الخير والشر.

وقَالَ الرَّبُّ الإلَهُ: «هُوَ ذَا الإنْسَانُ قَدْ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنَّا عَارِفًا الْخَيْرَ وَالشَّرَّ. وَالْآنَ لَعَلَّهُ يَمُدُّ يَدَهُ وَيَأخُذُ مِنْ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ أيْضًا وَيَأكُلُ وَيَحْيَا إلَى الأبَدِ.» فَأخْرَجَهُ الرَّبُّ الإلَهُ مِنْ جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَعْمَلَ الأرْضَ الَّتِي أُخِذَ مِنْهَا. فَطَرَدَ الإنْسَانَ وَأقَامَ شَرْقِيَّ جَنَّةِ عَدْنٍ الْكَرُوبِيمَ وَلَهِيبَ سَيْفٍ مُتَقَلِّبٍ لِحِرَاسَةِ طَرِيقِ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ. (سفر التكوين ٣: ٢٢–٢٤)

وتشير نسخة أكسفورد الجديدة من الكتاب المقدس المشروح (١٩٩٤) إلى أن:

ملائكة الكروبيم هم حراس البقاع المقدسة (سفر ملوك الأول ٨: ٦-٧)، وقد أُشير إليهم على أنهم مخلوقات ذوات أجنحة (سفر حزقيال ٤١: ١٨-١٩)، مثل تمثال أبي الهول في مصر، ذلك المخلوق الأسطوري الذي هو نصف إنسان ونصف أسد. ووُضع سيف إلهي (قارن ذلك بالآية الواردة في سفر إرميا ٤٧: ٦) في متناول الكروبيم لحظر اقتراب البشر المطرودين من الحدود البشرية الموضوعة لهم. (قارن ذلك بالآيات الواردة في سفر حزقيال ٢٨: ١٣–١٦)

وتضيف الطبعة الرابعة من نسخة أكسفورد الجديدة للكتاب المقدس المشروح (٢٠١٠) أنه «جرى تصويرهم على أنهم حراس المقدسات مثل محراب أورشليم (سفر الملوك الأول ٦: ٢٣–٢٨، ٣٢، ٣٥).»

ويصف سفر المزامير (١٨: ٧–١٠) إلهًا مرعبًا يمتطي الكروبيم:

فَارْتَجَّتِ الأَرْضُ وَارْتَعَشَتْ أُسُسُ الْجِبَالِ. ارْتَعَدَتْ وَارْتَجَّتْ لأَنَّهُ غَضِبَ. صَعِدَ دُخَانٌ مِنْ أَنْفِهِ وَنَارٌ مِنْ فَمِهِ أَكَلَتْ. جَمْرٌ اشْتَعَلَتْ مِنْهُ. طَأْطَأَ السَّمَوَاتِ وَنَزَلَ وَضَبَابٌ تَحْتَ رِجْلَيْهِ. رَكِبَ عَلَى كَرُوبٍ وَطَارَ وَهَفَّ عَلَى أَجْنِحَةِ الرِّيَاحِ. (قارن ذلك بالآيات الورادة في سفر صموئيل ٢٢: ٨–١١)

وعندما بنى الملك سليمان هيكل أورشليم في القرن العاشر قبل الميلاد، استخدم منحوتات ضخمة للكروبيم مغطاة بالذهب من أجل المؤثرات البصرية:

وَعَمِلَ فِي الْمِحْرَابِ كَرُوبَيْنِ مِنْ خَشَبِ الزَّيْتُونِ، عُلُوُّ الْوَاحِدِ عَشرُ أَذْرُعٍ. وَخَمْسُ أَذْرُعٍ جَنَاحُ الْكَرُوبِ الْوَاحِدُ، وَخَمْسُ أَذْرُعٍ جَنَاحُ الْكَرُوبِ الآخَرُ. عَشرُ أَذْرُعٍ مِنْ طَرَفِ جَنَاحِهِ إِلَى طَرَفِ جَنَاحِهِ. (سفر الملوك الأول ٦: ٢٣-٢٤)

تساوي الذراع حوالي ١٨ بوصة، ومِن ثَمَّ كان يبلغ طول هذين الكروبين نحو ١٥ قدمًا حيث يبلغ عرض الجناحين ١٥ قدمًا. ونظرًا إلى امتداد الجناحين وحدهما من أحد جدران المحراب إلى الجدار المقابل، فكانا يخطفان الأبصار لاستحواذهما على المشهد.

وفضلًا عن الأجنحة، كيف بدا شكل بقية أجزاء الكروبيم؟ يصفها سفر حزقيال (١٠: ٢٠–٢٢) بقوله: «هَذَا هُوَ الْحَيَوَانُ … لِكُلِّ وَاحِدٍ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ أَرْبَعَةُ أَجْنِحَةٍ، وَشَبَهُ أَيْدِي إِنْسَانٍ تَحْتَ أَجْنِحَتِهَا. وَشَكْلُ وُجُوهِهَا هُوَ شَكْلُ الْوُجُوهِ الَّتِي رَأَيْتُهَا عِنْدَ نَهْرِ خَابُورَ.» وكان كاتب سفر حزقيال قد وصف تلك الوجوه من قبلُ على هذا النحو: «أمَّا شِبْهُ وُجُوهِهَا فَوَجْهُ إِنْسَانٍ وَوَجْهُ أَسَدٍ لِلْيَمِينِ لأَرْبَعَتِهَا، وَوَجْهُ ثَوْرٍ مِنَ الشِّمَالِ لأَرْبَعَتِهَا، وَوَجْهُ نَسْرٍ لأَرْبَعَتِهَا» (سفر حزقيال ١: ١٠).

في العصور الوسطى، أَوْلى اللاهوتيون المسيحيون الكثير من الاهتمام للملائكة. أمعن توما الأكويني في دراسة الملائكة ومكانها ضمن خطة الله، حتى إنه اكتسب لقب «العالِم الملائكي». وقال إن هناك تسع رتب من الملائكة، مقسمة إلى ثلاث تدرجات. وترتيبها التنازلي من الأعلى إلى الأدنى كما يلي:
  • (١)

    السيرافيم، والكروبيم، والعروش.

  • (٢)

    القوات، والسيادات، والسلاطين.

  • (٣)

    الرياسات، ورؤساء الملائكة، والملائكة.

تقترب الكروبيم من القمة؛ إذ تلي السيرافيم مباشرة. وقال توما الأكويني إن الشيطان كان من الكروبيم، ثم سقط من نعمة الله، ويَعتبر معظم اللاهوتيين الشيطان أحد أعظم مخلوقات الله، إن لم يكن الأعظم على الإطلاق. وبالمقارنة، نجد الملائكة الصالحة المذكورة في الكتاب المقدس — رؤساء الملائكة ميخائيل وجبرائيل ورفائيل — ترتيبهم قبل الأخير ويقعون في أدنى تدرُّج.

هكذا نجد الكروبيم في الكتاب المقدس وفي التعليم المسيحي من بين أعظم مخلوقات الله جميعًا — حراسًا مرعبين جرى تصويرهم في هيكل سليمان على أن طول الواحد منهم يبلغ ١٥ قدمًا وعرض أجنحتهم ١٥ قدمًا؛ فمن أين إذًا جئنا بفكرة أن الكروبيم أطفال لطيفة ممتلئة الجسم لها أجنحة صغيرة؟ لا نعلم يقينًا، لكننا نعرف يقينًا أن التصور الحديث للكروبيم هو قطعًا لشخصية غير دينية معروفة باسم «بوتو»، (وجمعها «بوتِّي»)، كانت قد انتشرت على أيدي رسامي عصر النهضة. في لوحة «سيستين مادونا» للفنان رفائيل، على سبيل المثال، تقف مريم العذراء وسط السحب تحمل الطفل يسوع، وعن يَمْنَتهما ويَسْرَتهما كلٌّ من القديس سيكتوس والقديسة بربارة، وتحت أرجلهما ملاكان صغيران يتطلَّعان إلى المادونا. وعندما رسم فنانو عصر النهضة كيوبيد وغيره من الشخصيات التي ترمز إلى الحب، غالبًا ما كانوا يرسمونهم على شاكلة البوتِّي. واختار هانس بولدوج جرين (١٤٨٤–١٥٤٥) أن تكون اللوحة الرئيسية التي يرسمها لمذبح كاتدرائية فرايبورج هي «تتويج العذراء»، وفيها يظهر ما يزيد عن اثني عشر بوتِّيًا يعزفون على آلات العود والكمان والقيثارة والترومبون والكرامهورن. ورسم فينزل هولر البوهيمي (١٦٠٧–١٦٧٧) زمرة من الأطفال لهم أجنحة ويعزفون على الآلات الموسيقية، ووضع عنوان عمله «حفل البوتِّي الموسيقي فوق السحاب». إلا أن أوريليو لويني (١٥٣٠–١٥٩٣) رسم عملًا مشابهًا، وأطلق عليه «الملائكة الموسيقية». ومن الصعب الوقوف عند منشأ الخلط ما بين البوتِّي والملائكة، ما لم نُجر دراسة شاملة للوحات الشبيهة، ولكن لعل العنوان الذي وضعه لويني للوحته هو نقطة البداية.

المراجع

  • Graham, B. (1977) Angels: God’s Secret Agents, Pocket Books, New York.

قراءات إضافية

  • New Catholic Encyclopedia (1967) Angels, McGraw-Hill, New York.

(٦) عانى المسيحيون الاضطهاد المُمنهج على أيدي الرومان

حتى ونحن نتعرض لقطع رقابنا، وللصلب، ونُلقَى إلى الحيوانات المفترسة، ونُكبل بالأصفاد، ونُلقَى في النيران، ونتعرض لجميع أنواع العذابات الأخرى، فإننا لا نتخلى عن إيماننا. بل على العكس، كلما زاد التعرض لمثل هذه العذابات، زادت جموع الآخرين الذين يعتنقون الإيمان. (جاستن الشهيد، حوار مع تريفو ١١٠ (شاف، ١٨٨٥))

يصف جاستن الشهيد الذي عاش في القرن الثاني اضطهاد روما الوثنية للمسيحية وصفًا يُرعد الفرائص. هناك مئات من القديسين المسيحيين الذين يُلقَّبون بالشهداء، وكثير منهم يعودون إلى القرن الثالث. ويضع الكثير من الطوائف المسيحية الإمبراطور قسطنطين الذي عاش في القرن الرابع وجعل المسيحية ديانة رسمية وأنهى الاضطهاد، في مصافِّ القديسين. وقد استرعت انتباه كثير من العلماء أهمية المعاناة في الإيمان بالمسيحية. لا غرابة إذًا في اعتقاد الكثيرين أن روما الوثنية كانت تعذِّب المسيحيين على نحو منهجي في محاولة لاجتثاث الحركة الدينية البازغة. لكن الأدلة التاريخية التي تؤيد هذه المزاعم قليلة للغاية حقًّا. صحيح أنه كانت هناك فترات من الاضطهاد — أغلب الظن لأسباب سياسية — لكن كانت هناك أيضًا فترات طويلة نعم فيها المسيحيون بالأمن. يرى العلماء أن قصص الشهداء والمعجزات الشائعة التي تعود إلى القرن الرابع فصاعدًا تشوبها المبالغة بلا شك.

تشرح كانديدا موس في كتابها «خرافة الاضطهاد: كيف اخترع المسيحيون الأوائل قصة الشهادة» (٢٠١٣)، كيف يمكن تحويل ضحايا العنف المريع الموجه ضد أشخاص عابرين، من مجرد أناس سيئي الحظ إلى أيقونات مقدسة لمجموعة مضطهدة. تضرب موس مثالًا لذلك، الفتاة مريم فكري البالغة من العمر ٢٢ عامًا، التي كانت من بين الضحايا العشرين الذين قُتلوا في هجوم على كنيسة قبطية أثناء قداس منتصف الليل في عشية رأس السنة عام ٢٠١١ بالإسكندرية. لم يتم التعرف قطُّ على هوية مرتكبي الحادث؛ وعليه تظل أسبابهم المحددة لاختيار هذه الكنيسة بعينها في هذا التوقيت لغزًا محيرًا. لكن مريم عُرِّفت بأنها شهيدة من قِبَل بقية أفراد عائلتها الباقين على قيد الحياة (فكثير منهم راحوا ضحية الحادث معها)، وأصدقائها، وحتى الرئيس المصري حينذاك حسني مبارك في النهاية.

ما الذي جعلها شهيدة؟ الشهيد هو شخص قُتل بسبب دينه. لم تقرر مريم المجاهَرة على الملأ بهويتها المسيحية؛ كل ما هنالك أنها كانت تشارك في تقليد مجتمعي. ووفقًا لصفحتها على فيسبوك، كانت تتطلع إلى سنة رائعة أخرى. علاوة على أنها لم تُستهدَف بصفتها مريم فكري؛ ففي نظر أولئك الذين فجروا كنيستها هي مجرد مسيحية عابرة. لكن وصفها بالشهيدة أضفى الطابع المقدَّس على موتها؛ فقد تحول الأمر من موت عشوائي؛ أي غير شخصي بالمرة، إلى أمر خاص وشخصي ومقدس. وكما ذكرت موس «هكذا تحوَّل الهجوم من مجرد عمل من أعمال العنف المروِّعة اقترفته جماعة إرهابية، ومن نتيجة مؤسفة للتوترات الدينية والسياسية والاجتماعية بالمنطقة، إلى هجوم مباشر وصريح على المسيحية كلها» (٢٠١٣: ٢). وصارت مريم رمزًا لكل أولئك الذين قُتلوا، لا لشيء إلا لأنهم مسيحيون. وصارت جزءًا من «معركة بين الخير والشر» (٢٠١٣: ٣). وأي تبجيل أكثر من هذا؟

تُعظِّم جميع الثقافات موتاها بدلًا من تعريض المبادئ التي تدافع الجماعة عنها للخطر. ولا يختلف المسيحيون في هذا الشأن؛ فقد ظهرت لغة الشهادة في باكر التاريخ المسيحي. ترى موس أن هذا نتج من محاولة أتباع يسوع التسليم بإعدامه على يد أحد القادة الرومان، الذي اعتقد هو نفسه أنه كان بريئًا، كما جاء في إنجيل يوحنا (١٩: ٤). وسواء أفُسِّر موت يسوع على أنه اختيار أم تضحية — وكلاهما ممثَّل في الخطاب المسيحي — فقد أصبح أمرًا هادفًا. وكان بمنزلة القلب في رواية عن اضطهاد المسيحيين، ومِن ثَمَّ أصبح مثالًا يُحتذى. وتلحَظ موس أن العهد الجديد يصف موت أول مسيحي يتبع هذا النموذج، وهو إسطفانوس (سفر أعمال الرسل، الإصحاحان ٦-٧).

وبحلول القرن الثاني، أصبح تبجيل الشهداء جزءًا مهمًّا من التعليم المسيحي. صرح العلامة اللاهوتي ترتليانوس (تُوفي عام ٢٢٥) بأن «دم الشهداء هو بذرة الكنيسة» («أبولوجيتيكام»، على الإنترنت)، وسُمي القرنان الثالث والرابع «عصر الشهداء».

لا شك أنه كان أناس يتعرضون للقتل بسبب هويتهم الدينية. غير أن محل الجدل هنا الذي تشكك فيه موس هو انتشار قصص الشهداء؛ أي فكرة أن المسيحيين كانوا دائمًا مُضطهدين، بسبب هويتهم الدينية ولمجرد كونهم مسيحيين. وبتتبُّع الأدلة من السجلات الأثرية والمصادر الرومانية والمسيحية، توضح موس (٢٠١٣) أن «التاريخ التقليدي للاستشهاد المسيحي يجانبه الصواب. لم يتعرض المسيحيون للاضطهاد على الدوام … قلة قليلة جدًّا من المسيحيين لقيت حتفها، وحينما حدث ذلك؛ فإنهم على الأرجح أُعدموا لما نسميه في العالم الحديث سببًا سياسيًّا.» تُقر موس باحتمالية أن القوانين التي حُوكم بموجبها المسيحيون كانت جائرة، غير أن المقاضاة القانونية «تختلف كثيرًا عن الخرافة الرائجة عن الطريقة التي عومل بها المسيحيون من قِبل الرومان.» ولا تجد دليلًا في التاريخ الروماني على أن المسيحيين الذين حوكموا حتى في ظل أكثر الحكام صرامة، كانوا مستهدَفين بسبب هويتهم الدينية. كان الناس الذين لم يستطيعوا الإقرار بالآلهة التي ادعى الرومان أنهم كانوا يحكمون باسمها، موضع اشتباه من الناحية السياسية. لكن السجلات الرومانية تكشف أن استهداف المسيحيين لم يكن متكررًا. وتُبيِّن موس أن الأدلة التي تُثبت عكس ذلك موجودة في مصادر مسيحية مؤرَّخة بعد هذه الوقائع بسنين. بحلول ذلك الزمن كان أفراد المجتمع يتناقلونها شفاهةً، وبذلك كانت تتراكم التأويلات الدينية. «حرفيًّا، ثمة مئات من القصص التي تصف موت الآلاف من شهداء المسيحيين الأوائل، لكن تكاد تكون كل قصة من هذه القصص أسطورية … وفي بعض هذه الحالات لا يكون الباحثون متأكدين حتى من أن الأشخاص المذكورين في القصص … كانوا حتى موجودين، فما بالك بأنهم استُشهدوا» (٢٠١٣: ١٥-١٦).

تقتبس موس من البحث العلمي الذي أجرته مجموعة الباحثين بقيادة كاهن القرن السابع عشر، جون بولاند، لفرز آلاف القصص عن القديسين. واستمر المشروع البحثي على مدار ثلاثة قرون. وكانت النتيجة أنْ «قرر [الباحثون] أن عددًا قليلًا فقط من هذه القصص كان صادقًا تاريخيًّا» (٢٠١٣: ١٦).

لماذا إذًا غلبت المغالاة على القصص؟ نتجت هذه المبالغة عن أسباب عدة؛ على رأسها أن هذه القصص كانت بمنزلة إلهام للآخرين؛ فمن السهل على أهل السلطة أن يصيروا قدوة تُحتذى؛ فهم يتمتعون بمكانة رفيعة بين الناس، ويجتذبون المعجبين تلقائيًّا. لكن الشهداء كانوا عادة أناسًا بسطاء؛ وجعلتهم الشهادة أكثر جاذبية حتى من الحكام، ويمكن أن يصير أي شخص مثلهم. لطالما كانت المسيحية تقليدًا تبشيريًّا، يسعى إلى جذب أكبر عدد ممكن من الأتباع. وكانت قصص الشهداء المزودة بالجاذبية العاطفية للمأساوية العالية والعنف فعَّالة في استقطاب الناس للانضمام إلى المسيحية.

تحدِّد موس سببًا آخر لانتشار قصص الشهداء. عادة ما كان الشهداء يرتبطون بمناطق بعينها، وكان شائعًا بين المجتمعات أن تقيم أضرحة لأبطالها المحليين. وبالمثل، تتمسك الكنيسة الكاثوليكية الرومانية بتقليد الشفاعة المنتشر بقوة، كما يتضح من التطويب الأخير لكلٍّ من البابا جون الثالث والعشرين والبابا جون بول الثاني. ووفقًا لهذا الاعتقاد، فالقديسون ليسوا فقط في السموات بمعية الله، ولكنهم قادرون أيضًا على التشفع لدى الله نيابة عن المتضرعين على الأرض. (وكان الشرط الأساسي للتطويب ورفع الشخص إلى مصافِّ القديسين هو أن يكون قد أجرى معجزتين؛ يُعتقد أن جون بول الثاني قد شفى راهبة فرنسية مصابة بداء باركنسون، وامراة من كوستاريكا لديها إصابة في الدماغ. أما البابا يوحنا الثالث والعشرون، فيُنسب إليه الفضل في شفاء راهبة مصابة بنزف داخلي، وكان هذا كافيًا من وجهة نظر البابا فرانسيس كي يرفعه إلى مصافِّ القديسين؛ وأُعفي البابا جون الثالث والعشرون من الحاجة إلى معجزة ثانية.) وأصبحت القرى والبلدات التي لولا ذلك لما وطِئها سوى باعة عشوائيين مزاراتٍ مقدسةً يحج إليها الناس. وكلما كانت قصة الشهيد مثيرة، زاد احتمال انتشارها — واجتذاب الزائرين الذين ينفقون الأموال على استئجار أماكن الإقامة المحلية وعلى الأطعمة. «ومن هنا حدث الانفجار الهائل في قصص الشهداء من القرن الرابع فصاعدًا» كما تستنتج موس.

المراجع

  • Apologeticum (online) Available at: www.tertullian.org/works/apologeticum.htm (accessed January 10, 2014).
  • Moss, C. (2013) The Myth of Persecution: How Early Christians Invented the Story of Martyrdom, HarperCollins, New York.
  • Schaff, P. (1885) Ante-Nicene Fathers, Volume 1: The Apostolic Fathers with Justin Martyr and Irenaeus, Christian Classic Ethereal Library, www.ccel.org/ccel/schaff/anf01.viii.iv.cx.html (accessed January 10, 2014).

قراءات إضافية

  • Boyarin, D. (1999) Dying for God, Stanford University Press, Palo Alto CA.
  • Castelli, E.A. (2004) Martyrdom and Memory: Early Christian Culture Making, Columbia University Press, New York.
  • Perkins, J. (1995). The Suffering Self: Pain and narrative Representation in the Early Christian Era, Routledge, New York.
  • Ricciotti, G. (2009) The Age of the Martyrs: Christianity From Diocletian (284) to Constantine (337), TAN Books. Charlotte, NC.

(٧) كانت هناك بابا أنثى تُدعى جون

كما رأينا في المقدمة، أعطى كلٌّ من الطابع المأساوي الشديد، والعاطفة، والتصوير الصريح للجنس والعنف زخمًا مستمرًّا للخرافات، وقصة البابا جون الأنثى هي خير مثال لذلك. في هذه القصة تتصدى امرأة عزباء لقادة الكنيسة الرومانية القوية في العصور الوسطى.

توجد أكثر نسخ هذه القصة ذيوعًا في مخطوطات نُسِبت إلى مارتن بولونوس، كتبها في الجزء الأخير من القرن الثالث عشر، ثم أُعيد سردها في عشرات النسخ. وكتب أيضًا جيوفاني بوكاتشيو (تُوفي عام ١٣٧٥)، الذي اشتُهر بعمله البارز «ديكاميرون»، عملًا بعنوان «عن النساء الشهيرات» يُفرد فيه فصلًا كاملًا للبابا الأنثى. وبينما استخدم كلٌّ من مارتن وبوكاتشيو اسم «جون» باعتبار أنه اسم البابا الأنثى، يذكر بوكاتشيو (١٩٦٤: ٢٣١) أن «بعضهم كانوا يقولون إن اسمها جيلبيرتا.» استخدم كُتَّاب آخرون أسماء مثل «جوتة» و«جلانشيا». وسمَّاها المصلح يان هوس «أجنِس». غير أن الاسم الذي شاع في نهاية المطاف هو «جون» Joan الاسم المؤنث من «جون John». واشتُهرت «البابا جون» خصوصًا مع محاولة البروتستانت إظهار مدى فساد الكرسي البابوي في كتب مثل «البابا جون: حوار بين بروتستانتي وبابوي» الذي ألفه ألكسندر كوك (١٦١٠)، والكتاب المجهول المؤلِّف «تاريخ البابا جون وعاهرات روما» (١٦٨٧).

وفي القرنين الرابع عشر والخامس عشر، ساد اعتقاد بأن البابا جون كانت شخصية تاريخية. بل شملتها مجموعة التماثيل النصفية المصنوعة من الطين الأحمر لعدد من البابوات التي وُضعت في كاتدرائية سيينا، وكان مكتوبًا تحت تمثالها «يوانس الثامنة، امرأة من إنجلترا». ونحو عام ١٦٨٠، عرض المسرح الملكي بلندن مسرحية بعنوان: «الأسقف الأنثى: قصة حياة البابا جون ومماتها»، وهي مسرحية تراجيدية من تأليف إلكانه سِتِل. وأُعيد تقديم القصة مرة أخرى في رواية إيمانويل رودس عام ١٨٦٦ «البابا يوان». وفي زمننا هذا، أفرخت قصة البابا جون مسرحية، وفيلمين، وإحدى الروايات الأكثر مبيعًا، ومسلسلًا تليفزيونيًّا قصيرًا. وأدى دور البطولة في فيلم «البابا جون» عام ١٩٧٢ كلٌّ من ليف أولمان وماكسيميليان شيل. وتظهر البابا جون في المشهد الافتتاحي لمسرحية كاريل تشرشل «بنات القمة» التي نُشرت عام ١٩٨٢. وبِيع من رواية دونَّا وولفولك كروس «البابا جون» التي نُشرت عام ١٩٩٧ مليونَا نسخة في ألمانيا، ثم حُوِّلت في عام ٢٠٠٩ إلى فيلم يحصد الجوائز. وتُظهرها دعاية الفيلم بوصفها «قصة حقيقية مذهلة»، وتبدأ بعبارة: «غيَّرت وجه الدين وأصبحت بابا. وبعد عامين مُحِيت من التاريخ.»

يُرجع مارتن بولونوس، المذكور أعلاه، تاريخ اعتلاء البابا الأنثى الكرسي البابوي إلى القرن التاسع، ما بين عهدَي البابا ليو الرابع والبابا بندكت الثالث. ويشير إليها في كتابه «تاريخ البابوات والأباطرة» (MGH:SS, XXII, 1265, p. 428)، بأنها جون أنجليكوس (جون الإنجليزي)، وُلدت في ماينتس (في ألمانيا الحديثة)، إلا أنه يقول: «يُقال إن هذا الذي يُدعى جون كان امرأة، سبق أن ذهبت وهي فتاة إلى أثينا متنكرة في زي رجل بصحبة أحد عشاقها.» ويصفها مارتن بأنها كانت على درجة عالية من العلم لدرجة أنها استطاعت العودة إلى روما والتدريس هناك. وذاع صيتها بوصفها رجل دين جليلًا إلى درجة أن «الجميع اختاروها للكرسي البابوي». إلا أن هذا كان مبتدأ الأوجاع: «وهي بابا … حبلت من أحد مرافقيها. وبسبب جهلها بالميعاد المحدد للولادة، باغتتها أوجاع الولادة، ووضعت وليدها وهي في موكب متجه من كنيسة القديس بطرس إلى المقر الرسولي في قصر لاتيران، في ممر ضيق بين مدرج الكولسيوم وكنيسة سان كليمنت.» ويزعم مارتن أن قبر جون يقع في البقعة نفسها التي وَضَعت فيها، ولهذا كان البابوات التالون ينعطفون حول هذه البقعة ليتحاشوها عند انطلاق مواكبهم إلى قصر لاتيران.
ويصف جان دو مايِّي، المؤرخ الذي عاش في القرن الثالث عشر، هذه الواقعة بتفاصيل بها شيء من الاختلاف، مشيرًا إلى أنها حدثت في عام ١٠٩٩:

في أحد الأيام، فيما كانت تمتطي جوادًا، أنجبت وليدها. وبموجب القانون الروماني، أُوثقت في الحال من قدميها في ذيل حصان، وسُحِلت ورُجمت لمسافة نصف فرسخ. ودُفنت في الموضع الذي ماتت فيه، وكُتب على شاهد قبرها: «بطرس، أبا الآباء، فلتفضح حمل البابا المرأة.» وفي الوقت نفسه، أُقيم للمرة الأولى صيام الأيام الأربعة المسمَّى «صيام البابا الأنثى». (جان دو مايِّي، ص٥١٤)

ثم تلت نسخة دو مايِّي نسخة معاصرِه ستيفن البوربوني، إلا أنه يضيف حتى مزيدًا من التفاصيل في عمله De Diversis Materiis Praedicabilibus; Scriptores Ordinis Praedicatorum:

بتوجيه من الشيطان، عُيِّنتْ كاردينالًا ثم اعتلت الكرسي البابوي في نهاية المطاف. وبعد أن حبلت، وضعت وليدها وهي على صهوة [جواد]. لكن عندما بلغ الأمر القضاء الروماني، سُحِلت خارج المدينة، مقيَّدة من قدميها في حوافر حصان، وعلى مدى نصف فرسخ رجمها الناس. وفي الموضع الذي ماتت فيه، دُفنت، وكُتب على حجر وُضع فوق قبرها: «بطرس، أبا الآباء، فلتفضح حمل البابا الأنثى.» انظر كيف تؤدي مثل هذه العجرفة الطائشة إلى مصارع السوء. (كويتيف وإيتشارد، ١٧١٩: ٣٦٧)

وهكذا جرى تداول القصة عبر القرون. وفي القرن الرابع عشر، أسهب الشاعر الإنساني الشهير فرانشيسكو بيترارك (الذي تُوفي عام ١٣٧٤) في تسليط الضوء على الجانب الشرير في فضيحة البابا جون. يكتب بترارك (١٥٣٤: ٧٢) أنه بعد فضحها:

في بريشا أمطرت السماء دمًا ثلاثة أيام بلياليها. أما في فرنسا، فظهر جراد خارق له ستة أجنحة وأسنان فتاكة؛ وكان يُحلق في الهواء بطريقة إعجازية، وفي نهاية المطاف غرق كله في البحر البريطاني. ولفظت أمواج البحر جثث الجراد الذهبية، فلوثت الهواء، وهكذا مات كثير من الناس.

وبحسب بترارك، كان ما فعلته البابا جون هو إطلاق ضربتين من الضربات السبع المذكورة في سفر الرؤيا — أن ينزل من السماء «بَرَدٌ وَنَارٌ مَخْلُوطَانِ بِدَمٍ» (سفر الرؤيا ٨: ٧). والجراد الذي له «أَسْنَان كَأَسْنَانِ الأُسُودِ» (سفر الرؤيا ٩: ٣–١١).

لم يكن بعض النسخ الجديدة من القصة قاسيًا على البابا المرأة مثل ستيفن وبترارك؛ ففي النسخ التي ظهرت في نهاية القرن الخامس عشر، اختارت جون طواعية الفضح العلني تكفيرًا عن ذنوبها. يكتب ستيفان بلانك في الدليل السياحي إلى روما الذي ألفه نحو عام ١٥٠٠ تحت عنوان «عجائب مدينة روما»:

ثم ننتقل إلى كنيسة ما صغيرة بين الكولوسيوم وشارع سان كليمنت؛ بُنيت هذه الكنيسة المهجورة في المكان الذي ماتت فيه المرأة التي صارت بابا. كانت حُبلى بطفل عندما سألها ملاك من الرب عمَّا إذا كانت تؤثر أن تندثر إلى الأبد، أم تواجه العالم جهارًا. ولمَّا لم تشأ أن تُنسَى إلى الأبد، آثرت أن تتكبد خزي توبيخ العامة. (وولفيوس، ١٦٧١: ٢٣١)

يذكر هذا الدليل أيضًا «حجرًا منحوتًا على شكل تمثال للبابا وطفلتها» (وولفيوس، ١٦٧١: ٢٣١). وبعدما ذُكر هذا التمثال للمرة الأولى في طبعة من كُتيب «عجائب مدينة روما» ترجع إلى عام ١٣٧٥ تقريبًا، ذكره كُتاب كثيرون. وعندما زار مارتن لوثر روما في مطلع القرن السادس عشر، وصفه بأنه يصور امرأة في الزي البابوي تحمل طفلًا وصولجانًا. ويُبدي لوثر دهشته من أن البابوات قد سمحوا بعرض مثل هذا الشيء المخزي (مونتز، ١٩٠٠، ٢: ٣٣٣).

ثم جاء جوفريدوس دي كولون، وهو راهب فرنسي كان يكتب في نهاية القرن الثالث عشر، بتفصيلة جديدة للحكاية: «يقال إن الرومانيين يتخذون عادة تفقُّد جنس البابا المنتخَب من خلال ثقب في مقعد حجري.» (بورشارد، الجزء ١، مجلد ١: ٨٣) وكرر هذا بارتولوميو بلاتينا، مدير مكتبة الفاتيكان، في كتابه «حيوات البابوات» الصادر عام ١٤٧٩، حيث أضاف أن «أصغر شمَّاس حاضر» كان يتولَّى مهمة تفقُّد الأعضاء التناسلية (انظر مونتس، ١٩٠٠، الجزء ٢: ٣٣٠). وبعدها ببضع سنوات، أضاف فيلكس هيميرلاين (١٤٩٠ تقريبًا، ٩٩ وما بعدها) أنه عندما يُتم الشماس الصغير مهمته، يصرخ قائلًا: «لديه خصيتان.» فيرد كل الحضور من رجال الدين: «مجدًا لله.» وبعدئذٍ يواصلون في ابتهاج ترسيم البابا المُنتخب.

في أواخر العصور الوسطى، كان جزء من جاذبية هذه القصة يكمن في أنها ربطت البابا جون بشيء كان يمكن لزوَّار روما مشاهدته — مقاعد رخامية حمراء في مكان تتويج البابوات. وقتئذٍ، كان يُستخدم مقعدان مثقوبان في مراسم التنصيب: كان البابا الجديد يجلس أولًا على أحدهما، ثم على الآخر. وهما متطابقان تقريبًا، ويبدو كما لو أنهما صُنعا في روما القديمة. يقول بعض العلماء إنهما أتيا من حمام روماني قديم؛ ويخمن آخرون أنهما كانا يُستخدَمان من قِبل النساء أثناء الولادة. وعلى كل حال، يشير علماء كثيرون إلى أن جمالهما وطرازهما الكلاسيكي هو ما جعلهما يُدرَجان في المراسم البابوية؛ لم يكن لثقبَي المقعدين أهمية.

واستمر استخدام المقعدين في المراسم البابوية حتى تتويج البابا ليو العاشر عام ١٥١٣. ثم ألغى خليفته البابا أدريان السادس استخدامهما. وعلى الرغم من أن قصة تَفقُّد الجنس قد شاعت للغاية، فلا يوجد ما يُشير إلى هذا الإجراء في «الأوردو رومانوس» (الرتب الكنسية الرومانية) وهو الدليل المتبع لإتمام هذه المراسم. وبالفعل، اعتُبِر هذا الطقس خرافة في القرن الخامس عشر؛ فبعد تنصيب البابا جريجوري الثاني عشر عام ١٤٠٦، قال عنها جاكوبو داجنولا دي سكاربيريا إنها «خرافة شعبية فارغة» (فون دولينجر، ١٨٧١: ٥٠).

ولا توجد أدلة أيضًا في سجلات الفاتيكان على وجود البابا جون. يذكر كتاب مارتن بولونوس «تاريخ البابوات والأباطرة» أن البابا جون تولَّت البابوية «عامين وسبعة أشهر وأربعة أيام» بعد ليو الرابع وقبل بندكت الثالث. لكن المؤرخين يخبروننا بأن ليو الرابع حكم منذ عام ٨٤٧ حتى مماته في السابع عشر من يوليو عام ٨٥٥؛ وأن بندكت الثالث قد رُسِّم في ٢٩ سبتمبر عام ٨٥٥ ليستمر في الحكم حتى عام ٨٥٨. والفجوة الزمنية المقدرة بشهرين ونصف الشهر بين ليو وبندكت لا تتسع لولاية أخرى مدتها عامان ونصف العام.

كان هناك بابا يُدعى جون اعتلى الكرسي البابوي عام ٨٧٢، لكنه حكم عشر سنوات، وليس سنتين، وقد اشتُهر باسم «البابا المحارِب» بسبب طريقته الوحشية في التعامل مع أعدائه الكثيرين. ويُقال إن جون ضُرب حتى الموت بعد أن فشلت محاولة لتسميمه. ولو أن جون هذا اكتُشِف أنه امرأة، لما تكبَّد أعداؤها كل هذا العناء لإطاحتها من الكرسي البابوي.

أما التواريخ الأخرى التي أشار إليها كلٌّ من جان دو مايِّي وستيفن البوربوني — حوالي عام ١١٠٠ — فتبدو أكثر إقناعًا؛ إذ كانت تلك هي فترة الدسائس السياسية المحيطة بالبابوية. وطالب بالبابوية عدد من المتنافسين، ومنهم أولئك الذين يُطلق عليهم الآن «البابوات المنافسون». لقي البابا جريجوري السابع حتفه عام ١٠٨٥، بعد أن فقدَ دعم كل رجال الدين تقريبًا في روما؛ فمعظمهم انحازوا إلى البابا كليمنت الثالث، البابا المنافس الذي اختاره الإمبراطور هنري الرابع. حين موت جريجوري، لم يكن هناك من يشغل رسميًّا منصب البابا في روما، لكن كليمنت ظل يواصل دوره غير الرسمي. وفي عام ١٠٨٦، أصبح فيكتور الثاني بابا لمدة عام، ثم خلفه أوربان الثاني، الشهير بالدعوة إلى الحملة الصليبية الأولى. إلا أنه، في ظل سيطرة الإمبراطور هنري الرابع على أجزاء كبيرة من إيطاليا، كان لا بد من إجراء مراسم تنصيب أوربان على بُعد مائة كيلومتر جنوب روما. وأخيرًا تمكن من الاستقرار في روما عام ١٠٩٧، ثم وافته المنيَّة في يوليو ١٠٩٩. وبعدها بأسبوعين رُسِّم البابا الجديد باسكال الثاني. ومع أنه كان يواجه صعوبات مع البابوات المنافسين كليمنت الثالث (١٠٨٠–١١٠٠)، وثيودوريك (١١٠٠–١١٠٢)، وألبرت (١١٠٢)، وسيلفستر الرابع (١١٠٥–١١١١)؛ فإنه ظل في المنصب البابوي حتى مماته عام ١١١٨. وهكذا، كما هي الحال مع التواريخ السابقة التي يُقال إن البابا جون اعتلت فيها الكرسي البابوي، لم يكن هناك وقت في حدود العام ١١٠٠ لتتقلد فيه المنصب البابوي.

وهكذا؛ فإن قصة البابا جون تدحضها السجلات التاريخية. ومع ذلك، لا يزال الناس يتحاكون بها. وكما علَّق رئيس مكتبة الفاتيكان في خطاب إلى أحد أصدقائه (مركز معلومات التاريخ الكنسي، على الإنترنت) عام ١٤٧٩ «هذه الأمور التي ذكرتها يتداولها العامة، وإن كان من يتداولونها كُتَّابًا مجهولين وغير جديرين بالثقة، ومِن ثَمَّ أشرتُ إليها بإيجاز ودون خوض في تفاصيل، حتى لا يظن الناس أنني مُكابر ومتعنت في حذف ما يكاد الجميع يقطعون بصحته.» ومِن ثَمَّ فنحن نتوقع أن يستمر تداول القصة.

المراجع

  • Anonymous. (1687) The History of Pope Joan and the Whores of Rome. London.
  • Boccaccio, G. (1964) Concerning Famous Women, translated by Guido Guarino, George Allen & Unwin, London.
  • Burchard, J., Liber Notarum; in L.A. Muratori, ed., Rerum Italicarum Scriptores (Milan 1723–1751), XXXII.
  • ChurchinHistory Information Centre (online) Pope Joan, www.churchinhistory.org/pages/booklets/pope-joan%28n%29.htm (accessed January 10, 2014).
  • Cooke, A. (1610) Pope Joane. A Dialogue Between a Protestant and A Papist. London.
  • Cross, D.W. (1997) Pope Joan, Ballantine, New York.
  • Rhoides, E. (2000) The Papess Joanne, translated and adapted by Lawrence Durrell. Peter Owen, London.
  • Von Döllinger, J.J.I. (1871) Fables Respecting the Popes of the Middle Ages.
  • Graydon F. Snyder, (2002) Irish Jesus Roman Jesus Trinity Press International, Peabody, MA, p. 129.
  • Haemerlein, F. (c. 1490) De Nobilitate et Rusticitate Dialogus.
  • De Mailly, J. (1879) Chronica Universalis Mettensis, in G. Waitz, ed., Monumenta Germaniae Historica: Scriptores, Vol. 24. Hahn, Hannover.
  • Müntz, Eugène, (1900) “La Légende de la Papesse Jeanne dans 1’illustration des Livres, du XVe au XIXe siècle,” La Bibliofilia, (Firenza: Leo Olschki), Vol. 2, 325–39.
  • Petrarch, F. (1534) Chronica de le Vite de Pontefici et Imperadori Romani.
  • Polonus, M. (1872) Chronicon Pontificum et Imperatum, in Monumenta Germaniae Historica: Scriptores, Vol. 22. Hahn, Hannover.
  • Quetif, J. and Echard, I. (1719), eds., Stephen of Bourbon, De Diversis Materiis Praedicabilibus; in Scriptores Ordinis Praedicatorum, Vol. I.
  • Wolfius, J. (1671) Lectionum Memorabilium et Reconditarum Centenarii XVI, I.

قراءات إضافية

  • Boureau, A. (2001) The Myth of Pope Joan, translated by Lydia Cochrane, University of Chicago Press, Chicago.
  • Pardoe, R. and Pardoe, D. (1988) The Female Pope: The Mystery of Pope Joan. The First Complete Documentation of the Facts behind the Legend, Crucible, Bath.

(٨) طرد القديس باتريك الثعابين من أيرلندا

من أشهر الصور التي يظهر فيها القديس باتريك هي تلك التي يظهر فيها رجل سيماؤه الورع وعند قدميه ثعابين تتلوَّى. بالطبع كان القديس باتريك شخصًا حقيقيًّا، لكن الثعابين جزء من علم الخرافة. وُلد باتريك في بريطانيا التي كانت خاضعة للحكم الروماني في القرن الخامس. ووفقًا لبعض المؤرخين؛ فإنه أُسر في بريطانيا وهو في السادسة عشرة من عمره على يد المغيرين الأيرلنديين، وأُخذ عبدًا إلى أيرلندا حيث عاش ست سنوات، ثم هرب، وعاد إلى بريطانيا. وفي وقت لاحق، بعدما اعتنق المسيحية، عاد إلى أيرلندا مبشِّرًا.

وثمة أدلة على وجود مبشرين مسيحيين آخرين في أيرلندا في أواخر القرن الرابع، وفي عام ٤٣١ أرسل البابا سلستين القديس بلاديسو لخدمة «الأيرلنديين الذين آمنوا بالمسيح». لكنه تفوَّق على جميع من سبقوه من حيث نجاحه في تحويل القبائل السلتية المحلية إلى المسيحية. وهكذا، في القرن السابع طُوِّب باتريك باعتباره شفيع أيرلندا. واليوم يُحتفَل بعيد القديس باتريك في ١٧ مارس، اليوم الذي يُعتقد أنه لقي حتفه فيه، ليس في أيرلندا وحدها، ولكن في جميع أنحاء العالم. أما بالنسبة إلى الكاثوليك في أيرلندا، فهو يوم مقدس يستلزم حضورهم القداس المُقام لتخليد ذكراه، وأما خارج أيرلندا فهو يوم للاحتفاء بأيرلندا والثقافة الأيرلندية.

لم يبقَ من خطابات باتريك سوى خطابين، ولم يؤكد المؤرخون سوى تفاصيل قليلة عن حياته. غير أنه، وكما يحدث كثيرًا مع الشخصيات الدينية المهمة، ظهر كثير من القصص عن باتريك وانتقلت إلى الأجيال التالية؛ فمنذ القرون الأولى وحتى وقتنا هذا، والمسيحيون يكتبون سِيَر القديسين، التي يصور كثير منها قصص الأعمال الرائعة التي تُظهر القوى الخارقة التي يتمتع بها القديسون. وقصة طرد الثعابين من أيرلندا هي واحدة من أشهر القصص في سِيَر حياة القديس باتريك.

يمكن تفسير طرد الثعابين من أيرلندا إما حرفيًّا وإما مجازيًّا. أما التفسير الحرفي فهو أن القديس باتريك قد تخلَّص من كل الزواحف عديمة الأرجل في الجزيرة. ووفقًا لما جاء في نسخة من القصة، فقد صام أربعين يومًا على قمة جبل، وفي نهاية صومه، هاجمته الثعابين. وبعصاه ساقها جميعًا نحو البحر، ومنذ ذلك اليوم فصاعدًا، لم تعد توجد ثعابين في أيرلندا. وفي تنويعة على القصة، قاوم ثعبان عجوز باتريك، لكن القديس صنع صندوقًا، ودعاه إلى دخوله. أصرَّ الثعبان على أن الصندوق كان أصغر من أن يسعَه، لكن باتريك قال إنه لم يكن كذلك. ولكي يثبت الثعبان العجوز أن باتريك كان مخطئًا، انكمش وحشر نفسه في الصندوق ليريه كم كان ضيقًا — وحينئذٍ أغلق باتريك الغطاء بقوة ورمى الصندوق في البحر.

كيف يمكن تأويل قصة طرد القديس باتريك الثعابين من أيرلندا مجازيًّا؟ كان بعض الأديان الدرويدية التي حوَّل باتريك الأيرلنديين منها إلى المسيحية يتخذ من الثعابين رموزًا. وهكذا يمكن تأويل طرد الثعابين من الجزيرة على أنه تخلُّص من تلك الأديان الدرويدية.

لكن الثعابين ترمز إلى ما هو أكثر من الدرويدية؛ فهي ترمز في كثير من الثقافات إلى الشر، مِن ثَمَّ قد يكون طرد باتريك للثعابين من أيرلندا استعارة تدل على قهره الشر على الجزيرة الزمردية. يجري اقتران الثعابين بالشر عميقًا في النفس البشرية. فكِّر في غواية الحية لحواء في سفر التكوين، السفر الافتتاحي من الكتاب المقدس. ويَعتبر أغلب المسيحيين أن ذلك الثعبان هو الشيطان، الذي هو الشر في أنقى صوره وأقواها. وفكِّر في الكنائس المسيحية الخمسينية في المنطقة الأبالاشية من الولايات المتحدة الأمريكية التي تتعامل مع الثعابين السامة وفقًا لطقس ديني، بحسب ما جاء في الآيات الكتابية مثل تلك المذكورة في إنجيل لوقا (١٠: ١٩) «هَا أَنَا أُعْطِيكُمْ سُلْطَانًا لِتَدُوسُوا الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبَ وَكُلَّ قُوَّةِ الْعَدوِّ وَلَا يَضُرُّكُمْ شَيْءٌ.» هنا أيضًا نجد الثعابين قريبة من تجسيد الشر الخالص.

إن رمزية الثعابين والتأويلات المجازية لطرد باتريك إياها من أيرلندا شائقة، غير أن الرموز والاستعارات لا يمكن القول إنها صحيحة أو خاطئة، ومِن ثَمَّ لا يمكن اعتبارها خرافات، بهذا المعنى للخرافة الذي يشير إليه هذا الكتاب — قصة يعتقدها قطاعٌ عريضٌ من الناس مشكوكًا في صحتها. لكن ماذا عن التأويل الحرفي للزعم بأن القديس باتريك طرد كل الثعابين من أيرلندا؟ ما الأدلة التي يمكن أن يقدمها المرء لإثبات هذا الزعم؟ يمكن القول إننا إذا فتَّشنا الجزيرة الزمردية اليوم، فلن نجد أي ثعابين في البَرِّيَّة. هذا صحيح، لكن لدى العلماء تفسير لغياب الثعابين من الجزيرة أبسط من معجزة القديس باتريك: «لم يكن قط» في أيرلندا أي ثعابين. قام نايجل موناجان من المتحف القومي لأيرلندا في دبلن ببحث شامل في المجموعات الحفرية والسجلات الأيرلندية، وخلُص إلى أنه «لم يكن هناك في أيِّ زمنٍ قطُّ أي شيء يرجِّح وجود ثعابين في أيرلندا، وهكذا لم يكن هناك ما يمكن للقديس باتريك أن يطرده» (ورد هذا الاقتباس في مقال جيمس أون، بعنوان «أيرلندا بلا ثعابين: لوموا العصر الجليدي لا القديس باتريك» ١٣ مارس ٢٠٠٨، http://news.nationalgeographic.com/news/2008/03/080313-snakes-ireland.html).

تطورت الثعابين من أنواع سابقة من العظاءات منذ حوالي ١٠٠ مليون سنة، زمن ظهور التيرانوصور ريكس. ولم يُعثر على حفريات الثعابين الأولى إلا في القارات الجنوبية. حينئذٍ، لم يكن ممكنًا للمنطقة التي ستصير فيما بعدُ أيرلندا أن تئوي ثعابين، لأنها كانت مغمورة بالكامل تحت المحيط. واعتبارًا من حوالي ٦٥ مليون سنة ماضية، بدأت الأرض تجف، وظهرت الموائل الكبيرة المفتوحة مثل الأراضي العشبية في أنحاء نصف الكرة الأرضية الشمالي. وانقرضت الديناصورات الكبيرة مثل تيرانوصور ريكس، بذا تهيَّأت البيئات الإيكولوجية للحيوانات الأصغر مثل الثدييات والثعابين. وقبل ٥٠–٣٥ مليون سنة من الآن، كانت أسلاف ثعابين البوا العاصرة والبيثون تنتشر في أرجاء نصف الكرة الأرضية الشمالي. ومنذ حوالي ٢٥ مليون سنة، تطوَّرت الأفاعي والكوبرا. وفي نهاية المطاف، انتشرت فصائل مختلفة من الثعابين في كل مكان فعليًّا في نصفي الكرة الأرضية الشمالي والجنوبي؛ والمقصود بكل مكان هو كل أنحاء العالم باستثناء جزر نيوزيلندا، وأيسلندا، وجرينلاند، والقارة القطبية الجنوبية، وأيرلندا.

انفصلت نيوزيلندا عن أستراليا وآسيا قبل تطوُّر الثعابين. واليوم، تفصل مسافة ١٣٠٠ ميلٍ من المحيط المفتوح نيوزيلندا عن أستراليا، وهي مسافة لا يمكن لأي ثعبان أن يقطعها سباحةً. وتعد أيرلندا قريبة من اسكتلندا مقارنة بهذه المسافة — ١٢ ميلًا فقط عند نقطة ما — غير أنها ١٢ ميلًا من المياه الجليدية. على كل حال، لم يكن يوجد كثير من الثعابين في اسكتلندا. ولا يوجد سوى أربعة أنواع من الزواحف الأرضية الأصيلة في اسكتلندا — الأفعى الأوروبية الشائعة، والعظاءة العمياء، والسحلية الشائعة، وثعبان العشب النادر في اسكتلندا على الرغم من انتشاره في أماكن أخرى.

ومع ارتفاع المحيطات وانخفاضها خلال العصور الجيولوجية، ظهرت جسور من اليابسة بين أيرلندا وأجزاء أخرى من بريطانيا العظمى، فأتاحت للبشر والحيوانات الأخرى العبور. لكن حتى لو كانت أي ثعابين تمكنت من قطع هذه الرحلة، فما كانت لتنجو من العصور الجليدية التالية. بدأ أحدث عصر جليدي منذ ثلاثة ملايين سنة ولا يزال مستمرًّا. وقد تخلل الفترات الدافئة، كتلك التي نحيا فيها الآن، أنهار جليدية تتقدم وتتراجع أكثر من ٢٠ مرة. وفي معظم الأوقات كانت أيرلندا مغطاة تمامًا بالجليد. ولما كانت الثعابين من الكائنات ذوات الدم البارد، فهي لا تستطيع أن تنجو حيثما تكون الأرض مجمدة طول السنة. آخر ذوبان للجليد شهدته أيرلندا كان قبل حوالي ١٥ ألف سنة فقط. ومنذ ذلك الحين، كانت هناك فترات يمكن أن تحيا فيها الثعابين في أيرلندا، ولا يفصل سوى ١٢ ميلًا من المحيط بين أيرلندا واسكتلندا؛ لكن، كما ذكرنا، ما كان أيٌّ من الثعابين الصغيرة في اسكتلندا ليصمد في الرحلة عبر القناة الشمالية الباردة كالثلج.

يمكن أن تجدوا مزيدًا من الخرافات على الرابط الآتي: www.wiley.com/go/50Greatmythsaboutreligions.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤