الفصل الثاني

خرافات عن الأديان عمومًا

  • (١)

    لكل المجتمعات أديان.

  • (٢)

    يتعلق الدين بالروحي.

  • (٣)

    يتعلق الدين بالخارق للطبيعة.

  • (٤)

    يتعلق الدين بالإيمان أو الاعتقاد.

  • (٥)

    العبادة ركن من أركان الدين.

  • (٦)

    الدين شأن شخصي.

  • (٧)

    سيحل العلم محل الدين في النهاية.

  • (٨)

    يتسبب الدين في العنف.

مقدمة

يظن معظم الناس أن لديهم فكرة جيدة إلى حد ما عمَّا هو الدين، وكثيرون ممن يكبرون في ظل تقليد ديني واحد يستخدمونه نموذجًا للأديان عمومًا. وحينما يسمعون بأديان الآخرين، يبحثون عن أوجه التشابه مع دينهم، ويفترضون أن لديهم فهمًا أساسيًّا عن الأديان الأخرى. بعبارة أخرى، يستخدمون دينهم قالبًا لكل الأديان. تكمن المشكلة في أنه طالما كان هناك تنوع هائل من الأديان المختلفة عبر التاريخ. وفق «الموسوعة المسيحية العالمية» (باريت وآخرون، 2001: vi)، يوجد الآن أكثر من عشرة آلاف ديانة، وهي تختلف في جوانب كثيرة.

على سبيل المثال، كلٌّ من الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية (الروم الأرثوذكس) وكنيسة يسوع المسيح لقدِّيسي الأيام الأخيرة (المورمون) مسيحيتان، بيد أنهما تختلفان في فهمهما لما أعلنه الله، ومن يكون يسوع، وماذا يحدث بعد الموت، وعشرات من الأمور الأخرى. ومن بين تقاليد اليهودية والمسيحية والإسلام التوحيدية الغربية؛ ترفض اليهودية فكرة أن يسوع هو «المسيَّا»، والمسيحية تقبل هذه الفكرة، وتقول إن يسوع هو الله أيضًا، والإسلام يقبل أن يسوع هو المسيح، بل وأنه سيأتي أيضًا مرة أخرى، لكنه يرفض فكرة أن يسوع هو الله. تتجلى اختلافات أكبر من ذلك حينما نقارن التقاليد التوحيدية الغربية بالتقاليد الشرقية للهندوسية والبوذية. في النظرة الغربية للعالم، الزمن خطي. كانت للكون بداية، وسوف تكون له نهاية، وكل حدث يحدث مرة واحدة فقط. أما في رؤيتَي العالم الشرقيتين الهندوسية والبوذية، فالوقت دائري. الكون موجود دائمًا، وأُعيد تشكيله وهدمه ملايين المرات. وكل إنسان أيضًا وُلد وعاش ومات ما لا يُحصى من المرات في خضم العملية التي تُعرف بالتقمُّص (تناسخ الأرواح).

تختلف التقاليد الغربية والشرقية أيضًا من حيث طريقة تفكيرها في الحقيقة المطلقة. في اليهودية، والمسيحية، والإسلام، الحقيقة المطلقة هي الله — خالق الكون، ومَلِكه، وقاضيه. الله يحكم الكون بإعطاء الأوامر، وسوف يحاسِب كل إنسان بعد الموت بناءً على مدى اتباعه هذه الأوامر، وسيكافئه أو يعاقبه. أما في الهندوسية فالحقيقة المطلقة هي «براهمان» الذي يسمو على كل الآلهة. ووفقًا لإحدى الأفكار القديمة الواردة في النصوص المقدسة للهندوسية المعروفة باسم «الأوبانيشاد»، فبراهمان هو نفسه أيضًا «أتمان» — النفس أو العقل — مِن ثَمَّ، فوعي كل شخص هو حقيقة مطلقة. لكن البوذية تتخذ وجهة نظر مختلفة إلى الحقيقة المطلقة. لم يُعلِّم مؤسسها «سيدهارتا جوتاما» عن آلهة، وذكر أنه لا يوجد براهمان ولا أتمان. والواقع أنه علم أن كل شيء يتغير باستمرار؛ مِن ثَم فما من مواد باقية على الإطلاق. فما أراه على أنه نفسي — أي جوهري الذي يبقى هو نفسه من يوم لآخر وسنة لأخرى — هو وهم. من وجهة نظر البوذية، الحقيقة المطلقة ليست إلهًا من الآلهة أو براهمان، وإنما هي حالة ذهنية تُسمى «نيرفانا». وهي حالة من البهجة، لكن أهم ما يميزها هو المفقود؛ فهي شبيهة بنوم بلا أحلام. يقولون إنك تصل إلى النيرفانا عندما تكف عن التعلُّق بكل الأوهام التي جعلتك تُعاني وتولَد من جديد، مثل الاعتقاد بأنك مادة خالدة. وفيما يكون هدف الحياة في أغلب الأديان التوحيدية (الزرادشتية، واليهودية، والمسيحية، والإسلام، والبهائية) هو بلوغ السماء والوجود مع الله؛ فإن هدف البوذية هو الوصول إلى حالة النيرفانا؛ أي إنه بينما تكون فكرة الأديان التوحيدية عن الجنة هي أن تُحقَّق لك رغباتك، ففكرة النيرفانا هي أن تُخمَد رغباتك. يقول البوذيون؛ إذ يشبِّهون الرغبة بلهب الشمعة، إن النيرفانا هي إطفاء الشمعة. قد تبدو الهندوسية أقرب إلى الأديان الغربية من البوذية لأنها تنطوي على وجود آلهة. لكن بدلًا من الإله الواحد في الأديان التوحيدية، هناك ٣٣٠ مليون إله (في الهندوسية) — وإن لم يكن المقصود أن يُؤخذ هذا الرقم مأخذًا حرفيًّا — وهم لم يخلقوا الكون، ولا يحكمونه، ولا يترأسون في «يوم الدينونة الأخير»، ولا يكافئون الناس ويعاقبونهم بإرسالهم إلى السماء أو الجحيم.

من الموضوعات الأخرى التي تختلف فيها التقاليد الغربية عن الشرقية الحياة بعد الموت؛ ففي الأديان الغربية، نحن نعيش على الأرض مرة واحدة، وغاية وجودنا هي عمل مشيئة الله. وعادة ما يُوصف ذلك بعبادة الله وطاعته. عصيان الله خطيئة تحتاج إلى مغفرة الله. وبعد الموت سيحاسبنا الله؛ وعندئذٍ إما سنُكافأ أو نُعاقَب في عالم آخر — السماء أو الجحيم كما يُطلق عليهما في معظم الطوائف — حيث سنكون إما مع الله، أو ننفصل عنه. المشكلة الكبيرة في الحياة إذًا هي الانفصال عن الله بفعل الخطيئة، والحل الكبير هو العودة لنكون مع الله من خلال ما يُطلق عليه المسيحيون الخلاص أو الفداء. في المقابل، لا تُخلق الفضيلة في كلٍّ من الهندوسية والبوذية بأوامر إلهية، لكنها مبنيَّة في الكون في صورة «كارما» — عدالة العالم الطبيعية. الأعمال الطيبة تقود على نحوٍ طبيعيٍّ إلى نتائج طيبة، والأعمال السيئة تقود بالطبيعة إلى عواقب سيئة، ولا يتعين على إله أن يدين، أو يجازي، أو يعاقب. وحين الموت ننتقل إلى حياة تالية، لكن تلك الحياة على الأرض، وليست في السماء أو الجحيم. نحن نتناسخ.

إذًا، كل افتراض بأن الأديان كلها متشابهة هو افتراض مفعم بالمشكلات؛ فهي لا تختلف فقط من حيث رؤية العالم، وادعاءات الحقيقة، ولكنها تختلف اختلافًا عميقًا في المجال — جوانب الحياة التي يتعاملون معها. بينما تتميز تقاليد بالاعتقاد بما وراء الطبيعة، وما يرتبط بذلك من طقوس وقيم، تَعتبر تقاليد كثيرة أن الحياة بأكملها هي مجال الدين، ومن ذلك القانون، والحُكم، وعلوم الصحة. بعد أن أدرك مثل هذا التنوع باحث القرن التاسع عشر الألماني ماكس مولر — الذي يُعزى إليه الفضل في تطوير الدراسة الأكاديمية للدين (الدراسات الدينية)، حذَّر من التعميم بشأن الدين بناءً على تجربة الفرد، وكثيرًا ما يُقتبَس قوله: «من يعرف واحدة، لا يعرف أي واحدة.»

في هذا الفصل، نحدد بضعة معتقدات خاطئة شائعة حول طبيعة الدين، معظمها ينبع من الميل نحو التعميم بشأن الأديان كافةً بناءً على القوالب المستمدة من أحد الأديان أو من بضعة أديان.

المراجع

  • Barrett, D., Kurian, G. and Johnson, T. (eds) (2001) World Christian Encyclopedia, 2nd edition, Oxford University Press, New York.

(١) لكل المجتمعات أديان

لا تشترك الأديان جميعها في مجموعة المعتقدات نفسها، لكن يوجد الدين بشكل أو بآخر في كل المجتمعات البشرية المعروفة. (أشيلي كروسمان (على الإنترنت))

استُخدِمت عبارة «الأديان العالمية» أول ما استُخدمت حينما عُقد أول برلمان ﻟ «أديان العالم» في شيكاجو عام ١٨٩٣. ولم يكن التمثيل في البرلمان شاملًا. بطبيعة الحال، هيمن المسيحيون على الاجتماع، وكان هناك تمثيل لليهود، أما المسلمون فقد مثلهم مسلم أمريكي واحد. ومثَّل تقاليد الهند المتنوعة تنوعًا هائلًا معلِّم واحد، بينما مثَّل ثلاثة معلِّمين ما يقال إنه التيارات الأكثر تناغمًا في الفكر البوذي. ولم يكن هناك تمثيل للأديان الأصلية للأمريكتين وأفريقيا. بيد أنه منذ انعقاد البرلمان، ساد الاتفاق على تحديد اليهودية، والمسيحية، والإسلام، والهندوسية، والبوذية، والكونفوشية، والطاوية باعتبارها أديانًا عالمية. وأحيانًا ما يُطلق عليها «السبعة الكبار» في الكتب الأساسية في «الدراسات الدينية»، وكثير من التعميمات المتعلقة بالأديان استُمدت منها.

يتشكك العلماء باطراد في هذا التشخيص. ومن أسباب هذا أنه يستند إلى معايير مشكوك فيها بصدد ما يجعل «السبعة الكبار» تُعَد «أديانًا عالمية». لا يمكن إرجاع ذلك إلى أعداد أتباعها الغفيرة؛ فاليهودية تقع في مرتبة أقل بكثير من الشنتوية والسيخية بهذا المعيار، وهما لا يُعتبران «دينين عالميين». يمكن اعتبار اليهودية واحدًا من «الأديان العالمية» لأنها تُمثل أساس أكثر ديانتين أتباعًا في العالم — المسيحية والإسلام — لكن إذا كان هذا هو المعيار، فينبغي أن تُحسب الزرادشتية من الأديان العالمية أيضًا بسبب تأثيرها في اليهودية، والمسيحية، والإسلام. إذا فكرنا في «الأديان العالمية» على اعتبار أنها الأديان التي يعتنقها الناس في مناطق مختلفة من العالم، فلِمَ تُحسب الديانتان الكونفوشية والطاوية من بينها؟ ومع ذلك، فالأدهى أن تعبير «الأديان العالمية»، على ما يبدو، يشير ضمنًا إلى أن كل المجتمعات تملك شيئًا يمكن تمييزه على أنه دين، تمامًا مثلما تملك المجتمعات كافةً لغة. (في الواقع، كانت اللغة هي بالضبط الندَّ الذي استخدمه مولر عندما استهل الدراسة البحثية للأديان. واستعار عبارة «من يعرف واحدة، لا يعرف أي واحدة.» من دراسة اللغات.) والنظر إلى الدين بهذه الطريقة يمكن أن يجعل الأفراد أكثر تسامحًا مع الأديان الأخرى، مع أنه يشيع بين الأفراد الاعتقاد بأن دينهم — وحده من بين كل أديان العالم — هو الأسمى. في كلتا الحالتين، فكرة أن ما نفكر فيه باعتباره دينًا في ثقافتنا له نظير في كل الثقافات الأخرى هي فكرة تنطوي على مشكلات في رأي كثير من العلماء المعاصرين.

إحدى المشكلات التي تنطوي عليها فكرة أن كل المجتمعات لها أديان أنها تفترض، في أقل تقدير، أن الأمور أو جوانب الحياة التي تُصنَّف على أنها «دينية» يمكن تمييزها من الأمور أو الجوانب التي تقع خارج هذه الفئة. ومعنى ذلك أنها تفترض أن هناك جوانب للحياة لا يشملها الدين. بيد أنه في حقيقة الأمر، لا يوجد هذا التصنيف للدين في كل المجتمعات اليوم، ولم يكن له وجود قبل عام ١٥٠٠. بل إن كثيرًا من اللغات لا تحتوي على كلمة مساوية للكلمة الإنجليزي religion («دين»)، ولا توجد مثل هذه الكلمة في الكتاب المقدس أو القرآن ولا يتحدث أيٌّ من قبائل السكان الأصليين في الأمريكتين، على سبيل المثال، عن «الدين» باعتباره شيئًا متميزًا من بقية الحياة.
وفقًا لكثير من المؤرخين، استُخدِم مفهوم «الدين» أول ما استُخدم في أوروبا في القرن السادس عشر للتمييز بين مضمار سلطة الكنيسة وبين مضمار السلطات المدنية. وفرَّق الملوك والأباطرة الذين راموا الحصول على بعض الولاء والخدمة التي اختص بها الناس الأساقفة والبابا ما بين «الدين» و«السياسة»؛ فعلى سبيل المثال، لبناء الدول القومية، أراد الملوك والأباطرة احتكارًا للاستخدام الشرعي للقوة أو العنف، واقتضى ذلك تخلِّي قادة الكنيسة عن سلطتهم في بناء الجيوش، كما سبق أن فعلوا في الحملات الصليبية. وفي آخر المطاف، طالب الملوك والأباطرة بالسيطرة الكاملة على الأمور المتعلقة ﺑ «هذه الدنيا» — أي العالم العلماني (كلمة «علماني» أو «سِكْيولار» بالإنجليزية مشتقة من كلمة «سيكَلَم» saeculum اللاتينية التي تشير إلى الأشياء الموجودة في الأزمنة العادية). لقد أرادوا سنَّ القوانين وإنفاذها، وجبي الضرائب، وتنظيم التجارة، بالإضافة إلى شن الحروب. ومِن ثَمَّ، رغبوا في أن يقصر رجال الكنيسة أنشطتهم على الأمور التي تتعامل مع العالم «الآخر»؛ أي العالم الأبدي. لقد أرادوا إبقاءهم بعيدًا عن سياسة القوة، وقصر أدوارهم على أمور مثل تفسير الكتاب المقدس، وصياغة المذاهب، وإقامة الشعائر الدينية. هذه المسائل التي انتهى الأمر إلى تشخيصها على أنها «مقدَّسة» أو «دينية»، من وجهة نظر المسيحيين، صارت هي المجال المناسب للدين.
على أن كلمة «دين» لم تكن جديدة في القرن السادس عشر، فقد استخدمت المجتمعات الغربية القديمة والقروسطية المصطلح اللاتيني «ريليجيو» religio الذي أشار إلى فضيلة تنفيذ المرء التزاماته الاجتماعية كافة — تجاه العائلة، والجيران، والحكَّام، والله. وكان معنى أن يكون لديك «ريليجيو» هو أن تكون مسئولًا في جميع مناحي الحياة. وحينما وصل مصطلح «ريليجيو» إلى اللغة الإنجليزية في صورة كلمة religion نحو عام ١٢٠٠، اكتسب معنًى مختلفًا كما يخبرنا «قاموس أكسفورد للغة الإنجليزية»، وهو: «حالة حياة مرتبطة بالنذور الرهبانية.» سيكتب المسيحيون بعد ذلك عن «ديانات» الرهبان «البنديكتيين» و«الفرنسيسكان» و«الدومينيكان» (كافانوغ، ٢٠٠٩: ٦٤). والآن يتغير معنى المصطلح مرة أخرى ليعني فقط جوانب الحياة التي تحكمها السلطات الكنسية.

ليعظم الملوك والأباطرة من قوتهم، أبرموا الاتفاقيات، مثل «صلح أوجسبورج» عام ١٥٥٥ الذي أرسى مبدأ «كيوسو رجيون إيوس ريليجيو»، وهي عبارة لاتينية تعني أن يكون «الناس على دين ملوكهم». ما كان لمثل هذه المحاولات لنزع السلطة من قادة الكنيسة أن تنجح بالكامل؛ لأن السلطات الكنسية أحكمت قبضتها على جانب كبير من السلطة «السياسية» لقرون. احتفظ البابا حتى عام ١٨٧٠ بقوة مليك مطلق على الدول البابوية لشبه الجزيرة الإيطالية — منطقة تبلغ مساحتها ضعف ولاية ماساتشوستس — كما لا يزال يحتفظ اليوم بحكم الدولة الأصغر كثيرًا التي تُدعى «مدينة الفاتيكان». لكن الفكرة الجديدة بتمييز «الدين» من «السياسة» كانت قد ترسَّخت.

حينما استعمر المسيحيون الأوروبيون آسيا وأفريقيا، طبقوا «الدين» بهذا المعنى الجديد على المجتمعات هناك، وفي خضم ذلك أنشَئوا مفاهيم جديدة مثل «الهندوسية»، و«البوذية»، و«الكونفوشية» و«الطاوية». وصنَّفوا هذه المفاهيم مع مئات من التقاليد الأصغر على أنها أنواع داخل فصيلة «الدين»، مثلما ينتمي كلٌّ من الأسد والنمر إلى جنس السباع. كما دأب العلماء على أن يقولوا، منذ أن أصدر ويلفرد كانتويل سميث كتابه المميز عام ١٩٦٢ «معنى الدين ونهايته»، إن فرض هذا المفهوم الأوروبي للدين على الثقافات غير الأوروبية يشوِّه ما يفعله الناس وما يظنونه في بقية العالم. على سبيل المثال، قُبيل استعمار بريطانيا للهند، لم يكن لدى الناس هناك مفهوم «الدين» ولا مفهوم «الهندوسية». بل، ولم يكن هناك ذكر لكلمة «هندوس» في الهند القديمة، ولم يتحدث أحد عن «الهندوسية» قُبيل مطلع القرن التاسع عشر.

حتى استحداث هذه اللفظة، كان الهنود يُعرِّفون أنفسهم وفقًا لأي مجموعة من المعايير — كالعائلة، أو التجارة أو الحرفة، أو المستوى الاجتماعي، وربما وفقًا للكتب المقدسة التي كانوا يتبعونها أو الإله المعين أو الآلهة التي يعتمدون على رعايتها لهم في مختلف السياقات، أو التي يكرسون أنفسهم لعبادتها. على أن هذه الهويات المختلفة كانت متحدة، كلٌّ منها جزء لا يتجزَّأ من الحياة؛ لم يكن أحدها موجودًا في مجال منفصل يُعرَف بأنه مجال «ديني». ولم تكن التقاليد المختلفة مجمَّعة معًا تحت مصطلح «الهندوسية»، يوحدها تشارُكُها في مثل هذه الخصائص العامة للدين بوصفه مؤسِّسًا، أو معتقدًا، أو لاهوتًا، أو تنظيمًا مؤسسيًّا واحدًا. ولعل أبرز صفة تشاركوا فيها — إلى جانب حقيقة أنهم كانوا من شبه القارة الهندية (التي هي لب معنى لفظة «هندوسي») — هي أنهم لم يكونوا يهودًا، أو مسلمين، أو مسيحيين. في حقيقة الأمر، ربما يرجع استخدام لفظة «هندوسي» إلى أول تعداد سكاني منهجي للهند أجرته بريطانيا عام ١٨٧١، واشتمل على الهوية الدينية ضمن إحصاءاته.

«البوذية» هي، بالمثل، مفهوم أوروبي يُجمِّع ما فعله واعتقده ملايين الناس على مرِّ ٢٥٠٠ عام، ويصنِّفه على أنه «دين». المؤسِّس المعلَن للممارسات المتنوعة المعروفة بالبوذية هو سيدهارتا جوتاما الذي أُطلق عليه «البوذا»؛ أي «اليقظ». على أنه لم يقدم تعاليم عن الله أو آلهة أو أرواح أو سماء أو جحيم أو خطيئة أو فداء أو معظم الأمور الأخرى المرتبطة بالمفاهيم الغربية للدين. تمحورت تعاليمه حول انتشار المعاناة وكيفية تقليلها. وكانت في اليونان القديمة أفكار مماثلة تسمى «الرواقية»، وكانت تُصنف على أنها فلسفة. وأحيانًا ما تُدرَس البوذية في الجامعات اليوم في أقسام الفلسفة، ويُصنَّف بعض الطرق البوذية تحت بند «علم نفس تنمية الذات». كان لب رسالته نفسانيًّا. تتلخص تعاليم البوذا في «الحقائق النبيلة الأربع»:
الحياة مليئة بالمعاناة.
سبب المعاناة هو التعلق (أو الاشتهاء).
يمكن التحرر من المعاناة من خلال التغلب على التعلق (أو الاشتهاء).
وسيلة وقف المعاناة هي «الطريق الثُّماني النبيل».

وعلى غرار «الحقائق النبيلة الأربع»، لا يتعلق «الطريق الثُّماني النبيل» بأمور الآخرة، ولكن بالطريقة التي يفكر بها البشر ويسلكون في كل جانب من جوانب حياتهم. والبنود الثمانية هي: الفهم السليم، والنية السليمة، والكلام السليم، والفعل السليم، والمعيشة السليمة، والسعي السليم، والانتباه السليم، والتأمل السليم. خليق بالأفراد إمعان التفكير في أهدافهم، وتوطين أنفسهم على بلوغها، والتحدث والسلوك بطرق تعززها، واختيار مهن تبقيهم في الطريق القويم، ووضع أهدافهم نصب أعينهم دائمًا لتفادي الملهيات.

كثيرًا ما تُصنف «الكونفوشية» أيضًا على أنها فلسفة — للعلاقات الاجتماعية والحُكْم. والواقع أنه حتى القرن العشرين، كان لزامًا على من يسعون إلى الالتحاق بالوظائف الحكومية في الصين اجتياز امتحان في مبادئ الكونفوشية. وعلى غرار البوذا، لم يُقدِّم كونفوشيوس تعاليم تتعلق بالآخرة مثل الآلهة أو الأرواح أو الحياة الآخرة، ولكنه نظم الأفكار الصينية القديمة عن العلاقات الاجتماعية والحكم التي اعتُبرت جميعها جزءًا من النظام الكوني العظيم. تركز تعاليم كونفوشيوس على الطرق العملية لتحقق الاتزان والعيش في تناغم مع الكون. مرة أخرى، يشتمل هذا على كل جوانب الحياة، ومنها العمل والتعليم والفنون والحُكم.

بيد أن المبشِّرين والعلماء المسيحيين صنَّفوا فئة الكونفوشية على أنها نوع يندرج تحت فصيلة «الدين»، كما جمعوا أيضًا نثريات من الأفكار والممارسات الصينية التقليدية الأخرى تحت فئة «الطاوية» التي تعاملوا معها على أنها نوع آخر يندرج تحت فصيلة «الدين»، في حين أن الصينيين عمومًا ليسوا كونفوشيين ولا طاويين في حقيقة الأمر، ولكنهم يُدمجون في حيواتهم اليومية جوانب من تعاليم وطقوس من كلٍّ من التقاليد الكونفوشية والطاوية، بالإضافة إلى تلك المستمدة من مختلف المعلِّمين البوذيين. يُشار إلى تعاليم الكونفوشية والطاوية والبوذية على أنها «التعاليم الثلاثة» للصين. وتُعتَبر «التعاليم الثلاثة» «متناغمة كتعليم واحد»، وهي معًا تساعد الناس على أن يحيوا حيوات ناجحة.

هكذا تكوَّنت فكرة «الدين» الحديثة لتساعد الملوك الأوروبيين في تمييز سلطتهم من سلطة الكنيسة. على أن فصل الحياة إلى مجالين علماني وديني لم تشترك فيه أجزاء أخرى كثيرة من العالم. ونتيجة لذلك، لا يشبه «الدين» «اللغة» أو «استخدام الأداة»؛ فهو لا يُشير إلى حقيقة موضوعية توجد في أنحاء العالم وعلى مرِّ القرون.

يساعد هذا في تفسير لماذا لم يقدم باحثو الأديان تعريفًا وافيًا للكلمة ينطبق حتى على المسيحية واليهودية والإسلام والهندوسية والبوذية والكونفوشية والطاوية، فضلًا عن التقاليد العشرة آلاف الأخرى التي يصنفونها على أنها «أديان». حاول بعض الباحثين في القرن التاسع عشر تعريف لفظة «دين» على أنها علاقة مع الله أو الآلهة، غير أن هذا لا ينجح مع بوذية ثيرافادا، والكونفوشية، والطاوية، وغيرها من التقاليد التي لا تشتمل قوم على آلهة (بوذية ثيرافادا أقدم نوع من البوذية، وهي الأقرب إلى تعاليم البوذا. لا تشمل الثيرافادا أي آلهة، لكن المذاهب البوذية اللاحقة، مثل أشكال بوذية ماهايانا، لها آلهة). وفشلت تعريفات أكثر إبهامًا ﻟ «الدين» بوصفه علاقة مع «العليِّ» لأسباب مماثلة. لا يبدو أن بوذية ثيرافادا لها علاقة بأي شيء وراء الكون أو خارجه، والأمر نفسه ينطبق على الكونفوشية. كان لقدماء الإغريق آلهة، ولكنهم لم يعتبروهم متعالين؛ إذ كان كلٌّ من زيوس وهيرا كائنين ماديين، بدوا كرجل وامرأة، وعاشا على مقربة من الناس على جبل الأوليمب.

في القرن العشرين، عانى الدارسون من أجل العثور على طرق شاملة لوصف «الدين». حدد باحث الأديان الشهير نينيان سمارت (١٩٩٩) سبع سمات للدين: الهوية الاجتماعية، والأخلاق، والشعائر، والخرافات، والمذاهب، والتجارب العاطفية، والأشياء والأماكن التي تبرز المقدسات. حاول عالم اللاهوت بول تيليش (تُوفِّي عام ١٩٦٥) تجاوز تعريفات «الدين» التي كانت تميل نحو التوحيدية الغربية من خلال تحليل الدين على اعتبار أنه يقوم على «الشاغل المطلق» للناس. وتبعه في ذلك باحثون كثيرون، لكن هذا التحليل يبدو أنه يسرف في الشمول لا في التحديد؛ فمن وجهة نظر بعض الناس، الفن أو الموسيقى أو الثروة أو حتى كرة القدم هي شاغلهم المطلق، لكن قلة من العلماء قد يرغبون في عَدِّ هذه الأمور أديانًا. توقف باحثون آخرون عن استخدام لفظة «دين»، وفعل كثير منهم ذلك تأثرًا برائد الدراسات الدينية البارز في القرن العشرين ويلفرد كانتويل سميث الذي وصف المفهوم الحديث، «الدين»، بأنه بنية غربية محضة اختزلت مجموعة هائلة من التجارب البشرية إلى «نظام لإقامة الشعائر أو المعتقدات» (سميث، ١٩٦٢: ٢٩). وإذ أدرك العلماء المعاصرون الغموض والالتباس اللذين يكتنفان لفظة «دين»، صاروا بصفة عامة يستخدمون اللفظة بحذر، مستعيضين عنها بلفظة «تقليد» حينما يشيرون إلى أديان غير المسيحية. واقترح بعض العلماء حتى تفادي التصنيفات المِلِّية لصالح «أنماط التدين» أو «أنماط انعدام التدين»؛ فبدلًا من تعريف الناس على أنهم يهود أو مسيحيون أو مسلمون على سبيل المثال، يقترح هؤلاء العلماء تعريفهم بأنهم متزمتون أو أصوليون أو شكوكيون بغض النظر عن مِلَّتهم. يعكس هذا الاعترافَ بأن اليهود والمسيحيين والمسلمين الأصوليين، على سبيل المثال، ربما تكون لديهم قواسم مشتركة فيما بينهم أكثر مما لديهم مع الشكوكيين أو المتحررين من بني دينهم. بالطبع، ليس من المحتمل أن يشيع هذا، نظرًا إلى العواقب النفسية والاجتماعية للهوية الدينية، لكنه يُظهر حقًّا أهمية الاعتراف بأن «الدين» ليس فئة بسيطة.

المراجع

  • Cavanaugh, W. (2009) The Myth of Religious Violence, Oxford University Press, New York.
  • Crossman, A. (online) Sociology of Religion. About.com, http://sociology.about.com/od/Disciplines/a/Sociology-Of-Religion.htm (accessed January 6, 2013).
  • Smart, N. (1999) Worldviews: Crosscultural Explorations of Human Beliefs, Scribner, New York.
  • Smith, W.C. (1962) The Meaning and End of Religion, Fortress, Minneapolis MN.

قراءات إضافية

  • Masuzawa, T. (2005) The Invention of World Religions: Or, How European Universalism Was Preserved in the Language of Pluralism, University of Chicago Press, Chicago.
  • Morreall, J. and Sonn, T. (2011) The Religion Toolkit: A Complete Guide to Religious Studies, John Wiley & Sons, Ltd, Chichester.
  • Prothero, S. (2010) God is Not One: The Eight Rival Religions that Run the World and Why Their Differences Matter, HarperCollins, New York.
  • Teiser, S. (1996) The spirits of Chinese religion, in Religions of China in Practice (ed D. Lopez), Princeton University Press, Princeton.
  • Whitehouse, H. (2004) Modes of Religiosity: A Cognitive Theory of Religious Transmission, AltaMira Press, Walnut Creek, CA.

(٢) يتعلق الدين بالروحي

أحبُّك ساجدًا في مسجدك، وراكعًا في هيكلك، ومصلِّيًا في كنيستك؛ فأنت وأنا أبناء دين واحد هو الروح. (خليل جبران، فنان وشاعر لبناني (نجار، ٢٠٠٨: ١٥٠))

تتصل فكرة أن الدين يتعلق بما هو روحاني اتصالًا وثيقًا بفكرة أن الدين يمكن فصله عن مجالات الحياة غير الدينية. هذا تمييز آخر يبرز في بعض الأديان، لكن ليس في جميعها أو حتى معظمها.

تُخبرنا القواميس أن الصفة «روحي» تقوم على «روح»، وأن «الروح» عكس المادة. كما يجيء في المعنى الأول للفظة «روحي» في «قاموس وبستر المختصر المنقح»:

يتألَّف من الروح؛ لا مادي؛ غير جسماني؛ مثل جوهر أو كائن روحاني.

بذلك المعنى ﻟ «الروحي»، نجد أن طريقة أخرى للتعبير عن الزعم المتضمن في هذه الخرافة هي القول إن الأديان تتعلق باللامادي. من وجهة نظر مسيحيي اليوم تبدو هذه الفكرة مألوفة، وتتناسب والتمييز بين الجسد المادي والروح أو النفس اللاماديين. لطالما كان المبشرون المسيحيون يصفون عملهم بأنه «إنقاذ الأرواح»، بمعنى إنقاذ الجزء اللامادي في البشر الذي سوف يقضي الأبدية في السماء أو في الجحيم.

حدث في العصور الوسطى أن اللاهوتيين المسيحيين الغربيين استحدثوا الفرق بين الجسد المادي وبين الروح أو النفس اللاماديين. تأثر مفكرون أمثال أوغسطينوس، أسقف هيبو، وتوما الأكويني بالفلاسفة اليونانيين، ولا سيما أفلاطون الذي رأى الروح مركز الوعي وقلب هوية الفرد، بينما لم يكن الجسد ضروريًّا للشخص. يُطلق على هذه الرؤية اسم «الثنائية» dualism، وهي لفظة مشتقة من اللفظة اللاتينية «دو» duo بمعنى «اثنين». يعتقد الثنائيون أنه على الرغم من أن أجسادنا — لكونها مادية، وجزءًا من العالم الطبيعي — عرضة للتغيير، فثَمة شيء غير مادي يمنح الاستقرار والاتساق لهويتنا الفريدة. ويقول أفلاطون إنه على عكس الجسد المادي، فالروح خالدة بطبيعتها — مستحيل أن تموت. ولم يصف لاهوتيُّو القرون الوسطى الروح وحدها بأنها روحانية، لكن الله والملائكة والشياطين أيضًا.

وبالتمييز بين الروح والمادة، استطاع المسيحيون حينذاك التحدُّث عن «حيواتهم الروحية» على أنها مختلفة عن «حيواتهم المادية». وكما يخبرنا «قاموس أكسفورد للغة الإنجليزية»، قُصد بلفظة «روحي» في القرن السابع عشر: «التعلق بأمور الروح أو مراعاتها مقابل الاهتمامات المادية أو الدنيوية.»

غير أن ديانات كثيرة لا تمييز فيها بين ما هو مادي وما هو روحي. تنطوي مئات الديانات التقليدية في الأمريكتين وأفريقيا، على سبيل المثال، على المذهب الروحي؛ أي الاعتقاد بأن كل الأشياء تُحرِّكها الأنفس أو الأرواح. وفقًا لهذه التقاليد، تحيط بنا الأرواح في أشياء مثل الأشجار والصخور؛ هي ليست جزءًا من مملكة غير مادية «روحانية».

ولا تتعلق الأديان الصينية التقليدية أيضًا بما هو «روحي»؛ فلطالما كانت الطاوية والكونفوشية تُعلِّمان الناس على مدار ٢٥٠٠ عام الطريقة التي يُنظَّم بها الكون، والكيفية التي يُفترَض أن يُنظم بها المجتمع، والكيفية التي ينبغي أن يعامِل بها الأفراد بعضهم بعضًا، دون أن تتحدث عن «الروحي». تُعلِّم الطاوية عن «الطاو»؛ أي «السبيل» التي تعمل وفقًا لها العمليات الطبيعية، وينبغي أن نتبعها. ينظر الطاويون إلى الحياة نظرة شمولية دون إقامة فرق جذري بين ما هو مادي وما هو غير مادي. وينطبق الشيء نفسه على الكونفوشية. قدَّم كونفوشيوس تعاليم عن نظام أخلاقي يحترم فيه الناس ويراعون بعضهم بعضًا. الفضيلة الأساسية في الطاوية هي «وُو-وي»، بمعنى العيش وفقًا لسبيل الكون (الطاو)، بدلًا من محاولة التحكم في الأحداث. يتشارك كلٌّ من الطاوية والكونفوشية نظرة إلى العالم تسودها الطاو؛ فهي تتغلغل في كل الأمور والأحداث المحيطة بنا، وليست في مملكة غير مادية منفصلة.

ولا يتجلى التمييز بين ما هو روحاني وما هو مادي حتى في النصوص الكتابية الأولى. انظر إلى أوصاف الله في الكتاب المقدس العبري. في سفر التكوين، الخالق مذكر. هو يخلق العالم في ستة أيام ثم يستريح من عمله:

وَجَبَلَ الرَّبُّ الإلَهُ آدَمَ تُرَابًا مِنَ الأرْضِ وَنَفَخَ فِي أنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ. فَصَارَ آدَمُ نَفْسًا حَيَّةً. وَغَرَسَ الرَّبُّ الإلَهُ جَنَّةً فِي عَدْنٍ شَرْقًا وَوَضَعَ هُنَاكَ آدَمَ الَّذِي جَبَلَهُ. (سفر التكوين ٢: ٧-٨)

ثم يصف سفر التكوين (٣: ٨-٩) آدم وحَوَّاءَ بعدما أكلا من الشجرة المحظورة، فيقول:

وَسَمِعَا صَوْتَ الرَّبِّ الإلَهِ مَاشِيًا فِي الْجَنَّةِ عِنْدَ هُبُوبِ رِيحِ النَّهَارِ فَاخْتَبَأ آدَمُ وَامْرَأتُهُ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ الإلَهِ فِي وَسَطِ شَجَرِ الْجَنَّةِ. فَنَادَى الرَّبُّ الإلَهُ آدَمَ: «أيْنَ أنْتَ؟»

هنا، الله ليس «روحيًّا». هو يحوِّل التراب إلى شكل إنسان، وينفخ في أنفه ليمنحه حياة، ويزرع جنة، ويمشي في الجنة عندما يهدأ حر النهار. وعند خلق آدم وحَوَّاءَ قال، «نَعْمَلُ الإنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا» (سفر التكوين ١: ٢٦).

وتتوالى الأوصاف المادية لله في كل أجزاء الكتاب المقدس. في سفر الخروج (٣٣: ٢٠–٢٣)، يخبر الله موسى بأنه لن يُريه وجهه، لكن سيُريه ظهره. وفي سفر المزامير (١٨: ٨)، كان الله غاضبًا و«صَعدَ دُخَانٌ مِنْ أَنْفِهِ وَنَارٌ آكلة مِنْ فَمِهِ.» ويذكر سفر يشوع (١٠: ١١) أنه لمساعدة الإسرائيليين في معركتهم مع الأموريين «رَمَاهُمُ الرَّبُّ بِحِجَارَةٍ عَظِيمَةٍ مِنَ السَّمَاءِ.» السماء، مكان سُكنى الله، هي مكان يعلونا، لكنه ليس مملكة منفصلة؛ فكثيرًا ما يصوَّر على أنه مدينة يحكمها الله الذي يجلس على عرش، والملائكة حاشيته (سفر المزامير ١٠٣: ١٩–٢١؛ سفر أيوب ١: ٦). يطلب أشعياء (سفر أشعياء ٦٣: ١٥) من الله: «تَطَلَّعْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَانْظُرْ مِنْ مَسْكَنِ قُدْسِكَ وَمَجْدِك.» الله هو «إيل إيليون» بمعنى «الأعلى» الذي يعيش في أسمى مكان. ولكون السماء تعلو الأرض، فهي مكان مثالي للتطلُّع إلى أمور البشر. «مِنَ السَّمَوَاتِ نَظَرَ الرَّبُّ. رَأَى جَمِيعَ بَنِي الْبَشَرِ. مِنْ مَكَانِ سُكْنَاهُ تَطَلَّعَ إِلَى جَمِيعِ سُكَّانِ الأَرْضِ» (سفر المزامير ٣٣: ١٤). السماء هي أيضًا مكان يمكن لله أن يفعل أشياء منه للبشر؛ فهو يرسل منها نيرانه علامة على قَبوله بعض الذبائح (سفر أخبار الأيام الأول ١٢: ٢٦؛ سفر أخبار الأيام الثاني ٧: ١).

إذا لم يُوصف الله بأنه غير مادي في الكتاب المقدس، فليس غريبًا أن الملائكة أو الشياطين لم يوُصفوا بهذا أيضًا. على سبيل المثال، في قصة الرُّسل الثلاثة المبعوثين من الله لزيارة إبراهيم في سفر التكوين (١٨-١٩)، تارة يُدعَون «ملائكة» وتارة أخرى يُدعون «رجالًا». وعندما التقيا لوطًا في سدوم [في الإصحاح الثامن عشر، كانوا ثلاثة حينما زاروا إبراهيم؛ وفي الإصحاح التاسع عشر، زار اثنان لوطًا. المترجمة]، تناولوا الطعام معًا ثم «أحَاطَ بِالْبَيْتِ رِجَالُ الْمَدِينَةِ رِجَالُ سَدُومَ … فَنَادَوا لُوطًا وَقَالُوا لَهُ: أيْنَ الرَّجُلانِ اللَّذَانِ دَخَلا إلَيْكَ اللَّيْلَةَ؟ أخْرِجْهُمَا إلَيْنَا لِنَعْرِفَهُمَا [لنمارس الجنس معهما]» (سفر التكوين ١٩: ١–٥). بكل وضوح، هذه ليست كائنات «روحانية».

يضم العهد الجديد أيضًا فقرات تحثُّنا على التفكير في الملائكة والناس على أنهم متشابهون للغاية. تذكر الأناجيل الأربعة أنه عندما ذهبت مريم المجدلية والمرأتان الأخريان إلى قبر يسوع في صبيحة الفصح، أخبرهن شخص ما أنه قام. في إنجيل مرقس (١٦: ٥) كان «شَابًّا جَالِسًا عَنِ الْيَمِينِ لَابِسًا حُلَّةً بَيْضَاءَ.» وفي إنجيل متَّى (٢٨: ٢-٣) كان «مَلَاكَ الرَّبِّ … وَكَانَ مَنْظَرُهُ كَالْبَرْقِ وَلِبَاسُهُ أَبْيَضَ كَالثَّلْجِ.» وفي إنجيل لوقا (٢٤: ٤) «رَجُلَانِ بِثِيَابٍ بَرَّاقَةٍ.» وفي إنجيل يوحنا (٢٠: ١٢) «ملَاكَانِ بِثِيَابٍ بِيضٍ.»

على غرار الملائكة، وُصفت الشياطين أو «الأرواح الشريرة» في الكتاب المقدس بأنها كائنات مادية. على سبيل المثال، حينما يطرد يسوع «الأرواح النجسة» في إنجيل لوقا (٨: ٢٦–٣٦)، «فَخَرَجَتِ الشَّيَاطِينُ مِنَ الإِنْسَانِ وَدَخَلَتْ فِي الْخَنَازِيرِ فَانْدَفَعَ الْقَطِيعُ مِنْ عَلَى الْجُرْفِ إِلَى الْبُحَيْرَةِ وَاخْتَنَقَ.» توجد الأرواح هنا في حيز مادي بوضوح، وهي تغيِّر مكانها من كونها داخل الإنسان إلى كونها داخل الخنازير.

إلى جانب الله والملائكة والشياطين كما ذكرنا، الشيء الآخر الذي يقول عنه اللاهوتيون المسيحيون إنه روحاني وليس ماديًّا هو روح الإنسان. لكن هذه الفكرة لا تتفق أيضًا مع ما ورد في الكتاب المقدس. جاء في الكتاب المقدس أن الرُّوح هي ما يجعل شيئًا ما حيًّا. الكلمات التي وردت في الكتاب المقدس للتعبير عن الروح هي الكلمتان العبريتان «نِفِش» و«روَح»، والكلمتان اليونانيتان «سبِيري»، و«نِوْما». تعني هذه الكلمات الريح والنَّفَس — الهواء المُتَنقِّل. تذكر كيف أحيا الله آدم في الإصحاح الثاني من سفر التكوين — بنفخ نسمة حياة في أنفه. تُدرَك النفس في الكتاب المقدس بوصفها مادةً أرقَّ وأخفَّ من الأذرع والأرجل. هي ما نُطلق عليه الآن مادة غازية وليست صلبة، على أنها لا تزال مادة.

لا يوجد فقط في الوقت الراهن آلاف من الأديان التي لا تقوم على «الروحي» باعتباره غير مادي، لكن الدين الذي يصب جُل تركيزه على «الروحي» اليوم — وهو المسيحية — بدأ هو أيضًا وليس لديه مفهوم لغير المادي؛ إذ كان يعتبر الأرواح نوعًا خفيفًا من المادة.

المراجع

  • Najjar, A. (2008) Kahlil Gibran: a Biography, Saqi, Beirut.
  • Oxford English Dictionary (1989) Oxford University Press, Oxford.
  • Webster’s Revised Unabridged Dictionary (1913) G. and C. Merriam, New York.

(٣) يتعلق الدين بالخارق للطبيعة

الدين: هو الخدمة والعبادة لله أو للخارق للطبيعة. («قاموس مريم وبستر»)

كثيرًا ما يظن الناس اليوم أن الدين يتعلق بما هو «خارق للطبيعة» — تلك الفئة التي تشتمل على أشياء مثل الله والمعجزات والملائكة والشياطين. تعني الكلمة اللاتينية «سوبر» أي «فوق»؛ ومِن ثَمَّ فما هو خارق للطبيعة هو فوق الطبيعة. وبينما يمكن تفسير العالم الطبيعي بالفيزياء والكيمياء والأحياء، بمعادلات مثل قوانين نيوتن للجاذبية، فالعالم الخارق للطبيعة غير مقيد بقوانين العلم. وكثيرًا ما يفسر الناس الانجذاب إلى الدين بقولهم إن العلم لا يمكن أن يفسر كل شيء، ومِن ثَمَّ فهم يؤمنون بالعالم الخارق للطبيعة إلى جانب العالم الطبيعي. ومن الطرق التي يستوعب بها الناس المعجزات على سبيل المثال، هي أنها خرق الله القوانين العلمية ليعلن عن ذاته، أو ليستجيب لصلوات البشر.

مع أن هذا التفسير ينجح مع الكثير من النسخ المعاصرة من المسيحية واليهودية والإسلام، فإنه لا ينجح مع آلاف الأديان عبر التاريخ، أو حتى مع المسيحية واليهودية والإسلام قبل مولد العلم الحديث نحو عام ١٦٠٠. وعليه، فليس دقيقًا أن نقول إن الدين عمومًا يدور حول ما هو خارق للطبيعة.

لا يفرق معظم أديان العالم العشرة آلاف بين الطبيعي والخارق للطبيعة؛ بل لا يملك كثير منها حتى كلمة «طبيعة» أو «طبيعي»؛ ففي الأديان القَبَلية في أفريقيا وأستراليا والأمريكتين على سبيل المثال، النباتات والحيوانات والبشر والسحرة والآلهة والأرواح والأشباح وكل شيء آخر هو ببساطة جزء من العالم. وما من علم يفسر الأحداث «الطبيعية»؛ ولذا، لا تتبقى أحداث «خارقة للطبيعة» غير مبررة علميًّا. ربما تعتبر الآلهة والأرواح لديها قوًى خارقة للطبيعة — قوًى أعظم من تلك التي لدى البشر — لكن الآلهة والأرواح لا تكون في عالم «خارق للطبيعة» منفصل عن عالم النباتات والحيوانات والبشر.

تتضمن أديان قَبَلية كثيرة فكرة الإحيائية؛ أي الاعتقاد بأن لكل الأشياء أنفسًا أو أرواحًا، حتى الصخور والأنهار. وفي هذه الأديان، لا توجد الأرواح في عالَمٍ ما خارق للطبيعة، منفصل عن العالم الطبيعي.

وفي الديانات الكبيرة بالهند والصين أيضًا، نادرًا ما ينطبق التمييز بين الطبيعي والخارق للطبيعة؛ ففي الديانة الهندوسية على سبيل المثال، البقرة مقدسة، وهانومان، وهو قرد، هو التجسيد الحادي عشر للإله شيفا وبطل في الملحمة الدينية «رامايانا». هل البقر وهانومان طبيعيان أم خارقان للطبيعة؟ لا معنى لهذا السؤال في الهندوسية.

أحد المعتقدات الرئيسة في الهندوسية هو التناسخ، أو الميلاد مجددًا، لكن هذا لا يُعَد شيئًا خارقًا للطبيعة. هو فقط ما ظل يحدث دائمًا للأفراد حينما يموتون.

لم يقدم سيدهارتا جوتاما — الرجل الذي أصبح «البوذا»؛ أي «اليقظ» — تعاليم عن الآلهة والأرواح أو «الخارق للطبيعة». كما رأينا، يقوم لب رسالته، «الحقائق النبيلة الأربع»، على الكيفية التي تعيش بها حياة مُرْضِية. ويصف «الطريق الثُّماني النبيل» كيف ينبغي للناس أن يفكروا ويتصرفوا لكي يحققوا هذا الهدف: الفهم السليم، والنية السليمة، والكلام السليم، والفعل السليم، والمعيشة السليمة، والسعي السليم، والانتباه السليم، والتأمل السليم. لا شيء من هذه الأمور خارق للطبيعة ولا حتى الفضائل الأساسية التي غرسها البوذيون التي هي: «مِتَّا» أي الشفقة، و«كارونا» أي الرحمة، و«موديتا» أي الفرح التعاطفي.

يؤمن البوذيون بنوع من الميلاد الجديد، لكنهم — شأنهم في ذلك شأن الهندوس — لا يعتبرونه «خارقًا للطبيعة». يمكن بلوغ «النيرفانا» — التي هي نعمة التحرر من المعاناة والولادة المتكررة — بالعيش وفق «الطريق الثُّماني النبيل» وممارسة الفضائل الأساسية.

بالمثل، تتعلق ديانتا الصين المحليتان، الكونفوشية والطاوية، بكيف ينبغي أن يعيش الأفراد ويكونوا سعداء. قدم كونفوشيوس تعاليم عن نظام أخلاقي يحترم فيه الناس ويراعون بعضهم بعضًا. الفضيلة الأساسية في الطاوية هي «وو-وي»، بمعنى العيش وفقًا لسبيل الكون بدلًا من محاولة التحكم في الأحداث وفقًا لإرادة المرء أو رغباته. توجد في الديانتين الكونفوشية والطاوية فكرة الطاو التي تمثل الطريقة التي تحدث بها الأشياء، على أن تلك الطاو موجودة في كل ما يحيط بنا من أشياء وأحداث، وليست فوقها. قد تحيط بنا أرواح المتوفَّيْن، إلى جانب أرواح الأنهار والجبال، لكنها، مرة أخرى، جزء من البيئة «الطبيعية».

إذا نظرنا إلى الأديان التي لم تعُد تمارَس، مثل أديان اليونان وروما وشمال أوروبا القديمة، نجد آلهة أمثال زيوس وفينوس وثور التي هي جزء من العالم الواحد الذي يعيش فيه البشر، وليست فوق ذلك العالم. على سبيل المثال، كان يُعتقد أن الآلهة الإغريقية تعيش على جبل الأوليمب وتزور الناس من حين إلى آخر.

حتى في الثقافات الأوروبية، مفهوم «الخارق للطبيعة»، بوصفه نعتًا، يعني ما هو «منسوب إلى قوةٍ ما تتجاوز الفهم العلمي أو قوانين الطبيعة» («قاموس أكسفورد للغة الإنجليزية»)، هو مفهوم حديث المنشأ نسبيًّا. وبالنسبة إلى الأوروبيين في العصور الوسطى، لم تكن لفظة «خارق للطبيعة» تعني عالمًا منفصلًا عن العالم «الطبيعي»؛ إذ كانت تُستخدم لوصف شخص يتصرف بطريقة لم يكن بمقدورهم عادة التصرف بها. وفي أغلب الأحيان كانت تُطلق على بشر يتصرفون بالاستعانة ببركة الله. من الواضح أنه وفقًا لهذا المعنى، لم يكن من الممكن بأي حال أن تنطبق لفظة «خارق للطبيعة» على الله نفسه. لكن حالما وضع المفكرون الحدثاء الأوائل فكرة أن الطبيعة نظام مادي يمكن تفسيره في ضوء الفيزياء وغيرها من «العلوم الطبيعية»، أصبح «الخارق للطبيعة» يعني الكائنات التي لم تكن موضوعًا لقوانين الطبيعة — مثل الله والملائكة والشياطين والأشباح والأرواح.

المراجع

(٤) يتعلق الدين بالإيمان أو الاعتقاد

تشكَّك بجرأة حتى في وجود الله؛ لأنه، إن كان يوجد إله، فلا بد أن يؤثِر إجلال العقل على إجلال الخوف الأعمى. (توماس جيفرسون، في خطاب إلى بيتر كار، ١٧٨٧)

في العالم المتحدث باللغة الإنجليزية اليوم، كثيرًا ما تُستخدَم لفظة «إيمان» faith مرادفةً لكلمة «دين»، حتى من قِبل دارسي الدين. طُبِعت المقدمة الشهيرة لأديان العالم بعنوان «شعوب كثيرة، إيمانات كثيرة» لروبرت إيلوود وباربرا ماكجرو (٢٠١٣)، على سبيل المثال، عشر طبعات حتى الآن. وهناك أيضًا كتاب جون بوكر (٢٠٠٦) «أديان العالم: استكشاف الإيمانات الكبرى وتفسيرها». وكثيرًا ما تُستخدم لفظة «إيمان» مرادفةً لكلمة «اعتقاد» belief؛ ولذا يُشار إلى الأديان على أنها «أنظمة عقائدية». لكن في حقيقة الأمر، الإيمان والاعتقاد ليسا متساويين، ولا يمكن اختزال «الدين» إلى أيٍّ منهما.
كرَّس رائد الدراسات الدينية البارز ويلفريد كانتويل سميث (تُوفِّي عام ٢٠٠٠) جزءًا كبيرًا من أبحاثه للتفريق بين «الإيمان» و«الاعتقاد». يقول سميث إنه في العصور المسيحية كانت لفظة «إيمان» تعني الاطمئنان (المشتقة من الجذر اللاتيني نفسه لكلمة إيمان، وهو «فيديو» fideo)، أو الثقة، ولا سيما المعبَّر عنها في علاقة مع ما يُدرك أنه المتجاوِز أيًّا ما كان. وعلق سميث بأنه أيًّا ما كان هذا المتجاوِز، فيمكن التعبير عن الالتزام تجاهه بأشكال عدة، منها الطقس، والفن، والسلوك الأخلاقي، والولاء للمجتمع. كما يمكن التعبير عنه أيضًا في صورة تفسيرات أو مذاهب عقلانية عن المتجاوِز؛ وذكر سميث (١٩٩٨: ٣٩) أن هذا التعبير عن الولاء للمتجاوز هو «سمة مميزة للمسيحيين». واسترسل قائلًا إن الاعتقاد يعني، بحسب الاستخدام الحالي، التسليم الفكري بآراء معينة ليست لها أدلة تجريبية. لكن سميث يرى أن هذا المعنى غير وارد في الكتاب المقدس ولا القرآن. ويزعم أن ما هو وارد هو الاعتقاد كما قُصد به في أزمنة ما قبل الحداثة (وكما لا يزال مقصودًا في الجذر الألماني للكلمة belieben)، بمعنى «الاعتزاز»، و«الولاء»، و«التقدير العالي» أي «الحب» (سميث ١٩٩٨: ٤١). وهكذا، من وجهة نظر سميث، ليس الإيمان بالله مجرد التسليم بوجود الله، لكن التعهد بالالتزام بأن يحيا الإنسان حياته في خدمة الله. بهذا المعنى، افترض الاعتقاد بالله مسبقًا وجود الله. ولم يكن التشكك في وجود الله واردًا على الإطلاق في السياق الكتابي. وكان الاختيار الحقيقي بين أن تكون مخلصًا لله بالعيش وفقًا لإدراكك لمشيئته، وأن ترفض فعل ذلك. بعبارة أخرى، لا يمكن التعبير عن الاعتقاد إلا بالأعمال. لم يكن ممكنًا اختزاله إلى مجموعة من الأقوال.

شق الاعتقاد بالمعنى الحديث لقبول صحة أقوال معينة طريقه نحو المركزية في المسيحية حينما انتقلت المسيحية من كونها التزام الناس الطوعي اقتداءً بمعلميهم، وصارت من مستلزمات المواطَنة في الإمبراطورية الرومانية. حينما اكتسبت المسيحية بذلك طابعًا سياسيًّا، كان أفراد المجتمع يُعرَّفون وفقًا لإقرارهم بقائمة مزاعم محددة.

كان الإمبراطور الروماني قسطنطين (تُوفِّي عام ٣٣٧) هو السبب في جعل هذا المعنى للفظة «الاعتقاد» الصفة المميزة لكون المرء مسيحيًّا. اعتُبر المسيحيون من وجهة نظر الأباطرة الأوائل طائفة منشقة، غير أن قسطنطين شرَّع المسيحية، لضمان ولاء المسيحيين له. بل إنه ضم قادة مسيحيين إلى حكومته الجديدة، ودعم الأساقفة ماديًّا، ومنحهم مباني حكومية، ومباني رومانية عامة لاستخدامها كنائس.

كان هدف قسطنطين إعادة توحيد الإمبراطورية الرومانية، التي كانت منقسمة آنذاك إلى مناطق مستقلة عدة. كان من المحتمل أن يساعد المسيحيون الذين حررهم قسطنطين من الاضطهاد مؤخرًا في كل هذه المناطق في توحيد الإمبراطورية. لكن سرعان ما اتضح وجود خلافات بين مختلف القادة المسيحيين حول من كان يسوع، وماذا فعل. ذكر البعض، على سبيل المثال، أن يسوع هو ابن الله غير المخلوق المساوي للأب، بينما قال آخرون إن يسوع خلقه الله، ومِن ثَمَّ فهو غير مساوٍ له. أراد قسطنطين أن يحل المسيحيون خلافاتهم ويتفقوا على مجموعة موحدة من المعتقدات ومِن ثَم يمكن للمسيحية أن تكون أيديولوجية واحدة، وموحِّدة كما هو مأمول؛ ولذا، دعا الإمبراطور عام ٣٢٥ قادة المسيحيين معًا في مدينة نيقية بالقرب من عاصمة الإمبراطورية الجديدة، مدينة القسطنطينية، وأمرهم بإصدار مجموعة من التعاليم لكل المسيحيين.

كما تبيَّن، لم تكن هذه مهمة يسيرة؛ فقد ناقشت السلطات الكنسية في مَجْمَع نيقية ثم في المجامع اللاحقة مزاعمها المختلفة، ووضعت مجموعة من التعاليم الرسمية بدأت بكلمة «أعتقد» — «كريدو» credo باللاتينية، وهي أصل كلمة عقيدة creed. لكن الأفهام المختلفة للمسيحية استمرت. وكانت الخلافات حول فكرة الثالوث — التي مفادها أن الله هو الآب والابن والروح القدس معًا — سائدة.

وفي عام ٣٨٠، أعلن الحكام الرومانيون عن «المدونة الثيودوسية» التي تُلزم كل شخص في الإمبراطورية الرومانية بالاعتقاد بالثالوث. ومن لا يفعل يكن «مخبولًا أحمق». واسترسل المرسوم قائلًا: «ولسوف يُوصمون باسم الهراطقة المهين … ولسوف ينزل بهم في المقام الأول عقاب الدينونة الإلهية، ثم عقاب سلطاتنا التي سوف تقرر أن تنزله بهم بحسب المشيئة الإلهية» (بيتنسون، ١٩٤٣: ٣١). في غضون خمس سنوات، قُطِعت رءوس «الهراطقة» الأوائل — أسقف من مدينة آبلة بإسبانيا يُدعى بريسكيليان وستة من أتباعه. جميعهم أُعدموا، لا لجرم اقترفوه، وإنما لشيء اعتقدوا به — تَشابُه تقشعر له الأبدان مع الأسباب التي لأجلها اضطُهد المسيحيون في روما ما قبل المسيحية. متى ما تصبح أيديولوجية دينية معينة أساسًا للشرعية السياسية؛ فإن من لا يعتنقونها يعانون.

ظل التسليم بالمزاعم المُبيَّنة في عقائد معينة السمةَ المحدِّدة للمسيحية. وكانت المسائل المتعلقة بالرُّوح القُدس — الذي وصفه اللاهوتيون بأنه أحد «الأقانيم» الثلاثة للإله الواحد — في صميم انشقاق المسيحية الغربية عن المسيحية الشرقية عام ١٠٥٤. وتمحور انقسام المسيحية الغربية إلى طوائف مختلفة في عصر الإصلاح البروتستانتي في القرن السادس عشر حول مسألة المزايا النسبية للاعتقاد والأعمال الحسنة. وكانت الصيغة التي وضعها البروتستانت هي «الإيمان وحده»، بمعنى أن الخلاص يحدث بالإيمان الحقيقي بالله، وليس بالأعمال الحسنة.

هذا هو أصل المعنى الحديث للاعتقاد ومساواته بالإيمان، واختزال «الدين» إلى «عقيدة» أو «نظام عقدي». لكن المسيحية، كما يشير سميث، فريدة في هذا الشأن. فما من دين عالمي آخر — اليهودية أو الإسلام أو الهندوسية أو البوذية أو الطاوية أو الكونفوشية — يرى نفسه على أنه نظام معتقدات.

كيف إذًا تفهم الأديان غير المسيحية نفسها؟ يعرِّف كلٌّ من اليهودية والإسلام — الديانتين الأقرب إلى المسيحية — أفراد مجتمعيهما على أساس اتِّباعهما القوانين الإلهية — التوراة والشريعة على التوالي. ويؤكدان «الأورثوبراكسية» (استقامة السلوك)، التي تعني الفعل الصحيح، لا «الأرثوذوكسية» (سلامة المعتقد)؛ أي التعليم الصحيح.

وبانتقالنا إلى ديانات جنوب آسيا وشرقها، نجد أن اعتبارها أنظمة عقدية أقل دقة. في الهندوسية آلهة لا حصر لها — أحيانًا ما نسمع عن وجود ٣٣٠ مليون إله. يُخلص بعض الناس لأحدها — مثل شيفا أو فيشنو. ويُبجِّل آخرون بعض الآلهة الكبيرة، ويلجَئون إلى الآلهة الصغيرة لتُعينهم في مسائل محددة. ويتبع بعض الناس تقليدًا قديمًا متركزًا حول براهمان، الحقيقة المطلقة، الذي وُصف بأنه متجاوز للآلهة. ولا يعني إخلاص المرء لإله أو أكثر، أو غياب الإخلاص لأي إله، أنه يرفض وجود الآلهة الأخرى. وأيًّا ما كانت الآلهة التي يعبدها هندوسي ما، فلا توجد مذاهب رسمية مقترنة بها يمكن أن تقارَن بالأقوال المروية عن يسوع في العقائد المسيحية.

وعلى غرار الهندوسية، البوذية تعددية — تُسلِّم بالكثير من رؤى العالم والكثير من طرائق الحياة. بدأ مؤسِّس التقليد، سيدهارتا جوتاما كما نسميه الآن، هندوسيًّا، لكنه لم يقدم تعليمًا عن الآلهة. انصب اهتمامه على التحرر من المعاناة. وكما رأينا أعلاه، كان من تعاليمه أنه خليق بالناس ممارسة الطريق الثُّماني (الفهم السليم، والنية السليمة، والكلام السليم، والفعل السليم، والمعيشة السليمة، والسعي السليم، والانتباه السليم، والتأمل السليم)، والفضائل الأساسية المتمثلة في الشفقة، والرحمة، والفرح التعاطفي. يُبجَّل سيدهارتا باعتباره البوذا؛ أي اليقظ، لا لأنه إله أو لأن هذه الحقائق هي وحي إلهي، ولكن لأن الطريقة التي درَّسها كانت ناجحة في التعامل مع المعاناة وفي تحقيق السعادة لملايين الناس على مرِّ القرون. الطريق الثُّماني والفضائل الأساسية ليست مذاهب تُقبل على أساس الإيمان، وإنما هي أساليب يجدها أفراد كثيرون نافعة.

تتعلق الكونفوشية، على غرار البوذية، بمشكلات الإنسان، لا بآلهة أو معتقَدات. نشأ كونفوشيوس في الصين في زمن الحرب والتمزق الاجتماعي، فتساءل كيف يمكن أن يسترد المجتمع التناغم الاجتماعي الذي ساد في قرون أسبق. لم يزعم كونفوشيوس أن أفكاره موحًى بها من إله، أو يجب قبولها بوصفها صحيحة على نحو مطلق وفريد بناءً على الإيمان. ولكنه محَّص الأدب الصيني، وعثر على الحكمة البشرية التي سبق أن قادت الناس بنجاح نحو التناغم الاجتماعي في الماضي. بُني هذا على نموذج معاملة الآخرين بالاحترام والطاعة والاهتمام التي يعامل بها الأبناء البررة والديهم.

انتشرت الكونفوشية عبر الصين لتصبح أكثر تقاليدها ذيوعًا، لكنها تتعايش بتناغم مع التقاليد الأخرى أيضًا. ظهرت الطاوية في الصين في زمان ظهور الكونفوشية تقريبًا، لكنها اتخذت نهجًا مغايرًا إزاء ما كان الناس يحتاجون إليه ليكونوا سعداء. لم ينصَبَّ تركيزها على العلاقات الاجتماعية المبنية على الخضوع المتسم بالاحترام، ولكن على توافق الناس مع أنماط الترتيب الطبيعي للكون وإيقاعاته، التي تُعرف بالطاو. الفضيلة الرئيسية في الطاوية، كما رأينا، هي «وو-وي»؛ أي التعايش في تناغم مع السبيل، بدلًا من محاولة التحكم في الأحداث وفقًا لرغبات المرء.

في الصين، كما هي الحال في الهند، لا توجد سلطة مركزية كإمبراطور أو أسقف يخبر الناس ما يجب عليهم أن يعتقدوا به؛ ولذا لا يوجد هراطقة. لا تتعايش التقاليد المختلفة في القرى فقط، ولكن في الأفراد أيضًا. قد يضم المعبد الواحد كهنة طاويين ورهبانًا بوذيين؛ قد يتمم شخص واحد زواجًا على الطريقة الطاوية وجنازة على الطريقة الكونفوشية. قد يتبع الناس مبادئ الاحترام الاجتماعي الكونفوشية، ويتزوجون في معبد طاوي، ويمارسون طرق التأمل البوذية. هناك أيضًا طقوس لآلهة العائلة وآلهة القرية التي سبقت الطاوية والكونفوشية. هكذا، بينما كانت المعتقدات موجودة، ولا شك، في الديانات الهندية والصينية؛ فإن التركيز ينصب على الممارسة، بما يجعل مصطلح «الإيمان»، محدِّدًا غير كافٍ كما هي الحال مع اليهودية والإسلام بالمثل.

المراجع

  • Bettenson, H. (ed) (1943) Codex Theodosianus. Documents of the Christian Church, Oxford University Press, Oxford.
  • Bowker, J. (2006) World Religions: The Great Faiths Explored and Explained, DK, London.
  • Ellwood R. and McGraw, B. (2013) Many Peoples, Many Faiths, Pearson, New York.
  • Jefferson, T. (1787) Letter to Peter Carr, August 19, www.let.rug.nl/usa/presidents/thomas-jefferson/letters-of-thomas-jefferson/jefl61.php (accessed January 10, 2014).
  • Smith, W.C. (1998) Believing—An Historical Perspective, Oneworld, Oxford.

قراءات إضافية

  • Smith, W.C. (1998) Faith and Belief: The Difference between Them, 2nd edition, Oneworld, Oxford.

(٥) العبادة ركن من أركان الدين

البشر في صميم طبيعتهم عبَّادون. ليست العبادة شيئًا نفعله؛ هي تعرِّف من نكون. لا يمكنك أن تُقسِّم البشر إلى عَبَدة وغير عبَدة. الجميع عبَدة؛ كل ما هنالك هو مسألة ماذا أو مَن نعبد. (بول ديفيد تريب (٢٠٠٢: ١٦))

شهدت خمسينيات القرن العشرين في الولايات المتحدة، تحت تأثير الحرب الباردة، ظهور مخاوف واسعة النطاق من الشيوعية المُلحِدة رسميًّا. وفي مساعي مكافحتها، أعد مجلس الدعاية الأمريكي، بدعم من الرئيس آيزنهاور، حملة شعبية لتعزيز الدين، مكتملة بدعاية قومية. صورت آلاف من اللافتات الإعلانية عائلات سعيدة ومعها الكلمات «نتعبد معًا هذا الأسبوع» (سبرينج، ٢٠١١: ٩٤).

تعكس حملة مجلس الدعاية الإدراك العام الذي يُشير إلى أن ممارسة الدين تعني «التعبُّد» في المقام الأول — كما في إظهار الإخلاص لقيمة عليا يتمتع بها شيءٌ ما والاعتراف بها. ويمكن أن نرى هذا في عناوين كثير من المقدمات للأديان العالمية مثل كتاب ماري بوب أوسبورن (١٩٩٦) «عالم واحد، ديانات كثيرة: طرق عبادتنا». ينعكس هذا أيضًا في المصطلح العام المحبَّذ المبتكَر للتعبير عن تجمعات المجتمعات الدينية المختلفة؛ حيث يُشار إلى الكنائس والهياكل والمعابد جميعًا بأنها «دور عبادة» أو «مراكز عبادة».

يمكن فهم ارتباط الدين بالعبادة في الديانات الغربية التوحيدية — تلك التي تؤمن بإله واحد. نشأت اليهودية والمسيحية والإسلام في مناطق كانت فيها ممالك قوية لها حكام مطلقون. حكم الفراعنة مصر تقريبًا منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد. وبالاتجاه شرقًا، حكم قادة مثل حمورابي ونبوخذ نصَّر بابل منذ مطلع الألفية الثانية. وحالما استقر الإسرائيليون في كنعان، أرادوا أن «يكونوا مثل سائر الأمم». أرادوا أن يحكمهم ملوك لا شيوخ الأسباط أو القضاة كما كانوا قَبْلًا (سفر صموئيل الأول ٨: ٢٠) (حذرهم صموئيل — آخر القضاة — من أن هذه فكرة سيئة، لكن هذه قصة أخرى). وفيما ظل الله حاكمهم المطلق، كان من الطبيعي النظر إلى الله على أنه الملك المطلق — أو حتى «ملك الملوك» كما كان يُطلق على الحكام القدامى العتاة. كما أشاروا إلى الله أيضًا بأنه «أدوناي»؛ أي السيد، على غرار السيد مالك الأرض العظيم. وتشير مقاطع من الكتاب المقدس إلى عرش الله وملكوته السماوي. ومثلما كان ملوك وفراعنة وأباطرة يحكمون مختلف بقاع الأرض، اعتُقِد بأن يهوه يحكم العالم بأسره. لهذا تبدأ صلوات يهودية كثيرة بالكلمات «مبارك أنت أيها السيد إلهنا، ملك الكون.» ولأن الملوك والأباطرة احتفظوا بسلطتهم من خلال الفتوحات العسكرية، وُصِف الله أيضًا بأنه «رب الجنود» (الجيوش)، حيث قاد بني إسرائيل في معركتهم ضد القبائل المجاورة (على سبيل المثال في سفر صموئيل الأول ١٧: ٤٥).

ورث يسوع بصفته يهوديًّا فكرة الله الملك، وإن وعظ عن مملكة «ليست من هذا العالم» (يوحنا ١٨: ٣٦)، لا عن مملكة أرضية عظيمة. لم يزل الهدف من تبشيره هو تأسيس ملكوت الله — حُكم الله. في الصلاة التي علمها لتلاميذه، يطلب يسوع: «لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ. لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ عَلَى الأَرْضِ» (متَّى ٦: ١٠). وبعدما أعلنت الكنيسة الأولى أن يسوع هو الله، كان من الطبيعي أن يتصوره المسيحيون في هيئة بطريرك أيضًا. تصوِّر بعض اللوحات والصور الفسيفسائية المسيحية الأولى يسوع على أنه «البانتوكراتور»، المقابل اليوناني لعبارة «المهيمن على الجميع». توطدت هذه الفكرة في العصور الوسطى، وهكذا يُطلق على الكثير من الكنائس الكاثوليكية اليوم كنيسة «يسوع الملك»، وتظل الإشارة إلى يسوع بأنه «السيد» شائعة.

عندما ظهر الإسلام في القرن السابع، كان لديه أيضًا هدف إقامة مملكة الله على الأرض. لفظة «إسلام» نفسها تعني «استسلام»؛ أي الاستسلام لحكم الله. تبدأ أول سورة في القرآن، «الفاتحة»، التي يتلوها المسلمون يوميًّا، بالآتي:

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ.

في نطاق هذا الفهم الغربي التوحيدي للعلاقة بين الله والبشر، من السهل أن نرى كيف يمكن أن يفكر الناس في العبادة على أنها جوهر الدين. عبادة الله هي التعبير عن أقصى درجات التبجيل والخضوع لله، وهذه هي النسخة القصوى لما يفعله رعايا أي حاكم عندما يُقِرُّون على الملأ بعظمته وقوته. وهي تظهر في أوضاع جسدية مثل انحناء المرء أمام الحاكم بالركوع أو السجود أو الانبطاح على الأرض.

تشتمل الممارسات المقترنة بالعبادة على الإعلان عن عظمة الحاكم (تمجيده)، والاعتراف بمذلة الإنسان وإخفاقاته (خطاياه). قد يشمل هذا التعهد بالتكفير عن الذنوب، كأن يصوم المرء مثلًا. تعكس العبادة التوحيدية أيضًا النموذج الدنيوي للخنوع لأصحاب السلطة عبر إدراج تعبيرات العرفان بالجميل على كل ما فعلوه، وطلب استحسانهم المستمر — وربما ذكر مطالب بعينها — والتعبير عن شيء من الرد بالمثل بتقديم أشياء قيِّمة (مهاداتهم).

مهما تكن قوة الرابطة بين الدين والعبادة في اليهودية والمسيحية والإسلام، فهي ليست سائدةً في كثيرٍ من الديانات الأخرى. وثلاثة أمثلة لذلك هي بوذية ثيرافادا في جنوب آسيا وجنوب شرقها، والكونفوشية والطاوية في الصين. ظهرت هذه الديانات الثلاث جميعها قبل المسيحية بقرون، ولا وجود فيها لله الخالق فيمجَّد أو يُشكَر أو يُتَوَسَّل إليه أو يُستغفَر.

الثيرافادا هي شكل البوذية الذي يُعتبر الأقرب إلى تعاليم البوذا، وهو الذي كان يُعنى بالطريقة التي يمكن بها تقليل المعاناة وعيش حياة متزنة. الهدف الأساس هو الامتناع عن اشتهاء الأشياء. وكثيرًا ما يُطلق على هذا الهدف «التحرر من التعلق». لا توجد آلهة فتُعبَد. وليس الهدف الأسمى هو تمجيد الله إلى الأبد في السماء، وإنما الوصول إلى «النيرفانا»؛ أي حالة البهجة التي تقترن بالقضاء على الرغبات.

عاش كونفوشيوس في حقبة صراع سياسي في الصين، كانت تُسمَّى حقبة الدول المتحاربة، وكان هدفه إعادة إرساء مجتمع مسالم عادل قوامه الاحترام المتبادل والاهتمام بالصالح العام. وكي يفعل ذلك، تطلع إلى زعماء القرون الأولى العظماء، وخصوصًا دوق تشو، للاقتداء بهم. ذكر كونفوشيوس أنه بوجود القائد بصفته قدوة أخلاقية، سيتحلى الناس بالفضيلة أيضًا. وكانت الفضائل التي أكدها هي المروءة، والعدالة، واللياقة، والمعرفة، والنزاهة، وقد رأى أن هذه الفضائل تنشأ من خمس علاقات أساسية. العلاقة الأولى هي علاقة الأب بابنه، وتقتدي بها العلاقات الأخرى: الحاكم بالرعية، والأخ الأكبر بالأخ الأصغر، والزوج بالزوجة، والصديق بصديقه. يُبدي الابن البار لوالديه «الهسايو»؛ أي الاحترام والعناية، وهذا هو النموذج الذي ينبغي أن تحتذي به العلاقات الاجتماعية الأخرى. وجميع أعضاء المجتمع مدعوُّون للسلوك بإنسانية، ومنهم الحاكم.

وعلى عكس البوذا، تحدَّث كونفوشيوس عن الآلهة، لكنهم لم يكونوا سادة كونيين، ولا محط اهتمامه الأساس؛ فقد قال إن عبادة الآلهة ينبغي أن تقوم على «الهسايو» مثل العلاقات الاجتماعية الأخرى.

الطاوية هي التقليد الأصلي الكبير الآخر في الصين. وعلى عكس الكونفوشية، هي مرتابة في القادة والحكومات والهياكل الاجتماعية عامة. ولا تصب تركيزها على الله أو آلهة وإنما على الطاو؛ أي «السبيل»، النظام الذي ينظم كل شيء وكل عملية. وكما رأينا أعلاه، الفضيلة الأساسية للطاوية هي «وو-وي»، وهي العيش ببساطة وبنجاح وفقًا لسبيل الكون. تؤكد الطاوية أيضًا فضيلتَي التواضع والرحمة. تتحدث الطاوية عن آلهة، لكنهم، مرة أخرى، ليسوا حكامًا سائدين يُطاعون مهما كان الثمن. هم جزء من الكون، وتحكمهم الطاو شأنهم شأن البشر.

ولذا، ليست معابد بوذية الثيرافادا والكونفوشية والطاوية «دور عبادة» على نحو صارم مثلما هي الكُنُس والكنائس والمساجد. قد تحتوي معابد بوذية ثيرافادا على رفات وصور للبوذا أو تلاميذه، وقد يقدم الأشخاص القرابين على أمل الحصول على البركات، لكن المعابد هي في المقام الأول أماكن لتلقي التعليم والتأمل. قد تُستخدَم المعابد الطاوية بوصفها أماكن لممارسة الوظائف الدينية مثل عقد الزيجات، والجنازات. لم يكن كونفوشيوس قطُّ — شأنه شأن البوذا — إلهًا، على الرغم من وجود معابد مخصصة له، وأناس قد يقدمون حتى القرابين. لكن المعابد تُوصف من حيث الأساس على أنها أماكن لتبجيل تعاليم كونفوشيوس، لا شخصه.

المراجع

  • Osborne, M.P. (1996) One World, Many Religions: The Ways We Worship, Random House, New York.
  • Spring, D. (2011) Advertising in the Age of Persuasion: Building Brand America, 1941–1961, Palgrave Macmillan, New York.
  • Tripp, P.D. (2002) Instruments in the Redeemer’s Hands: People in Need of Change Helping People in Need of Change, P & R Publishing, Phillipsburg NJ.

(٦) الدين شأن شخصي

أومن برئيس تكون آراؤه الدينية هي شأنه الشخصي، لا يفرضها على الشعب، ولا يفرضها الشعب عليه شريطة تبوُّئه ذلك المنصب. (جون إف كينيدي (١٩٦٠))

كثيرًا ما يميز الأوروبيون والأمريكيون الحدثاء بين الدين وسائر الحياة. يتعلق الدين بالمقدَّس كما قال عالم الاجتماع البارز إميل دوركايم (١٩٩٥)، ويمتاز ذلك من أمور كالسياسية، والأعمال، والرياضة. تلك الأمور هي أمور «دنيوية». يذهب أشخاص كثيرون إلى أبعد من ذلك ويزعمون أن الدين، على عكس ما هو دنيوي، هو مسألة شخصية — بين الفرد والله. منذ قرن، كتب فيلسوف جامعة هارفارد، ويليام جيمس (٢٠٠٨: ٣١) أن الدين هو «مشاعر الناس وأفعالهم وتجاربهم في عزلتهم، طالما أنهم يفهمون أنهم يقفون في علاقة مع أي شيء يعتبرونه إلهًا.»

تنعكس فكرة أن الدين شأن شخصي أو خاص في الفصل الحديث للدين عن السياسة. في الولايات المتحدة على سبيل المثال، ربطت الولايات الأولى، على غرار البلدان الأوروبية، حكوماتها بطوائف مسيحية معينة، ومِن ثَمَّ، كان هناك تمييز ضد أولئك الذين لم يكونوا أعضاءً في الطائفة المحددة. أراد «الأب المؤسس»، الرئيس الثالث للولايات المتحدة، توماس جيفرسون أن تكف حكومات الولايات والحكومة الفيدرالية الجديدة عن هذه الممارسة. كانت ولايته، فيرجينيا، منحت امتيازات كثيرة للأنجليكانيين، وميَّزت ضد غير الأنجليكانيين. ونص مرسوم فيرجينيا للحريات الدينية الذي صاغه جيفرسون أنه ما من أحد:

يُجبَر على المواظبة على أي عبادة، أو مكان، أو هيئة دينية من أي نوع، أو تأييدها، أو يجبر أو يُقيَّد أو يؤذى أو يُشَق عليه في بدنه أو ممتلكاته، أو يعاني بطريقة أخرى بسبب آرائه الدينية أو معتقده؛ ولكن يتمتع كل الناس بحرِّيَّة المجاهرة بآرائهم في الأمور الدينية وحمايتها بالنقاش والحُجة، ولا يقلل هذا بأي حال من صلاحياتهم المدنية ولا يزيد منها ولا يمس بها.

بعدها بسنوات قليلة، حينما كُتِب دستور الولايات المتحدة، وأدرجت هذه الأفكار في المُسوَّدة الأولى: «لن يسنَّ الكونجرس أي قوانين تتعلق بترسيخ دين أو منع حرية ممارسته.» كتب جيفرسون إلى مجموعة من المعمدانيين بولاية كونيتيكت الذين سبق أن عبَّروا عن مخاوفهم بشأن تأسيس ديانات رسمية، معبرًا عن اتفاقه معهم على أن الدين «شأن يقع فقط بين الله والإنسان، وأنه ليس مدينًا لأي شخص آخر بشرح إيمانه أو عبادته» (بادوفر، ١٩٤٣: ٥١٨-٥١٩).

على مدار القرنين التاليين اشتُهرت الولايات المتحدة بفصلها بين الكنيسة والدولة. وفي عام ١٩٦٠، كان هذا في صميم حملة جون إف كينيدي الرئاسية. كان كينيدي كاثوليكيًّا، وكانت هناك شُبهة مستمرة بأن الكاثوليك ملزمون في نهاية المطاف بتقديم فروض الطاعة للفاتيكان، وغير قادرين على فصل الدين عن السياسة. روَّج لهذا التحيز ضد الكاثوليك جماعات من قبيل كو كلوكس كلان. راجت الشائعات بأن كينيدي سوف يتلقَّى أوامره من البابا، وسوف يضخ أموال الاتحاد الفيدرالي في المدارس الكاثوليكية؛ ولذا، في ١٢ سبتمبر ١٩٦٠، ألقى خطابًا مهمًّا على جمعية هيوستن الدينية الكبرى، تضمَّن السطر الآتي: «أومن برئيس تكون آراؤه الدينية هي شأنه الشخصي، لا يفرضها على الشعب، ولا يفرضها الشعب عليه شريطة تبوُّئه ذلك المنصب.»

هذا الفهم للدين يجعل دين كل شخص شأنه الخاص؛ فعلى غرار تفضيلاته الشخصية في الموسيقى والشعر على سبيل المثال، يكون الدين شأنًا شخصيًّا. ربما يرغب المرء في إخبار الآخرين عنه، لكنه ليس ملزمًا بفعل ذلك.

يخلط الادعاء بأن الدين شأن شخصي بين أمرين؛ الأول حرية الدين — حق الشخص في اتباع أي دين أو ألا يتبع أي دين — والثاني هو طبيعة الدين. الحرية الشخصية في اختيار المرء دينَه محل تقدير بالغ، ولا سيما في العالم الحديث. لكن القول إن المرء ينبغي أن يكون حرًّا في اختيار أي دين أو الامتناع عن اتباع أي دين لا يعني أن الأديان التي يختارون منها هي «شأن شخصي» فعلًا. حقًّا، قليلة هي الأشياء التي تضاهي الدين في الوطأة الاجتماعية. حدد الباحث الشهير في علم الأديان نينيان سمارت (١٩٩٩) الذي عاش في القرن العشرين سبع سمات للدين: الهوية الاجتماعية، والأخلاق، والشعائر، والخرافات، والمذاهب، والتجارب العاطفية، والأشياء والأماكن التي تُبرز المقدسات. أول ست سمات من هذه اجتماعية بوضوح. تضع الهوية الاجتماعية التي يمنحها دينٌ ما الناس في جماعة. أما الأخلاقيات فهي القواعد المتعلقة بكيفية تعامل الناس. وأما الشعائر فقد تُقام على نحو منفرد، لكنها عادة ما تكون أعمالًا اجتماعية. وأما الخرافات (في مفهوم الباحث للقصص التي تفسر جوانب مهمة من الحياة) فهي تُسلَّم من جيل إلى جيل داخل الجماعات. وأما المذاهب فهي التعاليم الرسمية لجماعة ما كما يعلنها القادة الدينيون الذين يستمدون سلطتهم من تلك الجماعة. وحتى الأشياء والأماكن ذات الأهمية الدينية، عادة ما تستمد تلك الأهمية المُسبَغة عليها من الجماعات.

كما رأينا في الكتاب المقدس العبري، أو العهد القديم، على سبيل المثال، لم يكن هناك تمييز بين الدين وبقية الحياة الاجتماعية. لا توجد كلمة «دين» في الكتاب المقدس العبري. وكانت شريعة موسى هي الشريعة المدنية والدينية لشعب إسرائيل، وتعامل الله مع شعب إسرائيل بصفتهم جماعة، عبر ممثلين يُدعَوْن أنبياء.

والمسيحية أيضًا بدأت بوصفها حركة اجتماعية. كانت محاولة يسوع لتحقيق ملكوت الله على الأرض؛ أي أن يجعل كل إنسان يعيش كما أراد الله له أن يعيش. وحينما أصبحت المسيحية الديانةَ الرسمية للإمبراطورية الرومانية في القرن الرابع، صارت حتى أكثر اجتماعية في تكوينها. يقول مسيحيون كثيرون اليوم إن جوهر دينهم هو القبول الشخصي بأن يسوع المسيح مخلِّصهم. لكن حينما وصف يسوع يوم الدينونة في الإصحاح الخامس والعشرين من إنجيل متَّى، لم يكن المعيار هو مقدار العلاقة الشخصية التي كونوها معه بصفته مخلِّصهم، وإنما كان المعيار هو كيفية نجاحهم في سد حاجات الآخرين من طعام وملبس ومأوًى ورفقة.

إذا نظرنا فيما وراء الديانات التوحيدية الغربية، نجد أن الطبيعة الاجتماعية للدين لا تزال أكثر وضوحًا. الكونفوشية، على سبيل المثال، وهي التقليد العظيم الذي حكم الصين آلاف السنين، هي من حيث الأساس مجموعة من الإرشادات للتنظيم الاجتماعي والسياسي.

ربما نعترض، مثل توماس جيفرسون، على الطرق التي تَلاعَب بها أفراد بديانات مختلفة من أجل منفعتهم، وقد يحثنا هذا على الدفاع عن التعديل الأول لدستور الولايات المتحدة. لكن احتمالية استغلال الجماعات للدين من أجل مصالحها هي نفسها تبرهن عن أن الدين هو من حيث الأساس شأن اجتماعي وليس شخصيًّا.

ويُلقي البعد الاجتماعي للدين أيضًا بظلال من الشك على الفكرة التي أشاعها جون إف كينيدي بأن دين المرشح الرئاسي هو دين شخصي حقًّا؛ ففي الانتخابات الرئاسية التمهيدية في الولايات المتحدة عام ٢٠١٢، جعل ريك سانتورم رؤاه الأخلاقية الرومية الكاثوليكية المحافظة جزءًا من حملته الانتخابية. ذكر سانتورم أنه ينبغي تعديل الدستور بحيث يُحرِّم الإجهاض وزواج المثليين؛ وأضاف أن المحكمة العليا قد أخطأت في حكمها عام ١٩٦٥ بأن للأمريكيين حقًّا في الخصوصية يشمل استخدام موانع الحمل. وكما تمنى، جلبت له هذه التصريحات الكثير من الأصوات الانتخابية من المسيحيين المحافظين. لكن كان منطقيًّا أيضًا ألا يمنحه الأشخاص الذين لا يشاركونه معتقداته الدينية أصواتهم بناءً على تلك المعتقدات. لم تكن شأنًا شخصيًّا محضًا.

المراجع

  • Durkheim, É. (1995) The Elementary Forms of Religious Life, translated by Karen Fields, Free Press, New York.
  • James, W. (2008) The Varieties of Religious Experience, Arc Manor, Rockville MD.
  • Kennedy, J.F. (1960) Speech to the Greater Houston Ministerial Association, September 12.
  • Padover, S. (ed) (1943) The Complete Jefferson, Tudor, New York.
  • Smart, N. (1999) Worldviews: Crosscultural Explorations of Human Beliefs, Scribner, New York.

(٧) سيحل العلم محل الدين في النهاية

آن للعلماء وغيرهم من عامة المفكرين أن يلحظوا أن حصيلة الصراع بين الإيمان والمنطق هي صفر … ما من سبب وجيه على الإطلاق لتصديق [نوعية الأشياء التي يؤمن بها المتعصبون الدينيون]، وجدير بالعلماء التوقف عن التواضع الشديد وجعل نورهم يسطع بقوة أمام الجميع. (سام هاريس (٢٠٠٥))

طرأت تغيرات هائلة على المجتمع في القرنين المنصرمين، مع تطور الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا الحديثة بالإضافة إلى علم النفس والعلوم الاجتماعية. مكَّنت العلوم الحديثة بدورها من حدوث الثورة الصناعية التي شهدت إنشاء السكك الحديدية، والسيارات، والطائرات، والمركبات الفضائية، والمواد التخليقية، والأجهزة الإلكترونية، والكمبيوترات وغيرها من العجائب التكنولوجية التي تشكل حياتنا اليوم.

كيف أثرت العلوم والتكنولوجيا الحديثة في الديانات التقليدية؟ من الأفكار الرائجة التي تشكلت في النصف الأول من القرن التاسع عشر أنه كلما اكتسبت العلوم والتكنولوجيا أهمية في حيوات الناس، تتراجع أهمية الدين. على سبيل المثال، ذكر كلٌّ من عالم الاجتماع البارز أوجست كونت (توفي عام ١٨٥٧)، وكارل ماركس (توفي عام ١٨٨٣)، وسيجموند فرويد (توفي عام ١٩٣٩) أن الدين بدأ في مرحلة مبكرة للغاية من نشأة الجنس البشري، عندما كان الناس يعرفون القليل عن العالم المادي وعن أنفسهم. حينها لم يكن الناس يفكرون تفكيرًا منطقيًّا، وكانوا يؤمنون بشدة بالخرافات؛ ولذا استعانوا بالسحر والأضاحي لمحاولة ضمان صيد سمين، أو حصاد وفير، وإبعاد الأمراض. وذكر هؤلاء المفكرون أنه مع تزايد معرفة الناس بطريقة عمل الكون وأجسادهم وعقولهم بالفعل، انحسر الاحتياج إلى الدين؛ فعلى سبيل المثال، بينما كان الناس يظنون في وقت من الأوقات أن البرق والرعد هما من أفعال الآلهة في السماء، علَّمنا العلم أن البرق هو تفريغ الكهرباء الساكنة، وأن الرعد هو الأثر الصوتي لهذا التفريغ. وظنت أجيال لا حصر لها من البشر أن الطواعين هي عقاب إلهي، لكن العلم علَّمنا أن وراءها كائنات دقيقة مثل البكتيريا والفيروسات. وهكذا، أزالت المعرفة العلمية الغموض من العالم ومنحتنا سُبل فهم أسباب مشكلاتنا، ومِن ثَمَّ أدوات حلها.

فيما يتوالى تطور العلوم والتكنولوجيا، سيتمكن الناس، كما ظن كونت وماركس وفرويد وكثيرون غيرهم، في نهاية المطاف من تفسير ما يدور في العالم من حولهم والتحكم فيه دون التضرع إلى أي قوًى غيبية أو آلهة. لن يترك هذا شيئًا للدين ليفعله، وهكذا سوف يذبل ويندثر. جرى التعبير عن هذا الرأي في اقتباسٍ كثيرًا ما يُعزى إلى الفيلسوف برتراند راسل: «الدين هو فضلة مهد ذكائنا؛ سوف ينزوي كلَّما اهتدينا بالعقل والعلم.»

في السنوات القلائل الماضية، قدم أربعة ملحدين بارزين أفكارًا مشابهة — دانييل دينيت، وسام هاريس (المقتبَس عنه أعلاه)، وريتشارد دوكينز، وكريستوفر هيتشنز. يفترض الفيلسوف الأمريكي دانييل دينيت (٢٠٠٧) في كتابه «كسر السحر: الدين بوصفه ظاهرة طبيعية» أن الدين طمأن البشر الأوائل أن بمقدورهم التحكم في العالم من حولهم. على أن هذه الطمأنينة كانت مبنية على معتقدات زائفة عن الآلهة والأرواح، ومِن ثَمَّ كانت هذه الطمأنينة وهمية. الدين قوامه فكر قائم على التمني، وينبغي الاستعاضة عنه بالعلم.

وألَّف عالِم الأعصاب الأمريكي سام هاريس كتابين يؤيدان الاستعاضة عن الدين بالعلم: «نهاية الإيمان: الدين، والإرهاب، ومستقبل العقل» (٢٠٠٤)، و«رسالة إلى أمة مسيحية» (٢٠٠٨). يقول هاريس إن البشر الأوائل لم يسيئوا فهم العالم فحسب، ولكن معتقداتهم الزائفة قادتهم أيضًا إلى عادات همجية مثل تقديم الأطفال قرابين للآلهة؛ إذ يُظهر أمر الله لإبراهيم بالتضحية بابنه المذكور في الكتاب المقدس كيف كانت تلك الممارسة مألوفة للإسرائيليين القدماء. يقول هاريس إننا بحاجة إلى الاستعاضة عن الدين بالعمل، ليس فقط من أجل فهم أفضل للعالم، لكن أيضًا كي يعامل بعضُنا بعضًا معاملة أفضل.

ويُظهِر عنوان كتاب عالِم البيولوجيا التطورية البريطاني ريتشارد دوكينز «وهم الإله» (٢٠٠٦)، تشابُهه مع العلماء الثلاثة الآخرين في هذه المجموعة. يقول دوكينز في تفسير الكون وأصل الكائنات الحية إن نظريَّتَي الانفجار العظيم والتطور أكثر عقلانية وصدقية من التفسيرات الدينية. ويصر على أن إحلال الخرافات الدينية محل التفسيرات العقلانية للحياة يَحْرم الناس من الأدوات اللازمة لأن يَحْيوا حيوات ناجحة مستقلة. ويزيد على ذلك بافتراض أن تدريب الأطفال من خلال تهديدات بالعنف ووعود بالمكافأة لا تستندان إلى أساسٍ هو نوع من سوء معاملة الأطفال (٢٠٠٦).

ويقدم الكاتب الصحفي البريطاني-الأمريكي كريستوفر هيتشنز (٢٠٠٧) بعضًا من أقوى الهجمات على الدين. يفرد هيتشنز في كتابه «الله ليس عظيمًا: كيف يسمم الدين كل شيء» فصلًا كاملًا (الفصل السادس عشر) للدين باعتباره إساءة معاملة للأطفال. ويزعم أن الدين «عنيف، وغير عقلاني، وعديم التسامح، وموالٍ للعنصرية والتعصب والتزمت، ومفعَم بالجهل ومعادٍ لحرية التساؤل، ومزدرٍ المرأة ومتعسف بالأطفال.» (٢٠٠٧: ٥٦).

إن صحَّت مقولات كهذه، فمن المفترض أن نتوقع اختفاء الدين تدريجيًّا مع تزايد ما يفسره العلم عن عالمنا. تنبأ بعض العلماء منذ خمسين عامًا بأنه بحلول عام ٢٠٠٠، سوف تصبح أوروبا وأمريكا الشمالية علمانيتين بالكامل، لأن الناس ابتعدوا كثيرًا عن الدين. سوف تصبح معتقدات الناس عن العالم الطبيعي وعن أنفسهم معتقدات علمية، وسوف تُبنى القيم والأعراف المجتمعية على العلم. لم يتوقع ذلك الملحدون وحدهم، ولكن عدد كبير من المؤمنين المتدينين أيضًا؛ فعلى سبيل المثال، بشَّر هارفي كوكس، الأستاذ بكلية هارفارد ديفِنيتي، بمثل هذه التغيرات في كتابه الأكثر مبيعًا «المدينة العلمانية» (١٩٦٥).

تحققت التنبؤات بشأن انحسار الدين تحققًا واسع النطاق في أوروبا على مدار العقود الأربعة المنصرمة. كثيرًا ما تُوصف السويد على سبيل المثال بأنها البلد الأقل تدينًا في العالم. وحتى أواخر القرن التاسع عشر، كان يوجد بها كنيسة الدولة التي ينتمي إليها كل فرد تلقائيًّا. لكن بالتدريج على مدار القرن العشرين فصل السويديون حكومتهم عن الكنيسة. ولا تزال الأغلبية الساحقة أعضاءً في «كنيسة السويد» حيث يُعمَّدون ويعقدون مراسم الزواج والجنائز، لكن هذه هي أقصى حدود «الدين» عندهم. يقول ٩٥ في المائة منهم إنهم «قلَّما» يحضرون الصلوات الجماعية الكنسية، أو لا يحضرونها «أبدًا». وبحسب تقديرات الكنيسة نفسها، يحضر أقل من ٢ في المائة بانتظام. ولا يؤمن سوى ١٥ في المائة من الشعب بإله شخصي، ولا يؤمن سوى ١٩ في المائة بالحياة بعد الموت.

لكن العكس حدث في الولايات المتحدة. كما ظلت العلوم والتكنولوجيا تزدهران هناك، استمر ازدهار الدين أيضًا، ولا سيما بين البروتستانت الإنجيليين. على سبيل المثال، بلغت «الكنيسة الإنجيلية الحرة بأمريكا» في عام ٢٠٠٠ ستة أمثال حجمها عام ١٩٦٠؛ وبلغت «كنيسة الله في المسيح» ١٣ مثل حجمها. وفي عام ١٩٧٠، كان هناك ٥٠ كنيسة عملاقة — تلك الكنائس التي يحضر إليها ٢٠٠٠ شخص أو أكثر أسبوعيًّا — في الولايات المتحدة؛ ويبلغ عددها الآن ١٣٠٠ كنيسة. وتجتذب الكنيسة الكبرى على الإطلاق، كنيسة ليكوود في هيوستن بولاية تكساس، ٤٥ ألف شخص أسبوعيًّا. الولايات المتحدة هي أكثر بلدان العالم الصناعي تدينًا، إذ يعرِّف ٧٦ في المائة من سكانها أنفسهم بأنهم مسيحيون وفقًا للتعداد السكاني للولايات المتحدة. وهي البلد المتقدم الوحيد الذي يقول أغلبية سكانه إن للدين دورًا بالغ الأهمية في حيواتهم. وفي استطلاع رأي أجراه منتدى بيو حول الدين والحياة العامة، ذكر ٣٦ في المائة من الأمريكيين أنهم يحضرون الصلوات الجماعية مرة واحدة على الأقل في الأسبوع.

كيف أمكن للتنبؤات الأكاديمية بشأن اندثار الدين أن تخطئ على هذا النحو الشديد؟ يستند الزعم بأنه كلما كان المجتمع متقدمًا علميًّا وتكنولوجيًّا انخفض تدينه إلى مفهومين خاطئين جوهريين عن الدين. أولهما أنه عندما يفسر الناس الأمور بالاستعانة بالله؛ فإنهم يظنون بأن الله يسبب هذه الأشياء بطريقة مباشرة مثلما يتسبب ركل الكرة في أن تطير في الهواء. صحيح أنه قبل أن يتيح الميكروسكوب للعلماء رؤية الميكروبات المسبِّبة للأمراض، كان كثير من المتدينين يفكرون في الله على أنه مسبِّب المرض. لكن اكتشاف الميكروبات لم يجعل الناس يستبعدون الله من تفسيرهم للمرض. لم يحوِّل المؤمنين بالتأكيد إلى ملحدين. حافظ معظم الناس على اعتقادهم بأن الله هو مسبِّب كل شيء — ومن ذلك الميكروبات المسبِّبة للأمراض — وأضافوا حقيقة جديدة إلى نظرتهم إلى العالم: ألا وهي أن الميكروبات هي الأسباب «المباشرة» لأمراض كثيرة. ولا يزالون يرون أن الله هو خالق كل الأشياء الذي يحفظ بقاءهم على قيد الحياة من لحظة إلى أخرى. ولم يزل الله من وجهة نظرهم هو السبب «المطلق» لكل الأشياء وكل الأحداث، ومنها الميكروبات التي تُمرض الناس. وهكذا درس آلاف من المؤمنين العلم وظلوا مؤمنين. واليوم، عندما يصلي معظم الناس إلى الله كي يشفيهم من عدوى ما، على سبيل المثال، فهم يدركون جيدًا أن السبب المباشر لهذه العدوى هو كائنات دقيقة خبيثة، إلا أنهم يلتمسون العون من الله بصفته السبب المطلق لكل الأشياء والأحداث، ومنها البكتيريا والفيروسات.

الافتراض الخاطئ الثاني في خرافة أن الدين يتقلص باتساع العلم، هو أن الوظيفة الأساسية للدين هي تفسير الأمور. وبينما تفعل الأديان ذلك بالتأكيد، فهي تفعل ما هو أكثر من ذلك كثيرًا؛ فكما رأينا أعلاه، حدد الباحث في العلوم الدينية نينيان سمارت (١٩٩٩) سبع سمات للدين: الهوية الاجتماعية، والأخلاق، والشعائر، والخرافات، والمذاهب، والتجارب العاطفية، والأشياء والأماكن المقترنة بالمقدسات. من هذه السمات السبع، نجد أن الخرافات والمذاهب هما فقط اللتان تنطويان على تفسير الأمور، ويمكن أن يكون أي من السمات الخمس الأخرى أكثر قيمة عند الشخص من إيجاد التفاسير. بل قد يتجاهل الأشخاص التفاسير التي تقدِّمها مذاهبهم الدينية، ولكنهم يظلون أعضاءً في ذلك الدين، لأنهم يقدِّرون الإحساس الذي يقدِّمه بالهوية وبالمجتمع، والشعائر والتقاليد الأخرى، والنظام الأخلاقي، والناس الذين هم في الجماعة، والأماكن التي يلتقون فيها. وحتى رجال الدين يمكن أن يرفضوا المذاهب، ومنها المذهب الجوهري المتعلق بوجود الله. على سبيل المثال، درَّس واحد من أشهر الحاخامات اليهود، وهو مردخاي كابلان، في كلية اللاهوت اليهودية بنيويورك خمسين عامًا، وأسس فرع الدين الإلحادي الذي عُرِف باسم «اليهودية الداعية إلى إعادة البناء». ويُشتهر الحاخام ريتشارد إل روبنشتاين، أحد تلاميذ كابلان، بكتابه «ما بعد أوشفيتز: التاريخ واللاهوت واليهودية المعاصرة» (١٩٩٢) الذي ينكر وجود الله. وبالمثل، الأسقفان الأنجليكانيان: جون روبنسون، مؤلف الكتاب الأكثر مبيعًا «مُخلِص لله» (١٩٦٣)؛ وجون شيلبي سبونج، مؤلف كتاب «مسيحية جديدة من أجل عالم جديد» (٢٠٠٢)، هما ملحدان يرفضان الكثير من المعتقدات المسيحية التقليدية. لكنهم جميعهم ظلوا رجال دين بسبب الكثير من الأمور الثمينة في تقاليدهم.

هكذا، لم تكن التعاليم المتعلقة بمنشأ العالم وطبيعته هي الغرض الوحيد للدين. ولا يُقصد بالخرافات الدينية أنها علوم بالمعنى الحرفي كما رأينا في الفصل الأول. لطالما كانت الأديان معنا منذ زمن سحيق، وعلى الرغم من تكهنات المتشكِّكين، فالأرجح أنها ستظل معنا على الدوام.

المراجع

  • Cox, H. (1965) The Secular City, Collier, New York.
  • Dawkins, R. (2006) The God Delusion, Mariner Books, Boston.
  • Dennett, D. (2007) Breaking the Spell: Religion as a Natural Phenomenon, Penguin, New York.
  • Harris, S. (2004) The End of Faith: Religion, Terror, and the Future of Reason, Norton, New York.
  • Harris, S. (2005) The Politics of Ignorance, Huffington Post, August 2, www.samharris.org/site/full_text/the-huffington-post-aug-2-2005 (accessed January 6, 2013).
  • Harris, S. (2008) Letter to a Christian Nation, Vintage, New York.
  • Hitchens, C. (2007) God Is Not Great: How Religion Poisons Everything, Twelve, New York.
  • Pew Forum on Religion and Public Life (2012) Summary of key findings, US Religious Landscape Survey, http://religions.pewforum.org/pdf/report2religious-landscapestudy-key-findings.pdf (accessed Janury 10, 2014).
  • Robinson, J. (1963) Honest to God, Westminster John Knox, Philadelphia.
  • Rubenstein, R. (1992) After Auschwitz: History, Theology, and Contemporary Judaism, Johns Hopkins University Press, Baltimore and London.
  • Smart, N. (1999). Worldviews: Crosscultural Explorations of Human Beliefs, Scribner, New York.
  • Spong, J.S. (2002) A New Christianity for a New World: Why Traditional Faith Is Dying and How a New Faith Is Being Born, HarperOne, San Francisco.

(٨) يتسبب الدين في العنف

شيء فينا … يجذبنا لارتكاب الخطأ. أعتقد أنه من السهل تفسيره. نحن رئيسيات، صحيح أننا رئيسيات عليا، لكن رئيسيات. يفرقنا عن الشمبانزي نصف كرموسوم، وهو يكشف عن نفسه. يتضح خصوصًا في عدد الأديان التي نخترعها لتعزية أنفسنا، أو لتوفير أمور لنتنازع مع الرئيسيات الأخرى عليها. إن كان هناك شيء يثبت أن الله هو من صنع الإنسان، لا أن الإنسان من صنع الله، فبالتأكيد سيكون الأديان التي ابتكرتها هذه الكائنات الشبيهة بالشمبانزي، والأذى الذي تكون على استعداد لإلحاقه بالآخرين بناءً على ذلك الأساس. (كريستوفر هيتشنز (٢٠٠٧أ))

يبدو أن الأخبار الدولية تحوي في كل يوم خبرًا واحدًا على الأقل عن العنف الديني. سرعان ما تخطر ببالنا الهجمات التي ارتكبها إرهابيون مسلمون في الولايات المتحدة في ١١ سبتمبر ٢٠٠١، وفي المملكة المتحدة في ٧ يوليو ٢٠٠٥. وفي مطلع تسعينيات القرن العشرين في يوغسلافيا السابقة، خلَّف القتال بين الصرب الأرثوذكسيين، والكروات الكاثوليكيين، والبوسنيين المسلمين أكثر من ٢٠٠ ألف قتيل مسلم. ويمتلئ التاريخ الأوروبي أيضًا بالعنف المرتبط بالدين. قُدِّر قتلى حرب الأعوام الثلاثين (١٦١٨–١٦٤٨) بين الكاثوليك والبروتستانت بنسبة ١٥–٣٠ في المائة من شعب الولايات الألمانية، شاملة نصف الذكور تقريبًا. وفي أيرلندا، استمر النزاع ما بين الروم الكاثوليك وبين الأنجليكانيين طيلة القرنين التاسع عشر والعشرين، وحتى الآن لم يستتب السلام بينهم. وليست الديانات التوحيدية الغربية وحدها المقترنة بالعنف؛ فحتى البوذية التي كثيرًا ما تُعتَبر دين الرحمة، لها نصيبها من العنف. تتألف سريلانكا — تلك الدولة الجزيرية التي تقع جنوب الهند، ويُلزمها دستورها «برعاية البوذية وحمايتها» — من أغلبية بوذية وأقلية من الهندوس التاميليين. في ثمانينيات القرن العشرين، عندما ضغط التاميليون من أجل الحصول على الاستقلال من سريلانكا، شنت الحكومة حملة وحشية لقمعهم، أيَّدتها الأغلبية البوذية بحماسة. وأسفرت الحرب الأهلية التي ترتبت على ذلك عن قتلى يتراوح عددهم بين ٨٠ ألفًا و١٠٠ ألف. ولم تكن هذه حادثة فردية في تاريخ البوذية كما يوضح كلٌّ من مايكل جيريسون ومارك يورجنسماير في كتابهما «الحرب البوذية» (٢٠١٠). الاستنتاج الذي يستخلصه بعض الناس من كل هذا القتل هو أن الدين عنيف بالفطرة، وأن الانتماء إلى دين ما يجعل أفراده يمتلكون مشاعر سلبية تجاه من لا يعتنقونه، ويتصرفون بعدوانية نحوهم. وفي كتاب كريستوفر هيتشنز بعنوان «الله ليس عظيمًا: كيف يسمم الدين كل شيء» (٢٠٠٧ب)، يتناول الفصل المعنون «الدين يقتل» الكثير من الأمثلة المزعومة. يكتب هيتشنز أنه في عام ٢٠٠١ كان في جلسة مع مذيع متدين دعاه إلى المشاركة في تجربة فكرية. قال الرجل: افترض أنك كنت في مدينة غريبة والليل يُخيِّم، ورأيت مجموعة كبيرة من الرجال يدنون منك. هل ستشعر بأنك أكثر أم أقل أمانًا إذا علمت بأنهم عائدون من صلاة جماعية؟ أجاب هيتشنز بثقة: «سأشعر بأنني أقل أمانًا.»

مررت بالفعل بهذه التجربة في كلٍّ من بلفاست، وبيروت، وبومباي، وبلجراد، وبيت لحم، وبغداد، لو أنني سأذكر فقط البلدان التي تبدأ بحرف الباء. وفي كلٍّ منها أستطيع القول على نحوٍ مطلق، ويمكن أن أوضح أسبابي، لماذا كنت أشعر في الحال بالخطر إذا فكرت أن هذه المجموعة من الأشخاص المقتربين مني في الغسق كانوا عائدين من ممارسة شعيرة دينية. (٢٠٠٧ب: ١٨)

يتفق كثير من المتدينين، ومنهم دارسو الأديان الذي عُينوا خُدَّامًا، مع هيتشنز على أن الدين خصوصًا نزَّاع للعنف. هكذا استهل الباحث، الخادم بالطائفة المعمدانية الجنوبية، تشارلز كيمبول، كتابه «حينما يصير الدين شرًّا» (٢٠٠١: ١): «أمر مبتذل نوعًا ما، لكنه حقيقي مع الأسف، أن تقول إن حروبًا اندلعت، وبشرًا قُتلوا، وشرًّا ارتُكب هذه الأيام باسم الدين أكثر مما وقع باسم أي قوة مؤسسية أخرى في التاريخ البشري.» ووفقًا لكيمبول، يتسبب الدين بطبعه في العنف لأنه مطلق — فهو ينظر إلى العالم باللونين الأسود والأبيض، وبمصطلحات إقصائية متبادلة مثل «الخير» و«الشر» و«نحن» و«هم». يتفق معه في هذا الرأي ريتشارد إيه وينتز، خادم «كنيسة المسيح المتحدة»، مؤلف كتاب «لماذا يرتكب الناس الشرور باسم الدين» (١٩٩٣)، وكذلك مارتن مارتي، الخادم اللوثري، الأستاذ بجامعة شيكاجو. كتب مارتي (٢٠٠٠: ٢٨): «حالَما تَعتبر مجموعة معينة نفسها مختارة إلهيًّا وترسم حدودًا صارمة بينها وبين الآخرين، يتحدد العدو بوضوح، ويمكن أن يصبح العنف فعليًّا.»

وكتب عشرات من العلماء الآخرين أيضًا في مجالات الدراسات الدينية، وعلم الاجتماع، والعلوم السياسية، والتاريخ عن كيفية وجود صلة خاصة بين الدين والعنف على مَر التاريخ وفي مختلف الثقافات. يقول مارك يورجنسماير (2000: xi) ببساطة في كتابه «الإرهاب في عقل الله: الصعود العالمي للعنف الديني»: «يبدو أن الدين يرتبط بالعنف في كل مكان تقريبًا.»

هل يمكن أن تكون مزاعم هؤلاء العلماء العظماء، مع كل أمثلة العنف التي يقدمونها عبر العالم وعلى مَرِّ التاريخ، قاطعة؟

صحيح أن ملايين الناس قتلوا ملايين آخرين من الناس على مر التاريخ وفي مختلف الثقافات، ولكن قول هذا مختلف تمام الاختلاف عن قول إن شيئًا يسمى «الدين»، مقابل شيء يُسمى «السياسة» أو «الهوية الإثنية» أو «الصراع الطبقي»، أدى إلى ذلك العنف. كي نلقي باللائمة على «الدين»، يتعيَّن علينا تمييز الدين من هذه الأمور الأخرى، وإثبات أن الدين أكثر احتمالًا منها لتحفيز العنف. مشكلة هذه الادعاءات أنه لا يوجد لدى أي من هؤلاء العلماء الذين يقولون إن الدين عنيف على نحو خاص، تعريف ﻟ «الدين» يميزه بوضوح من الظواهر الاجتماعية الأخرى، وخصوصًا السياسة. من دون مثل هذا التحديد، لا يتضح ما الذي يلقي عليه هؤلاء العلماء مسئولية العنف.

معروف أنه يصعب تعريف الدين. لا يمكن أن يشمل التعريف الملائم الاعتقاد بالله أو بآلهة، كما رأينا، لأن ديانات كثيرة لا تشتمل على آلهة. كما لا يمكن تعريف الدين بناءً على «المتجاوِز» أو «الخارق للطبيعة» للسبب نفسه. يقر مارتي بمشكلة تعريف «الدين»، لكنه يقدم «خمس سمات من شأنها أن تساعد في الإشارة إلى المصطلح وتحديده»: «فهو يستحوذ على اهتمامنا النهائي»، و«ينشئ مجتمعًا» و«تستهويه الخرافات والرموز»، و«يتوطد عبر إقامة الشعائر والمراسم»، و«يقتضي من أتباعه التزام سلوك معين» (مارتي، ٢٠٠٠: ١٠–١٤).

لكن هذه السمات يمكن أن نجدها في أمور أخرى كثيرة، ولا سيما الأيديولوجيات السياسية، مثل الماركسية والقومية والوطنية. والمثير للنظر أن مارتي يقول إن السياسة كثيرًا ما تشترك في هذه السمات. يتضح هذا جليًّا في استبيان لأمثلة للحروب التي يُزعَم أنها اندلعت بسبب الدين. ربما تكون الحرب التي يُستشهد بها أكثر من غيرها كثيرًا هي حرب الأعوام الثلاثين (١٦١٨–١٦٤٨)، التي تمثل جزءًا كبيرًا من القرن الذي أعقب الإصلاح البروتستانتي ونصف العنف الذي شهده. شهدت هذه الفترة سلسلة من الصراعات التي كثيرًا ما يُطلق عليها «الحروب الدينية»، في أعقاب انشقاق اللوثريين والكالفنيين والهيجونوتيين وغيرهم من البروتستانت عن الكنيسة الكاثوليكية. خلقت الاختلافات في المعتقدات والممارسات العداوةَ بين الجماعات المختلفة، وتطورت خلافاتهم إلى صراع مسلح. مشكلة إطلاق وصف «الديني» على هذا العنف هي أنه لا يقل وجاهة عن تعريفه بأنه سياسي أو اقتصادي أو حتى اجتماعي، كما أثبت ويليام كافانو في كتابه «خرافة العنف الديني» (٢٠٠٩).

في فرنسا على سبيل المثال، لم يكن معظم ما كان البروتستانت الهيجونوت يحاربون من أجله هو المعتقدات أو المراسم أو الأخلاقية الكاثوليكية، وإنما كانوا يحاربون من أجل مسألتين سياسيتين؛ كانت إحداهما هي محاولات الملك (الكاثوليكي) انتزاع القوة من النبلاء. وفي هذا الصراع، غالبًا ما كان النبلاء البروتستانت يضمون قواتهم إلى قوات النبلاء الكاثوليك. في عام ١٥٧٣ على سبيل المثال، قاد دوق بوليون الكاثوليكي قوات الهيجونوت ضد الملك (كافانو، ٢٠٠٩: ١٤٤). وفي فرنسا، كما كانت الحال في أماكن أخرى، انطوى الكثير من الصراع في الفترة بأكملها على مقاومة النبلاء المحليين محاولات الملوك والأباطرة تركيز السلطة في دول مركزية. (كافانو، ٢٠٠٩: ١٦٣). بدأت تلك المقاومة قبل الإصلاح البروتستانتي بمعارضة النبلاء الكاثوليك للملوك الكاثوليك. كما عارض الفرنسيون البروتستانت أيضًا فساد الملوك والأساقفة. وبدءًا من عام ١٥١٦، كان يحق للملوك الفرنسيين (الكاثوليك) تعيين الأساقفة ورؤساء الأديرة. منح الملك فرانسيس الأول هذه المناصب لرفاقه، وفي أغلب الأحيان لنبلاء لم يتلقَّوا أي تدريب في الشئون الكنسية. تبوأ كاردينال دي تورنو على سبيل المثال مناصب الحاكم الإقليمي؛ والخبير المالي للملك؛ ورئيس أساقفة كلٍّ من أوش وبورج وأومبرون وليون؛ ورئيس أكثر من اثني عشر ديرًا في الوقت نفسه (كافانو، ٢٠٠٩: ١٦٧).

لو كانت هذه حقًّا حروبًا «دينية» لما كان القتال بين جنود من الدين نفسه، وما كانت جيوش أتباع الديانات المختلفة لتتحالف معًا. لكن كلا الأمرين كان شائعًا، فقد تحالف الكاثوليك الفرنسيون مع المسلمين الأتراك ضد إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة شارل الخامس. وكان معظم قوات شارل من المرتزقة الذين كان كثيرون منهم من البروتستانت، ومِن ثَمَّ، كثيرًا ما تَقاتَل على أرض المعركة بروتستانتيون ضد بروتستانتيين. وكان النصف الثاني من حرب الأعوام الثلاثين بالدرجة الأولى بين سلالتين كاثوليكيتين كبيرتين من أوروبا، الهيجونوت والبوربون. في ثلاثينيات القرن السابع عشر، أدخل الكاردينال ريشيليو فرنسا في حرب الأعوام الثلاثين إلى جانب السويد اللوثرية ضد إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة (الكاثوليكي) فرديناندو الثاني. وفي عام ١٦٣٥ أعلنت فرنسا الكاثوليكية الحرب على إسبانيا الكاثوليكية، واستمرت تلك الحرب حتى عام ١٦٥٩. وفي عام ١٦٤٣ هاجمت السويد اللوثرية الدنمارك اللوثرية؛ وآزر إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة (الكاثوليكي) فرديناند الثالث الدنمارك.

يقدم كافانو ستة وثلاثين مثالًا آخر لم يكن فيها أطراف النزاع متخاصمين بسبب الاختلاف الديني. لم يكن السبب الرئيس للعنف هو «الدين مقابل الأسباب السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية المحضة»، و«مستحيل فصل الدوافع الدينية عن الأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية» (كافانو، ٢٠٠٩: ١٧٧). هكذا كانت التسمية الخاطئة «الحروب الدينية». قد نطلق عليها على أكثر تقدير أنها «حروب متعلِّقة بالدين والسياسة والاقتصاد والمسائل الاجتماعية.»

إذا محَّصنا بالتفصيل أمثلة العنف الأخرى المذكورة في بداية هذا النقاش، نجد أسبابًا مشابهة للتشكك في نَسبها إلى الدين. ليس المقصود أن الاختلافات الدينية لا تلعب دورًا على الإطلاق في هذه الصراعات، لكن أن العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية متضمَّنة، ويستحيل أن نجد طريقة لفرز الاختلافات الدينية باعتبارها السبب الرئيس للعنف. الصراع في سريلانكا على سبيل المثال هو بين السريلانكيين السنهاليين المسيطرين وبين الأقلية التاميلية. تُعَد هذه اختلافات إثنية وليست دينية. والحق أنه بينما أغلب السنهاليين بوذيون ثيرافاديون؛ فإنهم يشتملون على أقلية مسيحية. والتاميليون هندوس في غالبيتهم لكن منهم أقليات مهمة مسلمة ومسيحية.

بالمثل في الصراع ما بين الروم الكاثوليك والأنجليكانيين بأيرلندا، تعد الاختلافات في الأيديولوجية والطقوس والقوانين الأخلاقية طفيفة للغاية، وليس لها أدنى علاقة بالأعمال العدائية. بل ويطلق بعض الأنجليكانيين في أيرلندا — وكذلك في بقاع أخرى — على أنفسهم وصف «أنجلو-كاثوليك». أما لُبُّ العراك بين الجماعتين فهو قضايا سياسية واقتصادية واجتماعية، وخصوصًا سيطرة الإنجليز على أيرلندا التي بدأت في القرن الثاني عشر. واليوم، يرى الروم الكاثوليك الأنجليكانية دليلًا على نفوذ إنجلترا المستمر على أيرلندا الشمالية، بينما كانت الكاثوليكية دائمًا هي دين الفقراء الأيرلنديين وأولئك الذين قاوموا الحكم الإنجليزي.

كان لب الصراع في البوسنة في تسعينيات القرن العشرين سياسيًّا أيضًا. نشأت البوسنة من تفكك يوغسلافيا إلى ثلاث جماعات إثنية متحاربة — الصرب الأرثوذكسيين، والكروات الروم الكاثوليكيين، والبوشناق المسلمين. بعد وفاة الزعيم الشيوعي القوي جوزيف تيتو في عام ١٩٨٠، سقطت يوغسلافيا في الفوضى السياسية. ومع أواخر عقد الثمانينيات ظهر زعيم جديد هو سلوبودان ميلوشيفيتش، وهو صربي أشعل جذوة التوترات الإثنية القديمة من أجل مكسب سياسي. في عام ١٩٩١ غزت قواته كرواتيا من أجل «حماية» الأقلية الصربية هناك التي مثلت ١٢ في المائة من السكان. حاصرت قواته مدينة فوكوفار، وبعدما أتوا على الأخضر واليابس، قتلوا مئات الرجال الكروات ودفنوهم في مقابر جماعية. وفي أبريل ١٩٩٢، اعترفت الولايات المتحدة والمجتمع الأوروبي باستقلال البوسنة التي كانت أغلبيتها من المسلمين لكن ثلثها من الصرب. سرعان ما هاجم ميلوشيفيتش عاصمة البوسنة، سراييفو. وأطلق القناصة الصربيون النيران على آلاف من المدنيين في الشوارع، ومنهم ٣٥٠٠ من الأطفال. ولما لاقى الصرب مقاومة هزيلة من المسلمين، بدءوا يأسرون الرجال والصبيان، ويعدمون المئات منهم، ويغتصبون النساء والفتيات. ودعَوا هذا العنف «تطهيرًا عرقيًّا». وفي نهاية الأمر، أوقفت الولايات المتحدة والناتو القتل الجماعي (الذي كان يُشار إليه عمومًا بالإبادة)، لكن بعد أن ذبح الصرب ٨٠٠٠ رجل وصبي آخرين في مدينة سرِبِرِنيتسا في أسوأ إبادة جماعية في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. ولم يكن عنف الصرب ضد البوسنيين المسلمين، وكذلك عنفهم ضد الكروات الكاثوليكيين، من باب معارضة معتقداتهم وممارساتهم الدينية. وإنما كان وسيلة لزيادة القوة السياسية والإقليم الصربيين.

في حالة الهجمتين الإرهابيتين في ١١ سبتمبر ٢٠٠١ في الولايات المتحدة، و٧ يوليو ٢٠٠٥ في المملكة المتحدة، على خلاف بقية الأمثلة، ذكر مرتكبوها أن لهم دوافع دينية بتسميتها «الجهاد»؛ فقد زعموا أن عليهم واجبًا أخلاقيًّا يُلزمهم بقتل الأمريكيين والبريطانيين بسبب تلك الإهانات التي ارتكبوها مثل تمركز القوات الأمريكية والبريطانية في مسقط رأس دينهم، الإسلام، المملكة العربية السعودية، إبان حرب الخليج الأولى. وبصورة أوسع، عبَّروا عن استيائهم من الإمبريالية والاستعمار الغربيَّين، ولا سيما محاولة السيطرة على أراضي المسلمين من خلال تقويض الشريعة الإسلامية هناك؛ ولذا، نستطيع أن نتحدث عن سبب ديني في هذه الهجمات. ومع ذلك، فلا فرق من وجهة نظر مرتكبي هذه الأفعال بين الدين والسياسة، ومِن ثم كانت هذه الهجمات عنفًا «سياسيًّا» بقدرِ ما هي عنف «ديني». مهم أيضًا أن نلحظ، بصرف النظر عن رأي الإرهابيين في هذه الهجمات فيما كانوا يفعلونه، أن أفعالهم لم تكن تستند إلى مرجعية دينية. أدان القادة الإسلاميون عبر العالم تلك الأعمال. وكما سنرى في الفصل الخامس، فكلٌّ من الانتحار والإرهاب من الكبائر في الإسلام. مِن ثَمَّ لم يكن القرآن أو الإسلام هو ما ساعد في تحفيز هذا الإرهاب، ولكن التفاسير الخاطئة للقرآن والإسلام. مرة أخرى، ما من شيء هنا يُثبت أن الدين نَزَّاع على وجه الخصوص إلى التسبب في العنف.

المراجع

  • Cavanaugh, W. (2009) The Myth of Religious Violence, Oxford University Press, Oxford.
  • Hitchens, C. (2007a) “Poison or Cure? Religious Belief in the Modern World”, Debate with theologian Alister McGrath, Georgetown University, October 11, www.youtube.com/watch?v=xq-KiDdYvsY&t=54m47s (accessed January 7, 2014).
  • Hitchens, C. (2007b) God Is Not Great: How Religion Poisons Everything, Twelve, New York.
  • Jerryson, M. and Juergensmeyer, M. (2010) Buddhist Warfare, Oxford University Press, Oxford.
  • Juergensmeyer, M. (2000) Terror in the Mind of God: The Global Rise of Religious Violence, University of California Press, Berkeley.
  • Kimball, C. (2002) When Religion Becomes Evil, HarperSanFrancisco, San Francisco.
  • Marty, M., with Moore, J. (2000) Politics, Religion, and the Common Good, Jossey-Bass, San Francisco.
  • Wentz, R. (1993) Why People Do Bad Things in the Name of Religion, Mercer University Press, Macon GA.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤