الفصل الثالث

خرافات حول اليهودية واليهود والكتاب المقدس اليهودي

  • (١)

    آمن الإسرائيليون القدماء بالله الواحد.

  • (٢)

    كتب موسى الأسفار الخمسة الأولى من الكتاب المقدس.

  • (٣)

    يتعارض سفر التكوين ونظرية التطور.

  • (٤)

    يعتقد اليهود أنهم اختيروا من الله لنَيْل امتيازات خاصة.

  • (٥)

    قتل اليهود يسوع.

  • (٦)

    فرية الدم: يستخدم اليهود دم المسيحيين في شعائرهم.

  • (٧)

    نصح بنجامين فرانكلين حكومة الولايات المتحدة بطرد اليهود.

  • (٨)

    «بروتوكولات حكماء صهيون»: مؤامرة زعماء اليهود للهيمنة العالمية.

  • (٩)

    يمثل عيد الأنوار لليهود ما يمثله عيد الميلاد للمسيحيين.

مقدمة

المفاهيم الخاطئة الشائعة عن اليهود واليهودية التي نتعرض لها في هذا الفصل على أنواع ثلاثة. بعضها يعكس مفاهيم خاطئة تغيرت من خلال البحوث العلمية، مثل الاعتقاد بأن موسى كتب الأسفار الخمسة الأولى من الكتاب المقدس. وبعضها يعكس تفاسير اعتُبِرت صحيحة لكن لا يتقاسمها الآخرون، مثل الزعم بأن المؤمنين ينبغي أن يختاروا بين قصة الخلق المذكورة في سفر التكوين ونظرية التطور. وهذا مثال للفروق بين قراءة القصص النصوصية على أنها حقيقة علمية وتاريخية حرفية، وقراءتها على أنها استعارات لحقيقة خارقة للطبيعة. ومعظم المفاهيم الخاطئة من نوعية كره الأجانب المذكورة في الفصل الأول التي أنتجها أشخاص يرتابون بمن هم خارج جماعتهم ويخشونهم ويزدرون بهم.

(١) آمن الإسرائيليون القدماء بالله الواحد

أراد الإسرائيليون القدماء أرضهم التي تمكنوا فيها من عبادة إلههم. آمن معظم الناس في منطقة البحر المتوسط بآلهة كثيرة. كانت هناك آلهة الموت، والشمس، والمطر. أما الإسرائيليون القدماء فآمنوا بإله واحد؛ يهوه. (ممالك البحر المتوسط (على الإنترنت))

ينسب اليهود والمسيحيون والمسلمون والبهائيون أديانهم إلى الأب القديم إبراهيم (الذي عاش نحو عام ١٨٠٠ قبل الميلاد)، الذي أقام الله معه عهدًا. تأكَّد هذا العهد من جديد، وتعمَّق عندما سلَّم الله الشريعة إلى موسى على جبل سيناء نحو عام ١٤٥٠ قبل الميلاد، وصار إلزامًا للموحدين بالله — أولئك الذين يؤمنون بالله الواحد فقط — منذئذٍ. وكما تقول القصة، ظل شعب إسرائيل، وهو محاط بقبائل وإمبراطوريات تعبد آلهة كثيرة، مخلصًا لإله واحد؛ يهوه.

في القرنين الماضيين، عثر دارسو الكتاب المقدس على أدلة مقنعة على أن هذا الوصف للإسرائيليين القدماء ابتُدع في وقت ما بعد عام ٦٢١ قبل الميلاد، عندما حرَّم الملك يوشيا في أورشليم عبادة أي إله غير يهوه.

وينبثق الدليل على أن الإسرائيليين لم يكونوا موحِّدين على نحو صارم قبل عام ٦٢١ قبل الميلاد من مصدرين أساسيين — الكتاب المقدس العبري وعلم الآثار. يصف سفر الملوك الثاني (٢٣: ٤–٧) حملة الملك يوشيا للتخلص من عبادة الآلهة الأخرى والتكريس ليهوه وحده:

وَأَمَرَ الْمَلِكُ حِلْقِيَّا الْكَاهِنَ الْعَظِيمَ وَكَهَنَةَ الْفِرْقَةِ الثَّانِيَةِ وَحُرَّاسَ الْبَابِ أَنْ يُخْرِجُوا مِنْ هَيْكَلِ الرَّبِّ جَمِيعَ الآنِيَةِ الْمَصْنُوعَةِ لِلْبَعْلِ وَلِلسَّارِيَةِ وَلِكُلِّ أَجْنَادِ السَّمَاءِ، وَأَحْرَقَهَا خَارِجَ أُورُشَلِيمَ فِي حُقُولِ قَدْرُونَ، وَحَمَلَ رَمَادَهَا إِلَى بَيْتِ إِيلَ. وَلَاشَى كَهَنَةَ الأَصْنَامِ الَّذِينَ جَعَلَهُمْ مُلُوكُ يَهُوذَا لِيُوقِدُوا عَلَى الْمُرْتَفَعَاتِ فِي مُدُنِ يَهُوذَا وَمَا يُحِيطُ بِأُورُشَلِيمَ، وَالَّذِينَ يُوقِدُونَ لِلْبَعْلِ: لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْمَنَازِلِ، وَلِكُلِّ أَجْنَادِ السَّمَاءِ. وَأَخْرَجَ السَّارِيَةَ مِنْ بَيْتِ الرَّبِّ خَارِجَ أُورُشَلِيمَ إِلَى وَادِي قَدْرُونَ وَأَحْرَقَهَا فِي وَادِي قَدْرُونَ، وَدَقَّهَا إِلَى أَنْ صَارَتْ غُبَارًا، وَذَرَّى الْغُبَارَ عَلَى قُبُورِ عَامَّةِ الشَّعْبِ. وَهَدَمَ بُيُوتَ الْمَأْبُونِينَ الَّتِي عِنْدَ بَيْتِ الرَّبِّ حَيْثُ كَانَتِ النِّسَاءُ يَنْسِجْنَ بُيُوتًا لِلسَّارِيَةِ.

«هيكل الرب» هو الهيكل العظيم في أورشليم الذي بناه سليمان الملك. من كان البعل والسارية و«كل أجناد السماء»؟ البعل هو إله للخصوبة، غالبًا ما كان يُمثَّل على هيئة شاب مجنَّح. أما السارية فكانت إلهة للخصوبة، وغالبًا ما كانت تُمثل في صورة كائن نصفه العلوي امرأة ونصفه السفلي شجرة. وتعني لفظة «أجناد» «مجموعة كبيرة». كانت أجناد السماء مجموعة كبيرة من الكائنات السماوية التي كان يُعتقد أنها تسكن السماء.

وتتوالى القصة المذكورة أعلاه من سفر الملوك الثاني (٢٣: ١٣–٢٠) بتدمير يوشيا للمذابح الدينية خارج أورشليم:

وَالْمُرْتَفَعَاتُ الَّتِي قُبَالَةَ أُورُشَلِيمَ الَّتِي عَنْ يَمِينِ جَبَلِ الْهَلَاكِ الَّتِي بَنَاهَا سُلَيْمَانُ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ لِعَشْتُورَثَ رَجَاسَةِ الصَّيْدُونِيِّينَ، وَلِكَمُوشَ رَجَاسَةِ الْمُوآبِيِّينَ، وَلِمَلْكُومَ كَرَاهَةِ بَنِي عَمُّونَ، نَجَّسَهَا الْمَلِكُ. … [وفِي بَيْتِ إِيلَ فِي مُدُنِ السَّامِرِيَّةِ] ذَبَحَ جَمِيعَ كَهَنَةِ الْمُرْتَفَعَاتِ الَّتِي هُنَاكَ عَلَى الْمَذَابِحِ.

في هذه الحملة، لم يدمر الملك يوشيا فقط المذابح التي بناها الملك سليمان للآلهة عشتورث وكموش وملكوم، ولكنه ذبح الكهنة الذين قادوا العبادة على بعض المذابح. واضح أنه قُبيل هذه الحملة عبَد بعض الإسرائيليين على الأقل آلهة أخرى غير يهوه.

تظهر «أجناد السماء»؛ أي مجموعة الآلهة التي تسكن السماء، في مكان آخر من الكتاب المقدس. يصف المزمور ٨٢ يهوه وهو قائم في مَجمع للآلهة، منتقدًا إياهم على حماية الأشرار وإهمال المحتاجين. في الاقتباس الآتي (المأخوذ في اللغة الإنجليزية عن النسخة القياسية المنقحة الجديدة من الكتاب المقدس) يوجد بين علامات الاقتباس ما يقوله يهوه للآلهة الأخرى المجتمعة في الاجتماع السماوي:
«اللهُ قَائِمٌ فِي مَجْمَعِ اللهِ. فِي وَسَطِ الآلِهَةِ يَقْضِي. حَتَّى مَتَى تَقْضُونَ جَوْرًا وَتَرْفَعُونَ وُجُوهَ الأَشْرَارِ؟ سِلَاهْ. اقْضُوا لِلذَّلِيلِ وَلِلْيَتِيمِ. أَنْصِفُوا الْمِسْكِينَ وَالْبَائِسَ. نَجُّوا الْمِسْكِينَ وَالْفَقِيرَ. مِنْ يَدِ الأَشْرَارِ أَنْقِذُوا.»
لَا يَعْلَمُونَ وَلَا يَفْهَمُونَ. فِي الظُّلْمَةِ يَتَمَشَّونَ. تَتَزَعْزَعُ كُلُّ أُسُسِ الأَرْضِ.
أَنَا قُلْتُ «إِنَّكُمْ آلِهَةٌ وَبَنُو الْعَلِيِّ كُلُّكُمْ. لَكِنْ مِثْلَ النَّاسِ تَمُوتُونَ وَكَأَحَدِ الرُّؤَسَاءِ تَسْقُطُونَ.»
كان الإلهان اللذان كثيرًا ما يتنافسان مع يهوه هما البعل والسارية. يُقدم سفر الملوك الأول في الإصحاح ١٨ أدلة على أهمية البعل والسارية في القرن التاسع قبل الميلاد. هناك يواجه نبي الله إِيلِيَّا ملك إسرائيل أخاب متهمًا إياه «بِتَرْكِكُمْ وَصَايَا الرَّبِّ وَبِسَيْرِكَ وَرَاءَ الْبَعْلِيمِ» (سفر الملوك الأول ١٨: ١٨). يطلب إِيلِيَّا من الملك أن ينظم مناظرة بينه وبين أنبياء البعل والسارية:

«فَالآنَ أَرْسِلْ وَاجْمَعْ إِلَيَّ كُلَّ إِسْرَائِيلَ إِلَى جَبَلِ الْكَرْمَلِ وَأَنْبِيَاءَ الْبَعْلِ أَرْبَعَ الْمِائَةِ وَالْخَمْسِينَ، وَأَنْبِيَاءَ السَّوَارِي أَرْبَعَ الْمِائَةِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ عَلَى مَائِدَةِ إِيزَابَلَ.» فَأَرْسَلَ أَخْآبُ إِلَى جَمِيعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَجَمَعَ الأَنْبِيَاءَ إِلَى جَبَلِ الْكَرْمَلِ … ثُمَّ قَالَ إِيلِيَّا لِلشَّعْبِ: «أَنَا بَقِيتُ نَبِيًّا لِلرَّبِّ وَحْدِي، وَأَنْبِيَاءُ الْبَعْلِ أَرْبَعُ مِائَةٍ وَخَمْسُونَ رَجُلًا. فَلْيُعْطُونَا ثَوْرَيْنِ، فَيَخْتَارُوا لأَنْفُسِهِمْ ثَوْرًا وَاحِدًا وَيُقَطِّعُوهُ وَيَضَعُوهُ عَلَى الْحَطَبِ، وَلَكِنْ لَا يَضَعُوا نَارًا. وَأَنَا أُقَرِّبُ الثَّوْرَ الآخَرَ وَأَجْعَلُهُ عَلَى الْحَطَبِ، وَلَكِنْ لَا أَضَعُ نَارًا. ثُمَّ تَدْعُونَ بِاسْمِ آلِهَتِكُمْ وَأَنَا أَدْعُو بِاسْمِ الرَّبِّ. وَالإِلَهُ الَّذِي يُجِيبُ بِنَارٍ فَهُوَ اللهُ.» فَأَجَابَ جَمِيعُ الشَّعْبِ: «الْكَلَامُ حَسَنٌ!» (١٩–٢٤)

عندما دعا أنبياء البعل باسمه كي يأتي بنار على ذبيحتهم، لم يحدث شيء. وعليه «عِنْدَ الظُّهْرِ سَخِرَ بِهِمْ إِيلِيَّا وَقَالَ: «ادْعُوا بِصَوْتٍ عَالٍ لأَنَّهُ إِلَهٌ! لَعَلَّهُ مُسْتَغْرِقٌ أَوْ فِي خَلْوَةٍ أَوْ فِي سَفَرٍ، أَوْ لَعَلَّهُ نَائِمٌ فَيَتَنَبَّهَ!»» (٢٧) لكن عندما صلى إِيلِيَّا إلى يهوه:

سَقَطَتْ نَارُ الرَّبِّ وَأَكَلَتِ الْمُحْرَقَةَ وَالْحَطَبَ وَالْحِجَارَةَ وَالتُّرَابَ، وَلَحَسَتِ الْمِيَاهَ الَّتِي فِي الْقَنَاةِ. فَلَمَّا رَأَى جَمِيعُ الشَّعْبِ ذَلِكَ سَقَطُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ وَقَالُوا: «الرَّبُّ هُوَ اللهُ! الرَّبُّ هُوَ اللهُ!». فَقَالَ لَهُمْ إِيلِيَّا: «أَمْسِكُوا أَنْبِيَاءَ الْبَعْلِ وَلَا يُفْلِتْ مِنْهُمْ رَجُلٌ.» فَأَمْسَكُوهُمْ، فَنَزَلَ بِهِمْ إِيلِيَّا إِلَى نَهْرِ قِيشُونَ وَذَبَحَهُمْ هُنَاكَ. (٣٨–٤٠)

وفقًا لما جاء في الكتاب المقدس، كان هناك على الأقل ٩٥٠ نبيًّا من أنبياء البعل والسارية في إسرائيل في القرن التاسع قبل الميلاد. لو كان لكلِّ نبيٍّ ١٢ تابعًا فقط، لتجاوز عدد الذين عبدوا البعل أو السارية عشرة آلاف شخص.

تؤكد الأدلة الأثرية انتشار عبادة آلهة بين الإسرائيليين القدماء. عُثِر على مئات تماثيل السوراي المنحوتة الصغيرة التي تعود إلى القرون التي تسبق الملك يوشيا. كشفت عمليات التنقيب في صحراء سيناء التي أجراها باحثون من جامعة تل أبيب عامي ١٩٧٥-١٩٧٦ عن بقايا حانة تعود إلى النصف الأول من القرن الثامن قبل الميلاد. وكانت فيها رسومات خطية وكتابات على الجدران، وعلى جرَّتين كبيرتين. ترجم بعض العلماء أكثر النقوش المحيرة كالتالي «يهوه وساريته». كان هناك جدل كبير حول هذه الترجمة لعقود، لكن إن كانت ترجمة دقيقة، فربما كان كاتب هذه الكتابة يظن أن السارية هي قرينة يهوه أو رفيقته.

الاستنتاج الواضح هو أن التوحيد لم يبدأ في إسرائيل القديمة في زمن إبراهيم وموسى. وإنما ظهر بعدهما بقرون، وفُرض سياسيًّا على الناس الذين كانوا يؤمنون بآلهة كثيرة. وكما يلخص الباحث في العهد القديم، بيرنهارد لانج (١٩٨١) الرأي العلمي الحالي:

في القرون الأربعة ونصف القرن التي تخللتها مملكة أو مملكتان إسرائيليتان (١٠٢٠–٥٨٦ قبل الميلاد)، كان هناك دين سائد متعدد الآلهة، لا يمكن تمييزه من أديان الشعوب المجاورة. بقدر ما كانت توجد اختلافات بين نسخ أديان العمونيين والموآبيين والأدوميين والصوريين، إلى آخره؛ فإن هذه المعتقدات ظلت في إطار التعددية الدينية التي وسمت الشرق الأدنى، وكلٌّ منها ينبغي تفسيره على أنه نسخة محلية مختلفة للنمط الأساسي نفسه. بجَّل الإسرائيليون … إلههم الحامي الخاص بهم الذي يرعى صحتهم وعائلاتهم. على أنهم عبدوا يهوه بالمثل، الإله الإقليمي والقومي الذي كان مجاله الخاص يتعامل وقضايا الحرب والسلام. وفي آخر المطاف، عبدوا آلهة يؤدون وظائف محددة؛ أولئك المسئولون عن احتياجات خاصة متنوعة: مثل الطقس، والمطر، وخصوبة النساء، وما إلى ذلك.

من يعرفون قصة عودة موسى من على جبل سيناء ليجد شعبه يعبدون العجل الذهبي (سفر الخروج ٣: ٢٤) لن تدهشهم معرفة أن الإسرائيليين القدماء لم يكونوا ملتزمين بصرامة دائمًا بعبادة الله وحده. وبالفعل، وفقًا للمنظور اللاهوتي، كان من التحديات التي واجهها الأنبياء تذكير مجتمعاتهم بضرورة الاعتراف بالله الواحد وطاعته. يقدم الفحص الدقيق لقصص البعل والسارية مثالًا جيدًا للكيفية التي يمكن أن يكمل بها البحث الأكاديمي في الكتاب المقدس والأدلة الأثرية المواقف اللاهوتية، الأمر الذي يتمخض عن صورة غنية لمدى صعوبة التحول إلى الوحدانية.

المراجع

قراءات إضافية

  • Coogan, M. (1987) Canaanite origins and lineage: reflections on the lineage of ancient Israel, in Ancient Israelite Religion: Essays in Honor of Frank Moore Cross (eds P.D. Miller, P.D. Hanson and S.D. McBride), Fortress, Philadelphia, pp 115–126.
  • Hadley, J. (2000) The Cult of Asherah in Ancient Israel and Judah, Cambridge University Press, Cambridge.
  • Keel, O. and Uehlinger, C. (1998) Gods, Goddesses, and Images of God in Ancient Israel, Fortress, Minneapolis.
  • Mayes, A. (1989) Sociology and the Old Testament, in The World of Ancient Israel: Sociological, Anthropological and Political Perspectives (ed R.E. Clements), Cambridge University Press, Cambridge, pp. 39–63.

(٢) كتب موسى الأسفار الخمسة الأولى من الكتاب المقدس

لا توضح الأدلة الكامنة في الكتب المقدسة أن موسى هو من كتب الأسفار الخمسة [أول خمسة أسفار من الكتاب المقدس]، وحسب، ولكنَّ أسفارًا أخرى من العهد القديم تُظهر التأليف الموسوي. (josh.org (موقع))

بدأت كتابة الكتابات التي جُمِّعت في نهاية المطاف على اعتبار أنها الكتاب المقدس العبري (العهد القديم عند المسيحيين) منذ ٢٥٠٠ سنة تقريبًا. يُطلَق على الأسفار الخمسة الأولى منها — التكوين والخروج واللاويين والعدد والتثنية — التوراة (بالمعنى الضيق) في اليهودية، أو «التعليم»؛ إذ تحتوي على لب التقليد اليهودي. كما يُطلق عليها «البنتاتوش» المشتقة من الكلمتين اليونانيتين «خمسة» و«مجلدات». كما في اليهودية نفسها، أهم شخصية في هذه الأسفار هي موسى. يخبرنا سفر الخروج كيف أنه أخرج شعب إسرائيل من العبودية في مصر وقادهم إلى أرض الميعاد في كنعان. وعلى جبل سيناء التقى موسى بالله شخصيًّا، وتسلَّم الألواح التي تحتوي على لب الشريعة التي حكمت حياة اليهود منذ ذلك الحين. الخروج من مصر وتسلُّم ألواح الشريعة على جبل سيناء هما أهم حدثين في اليهودية. أما سفر اللاويين فهو مجموعة من الشرائع التي تخص الأضحيات والطقوس الأخرى، والأطعمة النجسة والطاهرة، والحياة اليومية. تبدأ كل شريعة تقريبًا بالكلمات: «وَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى …» وعلى غرار سفر الخروج، نزلت الشرائع من الله عبر موسى إلى شعب إسرائيل. وفي سفر العدد أيضًا، موسى هو الشخصية المحورية. على مدار ٤٠ عامًا يقود موسى شعب إسرائيل — كما كان يُطلق على اليهود، ولا يشير هذا إلى بلد ما وإنما إلى جد اليهود، القائد القَبلي يعقوب الذي تغيَّر اسمه إلى إسرائيل — في الصحراء نحو أرض الميعاد. وأما سفر التثنية فيتألف من خطابات عدة ألقاها موسى على الإسرائيليين (مصطلح آخر لشعب إسرائيل) قبل عبورهم نهر الأردن لدخول أرض الميعاد.

نظرًا إلى أهمية موسى في هذه الأسفار، أحيانًا ما يُطلق على الشرائع الموجودة فيها الشريعة الموسوية، وتُسمَّى الأسفار نفسها أسفار موسى. يمكن أن تعني «أسفار موسى» ببساطة أنها أسفار «عن» موسى، لكن تكوَّن معنًى أقوى على مدار القرون. صار من المعتاد أن تقول إنه — بوحي إلهي — «كتب» موسى خمسة أسفار. ووفقًا للتلمود البابلي («التعليم» المعتمَد لليهودية) الذي يعود إلى عام ٦٠٠ تقريبًا، أملى الله هذه الأسفار على موسى. ليس ذلك شيئًا يدَّعيه الكتاب المقدس نفسه، لكنه أصبح معتقدًا مألوفًا في كلٍّ من اليهودية والمسيحية. وحتى اليوم، لا يزال ملايين الناس يسلِّمون به. في مثال معبِّر، يكتب بي إن بنوير في كتابه «دراسة للعهد القديم» (١٩٩٣: ٢٧) إن «موسى كان المؤلف البشري لسفر التكوين وغيره من الأسفار الخمسة … «أسفار الشريعة» الخمسة هذه كتبها موسى وحده، باستثناء الإصحاح ٣٤ بسفر التثنية الذي يسجل موت موسى.»

يعكس استثناء بنوير الإصحاح الرابع والثلاثين من سفر التثنية نقدًا للاعتقاد التقليدي بأن موسى كتب خمسة أسفار التوراة، وهو نقد بدأه عالِم القرن السابع عشر باروخ سبينوزا. ذكر سبينوزا أن الإصحاح الرابع والثلاثين من سفر التثنية يصف جنازة موسى:

فَمَاتَ هُنَاكَ مُوسَى عَبْدُ الرَّبِّ فِي أَرْضِ مُوآبَ حَسَبَ قَوْلِ الرَّبِّ. وَدَفَنَهُ فِي الجِوَاءِ فِي أَرْضِ مُوآبَ مُقَابِل بَيْتِ فَغُورَ. وَلمْ يَعْرِفْ إِنْسَانٌ قَبْرَهُ إِلى هَذَا اليَوْمِ. وَكَانَ مُوسَى ابْنَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً حِينَ مَاتَ وَلمْ تَكِلَّ عَيْنُهُ وَلا ذَهَبَتْ نَضَارَتُهُ. فَبَكَى بَنُو إِسْرَائِيل مُوسَى فِي عَرَبَاتِ مُوآبَ ثَلاثِينَ يَوْمًا … وَلمْ يَقُمْ بَعْدُ نَبِيٌّ فِي إِسْرَائِيل مِثْلُ مُوسَى الَّذِي عَرَفَهُ الرَّبُّ وجْهًا لِوَجْهٍ. (سفر التثنية ٣٤: ٥–٨، ١٠)

كيف يمكن أن يكون موسى قد كتب عن جنازته؟ استنتج سبينوزا أنه لم يفعل.

هناك كثير من الحجج الأخرى التي تتعارض وادعاء أن موسى كتب جميع أسفار التكوين، والخروج، واللاويين، والعدد، والتثنية. يقدم سبينوزا (١٦٧٠) اثنتي عشرة حجة، منها:
  • (١)

    تقول الفقرة المذكورة أعلاه المقتبسة من سفر التثنية «وَلمْ يَقُمْ بَعْدُ نَبِيٌّ فِي إِسْرَائِيل مِثْلُ مُوسَى.» لا يمكن أن يقيم هذه المقارنة سوى شخص عاش بعد ظهور أنبياء في إسرائيل، والأنبياء لم يظهروا إلا بعد قرون من موت موسى.

  • (٢)

    كثير من أسماء الأماكن المذكورة في الأسفار الخمسة لم تكن مستخدمة إبان حياة موسى. على سبيل المثال يقول سفر التكوين (١٤: ١٤) إن إبراهيم تبع أعداءه «إلَى دَانَ». على أن هذا المكان لم يكن يُطلق عليه «دَانَ» حتى بعد مضي وقت طويل على موت يشوع، وفقًا لما جاء في سفر القضاة (١٨: ٢٩). ويشوع جاء بعد موسى، وعليه، أيًّا كان من كتب سفر التكوين (١٤: ١٤) والفقرات المشابهة؛ فإنه شخص عاش بعد موسى بوقت طويل.

  • (٣)

    بالمثل، في سفر التكوين (٢٢: ١٤)، يسمَّى المكان الذي يعد فيه إبراهيم العدة للتضحية بابنه إسحاق، وهو جبل مورياه، «جبل الرب»، وهو اسم لم يُطلق عليه قبل بناء الهيكل الأول؛ أي بعد موسى بقرون.

  • (٤)

    يقول سفر التكوين (٣٦: ٣١): «وَهَؤُلاءِ هُمُ الْمُلُوكُ الَّذِينَ مَلَكُوا فِي أرْضِ أدُومَ قَبْلَمَا مَلَكَ لِبَنِي إسْرَائِيلَ.» أيًّا كان من كتب هذا، فلا بد وأنه عاش بعدما ملك على إسرائيل على الأقل ملكها الأول، شاول، الذي حكم نحو عام ١٠٠٠ قبل الميلاد، بعد موسى بوقت طويل.

  • (٥)

    في سفر التكوين (١٢: ٦)، يقول الكاتب إن إبراهيم اجتاز في أرض كنعان، ويضيف، «وَكَانَ الْكَنْعَانِيُّونَ حِينَئِذٍ فِي الأرْضِ.» يعني هذا ضمنًا أنه في زمن كتابة سفر التكوين، لم يعد الكنعانيون في الأرض. قد يرجع هذا إلى أن شعب إسرائيل كانوا قد استولوا على أرض كنعان باعتبارها أرض الميعاد. لكن أثناء حياة موسى، كان الكنعانيون لم يزالوا ساكنين في كنعان، ومِن ثَمَّ لم يكن ممكنًا أن يكون موسى هو من كتب الفقرة المذكورة.

  • (٦)

    يتحدث كاتب الأسفار الخمسة عن موسى بضمير الغائب، قائلًا أشياء من قبيل «وتكلم موسى مع الله»، و«تكلم الرب مع موسى وجهًا لوجه.» لكن في هذه الأسفار الخمسة، عندما يتحدث موسى عن أعماله التي قام بها؛ فإنه يتكلم بصيغة المتكلم بشكل طبيعي. على سبيل المثال في سفر التثنية (٢: ٢)، يقول موسى: «ثُمَّ كَلمَنِي الرَّبُّ.» وفي سفر التثنية (٢: ١٧): «قَال لِي الرَّبُّ.» لو كان موسى كتب كل القصص التي تتناول أعماله في الأسفار الخمسة، لاستخدم صيغة المتكلم لا ضمير الغائب في كل أجزائها.

يستنتج سبينوزا (١٦٧٠: الجزء الثاني، الفصل الثامن): «مما قيل، فالأمر إذًا أوضح من الشمس في وقت الظهيرة، أن الأسفار الخمسة لم يكتبها موسى، ولكن شخص عاش بعد موسى بزمن طويل.»

ومع تعمُّق العلماء في دراسة الأسفار الخمسة، حللوا اختيار الكلمات (ولا سيما استخدام أسماء مختلفة لله)، والأساليب الأدبية، والآراء اللاهوتية. وخلُص كثيرون إلى أن الأسفار الخمسة لم يكتبها كاتب واحد ولكن كتَّاب عدة. وفقًا لنظرية مقبولة على نطاق واسع أعدها باحث ألماني يُدعى يوليوس فلهاوزن (١٨٨٥)، وتُعرف باسم «الفرضية الوثائقية»، كتب الأسفارَ الخمسة أربعةُ كُتَّاب عاشوا في أجزاء مختلفة من فلسطين على مدى قرون. يشير العلماء إلى هؤلاء الكُتَّاب بأربعة حروف استهلالية هي: جيه، وإي، ودي، وبي. الكاتب جيه هو الكاتب الذي استخدم كلمة «يهوه» YHWH باعتباره «اسم الله غير المنطوق». تُكتب يهوه في اللغة الإنجليزية Yahweh وأحيانًا ما تكتب Jehovah. على النقيض، لا يُطلِق الكاتب إيه على الله اسم يهوه البتة ولكن «إلوهيم». والكاتب دي هو مؤلف سفر التثنية، أما الكاتب بي فقد أضاف معلومات عن الكهنوت بين الإسرائيليين. وتقول الفرضية الوثائقية إنه إلى جانب كل هؤلاء الأربعة، كان هناك آر، المنقِّح أو المحرِّر الذي صاغ كتابات جيه وإيه وبي ودي فيما هو الآن الأسفار الخمسة.

ما من شيء في الدراسة النقدية للأسفار الخمسة يقلل من عظمة موسى، بالطبع. فسيظل أهم شخصية في الديانة اليهودية — مُحرِّر العبرانيين من العبودية في مصر، والشخص الذي تسلَّم الشريعة من الله في سيناء. وكانت إضافة كتابة الأسفار الخمسة إلى هذه الأعمال هي الطريقة التقليدية للإشادة بعظمة موسى، لكن كما أثبتت الدراسات العلمية الحديثة، تكشف القراءة المتأنية لهذه الأسفار أن موسى كان ميتًا منذ زمن طويل حين تدوينها.

المراجع

(٣) يتعارض سفر التكوين ونظرية التطور

قد لا يوجد أي أدلة أحفورية تُثبت وجود ديناصورات وبشر في المكان نفسه وفي الزمان نفسه. لكنه مكتوب بوضوح [في الكتاب المقدس] أنهم كانوا أحياءً في الوقت نفسه. (مارك لوي، المتحدث الرسمي باسم متحف الخليقة، في منطقة بطرسبرج بولاية كنتاكي. (سلاك، ٢٠٠٧))

لأكثر من قرن من الزمان، تقول الجماعات المسيحية الأصولية، ولا سيما في الولايات المتحدة، إن المسيحيين يجب أن يرفضوا نظرية التطور، لأنها تناقض وصف الكتاب المقدس للطريقة التي خلق بها الله كل الأنواع والنباتات والحيوانات في بضعة أيام. وهم يقولون إنه بعد اليوم السادس من الخلق، جَبَلَ الله كل أنواع الكائنات الحية التي ستوجد — النباتات والحيوانات التي نعرفها اليوم كافة، بالإضافة إلى الكائنات التي انقرضت فيما بعد مثل الديناصورات. في متحف الخليقة في منطقة بطرسبرج بولاية كنتاكي، تُظهِر المعارض البشر والديناصورات وهم يعيشون جنبًا إلى جنب؛ فقد احتوى فُلْك نوح على تريسيراتوب واستيجوصور. وعلى الرغم من أن سفر التكوين لا يذكر الديناصورات؛ فإن العاملين بالمتحف يقولون إن الأدلة الأثرية تُثبت أنها كانت موجودة بالفعل. لكن لا بد أنها تعايشت مع الإنسان ومع كل أنواع الكائنات الحية الأخرى في الأيام الأولى من الخلق؛ لأن الكتاب المقدس يذكر أن كل الأنواع خُلقت معًا.

لو أن كل أنواع النباتات والحيوانات خلقت في الأسبوع الأول من عمر الكون، لكان مؤكدًا أنه لم تظهر أنواع أخرى بعد ذلك. وعليه، وفقًا لهذا الرأي، لا بد أن يكون علماء البيولوجيا مخطئين عندما يقولون، على سبيل المثال، إنه على مدار ملايين السنين، تطورت الطيور من الديناصورات، وتطور البشر من القردة.

يعترف الأصوليون المسيحيون الذين ينكرون نظرية التطور بأنهم لا يستطيعون إثبات قصة الخلق المذكورة في سفر التكوين، لكنهم يقولون إن أولئك الذين يؤمنون بالتطور لا يستطيعون إثبات صحة نظريتهم أيضًا؛ فكلا التفسيرين يعتمدان على الإيمان؛ ويعني ذلك أن اختيارنا لما نؤمن به هو ما بين كلمة الله من ناحية، وشيء فكَّر فيه تشارلز دارون والعلماء الذين أتوا من بعده من ناحية أخرى. هل ينبغي أن نضع إيماننا في الله، خالق الكون، أم في البشر؟ من وجهة نظرهم، الإجابة واضحة.

صاغ مثلَ هذه المقولات في أول الأمر مسيحيون أمريكيون محددون في أواخر القرن التاسع عشر. أصبحت معارضة نظرية التطور حينذاك بالغة الأهمية بين الأصوليين — الأشخاص الذين سُمُّوا نسبةً إلى «الأصول»، وهي عمل مُكوَّن من ١٢ مجلدًا، نشره في الفترة ما بين عامي ١٩١٠ و١٩١٥ معهد الكتاب المقدس بلوس أنجلوس. كان الغرض من المقالات التي وُزِّعت على نطاق واسع بين الخدام والمعلمين البروتستانت هو الدفاع عن تفسير الأصوليين للكتاب المقدس ضد هجمات مجموعة من الأجيال الحديثة، ومنها الليبرالية والإلحادية (بالإضافة إلى العدو اللدود القديم، الكاثوليكية). في عام ١٩١٩، أسس جمعية الأصوليين المسيحيين في العالم الخادم المعمداني ويليام بيل رايلي. وكان من بين الأصول — المعتقدات الأساسية — الحقيقة الحرفية للكتاب المقدس. ويُقصد بذلك أن كل آية من آيات الكتاب المقدس دقيقة تاريخيًّا وعلميًّا. وحيث إن القصة المذكورة في سفر التكوين تقول إن العالم خُلق في ستة أيام، فلا بد أن تكون نظرية التطور زائفة كما قال الأصوليون.

في عشرينيات القرن العشرين، حارب الأمريكيون الأصوليون نظرية التطور جهارًا من خلال سنِّ قوانين حكومية تُحرِّم تعليم التطور في المدارس العامة. وفي محاكمة سكوبس عام ١٩٢٥، اتُّهم مدرِّس بالمرحلة الثانوية، هو جون سكوبس، بتدريس نظرية التطور في مدرسة بولاية تينيسي، وغُرِّم ١٠٠ دولار. (كان مَن يساعد المدعي العام المحلي هو ويليام جيننجز بريان، الذي ترشح لانتخابات الرئاسة الأمريكية ثلاث مرات، وتولى منصب وزير الخارجية في حكومة الرئيس وودرو ويلسون.)

واليوم، لا تزال الحجة القائلة إن نظرية التطور لا بد أن تكون زائفة لأن الكتاب المقدس على صواب، مقنعة لنصف الأمريكيين تقريبًا. في استطلاع لمؤسسة جالوب عام ٢٠١٢ (نيوبورت، ٢٠١٢)، اتفق ٤٦٪ من المشاركين على جملة: «خلق الله البشر في شكلهم الحالي تقريبًا مرة واحدة في خلال العشرة آلاف سنة المنصرمة تقريبًا.»

يَعتبر المسيحيون الأصوليون أن أولئك الذين يؤمنون بالتطور مشبوهون؛ ولذا يعبِّر كثير من الساسة الذين يسعون إلى أصوات الناخبين المسيحيين المحافظين في الانتخابات الأمريكية عن الشك في النظرية. من بين المنافسين على ترشيح الحزب الجمهوري للانتخابات الرئاسية عام ٢٠١٢، لم يعترف سوى ميت رومني وجون هانتسمان بقبول نظرية التطور، وفي تغريدة لهانتسمان، استهلَّ اعترافه قائلًا: «انعتوني بالجنون، لكن …» وصرح ريك بيري، حاكم ولاية تكساس، مرات كثيرة بأن التطور هو مجرد «نظرية شاذة»، يرفضها. ورفض النظرية أيضًا رون بول الطبيب المترشح لخوض الانتخابات الرئاسية. وأصرَّ نيوت جينجريتش، الرئيس الأسبق لمجلس النواب على أن الولايات المتحدة أُسِّست على المبادئ المسيحية، وأنه ينبغي تدريس عقيدة الخلق — فكرة أن الله خلق العالم وكل ما فيه في ستة أيام، كما يقول الكتاب المقدس — مرة أخرى في المدارس. ورفض كلٌّ من عضوة مجلس النواب ميشيل باكمان وعضو مجلس الشيوخ الأسبق ريك سانتورم نظرية التطور، وذكرا أنه ينبغي تدريس التصميم الذكي — نسخة من نظرية الخلق تؤكد أن الكون معقد لدرجة أنه لا يمكن تفسيره في ضوء أي شيء سوى الله — بدلًا من نظرية التطور.

حتى في زمن دارون، كان العلماء الذين يدرسون سفر التكوين يقولون إن قصته لم تكن بالسهولة التي كان يظنها كثير من المسيحيين. على سبيل المثال، يذكر الإصحاح الثاني قصة مختلفة للخلق عن تلك المذكورة في الإصحاح الأول؛ ففي قصة الإصحاح الثاني، يخلق الله الإنسان «قبل» أن يخلق الأشجار. حدت مثل هذه التضاربات بعض دارسي القرن التاسع عشر إلى أن يقترحوا أن الإصحاحين الأول والثاني من سفر التكوين كتبهما أناس مختلفون في أزمنة مختلفة، وهي فكرة يقبلها الآن أغلبية دارسي الكتاب المقدس. وتجعل هذه التضاربات أيضًا قراءة النص قراءة حرفية وعقلانية أمرًا متعذرًا. كيف أمكن خلق الإنسان الأول قبل خلق الأشجار وبعده؟ وماذا عن «الْجَلَدَ» المذكور في تكوين ١: ٦–٨، قبة فوق الأرض، «ليَكُنْ فَاصِلًا بَيْنَ مِيَاهٍ وَمِيَاهٍ» التي دعاها الله «سَمَاءً»؟ يعكس هذا الوصف النظرة القديمة إلى العالم التي تكون فيها الأرض مسطحة والسماء قبة فوق الأرض. ربما يتساءل أولئك الذين حلَّقوا بطائرات نفاثة وشاهدوا الرحلات الفضائية أين هذه القبة، لكن الأصوليين يعرفون أنها موجودة.

من التحديات الباعثة على المزيد من الحيرة المقترنة بفهم سفر التكوين فهمًا حرفيًّا وصفه لله بأنه خالق الشمس والقمر والنجوم في «اليوم الرابع» (١: ١٤–١٩). ماذا كان يعني «يوم» قبل وجود شمس؟ في بداية الإصحاح الأول من سفر التكوين، تقول الآيتان ٣-٤ إن الله خلق النور «وَفَصَلَ اللهُ بَيْنَ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ. وَدَعَا اللهُ النُّورَ نَهَارًا، وَالظُّلْمَةُ دَعَاهَا لَيْلًا.» لكن ماذا كان يمكن أن يكون هذا النور قبل وجود الشمس والقمر والنجوم بثلاثة «أيام»؟

لا تزال هناك مشكلة أخرى في سفر التكوين، ألا وهي أن معظم فقرات سفر التكوين تصف الله على أنه كائن مادي محدود — كالإنسان، ولكنه أقوى وحسب. يصف سفر التكوين (٢: ٢) الله بأنه استراح «مِنْ جَمِيعِ عَمَلِهِ الَّذِي عَمِلَ.» تتعارض هذه الطريقة للتفكير في الله مع الاعتقاد بأن الله غير مقيد بالشكل المادي، وأنه كُلِّيُّ القوة (كُلِّيُّ القدرة) وكامل. ومع ذلك تلزم القراءة الحرفية المحضة لسفر التكوين المرء بالاعتقاد بإله مادي يعمل ويتعب ويحتاج إلى راحة.

يظهر تشبيه الله بالإنسان بالمثل في قصص تعامل الله مع آدم وحواء. على سبيل المثال:

وَسَمِعَا صَوْتَ الرَّبِّ الإلَهِ مَاشِيًا فِي الْجَنَّةِ عِنْدَ هُبُوبِ رِيحِ النَّهَارِ فَاخْتَبَأ آدَمُ وَامْرَأتُهُ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ الإلَهِ فِي وَسَطِ شَجَرِ الْجَنَّةِ. فَنَادَى الرَّبُّ الإلَهُ آدَمَ: «أيْنَ أنْتَ؟» (سفر التكوين ٣: ٨-٩)

لو أن المرء قرأ هذه الفقرة حرفيًّا، فمن الصعب تحاشي أسئلة عن حجم الله ومظهره مثلًا. هل الله في حجم الإنسان العادي، أم أنه، كما تعبِّر عنه كوميديا مونتي بايثون الساخرة، «ضخم للغاية»؟ وأيضًا السؤال الأكثر إزعاجًا عن حدود معرفة الله؛ فعادة ما تَعتبر الديانات التوحيدية (الزرادشتية واليهودية والمسيحية والإسلام والبهائية) أن الله كُلِّيُّ العلم؛ أي كُلِّيُّ المعرفة. لِمَ لَمْ يَدْرِ الله بمكان آدم وحوَّاء؟

في ضوء مثل هذه الأسئلة، تناول كثير من علماء الكتاب المقدس على مدار القرنين المنصرمين مسألة حرفية قصة الخلق، وأشاروا إلى أن طرقنا الحديثة في كتابة التاريخ وممارسة العلم لم تكن موجودة في العالم القديم. وكما رأينا في المقدمة، أكد كثيرون أن هذه القصص لم يكن مقصودًا بها أن تكون قصصًا تاريخية وعلمية قابلة للتحقق منها تجريبيًّا، ولكن أن تنقل، مع ذلك، حقائق أساسية. منها أن الله خلق الكون وكل ما فيه بطريقة أو بأخرى. والكتاب المقدس ليس مطالبًا بشرح السبل الدقيقة التي حدث بها الخلق؛ إذ يمكن للمرء أن يؤمن بالأدلة العلمية التي تشير إلى حدوث عملية التطور التدريجي على مدار ملايين السنين، ومع ذلك لا يزال يقبل التعليم الكتابي الذي يقول إنه ما كان شيء ليوجد لولا الله.

وبينما يرفض بعض الحاخامات الأرثوذكسيين نظرية التطور ويُصِرون على قراءة سفر التكوين باعتباره علمًا أو تأريخًا، يقبل كثيرون أن قصة الخلق في سفر التكوين لا تستبعد التطور التدريجي لأشكال الحياة؛ وعوضًا عن ذلك، فالتطور التدريجي للحياة الذي ثبت بالأبحاث العلمية هو ببساطة جزء من خطة الخلق الإلهية الكلية. الله هو الأصل؛ والتطور هو الأداة. هذا هو الموقف المعبَّر عنه في كُتُب مثل كتاب جيرالد شرودر (١٩٩١) «التكوين والانفجار العظيم: اكتشاف التناغم بين العلم الحديث والكتاب المقدس». بالمثل، يصر الحاخامات المحافظون والإصلاحيون على المنشأ الإلهي للعالم، ولكنهم يدعمون في الوقت نفسه أيضًا الاستكشاف والفهم العلميَّين للطريقة التي تطورت بها الحياة. يصر الحاخام مايكل شواب (٢٠٠٥)، على سبيل المثال، على أن «اليهودية بوصفها ديانة، وبالطبع اليهودية المحافظة، تعتبران الخلق عملية هادفة يوجهها الله … فما يراه دارون عشوائيًّا، نراه نحن تطورًا طبيعيًّا وإعجازيًّا لخطة الله الحاذقة والجميلة.» يقول شواب؛ أي إنه بدلًا من قراءة سفر التكوين على أنه تاريخ وعلم حرفيان، من الممكن الحفاظ على حقيقته وعلى صدقية الاكتشافات العلمية من خلال قراءته على أنه قصة رمزية. بالمثل، يرى بعض علماء اليهودية الإصلاحية أن علم التطور والانتخاب الطبيعي متفقان مع المنشأ والتوجيه الإلهيين لتطور العالم في أشكاله المتنوعة كافة. ومن ثم، ففي حين إن اليهودية ليست ديانة عقائد، ولكنها تقليد يهتم بالطريقة التي يتصرف بها الناس، ومن ثم لا يوجد أي تعليم بشأن ادعاءات حقيقة عقيدة الخلق، ثمة بالتأكيد رأي سائد بين المرجعيات اليهودية، هو أن التطور ليس متعارضًا مع الإيمان بالكتاب المقدس.

اتخذت الكنيسة الرومانية الكاثوليكية موقفًا مشابهًا؛ ففي عام ١٩٥٠، أصدر البابا بيوس الثاني عشر منشورًا بابويًّا (رسالة مرجعية) بعنوان «الجنس البشري» يتناول بعض القضايا في الفكر الحديث، ومنها نظرية التطور. ينص المنشور البابوي على أنه لا شيء في نظرية التطور يتعارض بالضرورة مع المذهب الكاثوليكي؛ ولذا، فدراستها مباحة، وإن كان الحذر لازمًا:

لا تحظر المرجعية التعليمية في الكنيسة، اتساقًا مع الحالة الراهنة للعلوم الإنسانية واللاهوت المقدس، أن تُجرى أبحاث ومناقشات من جانب رجال محنَّكين في كلا المجالين بشأن مذهب التطور، فيما يتعلق ببحثه في منشأ الجسم البشري باعتباره ناشئًا من مادة حية وموجودة مسبقًا — حيث تُلزمنا العقيدة الكاثوليكية بالإيمان بأن الأرواح هي من خلق الله مباشرة. على أنه لا بد من فعل ذلك بطريقة تُوزَن بها حجج كلا الطرفين؛ أي تلك المؤيدة وتلك المعارضة للتطور، ويُحكَم عليها بما يلزم من جدية واعتدال وقياس، وشريطة أن تكون كلها مهيأة للخضوع لحكم الكنيسة التي أناط المسيح بها مهمة تفسير الكتب المقدسة تفسيرًا موثوقًا به، والدفاع عن العقائد الإيمانية.

وفي وقت أحدث، مضى البابا يوحنا بولس الثاني (١٩٩٦) أبعد من ذلك. فبالإشارة إلى المنشور البابوي لبيوس الثاني عشر، قال:

اليوم، وقد مضى ما يقرب من نصف قرن على صدور هذا المنشور البابوي، أدَّت المعارف الجديدة إلى الاعتراف بأكثر من افتراض في نظرية التطور. من الجدير بالملاحظة حقًّا أن هذه النظرية تزداد قبولًا من الباحثين، بعد سلسلة من الاكتشافات في مختلف حقول المعرفة. إن التقارب الذي لم يكن مرغوبًا ولا ملفقًا بين نتائج العمل الذي أُجري بصفة مستقلة، هو بذاته حجة مهمة لصالح هذه النظرية.

بالمثل، أصدرت الكنيسة الإنجيلية المشيخية بالولايات المتحدة الأمريكية (١٩٦٩) بيانًا حول نظرية التطور، تعلن فيه أنه «لا الكتاب المقدس، ولا مجاهرتنا بإيماننا، ولا تعاليمنا الشفهية تُعلِّم خلق الإنسان بأفعال الله المباشرة والفورية، على نحو يستبعد احتمالية التطور باعتباره نظرية علمية.» ويقر البيان بأن أسلافهم ربما فهموا عبارات مثل «ستة أيام»، و«من تراب الأرض»، و«ضلع الرجل» فهمًا حرفيًّا، لكن هذه الأفهام ليست ملزمة. ويسترسل البيان، مستندًا إلى مرجعية جون كالفن نفسه، «إن الكتاب المقدس ليس كتابًا علميًّا.» ومِن ثَمَّ، «نخلص إلى أن العلاقة الحقيقية بين نظرية التطور والكتاب المقدس غير متناقضة …»

وصرحت الكنيسة الأسقفية في «التعاليم الشفهية عن عقيدة الخلق» (كنيسة إنجلترا، ٢٠٠٥) أنها لا تتبنَّى موقفًا رسميًّا من التطور. «ومع ذلك»، كما يقول التعليم الكنسي، «فرجال الدين والعلماء من كلٍّ من التقليدَيْن الكاثوليكي والإنجيلي في المذهب الأنجليكاني قبلوا التطور، من زمن دارون وحتى الوقت الحالي. أكدت الكنيسة في قرار صادر عن المؤتمر العام عام ١٩٨٢، قدرة الله على الخلق بأي شكل وبأي طريقة قد تشمل التطور.» بل يقول التعليم الكنسي علاوةً على ذلك، إن «الكتاب المقدس، ومنه سفر التكوين، ليس كتابًا دراسيًّا علميًّا مُمْلًى إلهيًّا.» وهكذا، على الرغم من أن التطور هو «شبكة من النظريات»، فهو «مدعوم بقوة بالملاحظات والتجارب» (التي يصفها التعليم الكنسي)، ولا يتعارض مع الكتاب المقدس. إن الوصف الكتابي للخلق يؤكد أن البشر قد حباهم الله «بالعطايا الإلهية المتمثلة بالحب والرحمة غير المشروطين، أو عقلنا ومخيلتنا، أو قدراتنا المعنوية والأخلاقية، أو حريتنا، أو قدرتنا على الإبداع.» ولا يصف السبل المحددة التي خلق بها الله.

وبالمثل، أصدرت الكنيسة الميثودية المتحدة (٢٠١٢) بيانًا رسميًّا حول التطور، يبدأ كالآتي: «نحن نعترف بالعلم بوصفه تفسيرًا شرعيًّا للعالم الطبيعي الذي خلقه الله.» وينص البيان أنه بعزل المسائل اللاهوتية عن المسائل العلمية، «فإننا نجد أن تفاسير العلم للتطور الكوني والجيولوجي والبيولوجي لا تتضارب مع علم اللاهوت.» وتؤكد الكنيسة حقًّا: «نجد أنه مع توسيع العلم فهمَ الإنسان للعالم الطبيعي، يتحسن فهمنا خفايا خلق الله وكلمته.»

هناك بالطبع جماعات مصرة على أن قصة الخلق المذكورة في الكتاب المقدس تتنافى ونظريات التطور، وتحظر قبولها. ويشمل هذا سنودس الكنيسة اللوثرية بميزوري، وكنيسة جمعية المعمدانية الجنوبية، وبعض المسلمين المحافظين. على أن هذا الموقف لا تؤيده المرجعيات اليهودية والمسيحية السائدة، ولا المسلمون التقدميون، ولا يمكن اعتباره قاطعًا.

المراجع

قراءات إضافية

  • Marsden, G. (2006) Fundamentalism and American Culture, Oxford University Press, Oxford.
  • Numbers, R. (2006) The Creationists: From Scientific Creationism to Intelligent Design, Harvard University Press, Cambridge MA.

(٤) يعتقد اليهود أنهم اختيروا من الله لنَيْل امتيازات خاصة

قَلَّما كانت معتقدات يهودية عرضةً لسوء الفهم مثل مبدأ «الشعب المختار». (كلية اللاهوت اليهودي بأمريكا (١٩٨٨))

فكرة أن اليهود هم شعب اختاره الله هي فكرة مهمة في التقليد اليهودي، لكن تأويل هذه الفكرة هو الأمر الذي طالما كان عرضة لسوء الفهم؛ فعلى مدار قرون، ظن المسيحيون أن المقصود بها هو أن اليهود يعتقدون أنهم هم وحدهم مَن اختارهم الله لاستقبال عطية الوحي الذي يقدم الهداية اللازمة لبلوغ الحياة الأبدية في العالم الآتي. بعبارة أخرى، وفقًا لهذه الخرافة، يؤمن اليهود بأنهم هم وحدهم الذين لديهم حق الحصول على الثواب الأبدي. بل إن بعض المفكرين المسيحيين قدَّموا تعليمًا يُشير إلى أن المسيحيين ورثوا وعود الله حينما أنكر اليهود أن يسوع هو المسيَّا. ومن ثم أصبح المسيحيون شعب الله المختار، وهم — بدلًا من اليهود — الذين أمسكوا بمفاتيح ملكوت الله. تُقرَن هذه الفكرة بعالِم لاهوت القرن الثالث أوريجانوس، ومارتن لوثر، على سبيل المثال. وثمة سوء إدراك آخر ربما أكثر تعقيدًا هو أن اليهود يؤمنون بأن لديهم حقًّا ممنوحًا من الله بملكية الأرض التي أصبحت دولة إسرائيل، وأنهم مأمورون بأن يبيدوا أي شخص يقاوم ادعاءهم.

كوْن اليهود شعبَ الله المختار له أساس في الكتاب المقدس. «لأَنَّكَ شَعْبٌ مُقَدَّسٌ … وَقَدِ اخْتَارَكَ الرَّبُّ لِتَكُونَ لهُ شَعْبًا خَاصًّا فَوْقَ جَمِيعِ الشُّعُوبِ الَّذِينَ عَلى وَجهِ الأَرْضِ.» كما جاء في سفر التثنية (١٤: ٢). يقتبس سفر النبي عاموس عن الله وهو يخبر الإسرائيليين: «إِيَّاكُمْ فَقَطْ عَرَفْتُ مِنْ جَمِيعِ قَبَائِلِ الأَرْضِ …» (سفر عاموس ٣: ٢، النسخة القياسية المنقحة الجديدة).

على أن فكرة أن اليهود هم شعب اختاره الله لا تفسرها المرجعيات اليهودية على أنها تعني أنهم هم وحدهم يستطيعون تحقيق الثواب الأبدي. وبدلًا من هذا، فعادة ما يفسرونها على أن المقصود بها هو أن الله اختار اليهود من أجل مهمات معينة وسوف يحاسبهم على تنفيذها. في حقيقة الأمر، كما يستطرد اقتباس سفر عاموس: «إِيَّاكُمْ فَقَطْ عَرَفْتُ مِنْ جَمِيعِ قَبَائِلِ الأَرْضِ لِذَلِكَ أُعَاقِبُكُمْ عَلَى جَمِيعِ ذُنُوبِكُمْ.» في التقليد اليهودي، اصطُفي اليهود من الله حقًّا لتسلُّم وحيه، التوراة. وتُعلمهم التوراة كيف يكونون شعبًا صالحًا، ومراعاة التوراة هي التزامهم الحصري. لا يُنتظر من الشعوب الأخرى الالتزام بالتوراة، لكن هذا لا يعني أنه لن يكون لهم نصيب في الآخرة. يُعلِّم التلمود — مجمل الحكمة الذي ألفه علماء يهود على مدار قرون — أن الحياة بعد الموت متاحة لكل البارِّين. أما لليهود فالطريق إلى الحياة الآخرة هو الالتزام بالتوراة. وأما لغير اليهود، فالطريق إلى الحياة الآخرة هو العيش بنزاهة.

إذا كان الالتزام بالتوراة هو أساس العهد بين الله واليهود، فماذا عن الأرض؟ يُسجل السفر الأول من الكتاب المقدس العبري قول الله لإبراهيم: «لِنَسْلِكَ أعْطِي هَذِهِ الأرْضَ مِنْ نَهْرِ مِصْرَ إلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ نَهْرِ الْفُرَاتِ …» (سفر التكوين ١٥: ١٨). ثم يذكر السفر أن هذه الأرض كانت في تلك الآونة ملكًا لشعوب أخرى، على أن السفر يطمئن إبراهيم (سفر التكوين ١٧: ٦–٨) قائلًا: «وَأُثْمِرُكَ كَثِيرًا جِدًّا وَأجْعَلُكَ أمَمًا وَمُلُوكٌ مِنْكَ يَخْرُجُونَ … وَأعْطِي لَكَ وَلِنَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ أرْضَ غُرْبَتِكَ كُلَّ أرْضِ كَنْعَانَ مِلْكًا أبَدِيًّا. وَأكُونُ إلَهَهُمْ.» وبعد أجيال كثيرة، وموسى يقود الإسرائيليين نحو امتلاك الأرض الموعودة، يأمرهم الله أن يأخذوا الأرض بالقوة:

حِينَ تَقْرُبُ مِنْ مَدِينَةٍ لِتُحَارِبَهَا اسْتَدْعِهَا لِلصُّلحِ. فَإِنْ أَجَابَتْكَ إِلى الصُّلحِ وَفَتَحَتْ لكَ فَكُلُّ الشَّعْبِ المَوْجُودِ فِيهَا يَكُونُ لكَ لِلتَّسْخِيرِ وَيُسْتَعْبَدُ لكَ. وَإِنْ لمْ تُسَالِمْكَ بَل عَمِلتْ مَعَكَ حَرْبًا فَحَاصِرْهَا. وَإِذَا دَفَعَهَا الرَّبُّ إِلهُكَ إِلى يَدِكَ فَاضْرِبْ جَمِيعَ ذُكُورِهَا بِحَدِّ السَّيْفِ. وَأَمَّا النِّسَاءُ وَالأَطْفَالُ وَالبَهَائِمُ وَكُلُّ مَا فِي المَدِينَةِ كُلُّ غَنِيمَتِهَا فَتَغْتَنِمُهَا لِنَفْسِكَ وَتَأْكُلُ غَنِيمَةَ أَعْدَائِكَ التي أَعْطَاكَ الرَّبُّ إِلهُكَ. هَكَذَا تَفْعَلُ بِجَمِيعِ المُدُنِ البَعِيدَةِ مِنْكَ جِدًّا الَّتِي ليْسَتْ مِنْ مُدُنِ هَؤُلاءِ الأُمَمِ هُنَا. وَأَمَّا مُدُنُ هَؤُلاءِ الشُّعُوبِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَصِيبًا فَلا تَسْتَبْقِ مِنْهَا نَسَمَةً مَا. (سفر التثنية ٢٠: ١٠–١٦، النسخة القياسية المنقحة الجديدة)

كما أوضح روبرت آيزن (٢٠١١)، فسَّرت المرجعيات اليهودية على مرِّ القرون الأمر بالغزو بالقوة بطرق شتى. يشدد بعض المرجعيات، في «محاولة قبول المشكلات الأخلاقية الملازمة للغزو الكنعاني»، على ضرورة محاولة تحاشي قتل الأبرياء بتقديم الصلح أولًا. ويؤكد بعضها أن أولئك الذين أخلوا الأرض سلمًا «كُوفئوا بمنحهم أرضًا أخرى.» (آيزن، ٢٠١١: ٩١، عدد راباح ١٩: ٢٧؛ تانهوما تساف ٣؛ تثنية راباح ١٣-١٤). فقط أولئك الذين اختاروا الحرب أُبيدوا. وفي جميع الأحوال، طالما تحاشت تأويلات الحاخامات اليهود التقليدية الأمر العام بإبادة سكان أرض كنعان الأصليين، وتؤكد مصادر حاخامية أن الأمر بالغزو كان مقيَّدًا بصرامة بزمانه ومكانه. لم يكن لدى الإسرائيليين التزام (أو حق) مستقبلي بقتل أي شخص يعيش مسالمًا في الأرض.

في العالم الحديث، ازداد تعقُّد مسألة الوعد الإلهي بامتلاك الأرض بسبب نقص الأدلة الأثرية التي تشير إلى غزوٍ إسرائيلي للأرض. في الواقع، يؤمن معظم علماء الآثار المعاصرين بأن الإسرائيليين كانوا من سكان كنعان الأصليين ولم يغزوها بوصفهم دخلاء. وإذ كانت لهم هوية دينية فريدة، فقد رأوا أنفسهم مميَّزين على قاطني كنعان الآخرين. أما القصص التي أُمِر الإسرائيليون فيها بإبادة الكنعانيين فقد طُوِّرت نوعًا ما، وفقًا لهذه النظرية، لتثبيط اليهود الأوائل عن الزواج من الشعوب التي تعبد آلهة متعددة الذين عاشوا بينهم.

إلَّا أن قصص غزو الإسرائيليين العنيف للأرض استُغِلت على نطاق واسع لدعم الصهيونية، تلك الحركة التي ظهرت بين اليهود الأوروبيين المعاصرين للهروب من ويلات معاداة الساميَّة بتأسيس دولة يكونون مستقلين فيها وقادرين على حماية أنفسهم. كان هذا الاحتياج للحماية من خطر الانقراض الذي فرضته معاداة أوروبا للساميَّة هو ما تمخض عن إنشاء دولة إسرائيل عام ١٩٤٨. ومِن ثَمَّ لم يكن تشريد السكان الأصليين الفلسطينيين غير اليهود من الأرض التي صارت دولة إسرائيل هو نتيجة لاتباع أعمى لأوامر الكتاب المقدس بإبادة أولئك الذين يقاومون اليهود؛ إنما كانت نتيجة مأساوية لمعاداة الساميَّة وستظل كذلك.

الشيء المثير، أنه وفقًا لتقرير صادر عام ٢٠١٣ عن مركز بيو للأبحاث، يعتقد فقط ٤٠ في المائة من اليهود الأمريكيين الآن أن الله أعطى إسرائيل لليهود (٢٠١٣: ٨٦)، بينما يشعر ٧٥ في المائة من اليهود المتدينين بالارتباط عاطفيًّا بإسرائيل، ويعتقد ٦١ في المائة أن إسرائيل ودولة فلسطينية مستقلة يمكنهما أن يتعايشا بسلام في الأرض (٢٠١٣: ٨٧).

المراجع

  • Eisen, R. (2011) The Peace and Violence of Judaism: From the Bible to Modern Zionism, Oxford University Press, Oxford and New York.
  • The Jewish Theological Seminary of America (1988) God’s Covenant: The Election of Israel, in Emet Ve-Emunah: Statement of Principles of Conservative Judaism p. 28, www.icsresources.org/content/primarysourcedocs/ConservativeJudaismPrinciples.pdf (accessed January 7, 2014).
  • Pew Research Center (2013) A Portrait of Jewish Americans: Findings from a Pew Research Center Survey of US Jews, Pew Research Center, Washington DC.

قراءات إضافية

  • Silberman, N.A. and Finkelstein, I. (2011) The Bible Unearthed: Archaeology’s New Vision of Ancient Israel and the Origin of Its Sacred Texts. Touchstone, New York.

(٥) قتل اليهود يسوع

قتل اليهود يسوع. لن تتغير تلك الحقيقة أبدًا. ولم يتوبوا قطُّ.

هذا الادعاء متجذِّر بعمق في تاريخ اللاهوت المسيحي، واستُغل منذ القرن الثاني بوصفه سببًا لمعاداة الساميَّة. بعدما أعلنت المجامع الكنسية التي عُقدت بين القرنين الرابع والسادس أن يسوع هو الله، انتشر الادعاء بأن اليهود قتلوه على أصعدة عالمية. قتل اليهود يسوع، ويسوع هو الله، إذًا، قتل اليهود الله. و«قتل الله» هو أكبر جريمة يمكن تخيلها. في الكنيستين اليونانية الأرثوذكسية والبيزنطية الكاثوليكية، تذكر صلوات «خميس العهد»: «قتلة الله، أمة اليهود المارقة.» وحتى عام ١٩٥٩، كانت الصلوات التقليدية في الكنيسة الرومانية الكاثوليكية في يوم «الجمعة العظيمة» (يوم ذكرى موت يسوع على الصليب) تتضمن صلاة «من أجل اليهود الخونة [أو الغادرين] تقول: يا الله القدير، انزع الشر من قلوبهم، حتى يعترفوا هم أيضًا بيسوع المسيح ربنا.»

تعكس هذه الصلوات تعاليم مستوحاة من الكتاب المقدس المسيحي. ونرى في الأناجيل الأربعة المرجعيات اليهودية تتهم يسوع بالتجديف على الله بادعائه أنه «ابن الله». كانت هذه جريمة عقوبتها الإعدام، ومِن ثَمَّ طالبت المرجعيات اليهودية بإعدام يسوع (متَّى ٢٦: ٦٣–٦٥؛ لوقا ٢٢: ٧٠-٧١؛ يوحنا ١٩: ٧). ومع ذلك، حينما مَثُل يسوع أمام الوالي الروماني بيلاطس البُنطي، لم يجد سببًا لإدانة يسوع. فاضطُرت المرجعيات اليهودية إلى فرض ضغط سياسي على بيلاطس من خلال تهييج الشعب المحلي ليصرخ «اصلبه!» ووفقًا لما جاء في إنجيل متَّى (٢٧: ٢٤–٢٦)، كان للجمع دور أيضًا في موت يسوع.

ومِن ثَمَّ عندما رأى بيلاطس أنه ليس بمقدوره فعل شيء، ولكن شغبًا بدأ يحدث، أخذ ماءً وغسل يديه قُدَّامَ الجمع، قائلًا: «إِنِّي بَرِيءٌ مِنْ دَمِ هَذَا الْبَارِّ. أَبْصِرُوا أَنْتُمْ.» فَأَجَابَ جَمِيعُ الشَّعْبِ: «دَمُهُ عَلَيْنَا وَعَلَى أَوْلَادِنَا!» حِينَئِذٍ أَطْلَقَ لَهُمْ بَارَابَاسَ [سجينًا آخر] وَأَمَّا يَسُوعُ فَجَلَدَهُ وَأَسْلَمَهُ لِيُصْلَبَ.

أول مصدر مكتوب لفكرة أن اليهود «قتلة المسيح» هو رسالة بولس الرسول إلى أهل تسالونيكي التي كتبها في خمسينيات القرن الأول. يشير بولس الرسول إلى «الْيَهُودِ، الَّذِينَ قَتَلُوا الرَّبَّ يَسُوعَ وَأَنْبِيَاءَهُمْ، وَاضْطَهَدُونَا نَحْنُ» (رسالة تسالونيكي الأولى ٢: ١٤-١٥).

في القرن الثاني، كتب عالم اللاهوت جاستن مارتير مناقشة تخيلية مع يهودي «حوار مع تريفو» (براون، ٢٠١٠). وفي الفصل السادس عشر، يشرح مارتير لتريفو سبب تدمير هيكلهم ونفيهم من أرضهم: «فُرضت عليكم المحن بالعدل لأنكم قتلتم العادل [يسوع].»

ازدادت الهجمات البلاغية على اليهود في القرون التالية، ولا سيما بعدما أصبحت المسيحية الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية في أواخر القرن الرابع. وأصبح الهجاء المعادي لليهودية لونًا أدبيًّا معتادًا في الأدب المسيحي يُطلَق عليه «المعادي لليهود». كتب القديس يوحنا ذهبي الفم (١٩٧٩) معظم هذه الوثائق وأكثرها شراسة. إذ يهاجم في ثماني عظات المسيحيين الذين يشاركون في احتفالات اليهود وطقوسهم الأخرى. ويقول عن اليهود إنهم «فُجار، وعبدة أصنام، وقتلة أطفال، يرجمون الأنبياء، ويرتكبون عشرة آلاف فظيعة.» ويسترسل قائلًا:

اليهود أخس البشر. هم فُجار وطمَّاعون وجشعون. هم قتلة المسيح الغادرون. يعبدون الشيطان. دينهم كريه. اليهود هم قتلة المسيح المقيتون، وما من كفَّارة لقتل الله ولا غفران ولا صفح. قد لا يتوقف المسيحيون البتة عن الثأر، ولا بد أن يعيش اليهود في العبودية إلى أبد الدهر. مقت الله اليهود دائمًا، وعلى المسيحيين كافة أن يمقتوهم.

وفي حال لم تكن جريمة قتل الله كافية لأن تبتعد رعيته عن كل ما هو يهودي، يضيف يوحنا ذهبي الفم قائلًا:

اليهود يقدِّمون أطفالهم قربانًا للشيطان. هم أسوأ من الوحوش الضارية. معبدهم ماخور، وعرين للأوغاد، ومعبد الشياطين المخصص للعبادات الوثنية، ومجمع إجرامي لليهود، وملتقى سافكي دم المسيح، ومكان مشبوه، ومأوى الظلم، هو هاوية جهنم. لقد تدنَّى اليهود إلى مرتبة أدنى من أحقر حيوان. جعلهم فجورهم وسُكرهم ينحطون إلى مستوى العنزة الشبقة والخنزير. هم لا يعرفون سوى شيء واحد: أن يُشبعوا بطونهم، أن يسكروا، وأن يقتلوا، ويضرب بعضهم بعضًا مثل الشخصيات الشريرة في المسرح وسائقي عربات الخيول.

في أواخر العصور الوسطى، أصبحت المسرحيات التي تصوِّر صلب يسوع من الطقوس الدينية الشائعة في أوروبا. وأشهرها «مسرحية الآلام بقرية أوبرامرجاو»، التي تُعرض منذ عام ١٦٣٤ في ولاية بافاريا الألمانية. غالبًا ما تقدِّم إعادات التجسيد المسرحية هذه لمحاكمة يسوع وموته — التي كانت تُؤدَّى عادةً أثناء موسم التوبة المسيحي الذي يُطلق عليه الصوم الكبير — صورةً نمطية من الناحية الإثنية ليهوذا وهو يخون يسوع مقابل ٣٠ قطعة من الفضة، ثم يصرخ رعاع اليهود إلى بيلاطس البنطي قائلين «اصلبه!» فيما يقول زعماء اليهود «دمه على رءوسنا.» على مدار قرون، اضطر اليهود الذين يعيشون في مناطق تُعرض فيها مسرحيات الآلام إلى الاحتياط من المسيحيين الذين يريدون أن يصبوا جامَ غضبهم على «قتلة المسيح».

تحدى الإصلاح البروتستانتي الذي بدأه مارتن لوثر في مطلع القرن السادس عشر أمورًا كثيرة في الكنيسة الكاثوليكية، إلا أنه لم يكن من بينها معاداة اليهودية. فبينما أعرب لوثر في شبابه عن تفاؤله بإمكان تحويل اليهود إلى المسيحية؛ فإنه صار كارهًا لهم في كتابته الأخيرة؛ ففي أعمال مثل «اليهود وأكاذيبهم» (١٥٤٣)، يكتب قائلًا إن اليهود «شعب وضيع وأبناء زنًى، وليسوا شعب الله، وتباهيهم بنسبهم إلى الله وختانهم وناموسهم يجب اعتباره نجاسة.» إنهم مليئون ﺑ «براز الشياطين … الذي يتمرَّغون فيه مثل الخنازير.» وكما يقتبس مايكل عن الكتاب (٢٠٠٦: ١١١–١١٣)، دعا لوثر إلى حرق معابدهم ومدارسهم، ومنع حاخاماتهم من الوعظ، وإتلاف كتب صَلاتهم، وهدم بيوتهم، ومصادرة ممتلكاتهم. بل ويكتب أيضًا أن هؤلاء «الديدان السامة المسمومة» ينبغي أن يُجبروا على العمل القسري أو الطرد على الدوام. بل ويشير لوثر إلى واجب المسيحي بقتل اليهود حينما يكتب «ونحن على خطأ إن لم نقتلهم.»

تغلغلت فكرة أن اليهود قتلوا يسوع حتى في الكتابات الدينية اليهودية. يحتوي التلمود البابلي، مجلد «السَّنهدرين»، مجلد ٤٣أ، على «بيريتا»؛ أي تعليم يعود إلى ما قبل عام ٢٠٠، يقول إن يسوع أُعِدم بمحاكمة يهودية على جريمتَي السحر وإثارة الفتنة. وحُذف هذا التعليم من كثير من النصوص الرسمية للتلمود، تاركًا مساحة بيضاء في الصفحة. في الأدب الشعبي اليهودي أيضًا، مثل «توليدوت ييشو»، وهي سيرة يهودية لحياة يسوع، ينسب موت يسوع إلى اليهود. ويشير مارتن لوكشين من مركز الدراسات اليهودية بجامعة يورك إلى أن «هناك احتمالية أن اليهود في أوروبا المسيحية حتى القرن التاسع عشر على الأقل كانوا يعتقدون أن أسلافهم قتلوا يسوع» (لوكشين، على الإنترنت).

وليس مثيرًا للغرابة أنه فيما تبنَّت ألمانيا سياساتها المعادية للساميَّة قبل الحرب العالمية الثانية، انجذب النازيون لإدانة لوثر لليهود. وهل كانت خطة هتلر التي أُطلق عليها «الحل الأخير» سوى امتداد منطقي لفكرة لوثر التي تقول «نحن على خطأ إن لم نقتلهم»؟ في عام ١٩٢٣ امتدح هتلر «مارتن لوثر» واصفًا إياه بأنه عبقري ألماني عظيم، استطاع أن «يرى اليهود كما بدأنا نراهم اليوم» (سوس، ٢٠٠٦). عقب «ليلة البلور» — الهجوم المدبر على اليهود وممتلكاتهم في العاشر من نوفمبر عام ١٩٣٨ — أشار أسقف تورينجن إلى أن لوثر وُلد في اليوم نفسه عام ١٤٨٣، ووصف حرق المعابد اليهودية بأنه حدث يليق بالاحتفاء بذكرى مولده (جولدهاجين، ١٩٩٧: ١١١). وأثناء الهولوكوست، كان الكاثوليك في سلوفاكيا يتلقَّون تعليمًا من كهنتهم بأن النازيين كانوا يحققون مشيئة الله في إبادة اليهود. وفي سلوفاكيا عام ١٩٤٢، توسل الحاخام ميخائيل دوف-بير فايسماندل إلى رئيس الأساقفة كيمتكو للتوسط عند الرئيس تيسو من أجل إيقاف ترحيل اليهود من سلوفاكيا إلى معسكرات الموت النازية. فكان هذا رد رئيس الأساقفة:

ليس هذا مجرد ترحيل. لن تموتوا هناك من الجوع والطاعون؛ هناك سوف يذبحونكم جميعكم، صغيركم وكبيركم، نساءكم وأطفالكم، في يوم واحد؛ فهذا هو عقابكم على موت مخلِّصنا. لكن أملكم الوحيد في النجاة هو أن تتحولوا إلى ديننا؛ فعندها سأصدر أمرًا بإلغاء هذا المرسوم. (بيركوفيتس، ١٩٧٣: ١٦-١٧)

صدمت أهوال المحرقة العالم حتى النخاع، ودفعت المرجعيات المسيحية إلى مراجعة تعاليمها. وفي عام ١٩٥٩ أمر البابا يوحنا الثالث والعشرون بحذف كلمة «الخونة» من صلوات الجمعة العظيمة. وفي عام ١٩٦٢، دعا البابا يوحنا إلى عقد مجمع الفاتيكان الثاني من أجل تجديد المفاهيم الكتابية في ضوء التجارب الحديثة. بعدها ببضع سنوات، أصدر البابا بولس السادس منشورًا بابويًّا بعنوان «نوسترا إيتاتي»؛ أي «زمننا»، (١٩٦٥) نتج من مداولات الكنيسة حول التعددية الدينية. واستنكر منشور «نوسترا إيتاتي» لوم اليهود كافة عبر جميع العصور على موت يسوع. ينص المرسوم أنه «يجب ألا يُعبَّر عن اليهود بوصفهم مرفوضين أو ملعونين من الله، كما لو كان هذا متَّبَعًا من الكتاب المقدس.» وفي عام ١٩٧٠ أُعيدت كتابة صلوات الجمعة العظيمة بالكامل بعد حذف الإشارات السلبية إلى اليهود، بل واعتُرِف بهم باعتبارهم أول من تلقَّوا كلمة الله.

استأنف البابا يوحنا بولس الثاني (الذي تولى المنصب من عام ١٩٧٨ إلى عام ٢٠٠٥) الجهود لتصحيح توجهات المسيحيين نحو اليهود. وفي أولى رحلاته الرسمية في أنحاء ألمانيا عام ١٩٨٠، التقى المجلس المركزي اليهودي والمؤتمر الحاخامي الألماني، حيث دعا إلى المزيد من الحوار، وصرَّح بأن عهد الله مع اليهود لم يُنقَض قطُّ. وعبَّر البابا بندكت السادس عشر عن شكوكه في الدقة التاريخية لمقولة «ليكن دمه علينا وعلى أولادنا»، في كتابه «يسوع الناصري» (٢٠١١). أشار العديد من العلماء إلى أن هذه الكلمات كتبها بعد موت يسوع بخمسين عامًا أشخاص كانوا يحاولون نَيل استحسان الإمبراطورية الرومانية بتمييز أنفسهم من اليهود الذين سبق أن تمردوا على الحكومة الرومانية، فأسفر هذا عن الهجوم على أورشليم عام ٧٠. ويفترض بعض الدارسين أنه بقول إن بيلاطس وجد يسوع بريئًا، بينما قَبِل «اليهود» مسئولية إعدام يسوع؛ فإن كاتب إنجيل متَّى أخلى مسئولية الرومان من صلب يسوع، ربما كي لا يسيء هو نفسه إلى الرومان (انظر «قاموس أنكور للكتاب المقدس»، ١٩٩٥: ٣٩٩-٤٠٠).

أصدرت الكنيسة الرومانية الكاثوليكية أيضًا بعض الإرشادات لمسرحيات الآلام التي تُعرض خلال الصوم الكبير. وانحسرت معاداة الساميَّة في النصوص التقليدية. ويظهر بيلاطس أكثر قوة واستبدادًا. واختُزل دور الباعة في الهيكل. وأُضيف مؤيدو يسوع إلى الجموع الصارخة خارج قصر بيلاطس. وحُذفت عبارة «ليكن دمه علينا وعلى أولادنا.» وأُكِّدت يهودية يسوع بجعله ينطق بالعديد من العبارات باللغة العبرية، ويُلقَّب عند التحدث إليه باسم «الرابي ييشوا». وفي عام ١٩٩٨، تبنَّت الكنيسة الإنجيلية اللوثرية بأمريكا قرارًا يحث أي كنيسة لوثرية تقدِّم مسرحية الآلام على الالتزام بوثيقة «المبادئ التوجيهية للعلاقات اللوثرية-اليهودية». تنص هذه الوثيقة أنه «يُحظر استخدام العهد الجديد مبررًا للعداء تجاه يهود الزمن الحاضر»، و«يُحظر الإلقاء باللائمة على موت يسوع على اليهودية أو الشعب اليهودي.» ومع ذلك فمن أسفٍ، كما يتضح من موقع jewskilledjesus.com ومواقع أخرى، أنه لا يزال على المسيحيين أن يبذلوا مزيدًا من الجهد قبل أن يُجتث جذر معاداة الساميَّة هذا.

المراجع

  • Anchor Bible Dictionary (1995) Volume 5, Bantam, New York.
  • Benedict XVI (2011) Jesus of Nazareth, Doubleday, New York.
  • Berkovits, E. (1973) Faith after the Holocaust, KTAV, Jersey City NJ and Brooklyn NY.
  • Brown H. (ed) (2010) Justin Martyr’s Dialogue with Trypho the Jew, Gale ECCO, Farmington Hills MI.
  • Chrysostom, J. (1979) Discourses against Judaizing Christians, translated by Paul Harkins The Fathers of the Church Volume 68, Catholic University of America Press, Washington.
  • Goldhagen, D. (1997) Hitler’s Willing Executioners, Vintage, New York.
  • Lockshin, M.I. (online) Who Killed Jesus? A History of the Idea that the Jews Killed Jesus, www.myjewishlearning.com/beliefs/Issues/Jews_and_Non-Jews/Attitudes_Toward_Non-Jews/Christianity/who-killed-jesus.shtml (accessed January 7, 2014).
  • Luther, M. (1543) On the Jews and Their Lies. Translated by Martin Bermann, in Luther’s Works (1971), Fortress Press, Philadelphia.
  • Michael, R. (2006) Holy Hatred: Christianity, Antisemitism, and the Holocaust, Palgrave Macmillan, New York.
  • Paul VI (1965) Declaration on the Relation of the Church to Non-Christian Religions: Nostra Aetate (In Our Time), October 28, www.vatican.va/archive/hist_councils/ii_vatican_council/documents/vat-ii_decl_19651028_nostra-aetate_en.html (accessed January 2014).
  • Süss, R. (2006) Luthers Theologisch Testament, VU University Press, Amsterdam.

(٦) فرية الدم: يستخدم اليهود دم المسيحيين في شعائرهم

خطف يهود بلدة لينكولن صبيًّا ابن ثمانية أعوام اسمه هيو … وأرسلوا إلى جميع مدن إنجلترا تقريبًا حيثما يقطن اليهود، واستدعوا بعضًا من طائفتهم من كل مدينة لحضور أضحية من المزمع أن تُقدم في لينكولن، حيث كانوا يُخفون صبيًّا، كما ذكروا، بغية تقديمه قربانًا. (نسخة من قصة مقتل القديس هيو الصغير، من تأليف ماثيو باريس، مقتبسة في هيامسون، ١٩٠٨: ٨١)

علاوة على موت يسوع، أشير بإصبع الاتهام إلى اليهود في عدد لا حصر له من الجرائم الأخرى. ومن أكثرها سخافة ذلك الزعم — الذي كان شائعًا في العصور الوسطى في أوروبا — بأن اليهود كانوا يقتلون الأطفال المسيحيين ويستخدمون دماءهم في طقوسهم الدينية. وفقًا للباحث ديفيد بياله (٢٠٠٧: ٢)، هذه الخرافة التي يُطلق عليها «فرية الدم» «ترجع في التاريخ الأوروبي إلى القرن الثالث عشر … وقد استمرت في أشكال شديدة التشابه حتى يومنا هذا.» لكن ثمة حالة أسبق، اكتشفها دوجلاس ريموند وبستر (١٩١٣)، وهي حالة ويليام النورتشي، البالغ من العمر اثني عشر عامًا، الذي يُقال إنه عُثِر على جثته المشوهة في الغابة بالقرب من مدينة نورتش بإنجلترا عشية عيد الفصح اليهودي عام ١١٤٤. كتب راهب بندكتي من المنطقة يُدعى توماس المونماوثي كتابًا عن الطفل يدَّعي فيه أن طبيعة الجروح الموجودة على الجثة تشير إلى أن ويليام قُتل بطقوس معينة بأيدي اليهود. يقول توماس إنه وقع الاختيار على ويليام من أجل أضحية عام ١١٤٤. واقتنع الناس على نطاق واسع ﺑ «استشهاد» ويليام، حتى إنه رُسمت صورة فنية تصور هذه الحادثة على حجاب هيكل بكنيسة الثالوث المقدس بلندن بمقاطعة نورفولك، التي بُنيت عام ١٤٩٠. ولا يزال من الممكن اليوم مشاهدة صورة اليهود وهم يصلبون طفلًا مسيحيًّا ويفصدون دمه.

ولعل أشهر حالات فرية الدم تتضمن طفلًا إنجليزيًّا ابن تسعة أعوام يُدعى هيو، يُعتَقد أنه عُثر عليه ميتًا في إنجلترا عام ١٢٥٥. اختفى هيو، وبعدها ببضعة أسابيع عُثر على جثته في بئر. ويقال إن أصدقاءه زعموا أن أحد اليهود المحليين خطفه وعذبه وصلبه — في محاولة للاستهزاء بيسوع. قبضت السلطات المحلية على اليهودي المتهم، ويبدو أنه اعترف تحت التعذيب بأنه قتل الصبي من أجل منفعة المجتمع اليهودي بأسره. اتُّهم تسعون يهوديًّا بالمشاركة في تعذيب هيو وفصد دمه وصلبه — استهزاءً بيسوع. أُعدِم ١٨ شخصًا شنقًا، وصادر الملك هنري الثالث ممتلكاتهم. نُسِبت معجزات إلى الطفل. وأُطلق عليه القديس هيو الصغير، وعُرض جسده في كاتدرائية لينكولن. بعدها تداولت الأغاني الشعبية القصصية الإنجليزية والاسكتلندية قصة «استشهاده»، مثل أغنية «سير هيو أو ابنة اليهودي (التي استدرجت الصبي إلى حديقتها)». وفي «حكايات كانتربري» التي ألفها جيفري تشوسر، تروي رئيسة الدير كيف استأجر اليهود قاتلًا «لذبحه وإلقائه في حفرة … في منزل خارجي، حيث طهر هؤلاء اليهود أوانيهم.» استغرق الأمر من الكنيسة الأنجليكانية ٧٠٠ عام حتى تكذِّب هذه القصة التخيلية.

وفقًا للمؤرخ وولتر لاكور (٢٠٠٦: ٥٥–٦٦)، كان هناك نحو ١٥٠ حالة موثقة عن فرية الدم كانت السبب في اعتقال اليهود أو قتلهم، وهو الأكثر شيوعًا. وكان معظم هذه الحالات في العصور الوسطى، كما يقول لاكور، وإن كانت الادعاءات بأن اليهود يستخدمون الدم البشري من أجل الطقوس الدينية مستمرة حتى اليوم.

لماذا كان من شأن اليهود أن يقتلوا الأطفال المسيحيين؟ ادعى توماس المونماوثي أن أحد اليهود المحليين سبق وأخبره بنبوءة قديمة تقول إن اليهود يمكنهم العودة إلى وطنهم القديم لو أنهم ضحوا بطفل مسيحي سنويًّا. غير أن مزاعم فرية الدم كانت فعليًّا جزءًا من معاداة اليهود الخبيثة التي انتشرت في أنحاء إنجلترا، وفعليًّا في أنحاء كثيرة من أوروبا المسيحية. وكما رأينا، تقتفي دراسات جذور معاداة اليهود جذورها المتعددة، ومنها المزاعم بأن اليهود يدَّعون أن الله اختارهم وحدهم من أجل الخلاص وأن اليهود قتلوا يسوع. يمكننا أن نجد سببًا أكثر دنيوية لمشاعر معاداة اليهود في قوانين القرون الوسطى فيما يتعلق بإقراض الأموال. لم يكن مسموحًا للمسيحيين بإقراض المال بربًا. ولم يكن مسموحًا لليهود أيضًا طبقًا للكتاب المقدس العبري أن يقرضوا يهودًا بربًا (سفر الخروج ٢٢: ٢٤؛ سفر اللاويين ٢٥: ٣٦-٣٧؛ سفر التثنية ٢٣: ٢٠-٢١). لكن اليهود كان مباحًا لهم الربا على غير اليهود. وعليه كان مسيحيون كثيرون يلجَئون إلى المرابين اليهود، فأسفر هذا عن مشاعر حنق متوقعة. في إنجلترا، بلغت مشاعر معاداة اليهود أوْجَها لدرجة طرد كل اليهود من البلد عام ١٢٩٠، ذلك النفي الذي دام أكثر من ٣٥٠ عامًا.

ظهرت قصص مشابهة حول خيانة اليهود في أنحاء أوروبا، ولا سيما في أوقات الأزمات، مثلما حدث خلال «الموت الأسود» الذي ظهر في القرن الرابع عشر حينما أباد الطاعون شعوبًا بأكملها في المنطقة المحيطة بالبحر المتوسط؛ فعلى الرغم من الكثير من التفاسير العلمية، اكتسبت الادعاءات بأن اليهود سمموا آبار المسيحيين شعبية. رأينا بالفعل أن قائد الإصلاح البروتستانتي، مارتن لوثر (١٥٤٣)، نشر كتابًا كاملًا بعنوان «عن اليهود وأكاذيبهم».

كما ذكرتُ قبلًا، لم تتعامل المرجعيات الكنسية بجدِّية مع جذور معاداة الساميَّة في تعاليمها إلا في منتصف القرن العشرين. ولم تظهر الاعتذارات العلنية حتى نهاية القرن العشرين. أصدرت الجماعات اللوثرية سلسلة من الاعتذارات بدءًا من عام ١٩٩٤، وحذت الكنيسة الكاثوليكية حذوها عام ١٩٩٨. لكن من دواعي الأسف أن تستمر معاداة الساميَّة ومنها الافتراءات بأن اليهود يستخدمون دم المسيحيين.

المراجع

  • Biale, D. (2007) Blood and Belief: The Circulation of a Symbol between Jews and Christians, University of California Press, Berkeley.
  • Hyamson, A. (1908) History of the Jews in England, Jewish Historical Society of England, London.
  • Laqueur, W. (2006) The Changing Face of Antisemitism: From Ancient Times to the Present Day, Oxford University Press, Oxford.
  • Luther, M. (1543) On the Jews and Their Lies. Translated by Martin Bermann, in Luther’s Works (1971), Fortress Press, Philadelphia.
  • Webster, D.R. (1913) William of Norwich, in Catholic Encyclopedia, Volume 15, http://en.wikisource.org/wiki/Catholic_Encyclopedia_(1913)/St._William_of_Norwich (accessed January 7, 2014).

قراءات إضافية

  • Dundes, A. (ed) (1991) The Blood Libel Legend: A Casebook in Anti-Semitic Folklore, University of Wisconsin Press, Madison.
  • Glassman, D. (1975) Anti-Semitic Stereotypes without Jews: Images of the Jews in England 1290–1700, Wayne State University Press, Detroit.
  • Rubenstein, W.D. (1996) A History of the Jews in the English-Speaking World: Great Britain, Macmillan, New York.

(٧) نصح بنجامين فرانكلين حكومة الولايات المتحدة بطرد اليهود

أتفق تمامًا مع الجنرال واشنطن بأننا يجب أن نحمي هذه الأمة الشابة من التأثير والاختراق اللئيمين. الخطر، أيها السادة المحترمون، هو اليهود. أينما نزلوا بأي بلد بأعداد كبيرة، حطُّوا من شأنه الأخلاقي؛ وأفسدوا نزاهته التجارية؛ وعزلوا أنفسهم، ولم يندمجوا؛ وازدروا بالدين المسيحي الذي تقوم عليه هذه الأمة، وسعَوا إلى تقويضه باستهداف ضوابطه؛ فبنوا دولة داخل الدولة؛ وحين مقاومتهم، حاولوا خنق هذا البلد ماليًّا، كما هي الحال في إسبانيا والبرتغال.

على مدار أكثر من ١٧٠٠ عام يندب اليهود مصيرهم المشئوم بأنهم طُردوا من وطنهم الذي يسمونه فلسطين. لكن أؤكد لكم أيها السادة أنه حتى لو أعطاهم العالم إياه بلا شروط، فسيتذرَّعون في الحال بأي حجة للعودة. لماذا؟ لأنهم مصاصو دماء، ومصاصو الدماء لا يعيشون على مصاصي الدماء. لا يمكنهم العيش فيما بينهم هم فقط. لا بد أن يقتاتوا على المسيحيين والشعوب الأخرى التي ليست من جنسهم.

إن لم تطردوهم من هذه الولايات المتحدة، في دستورها، ففي أقل من ٢٠٠ عام سيملئون الأرض هنا بأعداد هائلة حتى إنهم سوف يسيطرون على الأرض ويفترسونها، ويغيرون شكل حكومتنا التي أهرقنا نحن الأمريكيين دماءنا من أجلها، وضحينا بأرواحنا وممتلكاتنا، وجازفنا بحرِّيتنا.

إن لم تطردوهم، ففي أقل من ٢٠٠ عام سوف يعمل أحفادنا في الحقول ليكسبوا قوتهم، بينما سيكونون هم مغتبطين في مكاتب المحاسبة. احذروا أيها السادة من أنه إن لم تطردوا اليهود دائمًا؛ فإن أولادكم سوف يلعنونكم في قبوركم.

أيها السادة، اليهود آسيويون، فدعوهم يولدوا حيث لن يكونوا، مهما تعاقبت أجيالهم بعيدًا عن آسيا، غير ذلك. إن أفكارهم لا تناسب أفكار أي أمريكي، ولن تناسبها وإن عاشوا بيننا عشرة أجيال. لا يستطيع النمر المرقط أن يغير رقطه. اليهود آسيويون، وهم خطر على هذا البلد لو سُمح لهم بالدخول، وينبغي إقصاؤهم من قِبَل هذا المؤتمر الدستوري.

مثال أحدث لخرافات معاداة الساميَّة، هو الادعاء بأن الأب المؤسس للولايات المتحدة، بنجامين فرانكلين، ألقى الخطاب المشار إليه أعلاه عام ١٧٨٧ في المؤتمر الدستوري الذي عُقد في فيلادلفيا. من المفترض أن مندوب ولاية كارولاينا الجنوبية في المؤتمر، تشارلز كوتسورث بينكني، هو من سجَّله؛ ففي خطاب إلى جون كوينسي آدامز بتاريخ ٣٠ ديسمبر ١٨١٨، ادَّعى بينكني أنه احتفظ بدفتر يوميات للمؤتمر. غير أن أول مرة رأت فيها نبوءة فرانكلين النور كانت في عام ١٩٣٤ في مقال (مجهول الكاتب) في صحيفة «ليبريشن». وكان رئيس تحرير الصحيفة، ويليام دودلي بيلي، أحد المعجبين بمستشار ألمانيا الجديد أدولف هتلر، ومؤسس «الفيلق الفضي»، وهو منظمة معادية للساميَّة كان أعضاؤها يرتدون زيًّا فضيًّا شبيهًا بالزي النازي. وكان في معظم الولايات الأمريكية أفرع من منظمة الفيلق الفضي، وترشح بيلي للرئاسة عن الحزب المسيحي عام ١٩٣٦.

وفقًا لبيلي، كان خطاب فرانكلين مسجَّلًا في مفكرة بينكني التي كانت مطبوعة في السر. وقال إن نسخة منها كانت محفوظة في معهد فرانكلين في فيلادلفيا. غير أن مدير معهد فرانكلين في ذلك الوقت، هنري باتلر آلين، (١٩٣٨: ١-٢)، ذكر أن «المؤرخين وأمناء المكتبة لم يستطيعوا العثور على [المفكرة] أو أي ثبت يُشير إلى أنها كانت موجودة.»

منذ عام ١٩٣٤، ظهرت نبوءة فرانكلين مرات كثيرة في صحف معادية للساميَّة، ويمكن العثور عليها الآن على الإنترنت. كما أشار إليها أسامة بن لادن في «خطاب إلى الشعب الأمريكي» في أكتوبر ٢٠٠٢:

أنتم أمة تبيح الربا الذي حرَّمته كل الأديان. لكنكم بنيتم اقتصادكم واستثماراتكم على الربا. ونتيجة لهذا، بكل أشكاله ومظاهره المختلفة، استحوذ اليهود على اقتصادكم، ومنه سيطروا على إعلامكم، والآن يتحكمون في جوانب حياتكم كافة، مستعبدينكم ومحققين أهدافهم على حسابكم؛ وهو عين ما حذركم بنجامين فرانكلين منه.

لكن خطاب فرانكلين زائف؛ فقد نشرت رابطة مكافحة التشهير (١٩٥٤) مقالًا مبكرًا يفضح تزييفه. تضمَّن المقال هذا التعليق من المؤرخ الشهير تشارلز إيه بيرد:

لا أستطيع العثور على مصدرٍ أصلي واحد يُقدِّم أدنى مبرر للاعتقاد بأن النبوءة هي أكثر من مجرد تزييف سافر. لم أجد ولو كلمة واحدة في خطابات فرانكلين وأوراقه تعبِّر عن مثل تلك المشاعر المعادية لليهود كما نسبها إليه النازيون — الأمريكان والألمان. الواقع أن تحرُّره المعروف في مسائل الآراء الدينية يجعل من المستحيل أن يكون نطق بالألفاظ التي نسبها إليه هذا التزييف الواضح … في كتاباته عن الهجرة، لم يأتِ فرانكلين على ذكر أي تمييز ضد اليهود.

أشار بيرد أيضًا إلى أن نبوءة فرانكلين تحتوي على عبارات مختلفة عن لغة بنجامين فرانكلين، ولكنها أقرب إلى لغة المناقشات السياسية في القرن العشرين. على سبيل المثال، لم يتحدث أحد في زمن فرانكلين عن «وطن» لليهود؛ فقد ظهرت هذه اللفظة بعد مدة طويلة في مناقشات تتعلق بالصهيونية وضرورة العثور على ملجأ من معاداة أوروبا للساميَّة (انظر بيرد، ١٩٣٥).

والمثير أن السطر الأول من نبوءة فرانكلين يحاول منح الخطاب مزيدًا من السلطة بجعل فرانكلين «يتفق تمامًا» مع جورج واشنطن.

في حقيقة الأمر، كان كلٌّ من فرانكلين وواشنطن على علاقة طيبة بيهود أمريكا، ولم يُظهرا في خطاباتهما أو كتاباتهما أي معاداة للساميَّة. وعندما سعت الجماعة العبرية في فيلادلفيا إلى بناء أول معبد دائم لها، وقَّع فرانكلين على الالتماس الذي ناشد مساهمات من «مواطني كل طائفة دينية»، وتبرَّع هو نفسه بخمسة جنيهات.

وحينما زار واشنطن، وهو رئيس، مدينة نيوبورت بولاية رود آيلاند عام ١٧٩٠، واستقبلته الجماعة العبرية هناك بحفاوة، ردَّ على ذلك بكتابة خطاب لهم اختتمه بهذه الكلمات:

أتمنى لكم يا نسل إبراهيم يا من تسكنون في هذه الأرض أن تظلوا جديرين باستحسان جيرانكم ومتنعمين به؛ ولعل كلًّا منكم يجلس في ظل كَرْمَتِه وشجرة تينه، ولا شيء يخيفه. (هيرشفلد ٢٠٠٥: ١٥)

المراجع

  • Allen, H.B. (1938) Franklin and the Jews. The Franklin Institute News 3 (4) August, 1-2.
  • Anti-Defamation League (1954) “The Franklin Prophecy”: Modern Anti-Semitic Myth Making. Facts, April-May.
  • Beard, C. (1935) Exposing the anti-Semitic forgery about Franklin, Jewish Frontier, March, 1–13.
  • bin Laden, O. (2002) Letter to the American People, The Observer, November 24, www.theguardian.com/world/2002/nov/24/theobserver (accessed January 7, 2014).
  • Hirschfeld, F. (2005) George Washington and the Jews, University of Delaware Press, Newark DE.
  • Liberation (1934) Did Benjamin Franklin Say This about the Hebrews? Liberation 5 (24) February 3.
  • Pinckney, P. (1818) Letter to John Quincy Adams, December 30, www.consource.org/document/charles-pinckney-to-john-quincy-adams-1818-12-30 (accessed January 10, 2014).

(٨) بروتوكولات حكماء صهيون: مؤامرة زعماء اليهود للهيمنة العالمية

وسواء أستنزفَتِ الدول نفسها في اضطراباتها الداخلية، أم أخضعها النزاع الداخلي لسلطان أعداء خارجيين — يمكن على أي حال اعتبار أنها ضاعت بلا عودة: «إنها في قبضتنا». ستمد سيطرة رأس المال الذي هو بأيدينا تمامًا قشة لن تجدَ الدولة مفرًّا من التعلُّق بها. (البروتوكول الأول، الجزء الثامن)

مثال حديث آخر للافتراء المعادي للساميَّة، قدَّمته الحكومة الروسية تحت العنوان الأخاذ «بروتوكولات حكماء صهيون». ألَّفت هذه البروتوكولات نحو عام ١٩٠٠ الأوكَرانا الروسية — الشرطة السرية للإمبراطورية الروسية القيصرية — التي ادَّعت أن هذه البروتوكولات هي مَحاضر اجتماع لحكماء صهيون المتآمرين من أجل تدمير أعراف المجتمع، والتحكم في اقتصادات العالم، والسيطرة على العالم في النهاية.

حرر سيرجي نيلوس، وهو أحد المسئولين القيصريين في موسكو، بضع نسخ من «بروتوكولات حكماء صهيون». وفي طبعات مختلفة، روى قصصًا مختلفة عن الكيفية التي وقعت بها الوثيقة في يديه؛ ففي طبعة عام ١٩١١، ذكر أنه حصل عليها من شخص كان قد سرقها من منظمة صهيونية في فرنسا. وفي طبعة عام ١٩١٧ نسب الوثيقة إلى تيودور هرتزل (١٨٦٠–١٩٠٤) مؤسِّس الصهيونية الحديثة. وبحلول عام ١٩٣٣، كانت هناك ٣٣ طبعة منشورة من البروتوكولات. وفيما جرى تداول البروتوكولات على نطاق أوسع، اختلق «محررون» مختلفون المزيد من التفاصيل عن أصولها. قال بعضهم إنها قُدِّمت في المؤتمر الصهيوني الأول في بازل، بسويسرا عام ١٨٩٧.

ولا تزال «البروتوكولات» متداولة على نطاق واسع عبر العالم من قِبَل الجماعات الدينية المعادية للساميَّة في الغالب. على سبيل المثال، تنشرها مجموعة تُعرف باسم «بايبل بليفرز» على موقعها www.biblebelievers.org.au، بل وتضيف تعليقات من وجهة نظرها تربط بين اليهود والروم الكاثوليكيين. تدَّعي البرتوكولات أن ستة أساقفة على الأقل كانوا يهودًا، منهم البابا بيوس الحادي عشر (١٩٢٢–١٩٣٩). وتضيف جماعة «بايبل بليفرز» أن إجناتيوس لويولا، مؤسِّس الرهبنة اليسوعية، كان يهوديًّا. بعد فقرة تزعم فيها البروتوكولات أن «الكنيسة الرومانية الكاثوليكية — أساس المسيحية وناشرتها — كانت مجرد واجهة لأجندة سرية تديرها يد خفية من خلف الستار»، ومن ثَمَّ «كانت المسيحية من حيث الأساس طريقًا نحو التهويد الأكبر للعالم»، تضيف جماعة «بايبل بليفرز» هذا التعليق: «من أسف، ليس مؤلفنا رجلًا روحيًّا، ويخفق في إدراك أن الكنيسة الرومانية الكاثوليكية لم تكن قطُّ سوى نقيض المسيحية.»
إن مقدمة الترجمة الإنجليزية القياسية للبروتوكولات تشرح عنوان الوثيقة:

تشير لفظة «برتوكول» إلى خلاصة ملصقة على مقدمة وثيقة، ومسوَّدة وثيقة، ومحضر أعمال. بهذا المعنى، تعني لفظة «برتوكول» محاضر اجتماعات حكماء صهيون. تقدِّم هذه البرتوكولات خلاصة الخطابات المقدمة إلى الدائرة العميقة لحكام صهيون. وتكشف خطة العمل المتحولة للأمة اليهودية التي تطورت عبر العصور، ونقحها الحكماء أنفسهم بما يواكب العصر. وكانت تُنشر أجزاء وملخصات للخطة من حين إلى آخر عبر القرون إذ كانت أسرار الحكماء تتسرب.

هناك ٢٤ برتوكولًا:
  • (١)

    المذهب الأساسي.

  • (٢)

    الحروب الاقتصادية.

  • (٣)

    أساليب الغزو.

  • (٤)

    المادية تحل محل الدين.

  • (٥)

    الاستبداد والتقدم الحديث.

  • (٦)

    أسلوب السيطرة.

  • (٧)

    الحروب العالمية.

  • (٨)

    الحكومات الانتقالية.

  • (٩)

    إعادة التعليم.

  • (١٠)

    الاستعداد للسيطرة.

  • (١١)

    الدولة الشمولية.

  • (١٢)

    السيطرة على الصحافة.

  • (١٣)

    وسائل الترفيه.

  • (١٤)

    مهاجمة الدين.

  • (١٥)

    القمع الوحشي.

  • (١٦)

    غسل الأدمغة.

  • (١٧)

    سوء استعمال السلطة.

  • (١٨)

    اعتقال الخصوم.

  • (١٩)

    الحكام والشعب.

  • (٢٠)

    البرنامج المالي.

  • (٢١)

    القروض والائتمان.

  • (٢٢)

    قوة الذهب.

  • (٢٣)

    غرس الخنوع.

  • (٢٤)

    صفات الحاكم.

بعد سيطرة الشيوعيين على روسيا، ارتبط كثير من الهجمات على اليهود بالشيوعيين. وفي عام ١٩١٩، وزع الروس المعادون للشيوعية نسخًا من «البروتوكولات» على القضاة الأمريكيين وأعضاء ديوان الرئاسة.

اكتسبت «البروتوكولات» صدقية كبيرة في الولايات المتحدة عندما نشر هنري فورد — مؤسِّس شركة فورد لتصنيع السيارات — عام ١٩٢٠، نسخة مؤمركة في صورة سلسلة مقالات صحفية أولًا، ثم في صورة كتاب بعنوان «اليهودي العالمي: المشكلة العالمية الأولى، إعادة طبع لسلسلة المقالات التي نُشرت في صحيفة «ديربورن إندبندنت» من ٢٢ مايو ١٩٢٠ [حتى ١٤ يناير ١٩٢٢]».

لقيت نظرية هنري فورد حول مؤامرة يهودية للسيطرة على العالم أصداءً لدى كثير من الناس في الولايات المتحدة وأوروبا، منهم أدولف هتلر. في ديسمبر ١٩٢٢، أفادت صحيفة «نيويورك تايمز» أن مكتب هتلر كان مزينًا بصورة كبيرة لفورد، واحتوى على طاولة كبيرة تغطيها الكتب، «جميعها تقريبًا ترجمة كتاب كتبه ونشره هنري فورد».

وفي محاكمات نورمبرج عقب الحرب العالمية الثانية، ذكر القيادي النازي بالدور فون شيراخ، لدى محاكمته على إرسال ٦٦ ألف يهودي من البندقية إلى معسكرات الاعتقال النازية، أن مجموعة منشورات هنري فورد بعنوان «اليهودي العالمي» كانت مصدر إلهامه إبان شبابه. «كان هنري فورد لنا نموذجًا يُحتذى في النجاح، ونصير السياسة الاجتماعية التقدمية أيضًا. في ألمانيا المضروبة بالفقر والبؤس حينها، كان الشباب يتطلَّعون إلى أمريكا، وبصرف النظر عن الرئيس الخيِّر هربرت هوفر، كان هنري فورد هو من يمثل أمريكا في أعيننا» (وقائع محاكمات نورمبرج، ١٩٤٦).

غير أنه في عام ١٩٢١، نشر فيليب جريفز سلسلة من المقالات في صحيفة «ذي تايمز» في لندن، كشفت أن «البروتوكولات» كانت زائفة بما لا يدَع مجالًا للشك. وأثبت أن أجزاءً من الوثيقة كانت مأخوذة من كتابات سابقة لم يكن لها أدنى علاقة باليهود. وذكر جريفز أنه كان هناك مصدران أساسيان؛ أحدهما «حوار بين مكيافيلِّي ومونتسكيو في الجحيم» في هجاء لموريس جولي في عام ١٨٦٤ عن الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث. جاء كثير من الأفكار المتعلقة بالسيطرة على العالم مباشرة من خطابات لمكيافيلِّي في هذا الكتاب، بعضها مأخوذ حرفيًّا كلمة بكلمة. والمصدر الآخر هو «بياريتز»، وهي رواية صدرت عام ١٨٦٨ من تأليف هرمان جودشي الذي يُعتقد أن فكرة أن اليهود خططوا للسيطرة على العالم هي من بنات أفكاره. في كتاب جودشي يجتمع أمراء قبائل إسرائيل الاثنا عشر في مقبرة يهودية لتقديم تقرير عن التقدم الذي أحرزوه في خططهم للسيطرة على العالم.

بعدما فضح جريفز زيف «البروتوكولات»، قام آخرون بالمزيد من البحث للإضافة إلى أدلته. وعدَل بعض مروجي «البروتوكولات» السابقين عن آرائهم، ومنهم هنري فورد الذي اعتذر على الملأ في عام ١٩٢٧ عن نشره الوثيقة، قائلًا إن مساعديه خدعوه. ومع ذلك، يتوالى نشر الوثيقة، ومن أسف أنها تؤثر في قرائها الجاهلين.

المراجع

  • Ford, H. (1920–1922) The International Jew. The World’s Foremost Problem. Being a Reprint of a Series of Articles Appearing in The Dearborn Independent from May 22, 1920 [to January 14, 1922], Dearborn Publishing Co., Dearborn, Michigan.
  • Graves, P. (1921) “Jewish World Plot.” An Exposure. The Source of the Protocols. Truth at Last, The Times of London, 16–18 August.
  • New York Times (1922) Berlin hears Ford is backing Hitler, December 20, page 2, column 8.
  • Nuremberg Trial Proceedings, Vol. 14, 137, May 23, 1946.

قراءات إضافية

  • Cohn, N. (1996) Warrant for Genocide, 2nd edition, Serif, London.
  • Segel, B. (1996) A Lie and a Libel: The History of the Protocols of the Elders of Zion, translated and edited by Richard Levy, University of Nebraska Pres,. Lincoln, NE.

(٩) يمثل عيد الأنوار لليهود ما يمثله عيد الميلاد للمسيحيين

عيد أنوار سعيد عيد ميلاد سعيد.

لا شك أن المتسوقين إبان العطلات لحظوا أن بطاقات التهنئة بعيد الأنوار («الهانوكا») وزينته تُباعان إلى جانب بطاقات التهنئة بعيد الميلاد وزينته في أمريكا الشمالية. تُظهر إحدى بطاقات المعايدة رَجُلَي جليد متصلين، أحدهما يرتدي قلنسوة يهودية ويُمسك بشمعدان، والآخر يرتدي قبعة حمراء على شكل جورب ويمسك بشجرة صغيرة دائمة الاخضرار. وتقول الأمنية المدوَّنة على البطاقة: «عيد أنوار سعيد عيد ميلاد سعيد». ومن الكلمات المدمجة الأخرى التي تُكتب على البطاقات «هانوكريسماس» و«كريسموكا». ويبيع بعض المتاجر مجموعة هجينة من زينة عيد الأنوار وعيد الميلاد، تحتوي على شمعدان (يُستخدَم في الاحتفال بعيد الأنوار) وشجرة عيد ميلاد معًا. وتتوافر أيضًا زينات ذات رموز يهودية لأشجار عيد الميلاد، مثل «شجرة عيد ميلاد بقمة ترمز لعيد الأنوار» (نجمة داود مثبتة في سلك حلزوني ليتسنَّى تركيبها في قمة شجرة عيد الميلاد)، وجوارب عيد ميلاد عليها نجمة داود، ونماذج شمعدانات صغيرة مصنوعة لتزيين شجرة عيد الميلاد.

تمنح هذه الأمور انطباعًا بأن الاحتفالين متكافئان بطريقة ما، كما لو أن عيد الأنوار هو عيد الميلاد اليهودي وعيد الميلاد هو عيد الأنوار المسيحي. على كل حال، كلاهما يأتي في الإطار الزمني نفسه تقريبًا. يحتفل اليهود بعيد الأنوار ثمانية أيام بدءًا من الخامس والعشرين من شهر كيسليف بحسب التقويم اليهودي. ويحتفل المسيحيون بعيد الميلاد في الخامس والعشرين من ديسمبر. وفي بعض السنوات، مثلما حدث في عام ٢٠٠٥، تزامن هذان التاريخان. وعلى غرار الاحتفالات الدينية الأخرى التي تأتي في أكثر أجزاء السنة ظلامًا، ينطوي هذان الاحتفالان على الضوء. يُسمَّى الهانوكا عيد الأنوار، وفي كل أمسية من الأمسيات الثماني، تُوقَد الشموع في الشمعدان. يوقد المسيحيون الشموع أيضًا، ويضعون الأنوار على شجرة عيد الميلاد. عيد الأنوار وعيد الميلاد هما أيضًا احتفالان اجتماعيان للغاية، تُصنع فيهما أطعمة معينة وتُنشَد أغانٍ خاصة بهما. يتبادل اليهود في أمريكا الشمالية الهدايا، مثلما يفعل المسيحيون في كل أنحاء العالم. ويهتم اليهود والمسيحيون بتقديم الهدايا إلى الأطفال.

غير أن انصهار عيد الميلاد مع الاحتفال اليهودي بعيد الأنوار هو ظاهرة حديثة وتحدث في أمريكا الشمالية في المقام الأول. وفقًا لجوناثان سارنا، أستاذ التاريخ اليهودي الأمريكي بجامعة برانديز، اعتاد اليهود تبادل الهدايا في عيد المساخر («البوريم») فقط، لكن في أواخر القرن التاسع عشر، حينما أصبح عيد الميلاد عيدًا قوميًّا في الولايات المتحدة، تحول منح الهدايا من عيد المساخر إلى عيد الأنوار. في أمريكا القرن العشرين، ولا سيما في أعقاب الهولوكوست، نزع اليهود إلى الاحتفال بعيد الأنوار على غرار عيد الميلاد. لم تحدث هذه التغيرات في أي بلد، ومنها إسرائيل، بأي درجة تداني ما نشهده في أمريكا الشمالية (روزنستوك، ٢٠١٠).

تقول ديان أشتون، مديرة قسم الدراسات الأمريكية بجامعة روان، مؤلفة كتاب «عيد الأنوار في أمريكا: لمحة تاريخية» (٢٠١٣) إن عادة تبادل الهدايا في عيد الأنوار نمت فعليًّا في خمسينيات القرن العشرين، استجابة ﻟ «حسد عيد الميلاد» عند الأطفال اليهود. فبدأ علماء نفس الأطفال اليهود والحاخامات في الترويج لتبادل الهدايا لجعل الأطفال اليهود سعداء بكونهم يهودًا، لا محزونين لأنهم لا يتلقَّون هدايا عيد الميلاد. وتظن أشتون أنه كان هناك حاخامان مؤثران بوجه خاص من مدينة سينسيناتي، كانا يكتبان في الصحف اليهودية القومية. «قال [أحد] الحاخامات إن الأطفال اليهود سوف ينعمون بعيد أنوار عظيمٍ ومجيد، احتفال بروعة أي عيد ميلاد، فيه أغانٍ ومسرحيات وإيقاد شموع، ومثلجات وحلوى. وبدَّل هذا عيدَ الأنوار بالفعل من مراعاة من جانب البالغين للشعائر اليهودية في المقام الأول إلى احتفال يُعتبر مهمًّا خصوصًا للأطفال اليهود، في مسعًى للحفاظ على اهتمامهم باليهودية» (صحيفة «روان توداي»، ٢٠٠٩).

قد يكون الميل إلى دمج عيد الأنوار وعيد الميلاد جديرًا بالثناء من حيث العلاقات الاجتماعية، ولا سيما على خلفية الإرث القبيح لمعاداة الساميَّة وتطاول عهدها. على أن هذا الانصهار قد يُخفي فروقًا مهمة بين التقليدين تستحق مراعاتها، كلٌّ في حد ذاته. بخلاف أوجه التشابه الظاهرية بين عيد الأنوار وعيد الميلاد؛ فإن الاحتفالَيْن مختلفان تمامًا في ثلاثة مظاهر على الأقل.

أولًا: عيد الميلاد هو الاحتفال بميلاد يسوع، الذي يؤمن المسيحيون بأنه الله؛ وبهذا الوصف، فهو واحد من أهم يومين في التقويم المسيحي، واليوم الآخر هو يوم عيد الفصح. أما عيد الأنوار فهو عيد يهودي صغير، وليس أحد الأعياد الكتابية السبعة التي أوصى بها الله شعب إسرائيل عن طريق موسى، وهي المسجلة في الإصحاح الثالث والعشرين من سفر اللاويين. يحيي عيد الأنوار ذكرى انتصار المكابيين، المحاربين اليهود، على إمبراطورية أنطيوخوس الرابع اليونانية-السورية المستبدة عام ١٦٧ قبل الميلاد، وإعادة تدشين الهيكل في أورشليم بعد تحقيق ذلك النصر.

ثانيًا: ميلاد يسوع مُسجَّل في الكتاب المقدس المسيحي، لكن ثورة المكابيين وإعادة تدشين الهيكل ليسا مسجلَين في الكتاب المقدس العبري، الذي كُتِب قبل قرنين من الأحداث التي يحيي ذكراها عيد الأنوار.

ثالثًا: وهو الأهم أنه يوجد صدام أيديولوجي بين كُنْهَي عيد الميلاد وعيد الأنوار. يحتفل عيد الميلاد بمؤسس تقليد ديني بدأ يهوديًّا، لكن حينما أصبح هذا التقليد هو الدين الرسمي للإمبراطورية الرومانية، اضطهد اليهود. أما عيد الأنوار فيحيي ذكرى رفض اليهود في القرن الثاني قبل الميلاد الانصهار في الإمبراطورية اليونانية-السورية التي جاءت قبل الإمبراطورية الرومانية، حتى ولو كان الثمن هو حيواتهم. تُمثِّل الشموع على الشمعدان الأيام الثمانية التي ظل المصباح مضاءً خلالها إبان إعادة تدشين الهيكل بعد استعادته من القوات اليونانية-السورية التي كانت قد دنَّسته وقتلت اليهود لرفضهم عبادة الآلهة اليونانية. مِن ثَمَّ يمثل عيد الأنوار كفاح اليهود للبقاء مخلصين لإلههم وتقاليدهم، بدلًا من ممارسة عبادة أخرى. ومِن ثَمَّ، فخلط الاحتفال بعيد الأنوار مع الاحتفال بدين آخر لا معنى له تقريبًا. طرحت هذه المشكلةَ على الملأ في عام ٢٠١١، جوردانا هورن في مجلة «كفيلر»، وهي مجلة للآباء اليهود. وكانت حجتها الرئيسية هي:

كان المكابيون يؤثِرون الموت على أن يمارسوا أي دين آخر غير دينهم؛ فلقد أدركوا أنهم لن يكونوا ولن يمكنهم أن يكونوا غير ما كانوا؛ أي يهودًا. وهذا التصميم على أن نكون مَن نحن، لا أحدًا آخر، هو ما نحتفل به عندما نحتفل بعيد الأنوار. عيد الأنوار ليس الهدايا، ولا الأغاني اليهودية التي لا تنفد على يوتيوب، وليس «روح العيد». ما نحتفل به، في رأيي، هو الشجاعة والتحدي في سبيل حماية يهوديتنا وهويتنا الحقيقية. «تلك» هي المعجزة الحقيقية. المعجزات هي أنوار هذه الهويات اليهودية للناس؛ إذ يكافحون ضد ظلام بقية العالم الذي يهدد بإفنائهم.

عندما نضيء شمعدان عيد الأنوار، نضيئه في نوافذنا لنُظهر للعالم أننا فخورون بكوننا يهودًا «لا شيئًا آخر». نحتفل بمن نحن. نحتفل بأنه على الرغم من آلاف السنوات من الاضطهاد والكراهية، فإننا لا نزال هنا. سوف نعلِّم أولادنا من نحن، وهم بدورهم سيعلِّمون ذلك لأولادهم. نحن وارثو ميراث تاريخي لا يُقدَّر بثمن.

المراجع

قراءات إضافية

  • Olitzky, K. and Judson, D. (2006) Jewish Holidays: A Brief Introduction for Christians, Jewish Lights Publishing, Woodstock, VT.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤