الفصل الرابع

خرافات عن المسيحية، والمسيحيين، والكتاب المقدس المسيحي

  • (١)

    الأناجيل الأربعة هي روايات شهود عيان لحياة يسوع.

  • (٢)

    يقول الكتاب المقدس إنه حينما نموت تذهب أرواحنا إلى الجنة أو الجحيم.

  • (٣)

    وُلد يسوع يوم ٢٥ ديسمبر في حظيرة في بيت لحم.

  • (٤)

    كان يسوع مسيحيًّا.

  • (٥)

    كان يسوع يبشر بقيم الأسرة.

  • (٦)

    طالما كانت صورة يسوع المصلوب مقدسة عند المسيحيين.

  • (٧)

    قمعت الكنيسة العلم في العصور الوسطى.

  • (٨)

    الكاثوليك ليسوا مسيحيين.

  • (٩)

    أُسِّست الولايات المتحدة بوصفها دولة مسيحية.

مقدمة

يتفق معظم المفاهيم المغلوطة المطروحة في هذا الفصل، من قبيل تاريخ ميلاد يسوع ومكانه، مع وصف الخرافة بأنها سوء فهم للأحداث التاريخية. أوضح البحث العلمي المتأني حقيقة الكثير من مثل هذه المفاهيم الخاطئة دون التأثير جوهريًّا في المعتقدات الأساسية. من جهة أخرى، بعض المفاهيم الخاطئة مثل الادعاءات بأن يسوع كان يبشر بين الناس بالقيم الأسرية، وأن الولايات المتحدة أُسِّست بصفتها دولة مسيحية، لها انعكاسات مهمة على الحياة اليومية. أما الزعم بأن المسيحية قمعت العلم فهو مثال للادعاءات التي استُخدمت لمناهضة المسيحية. على غرار بقية الخرافات المذكورة في هذا الكتاب، جميعها يثبت القوة الدائمة للقصص الجيدة.

(١) الأناجيل الأربعة هي روايات شهود عيان لحياة يسوع

متَّى، مرقس، لوقا، يوحنا
احرسوا فراشي الذي أستلقي فوقه:
أنتم أركان فراشي الأربعة
أنتم الملائكة الأربعة الذين يحيطون برأسي،
واحد يحرس وآخر يصلي
واثنان يحملان روحي بعيدًا.
(ترنيمة لأطفال الروضة في القرون الوسطى فهرس رود للترانيم الشعبية، رقم ١٧٠٤)

يعكس نشيد رياض الأطفال هذا التبجيل العام للأناجيل الأربعة في الكتاب المقدس المسيحي، العهد الجديد. إن التسليم بالأناجيل «الكنسية» الأربعة — تلك المنسوبة إلى متَّى ومرقس ولوقا ويوحنا — شائع لدرجة أن عالِم الدراسات الدينية ستيفن بروذرو عبَّر عن صدمته من أن نصف البالغين الأمريكيين فقط كان بإمكانهم ذكر اسم «مجرد إنجيل واحد من الأناجيل الأربعة»، في كتابه الشهير «محو الأمية الدينية: ما يحتاج أن يعرفه كل أمريكي — ولا يعرفه» (٢٠٠٨). والحق أنه كانت هناك أناجيل أخرى كثيرة متداولة بين المسيحيين على مر القرون العديدة الأولى للمسيحية، وقد نجا الكثير منها حتى اليوم. وحدث في القرن الرابع فقط أن المرجعيات المسيحية الرومانية قصَرت الأناجيل رسميًّا على أربعة فقط، ومنعت بقية الأناجيل الأخرى. واكتُشف كثير من الأناجيل المحظورة مطمورة في جِرار مُحكمة الغلق في نجع حمادي بمصر عام ١٩٤٥. احتوت المجموعة على عدد من النصوص التي تُدعى الأناجيل الغنوصية، وهي قصص عن حياة يسوع وتعاليمه مسرودة من منظور أقلُّ ما يُقال عنه إنه يبدو غريبًا اليوم (انظر باجلز، ١٩٧٩).

حتى إن كان الناس لا يعرفون أسماء الأناجيل الكنسية الأربعة، فهناك مع ذلك اعتقاد شائع بأنها تنقل حكايات واقعية للأحداث في حياة يسوع على لسان أناس شهدوها. أكَّد هذا الفهم للأناجيل في السنوات الأخيرة، على سبيل المثال، عالِم العهد الجديد بجامعة كمبريدج، ريتشارد بوكهام في كتابه «يسوع وشهود العيان: الأناجيل بوصفها شهادات شهود العيان» (٢٠٠٦). غير أن أغلبية علماء الكتاب المقدس يختلفون معه.

في القرنين الأول والثاني، ساعدت الأناجيل في انتشار الحركة الجديدة التي ستُصبح فيما بعد المسيحية. لفظة «إنجيل» مشتقة من الكلمة الإنجليزية القديمة التي تعني «البشارة». يبدأ إنجيل مرقس بآية: «بدء بشارة يسوع المسيح، ابن الله». وفقًا للأناجيل، يسوع هو «المسيَّا»، وهو مصطلح يُشير إلى ملك سوف يحرِّر شعب إسرائيل من مضطهديهم، واللفظة اليونانية لها هي «كريستوس»، بمعنى «الممسوح»، ومنها جاءت كلمة «كريست» (المسيح). ومع أن الرسائل الأساسية التي تنقلها الأناجيل الأربعة متشابهة، فهي تختلف اختلافًا كبيرًا في التفاصيل.

بالنظر إلى نُسَخ الأناجيل الأربعة لقصة النساء اللواتي زرن القبر الفارغ بعد موت يسوع. يخبرنا إنجيل مرقس أن مريم المجدلية، ومريم أم يعقوب، وسالومة ذهبن ليدهنَّ جسد يسوع. وفيما كن يقُلن فيما بينهن مَن يدحرج لنا الحجر عن باب القبر، تطلَّعن ووجدن الحجر قد دُحرج بالفعل. «وَلَمَّا دَخَلْنَ الْقَبْرَ رَأَيْنَ شَابًّا جَالِسًا عَنِ الْيَمِينِ لَابِسًا حُلَّةً بَيْضَاءَ.» طمأنهنَّ الشاب أن يسوع قام، وأخبرهنَّ قائلًا: «اذْهَبْنَ وَقُلْنَ لِتَلَامِيذِهِ وَلِبُطْرُسَ إِنَّهُ يَسْبِقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ. هُنَاكَ تَرَوْنَهُ كَمَا قَالَ لَكُمْ» (مرقس ١٦: ٥–٧). ويقول إنجيل متَّى إنه كانت هناك امرأتان في الصباح، لا ثلاث نساء، وعندما وصلتا القبر، إذا بزلزلة قد حدثت، وجاء ملاك، ودحرج الحجر عن الباب ليفتح القبر (متَّى ٢٨: ١–٤٠). وفي إنجيل لوقا، يزيد عدد النساء إلى خمسٍ على الأقل: «مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ، وَيُوَنَّا، وَمَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوبَ، وَالْبَاقِيَاتُ مَعَهُنَّ» (لوقا ٢٤: ١٠). ثم يتضاعف عدد الرجال/الملائكة: «إِذَا رَجُلَانِ وَقَفَا بِهِنَّ بِثِيَابٍ بَرَّاقَةٍ» (لوقا ٢٤: ٤). ولا يوجد ذكر للجليل في هاتين النسختين من القصة. ويقول إنجيل يوحنا إن مريم المجدلية ذهبت وحدها إلى القبر، وحينما رأت الحجر مرفوعًا عن القبر، لم تدخل، ولكنها ركضت إلى سمعان بطرس ويوحنا وأخبرتهما: «أَخَذُوا السَّيِّدَ مِنَ الْقَبْرِ وَلَسْنَا نَعْلَمُ أَيْنَ وَضَعُوهُ» (يوحنا ٢٠: ١-٢). وركض سمعان بطرس ويوحنا إلى القبر، وهناك وجدا الأكفان الكتانية التي كان ملفوفًا بها جسد المسيح. ثم عادوا إلى البيت ومكثت مريم وأجهشت بالبكاء. عندئذٍ رأت ملاكين وشخصًا ظنت أنه البستاني الذي سألها عن سبب بكائها. وعندما نطق البستاني باسمها، أدركت أنه كان يسوع بالفعل الذي قام من الأموات (يوحنا ٢٠: ١٠–١٦).

ما تعليل الاختلافات بين هذه القصص؟ أوضح إجابة هي أن الإنجيليِّين (مؤلِّفي الأناجيل المفترَضين) لم يكونوا شهودَ عيانٍ للقصص التي كانوا يصفونها.

غالبًا ما يُعتقَد أن الأناجيل الكنسية الأربعة تبدو روايات شهود عيان؛ فهي تصف يسوع عن قرب بوصفه شخصًا حقيقيًّا يمشي بين جميع أنواع الناس، يأكل ويشرب معهم، ويعظ، ويشفي المرضى. وبالفعل، يُعرِّف الجزء الأخير من إنجيل يوحنا كاتب السفر بأنه «التِّلْمِيذ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ … الَّذِي اتَّكَأَ عَلَى صَدْرِهِ وَقْتَ الْعَشَاءِ [الأخير] … هَذَا هُوَ التِّلْمِيذُ الَّذِي يَشْهَدُ بِهَذَا وَكَتَبَ هَذَا» (يوحنا ٢١: ٢٠، ٢٤). ومِن ثَمَّ لم يكن غريبًا أن الناس نزعوا على مرِّ القرون إلى اعتبار أن الأناجيل الأربعة كتبها أصدقاء يسوع. بالمثل يظن كثيرون اليوم أن متَّى ومرقس ولوقا ويوحنا رسله، الرجال الاثنا عشر الأقرب إلى يسوع، أو على الأقل تلاميذه [أتباعه]. غير أننا لم نسمع عن أحد من الرسل أو التلاميذ اسمه مرقس أو لوقا. وفيما كان اثنان من الرسل يُسمَّيان متَّى ويوحنا، يتفق العلماء عمومًا على أن هذين الرجلين لم يكتبا إنجيلَي متَّى ويوحنا. علاوة على ذلك، وفي ضوء التضاربات الموجودة في التفاصيل، يتفق العلماء عمومًا على أنه ما من أحد من مؤلفي الأناجيل الأربعة المفترضين كان شاهد عيان حقًّا على الأحداث التي سجلها، أو حتى كان يعرف يسوع معرفة شخصية.

يعتقد العلماء في الواقع أن جميع الأناجيل كُتِبت بعد رحيل يسوع بعقود. ظهر إنجيل مرقس نحو عام ٧٠، وإنجيلا متَّى ولوقا في الثمانينيات على الأغلب، وإنجيل يوحنا بين عامي ٩٠ و١٠٠. وطُوِّرت القصص الواردة في الأناجيل على مرِّ عقود. ويحدد العلماء ثلاث مراحل لهذه العملية. كانت المرحلة الأولى هي المرحلة الشفهية: كان الناس يتناقلون بالمشافهة قصصًا عما قاله يسوع أو عمله. اشتملت هذه على روايات لعظاته، ومعجزاته، وصَلْبه، وقيامته. في المرحلة الثانية، دوَّن الناس قصصًا عن أقوال يسوع وأعماله. في المرحلة الثالثة، انتقى كُتَّاب الأناجيل مواد من القصص المكتوبة والمنطوقة، وصاغوها في البشارات. يتفق العلماء أيضًا على أن إنجيل مرقس كان أول ما كُتب من الأناجيل الأربعة. ويشيرون إلى أن إنجيلَي لوقا ومتَّى يقتبسان منه بكثافة؛ فمن إجمالي ٦٦١ آية في إنجيل مرقس، تظهر ٣٦٠ آية في إنجيل لوقا، و٦٠٦ آيات في إنجيل متَّى (هيلمز ١٩٨٨: ٣٥، ١٤٢). وهوية مرقس هذا مجهولة، وإن كان العلماء يتفقون على أنه لم يكن شاهد عيان للأحداث التي وصفها. يقول أحد التقاليد القديمة إن شخصًا يُدعى يوحنا مرقس (مذكور في سفر أعمال الرسل ١٢: ١٢ و١٥: ٣٧) ألَّف هذا الإنجيل حينما كان في روما يسجل عظات بطرس. يوحي بعضٌ من اختيارات المؤلف للألفاظ بأن الجمهور المقصود كان جمهورًا غير يهودي يعيش في إيطاليا.

وفقًا لتقليد مسيحي مبكر، كان مؤلف إنجيل لوقا طبيبًا، غير يهودي تحوَّل إلى المسيحية، وصديقًا لبولس، المؤلف الشهير للخطابات (الرسائل) الموجهة إلى المجتمعات المسيحية المتنوعة حول البحر المتوسط (انظر كولوسي ٤: ١٤، وتيموثاوس الثانية ٤: ١١، وفيلمون ٢٤). (إذا كان هذا صحيحًا، فربما تلقَّى مؤلف إنجيل لوقا معلومات من بولس، لكن بولس، مثله مثل لوقا، لم يلقَ يسوع قطُّ.) وكلاهما انضم إلى الحركة الجديدة بعد موت يسوع بسنوات؛ مِن ثَمَّ يعتقد العلماء أن أيًّا منهما لم يشهد الأحداث التي يصفانها.

يقول العلماء إن إنجيل متَّى كُتب على الأرجح في مجتمع يهودي-مسيحي في سوريا بين عامي ٨٠ و٩٠. وهم يعتقدون أن مؤلفه، على غرار مؤلف إنجيل لوقا، اقتبس مواد من مجموعة من أقوال يسوع مفقودة الآن. يطلق العلماء على هذه المجموعة «كيو» اختصارًا لكلمة «كويلا» الألمانية التي تعني «مصدر». وكما الحال مع لوقا، من المستبعد أن يكون شخص لازَم يسوع في تنقلاته واستمع إلى عظاته في حاجة إلى الاعتماد على مصدر ثانوي مثل «كيو».

لكن ماذا عن إنجيل يوحنا، ذلك الإنجيل الذي يُشير إلى أن مؤلفه هو القديس يوحنا الرسول؟ على مدار معظم التاريخ، سلَّم المسيحيون بذلك الادعاء. لكن هل كان بإمكان يوحنا الرسول حقًّا كتابة هذا الإنجيل؟ يختلف إنجيل يوحنا تمام الاختلاف عن الأناجيل الثلاثة الأخرى التي يُطلَق عليها الأناجيل «السينوبتية» (أي المتشابهة) من الكلمتين اليونانيتين اللتين تعنيان «معًا» و«مظهر»، نتيجة للتشابهات الشديدة بينها. أحيانًا ما تضم الكتب التي تتناول العهد الجديد ثلاثة أعمدة متوازية لعرض المثل نفسه أو العظة أو الخبر عن يسوع كما يظهر في أناجيل متَّى ومرقس ولوقا. تتفق هذه الأناجيل عمومًا على ترتيب الأحداث في خدمة يسوع العامة أيضًا. إلا أن إنجيل يوحنا، على عكس الأناجيل المتشابهة، ينفرد دون سواه بتسعين في المائة من محتواه. وبينما تحتوي الأناجيل الأخرى على الكثير من الأمثال، لا يحتوي إنجيل يوحنا على أيٍّ منها. ويختلف تأريخ أحداث خدمة يسوع في إنجيل يوحنا أيضًا عن ذلك الوارد في تلك الأناجيل. يكتب يوحنا عن كثير من أعياد الفصح اليهودي، على نحوٍ يجعل خدمة يسوع تبدو ثلاث سنوات، بينما تتحدث الأناجيل المتشابهة عن عيد فصح يهودي واحد فقط، مغطية سنة واحدة فقط من خدمة يسوع. ويحكي يوحنا عن قصة يسوع وهو يطرد الصيارفة من الهيكل (في إصحاح ٢: ١٣–١٦) في بداية خدمة يسوع. أما مرقس ومتَّى ولوقا، فكلهم يقولون إن هذا الحدث وقع في الأسبوع الأخير من حياة يسوع (مرقس ١١: ١٥–١٧؛ متَّى ٢١: ١٢-١٣؛ لوقا ١٩: ٤٥-٤٦).

ولعل الأمر الأهم في إنجيل يوحنا هو أن تصوير يسوع يختلف اختلافًا عميقًا عما هو موجود في الأناجيل الثلاثة الأخرى؛ فالأناجيل الثلاثة تشير إلى يسوع بوصفه ابن الله، لكنها تذكر أنه وُلد بشرًا. في إنجيل يوحنا، يسوع مكتمل الألوهية، ومِن ثَمَّ هو موجود منذ الأزل. يسوع هو «لوجوس»، بمعنى «الكلمة»، وهو مفهوم من الفلسفة الإغريقية مشابه ﻟ «أشكال أفلاطون» — المخططات الذهنية التي يستخدمها الخالق ديمييرج لصنع الأشياء في العالم:

فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ وَكَانَ الْكَلِمَةُ الله. هَذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللهِ. كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ. (يوحنا ١: ١–٣)

في ضوء هذا الوصف الفريد ليسوع، يستنتج العلماء الحدثاء أن إنجيل يوحنا يقدِّم «كريستولوجيا» (فهم طبيعة يسوع المسيح) متأثرة بالفلسفة اليونانية التي انبثقت بعد موت يسوع، وفي بيئة شديدة الاختلاف عن البيئة التي عاش فيها رفاق يسوع المقربون.

بيد أن الزعم بأن الأناجيل لم يكتبها شهود على الأحداث التي وصفوها، لا ينبغي أن يثير قلق المؤمنين، لأن ذلك ليس غرضها. «لا تزعم [الأناجيل] أنها روايات شهود عيان» لحياة يسوع، كما يقول عالم العهد الجديد بكلية اللاهوت بجامعة هارفارد، آلين دي كالاهان (١٩٩٨). إنما غرضها هو نقل رسائل عن تعاليم يسوع بطرق تُلهم مستمعيها وتقنعهم وتشجعهم. لكن جماهير الإنجيليين كانوا يختلفون أحدهم عن الآخر، وبدا أن المؤلفين كانوا يتعاملون مع الظروف الخاصة لكلٍّ من هذه المجتمعات المتنوعة. على سبيل المثال، كان إنجيل متَّى موجهًا إلى اليهود في المقام الأول؛ ولذا يصف يسوعَ باعتباره متمم نبوات العهد القديم، مثل النبوءة القائلة إن المسيَّا سوف ينحدر من نسل داود الملك. كان موطن داود هو بيت لحم؛ ولذا في هذا الإنجيل يُولد يسوع في بيت لحم. ويقول هذا الإنجيل أيضًا إن مريم كانت عذراء، «كَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ مِنَ الرَّبِّ بِالنَّبِيِّ: «هُوَ ذَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا وَيَدْعُونَ اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ» (الَّذِي تَفْسِيرُهُ: اللهُ مَعَنَا)» (متَّى ١: ٢٢–٢٥). وفي خدمة يسوع بين الناس كما ورد في هذا الإنجيل، تدعوه الجموع «رابي»، وهي الكلمة العبرية لكلمة معلم. وعلى النقيض، كان إنجيل لوقا موجَّهًا في المقام الأول إلى غير اليهود، الناطقين باليونانية، الذين لم يكونوا على دراية بالكتاب المقدس العبري ونبوءاته. ولذا يضم هذا الإنجيل اقتباسات قليلة من الكتاب المقدس العبري، وقلَّما يذكر أن يسوع يحقق نبوءات. وبدلًا من أن تنادي الجموعُ يسوع بكلمة «رابي»، يذكر مؤلف إنجيل لوقا أنهم كانوا ينادونه بالكلمة اليونانية المقابلة لكلمة «السيد».

مرة أخرى، لا تقلل الاختلافات في تفاصيل قصص يسوع التي تحويها الأناجيل الكنسية الأربعة، ولا الأسئلة التي يثيرها العلماء حول هوية مؤلفيها من صحة رسائل هذه الروايات. من وجهة نظر العلماء الحدثاء، هي تشير ببساطة إلى أن هذه الحكايات لم يكن مقصودًا بها أن تكون تسجيلًا حرفيًّا للتاريخ. ولولا ذلك، لما كان من المحتمل أن تختار المرجعيات الكنسية التي انتقت هذه الروايات الأربع من بين الروايات الكثيرة التي كانت متاحة أربع نسخ مختلفة؛ فالحقائق التي تنقلها تسمو على تفاصيل من قبيل الزمان والمكان المحددين لميلاد يسوع، وعدد النساء عند القبر.

المراجع

  • Bauckham, R. (2006) Jesus and the Eyewitnesses: The Gospels as Eyewitness Testimony, Wm. B. Eerdmans, Grand Rapids, MI.
  • Callahan, A.D. (1998) What Are the Gospels? PBS Frontline, www.pbs.org/wgbh/pages/frontline/shows/religion/story/gospels.html (accessed January 8, 2014).
  • Helms, R. (1988) Gospel Fictions, Prometheus Books, Amherst NY.
  • Pagels, E. (1979) The Gnostic Gospels, Vintage Books, New York.
  • Prothero, S. (2008) Religious Literacy: What Every American Needs to Know-And Doesn’t, HarperOne, New York.

(٢) يقول الكتاب المقدس إنه عندما نموت تذهب أرواحنا إلى الجنة أو الجحيم

الآن أضطجع لأنام.
أدعو الله أن يحفظ نفسي.
وإن كان لي أن أموت قبل الاستيقاظ.
فلتسكن روحي عند الرب.
(صلاة للأطفال)
حينما يموت أحد أفراد العائلة، ويتساءل طفل صغير عما حدث، من الشائع قول شيء من قبيل: «لقد صعدت الجدة إلى السماء.» وإن كان الطفل مرتبكًا في البيت الجنائزي حيث جسد الجدة في داخل الصندوق، فقد نضيف شيئًا من قبيل:

ذلك «جسد» الجدة الذي في الصندوق. «روحها» هي التي صعدت إلى السماء. مات جسدها، لكن روحها لا يمكن أن تموت. ستحيا روحها إلى الأبد مع الله.

بيلي جراهام (ميتشام، ٢٠٠٦)، أنجحُ إنجيليٍّ في العصر الحديث، هو مثال جيد لفهم الموت من هذا المنطلق؛ ففي حوار له مع مجلة «نيوزويك»، قال: «أنا لا أخشى الموت. قد يساورني قليل من الخوف من العملية، لكن ليس الموت نفسه، لأنني أومن أنه في اللحظة التي تفارق فيها روحي جسدي، سأكون في محضر الرب.»

كثيرًا ما تردد على مسامع الكثير من الناس هذا الوصف للموت بأنه صعود الروح إلى السماء، لدرجة أنهم يفترضون أنه مذكور في الكتاب المقدس. ليس مذكورًا. ما من كاتب في العهد القديم أو الجديد يذكر حتى كلمة الروح في وصف الموت. ولم يعتبر أيٌّ منهم الروح خالدة بطبيعتها؛ أي لا يمكن أن تموت.

كما رأينا في الخرافة الثانية في الفصل الثاني، الكلمات الكتابية التي تُتَرجم إلى «روح» — «روَح» و«نِفِش» في اللغة العبرية، و«سبيري» و«نِوْما» في اللغة اليونانية — هي الكلمات «هواء» و«ريح» و«نَفَس». ينطبق هذا على كلمة «روح» في معظم اللغات. واليوم، في الغالب، نفكر في «النفس» أو «الروح» على أنها شيء غير مادي، لكن كُتَّاب الكتاب المقدس لم يفعلوا ذلك. في الكتاب المقدس، الروح هي صنف رقيق وخفيف جدًّا من المادة، مثل ما نطلق عليه الآن غازًا. روح الإنسان أو نفسه هي ما تجعله حيًّا. وكما الحال في ثقافات أخرى قديمة، أغلب الظن أن العبرانيين فكروا بهذه الطريقة؛ لأنهم لحظوا أن الفرق بين الحي والميت هو أن الحي يتنفس. مِن ثَمَّ فالنَّفَس، أو الروح، أو النفْس هو ما يجعلك حيًّا. والنَّفَس ليس خالدًا بالطبع؛ فهو يفنى عند الموت مثلما يفنى أي شيء آخر يخص الشخص. بحسب وصف الموتى في العهدين القديم والجديد، هم لا يذهبون إلى أي مكان، وبالطبع ليس إلى السماء ليكونوا بمعية الله. بدلًا من ذلك، كما يعبر بعض كُتاب الكتاب المقدس بأسلوب ملطف: «هم يرقدون في التراب.» كان كاتب سفر الجامعة (٩: ٢–٦) أكثر فظاظة:

الْكُلُّ عَلَى مَا لِلْكُلِّ. حَادِثَةٌ وَاحِدَةٌ لِلصِّدِّيقِ وَلِلشِّرِّيرِ لِلصَّالِحِ وَلِلطَّاهِرِ وَلِلنَّجِسِ … هَذَا أَشَرُّ كُلِّ مَا عُمِلَ تَحْتَ الشَّمْسِ: أَنَّ حَادِثَةً وَاحِدَةً لِلْجَمِيعِ … لِكُلِّ الأَحْيَاءِ يُوجَدُ رَجَاءٌ فَإِنَّ الْكَلْبَ الْحَيَّ خَيْرٌ مِنَ الأَسَدِ الْمَيِّتِ. لأَنَّ الأَحْيَاءَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ سَيَمُوتُونَ أَمَّا الْمَوْتَى فَلَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَيْسَ لَهُمْ أَجْرٌ بَعْدُ لأَنَّ ذِكْرَهُمْ نُسِيَ. وَمَحَبَّتُهُمْ وَبُغْضَتُهُمْ وَحَسَدُهُمْ هَلَكَتْ مُنْذُ زَمَانٍ وَلَا نَصِيبَ لَهُمْ بَعْدُ إِلَى الأَبَدِ فِي كُلِّ مَا عُمِلَ تَحْتَ الشَّمْسِ.

يرى أيضًا سفرا المزامير وأيوب، ومعظم أسفار الكتاب المقدس العبري الأخرى الموت على أنه فناء دائم للإنسان. لا يذكر الله نفسه شيئًا عن الحياة بعد الموت في الكتاب المقدس. بل على العكس، يقول لآدم: «لأنَّكَ تُرَابٌ وَإلَى تُرَابٍ تَعُودُ» (سفر التكوين ٣: ١٩).

وحدث فقط لاحقًا في الكتاب المقدس العبري أن رؤيتين نبويتين قدَّمتا رجاءً بأن يكون ممكنًا إبطال فناء الموت. واحدة في سفر أشعياء (٢٦: ١٤-١٥)، حيث تشير الآية الأولى على ما يبدو إلى الشعب الذي كان يقمع الإسرائيليين:

هُمْ أَمْوَاتٌ لَا يَحْيَونَ. أَخْيِلَةٌ لَا تَقُومُ. لِذَلِكَ عَاقَبْتَ وَأَهْلَكْتَهُمْ وَأَبَدْتَ كُلَّ ذِكْرِهِمْ.

ثم بعدها ببضعة أسطر في الآية ١٩، توجد نبوءة تُبشر بشيء أفضل للإسرائيليين:
تَحْيَا أَمْوَاتُكَ. تَقُومُ الْجُثَثُ.
اسْتَيْقِظُوا. تَرَنَّمُوا يَا سُكَّانَ التُّرَابِ.
لأَنَّ طَلَّكَ طَلُّ أَعْشَابٍ،
وَالأَرْضُ تُسْقِطُ الأَخْيِلَةَ.
توجد الفقرة الأخرى حول القيامة المستقبلية — لبعض الإسرائيليين — في بداية الإصحاح الثاني عشر من سفر دانيال، في رؤية حول نهاية العالم:

وَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَقُومُ مِيخَائِيلُ [أحد الملائكة] الرَّئِيسُ الْعَظِيمُ الْقَائِمُ لِبَنِي شَعْبِكَ وَيَكُونُ زَمَانُ ضِيقٍ لَمْ يَكُنْ مُنْذُ كَانَتْ أُمَّةٌ إِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يُنَجَّى شَعْبُكَ كُلُّ مَنْ يُوجَدُ مَكْتُوبًا فِي السِّفْرِ. وَكَثِيرُونَ مِنَ الرَّاقِدِينَ فِي تُرَابِ الأَرْضِ يَسْتَيْقِظُونَ هَؤُلَاءِ إِلَى الْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ وَهَؤُلَاءِ إِلَى الْعَارِ لِلازْدِرَاءِ الأَبَدِيِّ.

في القرن الأول الذي عاش فيه يسوع، كان هناك جدل كبير بين اليهود حول ما إذا كانت هذه الرؤى النبوية تبرر اعتقاد قيامة الأموات. تمسكت إحدى الجماعات، وهي جماعة الصدوقيين، بوجهة النظر التقليدية القائلة إن الموت هو فناء أبدي. اعتنقت جماعة أخرى، وهي جماعة الفريسيين، وجهة نظر أكثر تفاؤلًا بأنه في نهاية العالم سوف يبعث الله الموتى، ويحاسبهم، ويكافئهم أو يعاقبهم. نادى يسوع بهذه الفكرة نفسها عن القيامة والدينونة الأخيرة، متبوعة بثواب وعقاب. ومع ذلك، في جميع إشاراته إلى القيامة، لا يقول يسوع أبدًا إن الأرواح هي ما سوف يكون في السماء أو الجحيم. كان تعليمه يقول إن الأشخاص سوف يُقامون من الموت، ويُدانون، ويُكافَئون أو يعاقَبون. من وجهة نظر يسوع، كما من وجهة نظر يهود آخرين عاشوا في القرن الأول، الإنسان وحدة متكاملة، جسد تحركه قوة حياة، روح. ولا يقول أبدًا إن الروح يمكن أن توجد بمعزل عن الجسد، أو إن الروح خالدة بطبعها، أو حتى إن بإمكان روح أن تسافر إلى السماء حيث تمثل كينونة الإنسان في السماء — كل هذه الأمور التي اعتاد على زعمها المسيحيون الذين أتوا فيما بعدُ.

إذا لم تكن فكرة ذهاب الأرواح الخالدة إلى السماء نابعة من الكتاب المقدس العبري أو من العهد الجديد، فكيف صارت مقبولة من المسيحيين فيما بعدُ؟ الإجابة أنها تسلَّلت إلى المسيحية مع اكتساب الحركة الجديدة مزيدًا من الأعضاء الذين كانوا متأثرين بالفلاسفة اليونانيين، ولا سيما أفلاطون. كما رأينا، كان أفلاطون يعتقد أن البشر يتألفون من جزأين، أحدهما أساسي والآخر غير أساسي. يُعرَف هذا بالثنائية. أما الجزء الأساسي فهو الروح أو العقل، الخالد بالطبيعة — وهو في حد ذاته يحيا إلى الأبد. وأما الجزء غير الأساسي، وهو الجسد، فيفنى بالموت. لكن الإنسان يواصل الحياة لأن الروح تواصل الحياة. وفيما يخص ما يحدث للروح حين الموت، كان لدى اليونانيين تخمينات عدة. كما الحال في الفكر الهندي، قال كثيرون إنها تتجسد مرة أخرى في جسد جديد على الأرض.

خلال القرون الأربعة الأولى بعد الميلاد، تحوَّل المفكرون المسيحيون بالتدريج من الأفكار الكتابية عن الحياة بعد الموت إلى الأفكار الثنائية، الأفلاطونية. وكان أعظمهم تأثيرًا أوغسطينوس، أسقف هيبو (٣٥٤–٤٣٠)، الذي ذكر أمورًا لو سمعها يسوع لأدهشته، مثل أن الإنسان هو «روح عقلانية تستخدم جسدًا فانيًا ودنيويًّا.» وبحلول العصور الوسطى، كان المسيحيون يتحدثون عن الأرواح الخالدة التي تذهب إلى السماء حين الموت. وكان نحو ١٠٠٠ مسيحي تقريبًا يحتفلون ﺑ «عيد جميع الأرواح» في الثاني من نوفمبر، كي يعقب «عيد جميع القديسين» الذي يُحتفل به في الأول من نوفمبر. ينطوي كلا العيدين المقدَّسين على التفكير في الأرواح كما لو كانت مكافئة للأشخاص. ويتضمن كلاهما أيضًا فكرة أنه قبلما يقيم الله الأموات؛ فإن الأموات يكونون بطريقة ما أحياءً في السماء والمَطْهر [وفقًا للكنيسة الرومانية الكاثوليكية، المَطْهَر هو مكان للعقاب، حيث قد تكفِّر أرواح أولئك الذين ماتوا وهم في نعمة المسيح عن خطايا ماضيهم، ومِن ثَمَّ تتقدس من أجل السماء]. لو سمع كُتَّاب الكتاب المقدس العبري والعهد الجديد هذه الأفكار لأدهشتهم؛ فهم اعتبروا أن الموتى «يرقدون في التراب» وليسوا أرواحًا ترحل إلى السماء أو الجحيم.

المراجع

  • Meacham, J. (2006) Pilgrim’s Progress, Newsweek, August 13.

قراءات إضافية

  • Cullman, O. (1965) Immortality and Resurrection: Death in the Western World: Two Conflicting Currents of Thought, Macmillan, London.

(٣) وُلد يسوع يوم ٢٥ ديسمبر في حظيرة في بيت لحم

في المِذْوَد نام يسوع الحبيب. ونجوم السماء المتلألئة تتطلع إلى حيث يرقد، الطفل يسوع نائمًا في مِذْوَده. (إحدى أغاني عيد الميلاد من القرن التاسع عشر)

في نهاية شهر ديسمبر تقيم آلاف الكنائس وملايين العائلات المذاود — نماذج مجسمة لحظيرة تعتني فيها مريم ويوسف بالطفل يسوع في مذود. ويحيط بهم حيوانات المزرعة، بالإضافة إلى حكماء المجوس الثلاثة الذين أرشدهم نجم إلى مكان الحظيرة. هذه صورة خلابة، لكن علماء الدين والمسيحيين المتبصرين، سواء من الليبراليين أو المحافظين، يقولون إن هذه الصورة مليئة بتفاصيل تخيلية لا توجد في الكتاب المقدس.

يدرك معظم الناس أن يسوع لا يعرف شيئًا عن أشجار عيد الميلاد، ونبات الهدال، وبابا نويل. وعدد أقل بكثير من الناس هم من يفطنون إلى أن يسوع لم يعرف قصة الميلاد المقدمة من خلال المذود أيضًا. بدأت قصص الميلاد مع إنجيلَي لوقا ومتَّى، اللذين كُتِبا بعد ٨٠ عامًا على الأقل من ميلاد يسوع. لم يُقابل كاتبا كلٍّ من إنجيلَي لوقا ومتَّى يسوع قطُّ، ومِن ثَمَّ لم يتلقيا معلوماتهما منه، لكن كلًّا منهما يقدم قصصه باعتبارها تأريخًا مباشرًا، وتلك هي الكيفية التي لا يزال كثير من المسيحيين اليوم يفهمونها بها.

ومع ذلك، فلو حاولنا قراءة إنجيلَي متَّى ولوقا على اعتبارهما تاريخًا، فسنواجه مشكلات. إحداها طريقة اقتفائهما سلسلة نسب يسوع وصولًا إلى الملك داود. يُدرِج إنجيل متَّى ٢٨ جيلًا بين داود ويسوع، لكن إنجيل لوقا به ٤١ جيلًا في فترة الأعوام الألف ذاتها. ويستهل كل إنجيل سلسلة النسب فيه بيوسف باعتباره والد يسوع، لكن إنجيل متَّى يدَّعي أن والد يوسف هو يعقوب، بينما يقول إنجيل لوقا إن والد يوسف هو هالي. ويُواصل إنجيل متَّى من يعقوب سلسلة نسبه بمتان، وأليعازر، وأليود، وأخيم، وصادوق، وعازور، وألياقيم، وأبيهود، وهكذا. أما إنجيل لوقا فيواصل سلسلة نسبه من هالي بمتثات، ولاوي، وملكي، وينا، ويوسف، ومتاثيا، وعاموص، وناحوم، وهكذا. في الطرف الآخر من سلسلة النسب، يُدرِج متَّى الملك داود، ثم سليمان، ورحبعام، وأبيَّا، وآسا، ويهوشافاط، وهكذا. وللأجيال نفسها يدرج إنجيل لوقا الملك داود، ثم ناثان، ومتاثا، ومينان، ومليا، وألياقيم، وهكذا.

مع هذه التناقضات الهائلة، لا يمكن أن تكون سلالتا النسب صحيحتين معًا، وإن كان من الممكن بالطبع أن تكونا خاطئتين معًا. ولمَّا كنا لا نملك سببًا وجيهًا لنؤثِر إحداهما على الأخرى، فليس لدينا سبب وجيه لنقبل أيًّا منهما بوصفها تأريخًا. لماذا إذًا يُفترض بنا التسليم بأن التفاصيل الأخرى الخاصة بميلاد يسوع في إنجيلَي متَّى ولوقا تأريخ؟

يعود أقدم تأريخ للاحتفال بميلاد يسوع في ٢٥ ديسمبر إلى عام ٣٣٦ تقريبًا؛ إذ بدأ المسيحيون يكتسبون القوة في الإمبراطورية الرومانية. بدأ أولئك الموجودون في روما الاحتفال بعيد ميلاد المسيح في ٢٥ ديسمبر. يقول لنا المؤرخون إن الرومان كانوا يحتفلون بأعياد دينية أخرى في أواخر ديسمبر، مِن ثَمَّ كان هذا توقيتًا جيدًا لوضع عيد مسيحي في التقويم.

لحظ علماء المسيحية منذ القرن الثامن عشر التشابهات بين المهرجانات الرومانية وبين عيد الميلاد. قال السير إسحاق نيوتن (المتوفَّى عام ١٧٢٧) إن المسيحيين الأوائل اختاروا الخامس والعشرين من ديسمبر ليتزامن مع الانقلاب الشتوي، وهو أقصر نهار في السنة، ترتفع بعده الشمس شيئًا فشيئًا في السماء ويزداد النهار طولًا. وفي عام ١٧٤٣، أشار بول إرنست جابلونسكي إلى أن المسيحيين جعلوا عيدهم يواكب «عيد ميلاد إله الشمس الذي لا يُقهر» الروماني. وزاد عالم الخرافات جيمس فريزر (2005: xxxvii) في هذا الشرح في مطلع القرن العشرين، معلقًا: «هكذا، يبدو أن الكنيسة المسيحية اختارت الاحتفال بعيد ميلاد مؤسسها في الخامس والعشرين كي تحوِّل عبادة الوثنيين من الشمس إلى المسيح الذي كان يُسمَّى شمس البِر.»

كان عيد ميلاد «إله الشمس الذي لا يُقهر» في الخامس والعشرين من ديسمبر يصادف عيدًا مخصصًا للإله ميثرا الذي كان يُعبَد في الهند بدءًا من عام ٦٠٠ تقريبًا قبل الميلاد. انتقلت عبادة ميثرا إلى بلاد فارس، ثم جنوب غرب آسيا (تركيا حاليًّا). وفي عام ٢٠٠ بعد الميلاد، كانت الديانة الميثرانية شائعة بين الجنود الرومانيين في الأراضي الجرمانية الذين كانوا يُستقدَمون من جنوب غرب آسيا. في بعض الأحيان كان ميثرا يُمثَّل بشجرة دائمة الخضرة، وربما تعود أصول الشجرة التي نتخذها لعيد الميلاد وكان منشؤها ألمانيا إلى شجرة ميثرا (فيرماسيرن، ١٩٦٣: ٧٥).

في الأسبوع الذي يسبق يوم ٢٥ ديسمبر، كان الرومانيون يحتفلون بعيد ثالث، ألا وهو الساتورناليا، المخصَّص للإله ساتورن. وصف الشاعر الروماني كاتولوس الساتورناليا بأنه أفضل وقت في العام، فيه تُقام الولائم، ويتزاور الأصدقاء، وتُقدَّم الهدايا؛ ولذا، فالمزاج المبهج الذي نربطه بعيد الميلاد له مثيل روماني قديم. شجب المسيحيون الذين كانوا يعارضون هذه الروح، مثل البيوريتانيين، الاحتفالَ بعيد الميلاد. كتب القس إنكريز ميذر من بوسطن (١٦٨٧: ٣٥) أن «المسيحيين الأوائل الذين كانوا أول من احتفل بعيد الميلاد في ٢٥ ديسمبر، لم يفعلوا ذلك، ظنًّا منهم أن المسيح قد وُلد في هذا الشهر، وإنما لأن عيد الوثنيين، ساتورناليا، كان يُقام في هذا الوقت في روما، وقد أرادوا أن يحيلوا تلك الأعياد الوثنية أعيادًا مسيحية.» (انظر نيسنباوم، ١٩٩٧: ٤). وبسبب أصول الكريسماس الوثنية، حرمه البيوريتانيون، وقد كان الاحتفال به غير مشروع في ولاية ماساتشوستس من عام ١٦٥٩ حتى عام ١٦٨١.

بينما يتناسب الاحتفال بعيد الميلاد في ٢٥ ديسمبر جيدًا مع التقويم الروماني؛ فإنه لا يتفق مع ما جاء في إنجيل لوقا (٢: ٨)، الذي يقول إنه عندما وُلد يسوع «كَانَ فِي تِلْكَ الْكُورَةِ رُعَاةٌ مُتَبَدِّينَ يَحْرُسُونَ حِرَاسَاتِ اللَّيْلِ عَلَى رَعِيَّتِهِمْ.» والرعاة لا يعيشون في الحقول ويرعون غنمهم في الشتاء، لأن العشب والخضرة تكون جفت بحلول هذا الوقت. وإنما يعتمدون بدلًا من ذلك على التبن المقصوص في وقت مبكر من الموسم.

علاوة على ذلك، لم يأتِ أيٌّ من الأناجيل الكنسية التي تتناول قصة ميلاد يسوع على ذكر كلمة حظيرة، وإن كان إنجيل لوقا (٢: ٧) يقول إن أمه «قَمَّطَتْهُ وَأَضْجَعَتْهُ فِي الْمِذْوَدِ.» يُحتمل أن يكون هذا المذود في حظيرة، وإن كان في كثير من اللوحات المسيحية في كهف. بنى الإمبراطور قسطنطين كنيسة المهد في بيت لحم عام ٣٣٠، بالضبط فوق البقعة التي يُعتقد أن يسوع وُلد فيها. وهذه البقعة موجودة بكهف تحت الكنيسة.

ولعل الأمر الأهم من ذلك أن العلماء يتشككون في الزعم بأن يسوع وُلد في بيت لحم، تلك البلدة التي تبعد ستة أميال جنوب أورشليم. ورد هذا في إنجيلَي متَّى ولوقا. على أن الإنجيلين لا يتفقان على ما كان يفعله مريم ويوسف في بيت لحم. يذكر متَّى أن الملك هيرودس أراد قتل يسوع الرضيع، وأمر بذبح جميع الأطفال الذين يبلغون أقل من عامين حول بيت لحم. ولمَّا حذر ملاكٌ يوسف في حلم، فر بالصبي ومريم إلى مصر. وبعد موت هيرودس، أوحى حلم آخر ليوسف بالرجوع (متَّى ٢: ٦–٢٣). لكن لوقا يقول إن يوسف ومريم كانا في الواقع من الناصرة التي تبعد ٩٠ ميلًا شمالًا. ويقول إنهما فقط ذهبا إلى بيت لحم بناءً على أوامر من الإمبراطور الروماني أوغسطس، الذي أراد إجراء إحصاء للسكان في بلدان أجدادهم. لا توجد سجلات تاريخية تشير إلى إجراء إحصاء للسكان في أنحاء الإمبراطورية الرومانية تحت حكم القيصر أوغسطس. ولا توجد أدلة تاريخية تشير إلى أن الرومان أجروا إحصاءً للسكان بالطريقة التي يصفها لوقا — بجعل الناس يسافرون إلى مَواطن أجدادهم للتسجيل. الغرض من الإحصاء السكاني هو حساب تعداد السكان حيثما يعيشون ويعملون حتى يمكن فرض الضرائب عليهم.

ومما يطعن في صحة الزعم بأن يسوع وُلد في بيت لحم في «يهودا» أيضًا العمل الأثري هناك الذي أظهر قدرًا لا بأس به من المواد التي تعود إلى الفترة ما بين عامي ١٢٠٠ و٥٥٠ قبل الميلاد، ومن القرن السادس الميلادي، لكنها لم تُظهر شيئًا من القرن الأول قبل الميلاد أو القرن الأول الميلادي. بحَث أفيرام أوشري (٢٠٠٥)، كبير الأثريين مع هيئة الآثار الإسرائيلية، موقع مدينة بيت لحم لما يزيد على عشر سنوات، وأورد أنها لم تكن مدينة فعالة طوال قرون قبل ميلاد يسوع وبعده. كتب أوشري في دورية «أركيولوجي»، التي تصدر عن معهد الآثار الأمريكي: «ثمة غياب تام للمعلومات عن آثار من الفترة الهيرودية؛ أي من الحقبة التي وُلد فيها يسوع تقريبًا» (أوشري، ٢٠٠٥: ٤٢). على أنه من المهم بصورة واضحة للإنجيليين الذين كتبوا الأناجيل أن يكون يسوع قد وُلد في بيت لحم، أيًّا ما كانت البلدة التي ينتمي إليها أبواه، لأن بيت لحم كانت مَوْطن داود الملك. ووفقًا لمتَّى ولوقا، كان يسوع هو المسيَّا، وكان متوقعًا أن يأتي المسيَّا من نسل داود الملكي. أضاف متَّى نبوءة من سفر ميخا (٥: ٢): «وَأَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمٍ أَرْضَ يَهُوذَا لَسْتِ الصُّغْرَى بَيْنَ رُؤَسَاءِ يَهُوذَا لأَنْ مِنْكِ يَخْرُجُ مُدَبِّرٌ يَرْعَى شَعْبِي إِسْرَائِيلَ» (متَّى ٢: ٦). وعليه يخبرنا لوقا أيضًا:

فَصَعِدَ يُوسُفُ أَيْضًا مِنَ الْجَلِيلِ مِنْ مَدِينَةِ النَّاصِرَةِ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ إِلَى مَدِينَةِ دَاوُدَ الَّتِي تُدْعَى بَيْتَ لَحْمٍ لِكَوْنِهِ مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ وَعَشِيرَتِهِ. لِيُكْتَتَبَ مَعَ مَرْيَمَ امْرَأَتِهِ الْمَخْطُوبَةِ وَهِيَ حُبْلَى (لوقا ٢: ١–٥).

من المستبعد أن يؤثر مثل هذا الجدل المثار حول التفاصيل التاريخية في التقليد الثمين للاحتفال بميلاد يسوع في حظيرة في الشتاء في بيت لحم. الأمر المهم للمسيحيين هو أنه وُلد من أجل مهمة مقدسة، وذلك ما يضرب مثالًا مكتملًا لمفهوم الخرافة العلمي — الإيمان بشيء مشكوك في دقته التاريخية لكنه ينقل حقيقة راسخة.

المراجع

  • Frazer, J. (2005) The Golden Bough: A Study in Magic and Religion, Cosimo, New York.
  • Mather, I. (1687) A Testimony against Several Prophane and Superstitious Customs, Now Practiced by Some in New England, London.
  • Nissenbaum, S. (1997) The Battle for Christmas: A Cultural History of America’s Most Cherished Holiday, Vintage Books, New York.
  • Oshri, A. (2005) Where was Jesus Born? Archaeology 58 (6), 42–45.
  • Vermaseren, M.J. (1963) Mithras the Secret God, Barnes & Noble, New York.

قراءات إضافية

  • Crossan, J.D. (2004) Jesus: A Revolutionary Biography, HarperSanFrancisco, San Francisco.

(٤) كان يسوع مسيحيًّا

وُلد يسوع المسيح نحو عام ٦ قبل الميلاد في بيت لحم. وقلَّما نعرف عن حياته المبكرة، لكنه في شبابه أسس المسيحية، إحدى أكثر ديانات العالم انتشارًا. (biography.com (على الإنترنت))

منذ بضع سنوات، نشر رئيس الأساقفة الأنجليكاني ديزموند توتو حائز جائزة نوبل للسلام لعام ١٩٨٤، كتابًا عنوانه «الله ليس مسيحيًّا» (٢٠١١). وكان من الممكن أن يضيف إلى هذا الكتاب فصلًا بعنوان «يسوع ليس مسيحيًّا هو أيضًا». يَعتبر كثير من المسيحيين أن يسوع مؤسِّس ديانة جديدة تُدعى «المسيحية». لكنه لم يستخدم قطُّ لفظتي «المسيحية» أو «مسيحي»، لأنهما لم يكن لهما وجود إلا بعد رحيله.

كلمة «المسيح» مستمدة من الكلمة اليونانية كريستوس، التي تعني «الممسوح». وهي ترجمة الكلمة العبرية «مسيَّا»، التي تعني الملك الآتي من نسل داود الملك الذي قالت عنه النبوءات إنه يخلِّص شعب إسرائيل من أعدائه. تسمية يسوع «المسيح» تعني أنه هو «المسيَّا».

في العهد الجديد، تتكرر لفظة «مسيحي» ثلاث مرات فقط، في روايات لأحداث وقعت بعد رحيل يسوع. يقول سفر أعمال الرسل (١١: ٢٦): «وَدُعِيَ التَّلَامِيذُ «مَسِيحِيِّينَ» فِي أَنْطَاكِيَةَ [سوريا] أَوَّلًا». ثم في سفر أعمال الرسل (٢٦: ٢٨–٣١)، عندما كان الملك اليهودي أغريباس يستجوب بولس، فقال له: «بِقَلِيلٍ تُقْنِعُنِي أَنْ أَصِيرَ مَسِيحِيًّا؟». ويأتي ثالث استخدام لها في الكتاب المقدس في رسالة بطرس الأولى (٤: ١٦): «ولَكِنْ إنْ تَأَلَّمَ أَحَدُكُمْ لأنَّهُ «مَسِيحِيُّ»، فَعَلَيْهِ ألَّا يَخْجَلَ، بَلْ أنْ يُمَجِّدَ اللهَ لأجْلِ هذا الاسْم.»

كان هناك اسم آخر يُطلق على أتباع يسوع ألا وهو «الناصريون» — على اسم موطن يسوع، مدينة الناصرة؛ ففي سفر أعمال الرسل (٢٤: ٥)، عندما كان بولس يُحاكَم أمام الوالي الروماني، يقول المدعي تَرْتُلُّسُ: «فَإِنَّنَا إِذْ وَجَدْنَا هَذَا الرَّجُلَ مُفْسِدًا وَمُهَيِّجَ فِتْنَةٍ بَيْنَ جَمِيعِ الْيَهُودِ الَّذِينَ فِي الْمَسْكُونَةِ وَمِقْدَامَ شِيعَةِ النَّاصِرِيِّينَ.»

توضح الطريقة التي تكلم بها تَرْتُلُّسُ عن بولس أنه ظنَّ أن بولس ليس جزءًا من دينٍ جديد، وإنما جزء من طائفة يهودية. وهكذا رأى بولس نفسه، كما يتضح في كلامه حينما دافع عنه نفسه ضد التهم التي وجهها إليه تَرْتُلُّسُ:

أَنْتَ قَادِرٌ أَنْ تَعْرِفَ أَنَّهُ لَيْسَ لِي أَكْثَرُ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا مُنْذُ صَعِدْتُ لأَسْجُدَ فِي أُورُشَلِيمَ. وَلَمْ يَجِدُونِي فِي الْهَيْكَلِ أُحَاجُّ أَحَدًا أَوْ أَصْنَعُ تَجَمُّعًا مِنَ الشَّعْبِ وَلَا فِي الْمَجَامِعِ وَلَا فِي الْمَدِينَةِ … وَلَكِنَّنِي أُقِرُّ لَكَ بِهَذَا: أَنَّنِي حَسَبَ الطَّرِيقِ الَّذِي يَقُولُونَ لَهُ «شِيعَةٌ» هَكَذَا أَعْبُدُ إِلَهَ آبَائِي مُؤْمِنًا بِكُلِّ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي النَّامُوسِ وَالأَنْبِيَاء.ِ (سفر أعمال الرسل ٢٤: ١١–١٤)

كان بولس قبل أن يبدأ في اتباع يسوع، وبعد ذلك، يتعبد في الهيكل في أورشليم، ويداوم على زيارة المعابد، ويؤمن بالشريعة الموسوية والأنبياء. وعندما كان يدافع عن نفسه أمام الملك أغريباس، أشار إلى أنه كان يهوديًّا على الدوام، وأنه قبل أن يبدأ في اتباع يسوع كان «حَسْبَ مَذْهَبِ عِبَادَتِنَا الأَضْيَقِ عِشْتُ فَرِّيسِيًّا» (سفر أعمال الرسل ٢٦: ٥). لو كان جزءًا من دينٍ آخر، لما تعبَّد في الهيكل، وما اتبع العادات اليهودية، ولاتَّهمته المرجعيات اليهودية بالهرطقة أو الردَّة. لكن الملك أغريباس والقيادات الأخرى التي استجوبته «انْصَرَفُوا وَهُمْ يُكَلِّمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا قَائِلِينَ: «إِنَّ هَذَا الإِنْسَانَ لَيْسَ يَفْعَلُ شَيْئًا يَسْتَحِقُّ الْمَوْتَ أَوِ الْقُيُودَ»» (سفر أعمال الرسل ٢٦: ٣١).

وكما كانت الحال مع بولس، بل أكثر، من الواضح أن يسوع وُلد وعاش ومات يهوديًّا. كانت أمه وعائلته يهودًا، وكذلك كان تلاميذه الاثنا عشر. تعبَّد وعلَّم في الهيكل، وكثيرًا ما كان يناقش شريعة موسى وأجزاءً أخرى من الكتاب المقدس العبري. وعلى غرار الفريسيين الذين كان يتحدث معهم باستمرار، كان يؤمن بقيامة الأموات والدينونة الأخيرة في نهاية العالم. وقال عن مهمته: «مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لِأُكَمِّلَ» الناموس والأنبياء — أي الديانة اليهودية التي نشأ فيها. وقال تابعوه إنه كان المسيَّا، ولكي يُثبتوا أنه كان الملك اليهودي الذي تنبَّأت به الكتب المقدسة، تتبَّع إنجيلا متَّى ولوقا نَسب يسوع وصولًا إلى الملك داود. في إنجيل متَّى (١٥: ٢٣-٢٤)، حينما تطلب المرأة الكنعانية العون في شفاء ابنتها المضطربة، قال يسوع في البداية: «لَمْ أُرْسَلْ إِلَّا إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ.» وقالت الأناجيل الأربعة كلها إنه عندما صُلب، كان مكتوبًا فوق رأسه «هذا هو ملك اليهود».

وبعد رحيل يسوع، استمر أتباعه في التعبد بوصفهم يهودًا في الهيكل. يقول سفر أعمال الرسل إن بولس وبطرس ويوحنا بشروا في الهيكل والمعابد، وكانوا يخاطبون الناس هناك بوصفهم «رجال إسرائيل». كان هناك مدارس فكرية مختلفة بين اليهود في ذلك الوقت. عُرف بعضها بأسماء الفريسيين، والصدوقيين، والغيورين. كان يسوع وأتباعه يتفقون مع بعضٍ من هذه الجماعات ويختلفون مع البعض الآخر؛ فقد آمنوا مع الفريسيين بالقيامة والحياة بعد الموت، على سبيل المثال، وهو ما لم يؤمن به الصدوقيون. وقد كانوا مسالمين أيضًا، ومِن ثَمَّ رفضوا رغبة الغيورين في الإطاحة بالحكم الروماني باستخدام العنف. كان أكبر اختلاف بين أتباع يسوع وبين الجماعات اليهودية الأخرى اعتقادهم بأن يسوع هو المسيَّا؛ لكن الاعتقاد بالمسيَّا كان في نهاية الأمر اعتقادًا يهوديًّا وظل هكذا. لم يجعل أي من هذه الخلافات بين اليهود أتباعَ يسوع أو أي جماعة يهودية أخرى في دين جديد.

علاوة على ذلك، لو أن يسوع كان يرغب في بدء دين جديد، لكان من المنطقي أن يكتب، أو يطلب من أحد ما كتابة تعليمات توضح كيف ينبغي تنظيم هذا الدين والحفاظ على بقائه. لكن، على حدِّ علمنا، لم يكتب يسوع أي شيء، ولم يطلب من أحد كتابة أي شيء. ولم تُكتب الأناجيل إلا بعد رحيله بفترة تتراوح ما بين ٤٠ و٧٠ سنة بأيدي أفراد لم يَلقَوه قط، لكنها لم تضم سوى تعليماتٍ مبهمة لتنظيم الجماعة.

إذا كان يسوع يهوديًّا، وأتباعه الأوائل يهودًا، كيف حدث إذًا أن ظهر دين جديد يُدعى «المسيحية»؟ كما أشار الكثير من العلماء، كانت هذه عملية تحدث رويدًا رويدًا في النصف الثاني من القرن الأول، وربما بعده. وكان مما تسبب فيها عمل بولس التبشيري فيما وراء فلسطين في بقاع مثل جنوب غرب آسيا (تركيا الآن) واليونان. هناك وعَظ بولس كلًّا من اليهود والأمميين (غير اليهود). وفي تحويل الأمميين، لم يُلزم رجالهم بأن يصيروا يهودًا بختانهم أولًا. وبمرور الوقت، ومع انضمام المزيد والمزيد من الأمميين إلى الجماعة، صارت الحركة أقل يهودية شيئًا فشيئًا.

كان سبب آخر للانقسام بين أتباع يسوع واليهود الآخرين هو هدم الهيكل في أورشليم في عام ٧٠. مات يسوع عام ٣٠ تقريبًا. في ذلك الوقت، كره يهود كثيرون أن يحكمهم الرومان. وكان يحكمهم قبل ذلك اليونانيون، وقبلهم الفرس، رجوعًا ستة قرون. أراد بعض اليهود، وعلى رأسهم الغيورون، أن يحاربوا من أجل التحرر من السيطرة الأجنبية. تفاقم كره الرومان إلى أن حدث تمرد صريح في عام ٦٦. وردَّ الرومان بتدمير الهيكل في أورشليم وكثير من بقية المدينة. بعدها، لم تعد مزاولة اليهودية تقوم على تقديم الذبائح أو التعبد في الهيكل؛ إذ لم يعد هناك هيكل. ومِن ثَمَّ تطورت طرق جديدة لمزاولة اليهودية. أما الفريسيون، فاشتملت هذه الطرق من وجهة نظرهم على رفع الصلوات ودراسة الناموس وتطبيقاته في الحياة اليومية. وتطور هذا التقليد شيئًا فشيئًا إلى اليهودية التي يقودها الحاخامات (المعلمون) التي تُعرف ببساطة اليوم باليهودية. وأما أتباع يسوع، الذين كان الناموس أقل أهمية لديهم، فتطوروا بطرق مختلفة آلت في نهاية المطاف إلى التقاليد التي تُدعى المسيحية. وأما الجماعتان اليهوديتان الرئيسيتان الأخريان، الغيورون والصدوقيون، فقد اختفتا بعد هدم الهيكل.

لم تُكتب الأناجيل الأربعة إلَّا بعد هدم الهيكل، وفيها نقرأ عن التوتر بين يسوع والشعب الذي يُدعى «اليهود». لم يكن يسوع ليميز نفسه من «اليهود» على الأرجح؛ لأنه كان واحدًا منهم، لكن كُتَّاب الأناجيل من عقود السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات في القرن الأول انشقُّوا جزئيًّا أو كليًّا عن اليهود، ومِن ثَمَّ أمكنهم أن يصوِّروهم بطريقة مناوئة. يُظهر إنجيل يوحنا، وهو آخر إنجيل كُتب، أكبر عداوة لليهود.

كثيرًا ما كانت السجلات التاريخية التقليدية تزعم أنه بعد هدم الهيكل عام ٧٠، «انبثقت» المسيحية من اليهودية، لكن كثيرًا من العلماء يقولون اليوم إن كلًّا من المسيحية «و» اليهودية الحاخامية قد نشأتا مما كان يفعله اليهود قبل عام ٧٠. هكذا يشرح كلٌّ من روبرت وماري كوت الأمور في كتابهما «القوة والسياسة وصنع الكتاب المقدس» (١٩٩٠). يقول ألان سيجال (١٩٨٦: ١) إن كلًّا من اليهودية الحاخامية والمسيحية قد وُلدتا معًا: «يمكننا الحديث عن «ولادة توأمين» ليهوديتين جديدتين، كلتاهما مختلفتان بوضوح عن الأنظمة الدينية التي سبقتهما.»

أيًّا ما تكن طريقة تفكيرنا في الأحداث فيما بعدُ هدم الهيكل عام ٧٠، فمن الواضح أنه قبل ذلك بأربعة عقود، كان يسوع وعائلته وأصدقاؤه يهودًا، لا مسيحيين.

المراجع

  • biography.com (online) Jesus Christ Biography, www.biography.com/people/jesus-christ-9354382 (accessed January 8, 2014).
  • Coote, R. and Coote, M. (1990) Power, Politics and the Making of the Bible, Fortress Press, Minneapolis.
  • Segal, A.F. (1986) Rebecca’s Children: Judaism and Christianity in the Roman World, Harvard University Press, Cambridge MA.
  • Tutu, D. (2011) God Is Not a Christian, Harper Collins, New York.

قراءات إضافية

  • Crossan, J.D. (2010) The Historical Jesus: The Life of a Mediterranean Jewish Peasant, HarperCollins, New York.
  • Galambush, J. (2005) The Reluctant Parting: How the New Testament’s Jewish Writers Created a Christian Book, HarperSanFrancisco, San Francisco.
  • Sheehan, T. (1986) The First Coming: How the Kingdom of God Became Christianity, Random House, New York.

(٥) كان يسوع يبشر بقيم الأسرة

خدمة مسيحية عالمية مكرسة لمساعدة العائلات على النجاح: نحن نقدم المساعدة والموارد للأزواج من أجل بناء زيجات سليمة تعبِّر عن الزواج كما صمَّمه الله، وللآباء لمساعدتهم في تربية أولادهم وفقًا للآداب والقيم القائمة على المبادئ الكتابية. (دكتور جيمس سي دوبسون (على الإنترنت)، مؤسِّس خدمة «فوكَس أون فاميلي»)

تُبَث حوارات «فوكَس أون فاميلي» الإذاعية التي بدأت عام ١٩٧٧ من ٢٠٠٠ محطة إذاعية. ويروِّج موقع christian-life-advisor.com «قيم الأسرة المسيحية. نبضات قلب العائلة المسيحية!» ويمكننا أن نجد برامج مشابهة مصحوبة بترانيم مسيحية على شبكة فاميلي لايف الإذاعية. إن فكرة أن «قيم الأسرة» هي رسالة يسوع المحورية — الأمر الذي يتناقض على نحو صارخ مع التركيز على الصلب الأليم ليسوع — هي ظاهرة حديثة نوعًا ما.
أُسِّست جمعية الأسرة الأمريكية أيضًا عام ١٩٧٧، على يد دونالد إيه وايلدمون، راعي أول كنيسة ميثودية متحدة بمدينة ساوثهيفن، في ولاية مسيسيبي. تملك جمعية الأسرة الأمريكية — التي كانت تُدعى في الأساس الاتحاد الوطني للتهذيب — نحو ٢٠٠ محطة إذاعية وتشغلها تحت شعار «راديو الأسرة الأمريكية». وبرنامجها الإخباري onenewsnow.com يُبَث بالتزامن في أنحاء العالم. وهي تحشد من خلال مواقع مثل onemillionmoms.com وonemilliondads.com داعميها المليونين على الإنترنت لتقديم الشكوى لرعاة البرامج التليفزيونية التي تجدها غير لائقة:

تعتقد جمعية الأسرة الأمريكية أن الثقافة المؤسَّسة على الحقيقة الكتابية هي أفضل ما يخدم رفاهة أمتنا وعائلاتنا، بما يتفق مع رؤية نصوصنا التأسيسية؛ وأن التحول الشخصي من خلال بشارة يسوع المسيح هو أعظم عنصر للتغيير الكتابي في أي ثقافة … إن ما ترنو إليه جمعية الأسرة الأمريكية هو أن تكون رائدة في الفعالية المسيحية. إن كنت مرتاعًا من الفجور والانحلال المتزايدين اللذين يقتحمان أمتنا، وسئمت لعن الظلام، ومستعدًا لإضاءة شمعة، فتفضل بالانضمام إلينا. افعل هذا من أجل أولادك وأحفادك. (جمعية الأسرة الأمريكية، على الإنترنت)

سرعان ما أصبحت فعالية «قيم الأسرة» مرتبطة بمسائل مناهضة السحاق واللواط والثنائية الجنسية وتغيير الجنس. بعدما دعمت شركة هوم ديبوت، أكبر سلسلة لتحسين المنازل في الولايات المتحدة، العديد من مسيرات حقوق اللواطيين، نظمت جمعية الأسرة الأمريكية مقاطعة لمتاجرها. وعندما طُرِدت موظفة مسيحية من سلسلة متاجر ماسيز لرفضها أن تدع رجلًا يرتدي ملابس امرأة يستخدم غرفة تغيير ملابس النساء، نظَّمت جمعية الأسرة الأمريكية مقاطعة لمتاجر ماسيز. وكان العنوان الرئيس الذي تصدَّر موقعها الإلكتروني trustchristorgotohell.org هو «قاطعوا ماسيز اللواطية! طَردت امرأة مسيحية لرفضها السماح لشاذ يرتدي ملابس امرأة بدخول غرف تغيير ملابس خاصة بالنساء.»

مجلس أبحاث الأسرة هو حركة مسيحية ناشطة أخرى. يُطلق على نفسه «الصوت الرائد من أجل العائلة في أروقة السلطة بأمتنا»، وهو يقول إنه «منذ عام ١٩٨٣، ارتقى مجلس أبحاث الأسرة بالإيمان والأسرة والحرية في السياسة العامة والرأي العام.»

وإذ يستخدم هؤلاء المسيحيون مصطلحَ «قيم الأسرة»، فإنه عادة ما ينطوي على معارضة، ليس فقط للمثلية الجنسية، ولكن أيضًا لتعدد الزيجات، وممارسة الجنس قبل الزواج، والإجهاض. ومن وجهة نظرهم، هذه القيم متأصلة في تعاليم يسوع ومثاله. وما يخفقون في وضعه في حسبانهم هو أن يسوع نادرًا ما تحدث عن أيٍّ من هذه القضايا — أو عن الأسرة النووية في واقع الأمر، التي تشير إليها كلمة «الأسرة» في عبارة «قيم الأسرة».

كانت الحياة في فلسطين القديمة مختلفة للغاية عن الحياة اليوم في المجتمعات الصناعية الغربية. الأسرة النووية — المكونة من أب وأم وطفل واحد أو أكثر — هي مؤسسة حديثة. في الكتاب المقدس، لم يكن لدى الكثير من الأبطال والقادة الدينيين زوجات عدة وحسب، ولكن أيضًا «سراري» — مصطلح عام يُشير إلى الزوجات الأخريات والعشيقات والجواري اللاتي يمكن إقامة علاقة جنسية معهن. تزوج إبراهيم، أبو التقليد التوحيدي من سارة؛ لكن عندما لم تكن قادرة على الإنجاب، اتخذ جاريتها هاجر سُرِّيَّة له، وولدت له إسماعيل. وأنجب الملك داود أحد عشر طفلًا من سبع زوجات (سفر أخبار الأيام الأول ٣). وخلفه ابنه الأصغر سليمان ملكًا، وبنى الهيكل في أورشليم. يخبرنا الكتاب المقدس أن سليمان الملك اتخذ ٧٠٠ زوجة و٣٠٠ سُرِّيَّة (سفر الملوك الأول ١١: ١–٣). ومن قبل عام ١٠٠٠ قبل الميلاد إلى ما بعد زمن يسوع بوقت طويل — أي على مدار جميع القرون التي كُتب خلالها العهدان القديم والجديد — كان تعدد الزوجات مشروعًا بين شعب إسرائيل، وإن لم يكن منتشرًا بين الطبقات الدنيا، لأن قليلين هم من كان لديهم ما يكفي من المال لإعالة أسر متعددة.

إذا راعينا الطريقة التي عاش بها يسوع وما قاله أيضًا، يمكننا أن نرى أنه لم يُقدِّر الأسرة النووية. في فلسطين خلال القرن الأول، كان نسل المرء وأسلافه هم من يحددون هويته، مِن ثَمَّ كان من المتوقع من كل بالغ أن يتزوج وينجب. ونادرًا ما وُجد رجل غير متزوج في سن الثلاثين. غير أن يسوع لم يتزوج أو ينجب، حسبما ورد في السجلات التاريخية.

كانت الطريقة المثلى للحياة التي نادى بها يسوع كذلك مختلفة للغاية عن الأسرة النووية الحديثة. اليوم، يعمل أحد الأبوين أو كلاهما في وظيفة بدوام كامل، لكن ما من مؤشر إلى أن يسوع عمل في أي وظيفة على الإطلاق. الحياة الأسرية التي يقدرها المسيحيون اليوم هي الحياة في منزل مستقر، وحبذا لو كانوا يمتلكونه. لكن الأناجيل لا تشير إلى أن يسوع وهو بالغ كان لديه منزل مطلقًا.

علاوة على ذلك، لا تصف الأناجيل افتقار يسوع لوظيفة أو منزل على أنه مجرد اختياره الشخصي لأسلوب حياته. وتقول إنه دعا أتباعه إلى العيش في الفاقة هم أيضًا. وعندما وعظ يسوع قائلًا: «طُوبَاكُمْ أَيُّهَا الْمَسَاكِينُ لأَنَّ لَكُمْ مَلَكُوتَ اللهِ» (لوقا ٦: ٢٠)، لم تكن الكلمة التي استخدمها هي الكلمة اليونانية التي تعني فقراء الفلاحين، وإنما كانت الكلمة المستخدمة للإشارة إلى الشحاذين المُعدِمين. وهذا يتناسب مع الآية التي تليها: «طُوبَاكُمْ أَيُّهَا الْجِيَاعُ الآنَ لأَنَّكُمْ تُشْبَعُونَ» (لوقا ٦: ٢١). يتجاهل كثير من المسيحيين هاتين الآيتين المذكورتين في إنجيل لوقا، ويركزون بدلًا من ذلك على إنجيل متَّى (٥: ٣): «طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ»، التي عادة ما تُفسَّر على أنها مدح للتواضع، لا الفاقة. لكن، كما تقول «نسخة أكسفورد الجديدة من الكتاب المقدس المشروح» (كوجان وآخرون، ٢٠١٠: ١٨٤٠) عما جاء في إنجيل لوقا (٦: ٢٠)، «التركيز هنا على الظروف الاقتصادية والاجتماعية، وليس على الحالات الروحية.»

لم يحدث في أي وقت أن دعا يسوع إلى الحصول على وظيفة، أو كسب العيش، أو الادخار من أجل إعالة أسرة. الواقع أن يسوع ليس فقط لم يدعُ إلى حياة أسرية مستقرة، ولكن يبدو أنه كان يُعارضها:

لَا تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لِأُلْقِيَ سَلَامًا عَلَى الأَرْضِ. مَا جِئْتُ لِأُلْقِيَ سَلَامًا بَلْ سَيْفًا. فَإِنِّي جِئْتُ لِأُفَرِّقَ الإِنْسَانَ ضِدَّ أَبِيهِ وَالابْنَةَ ضِدَّ أُمِّهَا وَالْكَنَّةَ ضِدَّ حَمَاتِهَا. وَأَعْدَاءُ الإِنْسَانِ أَهْلُ بَيْتِهِ. مَنْ أَحَبَّ أَبًا أَوْ أُمًّا أَكْثَرَ مِنِّي فَلَا يَسْتَحِقُّنِي وَمَنْ أَحَبَّ ابْنًا أَوِ ابْنَةً أَكْثَرَ مِنِّي فَلَا يَسْتَحِقُّنِي. (متَّى ١٠: ٣٤–٣٧ النسخة القياسية المنقحة الجديدة)

والأكثر صراحة وَعْظة يسوع في إنجيل لوقا (١٤: ٢٦): «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَيَّ وَلَا يُبْغِضُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَامْرَأَتَهُ وَأَوْلَادَهُ وَإِخْوَتَهُ وَأَخَوَاتِهِ حَتَّى نَفْسَهُ (حياته نفسها) أَيْضًا فَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذًا» (النسخة القياسية المنقحة الجديدة). وفي إنجيل لوقا (٩: ٥٩–٦٢)، حينما يأمر رجلين أن يتبعاه، ينتظر منهما أن ينفصلا في الحال عن عائلتيهما، حتى بلا وداع:

وَقَالَ لِآخَرَ: «اتْبَعْنِي.» فَقَالَ: «يَا سَيِّدُ ائْذَنْ لِي أَنْ أَمْضِيَ أَوَّلًا وَأَدْفِنَ أَبِي.» فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «دَعِ الْمَوْتَى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُمْ وَأَمَّا أَنْتَ فَاذْهَبْ وَنَادِ بِمَلَكُوتِ اللهِ.» وَقَالَ آخَرُ أَيْضًا: «أَتْبَعُكَ يَا سَيِّدُ وَلَكِنِ ائْذِنْ لِي أَوَّلًا أَنْ أُوَدِّعَ الَّذِينَ فِي بَيْتِي.» فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «لَيْسَ أَحَدٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى الْمِحْرَاثِ وَيَنْظُرُ إِلَى الْوَرَاءِ يَصْلُحُ لِمَلَكُوتِ اللهِ.» (النسخة القياسية المنقحة الجديدة)

كانت حياة يسوع ودعوته، إذًا، يُظهران ما يدعوه جون دومينيك كروسان (١٩٩٤: ٥٨) «هجومًا وحشيًّا تقريبًا على قيم الأسرة، ويتكرر هذا كثيرًا جدًّا.» لكن إن لم يكن يسوع يبشر ﺑ «الأسرة» في قيم الأسرة، فماذا عن الجزء الخاص ﺑ «القيم»؟ إن كانت طريقة الحياة التي دعا إليها هي عكس الأسرة النووية للمسيحيين الإنجيليين اليوم تمامًا، فهل كان من شأنه ألَّا يتفق على الأقل مع أحكامهم الأخلاقية بشأن أمور مثل المثلية الجنسية، وممارسة الجنس قبل الزواج، والإجهاض؟

في مسألة المثلية الجنسية لم يقل يسوع أي شيء. يستند كثير من المسيحيين إلى تعاليم الكتاب المقدس العبري، ولا سيما في سفر اللاويين (٢٠: ١٣): «وَإذَا اضْطَجَعَ رَجُلٌ مَعَ ذَكَرٍ اضْطِجَاعَ امْرَأةٍ فَقَدْ فَعَلا كِلاهُمَا رِجْسًا. إنَّهُمَا يُقْتَلانِ. دَمُهُمَا عَلَيْهِمَا» (النسخة القياسية المنقحة الجديدة). لكن يسوع تحدى الكثير من التعاليم الواردة في الكتاب المقدس العبري. تخبرنا الأناجيل كيف كان يُنتَقد بسبب شفائه الناس في يوم السبت (مرقس ٣: ١–٥)، على سبيل المثال، ولقطف السنابل لتناولها في السبت (مرقس ٢: ٢٣–٢٨). لم تكن هذه بالمسائل الهينة في ذلك الحين، فقد كانت عقوبتها الموت (سفر الخروج ٣١: ١٤، ٣٥: ٢؛ سفر العدد ١٥: ٣٢–٣٦). لكن ردَّ يسوع على هذا كان: «السَّبْتُ إِنَّمَا جُعِلَ لأَجْلِ الإِنْسَانِ لَا الإِنْسَانُ لأَجْلِ السَّبْتِ» (بشارة مرقس ٢: ٢٧ النسخة القياسية المنقحة الجديدة). ونظرًا إلى الافتقار إلى أي أقوال من يسوع عن المثلية الجنسية، فما من طريقة للتأكد من أنه ما كان سيرفض التجريم الوارد في سفر اللاويين وعقوباته الصارمة بالمثل.

جدير بالملاحظة أيضًا أن سفر اللاويين يُحرِّم تناول لحم الخنزير والأسماك الصدفية، على سبيل المثال، لكن معظم المسيحيين لا يلتزمون بتلك القواعد. ولا يُنزلون عقوبة الموت بأولئك الذين يعملون في السبت كما يأمر سفر الخروج (٣٥: ٢). لماذا إذًا يُعتبر تحريم أفعال المثلية الجنسية مُلْزمًا؟ والأهم من ذلك أنه، في زمن يسوع، لم يكن اللواطيون والسحاقيات يحظون بقبول واسع النطاق في المجتمع اليهودي، لكن لم يكن كذلك أيضًا السامريون، ولا المبروصون، ولا الجنود الرومانيون، ولا النساء المستقلات. اختلط يسوع بحرِّية بأفراد من كل هذه الجماعات، وفعل كل ما بوسعه لمساعدتهم. وقد انتقدته المرجعيات الدينية على فعله ذلك. إذا كان يسوع يُعامل كل شخص، كما تشير الأناجيل الأربعة، على أنه قيِّم في حد ذاته ومستحِق للحب، فلا يوجد سبب وجيه يدعو إلى الاعتقاد بأن يسوع كان من شأنه أن يدعم حركة «قيم الأسرة» في إدانتها الناس بناءً على هويتهم الجنسية.

المراجع

  • AFA (online) Who Is AFA? www.afa.net/Detail.aspx?id=31 (accessed January 8, 2014).
  • Coogan, M.D., Brettler, M.Z., Newsom, C.A. and Perkins, P. (eds) (2010) The New Oxford Annotated Bible with Apocrypha: New Revised Standard Version. Oxford University Press, Oxford.
  • Crossan, J.D. (1994). Jesus: A Revolutionary Biography, HarperSanFrancisco, San Francisco.
  • Dobson, J.C. (online) Focus on the Family, www.focusonthefamily.com/about_us.aspx (accessed January 8, 2014).

(٦) طالما كانت صورة يسوع المصلوب مقدسة عند المسيحيين

أيا رأس المسيح المقدس،
توَّجوك بالأشواك الثاقبة!
أيا رأس المسيح النازف،
جرحوك بقوة!
شتموك واستهزءوا بك!
شوَّهت خطايانا بهاء وجهك الأقدس،
الذي تعشقه حشود الملائكة،
وترتعد أمامه.
(ترنيمة من كلمات هنري ويليامز بيكر (١٨٢١–١٨٧٧)، مستلهَمة من برنارد رئيس دير كليرفو (١٠٩١–١١٥٣) وبول جرهارد (١٦٠٧–١٦٧٦))

أكثر رموز المسيحية الغربية عالميةً هو الصليب. في كل أنحاء الغرب، تُميِّز الصلبان الكنائس والمباني المسيحية الأخرى. ومنذ العصور الوسطى، تتخذ الرسوم الهندسية لمعظم الكنائس شكل صلبان. ويُسمَّى معظم الكنائس الرومانية الكاثوليكية باسم «الصليب المقدس»، وتتضمن أسماء الكثير من الكنائس البروتستانتية كلمتي «الصليب» و«المسيح المصلوب». والعلامة القياسية لقبرٍ مسيحيٍّ ما هي الصليب. وثمة آلاف الأعمال الفنية التي تصوِّر صلب يسوع — دق المسمار في جسد يسوع على الصليب. ويُدخل الكثير من الرتب الدينية المسيحية الصليب في تصميم ملابسهم، ويرتدي مئات الملايين من المسيحيين الصلبان في سلاسل وحلي أخرى.

تعلَّم المسيحيون الغربيون أنه بموت يسوع على الصليب، أنقذ الجنس البشري من العقاب الأبدي. من أجل هذا وُلد وعاش على الأرض كما اعتاد كثيرون أن يقولوا. ويضيف كثيرون أنه بموته على الصليب دفع عنا الدَّين الذي ندين به لله مقابل خطايا البشرية، وبذا فتح الطريق أمام الناس للذهاب إلى السماء بعد الموت. كانت هذه الميتة التكفيرية هي أهم حدث في التاريخ، من وجهة نظر المؤمنين؛ ولذا، من اللائق أن يرمز الصليب للمسيحية الغربية.

في الربيع، يحتفل المسيحيون بموسم الصيام الكبير، وهو وقت مكرَّس للتوبة والتأمل في صلب يسوع. يكرس الآلاميون — رتبة كنسية لكهنة الكنيسة الرومانية الكاثوليكية — حياتهم للوعظ عن الطريقة التي صُلب بها يسوع. إذ يُلقون العظات التي توضح أن المسامير لم تُدق في راحتَي يديه — فلو أن المسامير كانت قد دُقَّت في راحتَي يديه، لكان ثقل وزنه جعل المسامير تمزق لحم يديه، ولسقط من على الصليب. بدلًا من ذلك، دُقَّت المسامير بين العظام في رُسغيه، حتى يبقى في ألم الصَّلب على الصليب. صنع الممثل/المخرج ميل جيبسون فيلم «آلام المسيح» في عام ٢٠٠٤، حتى يصور على نحوٍ درامي كم عانى يسوع في صَلْبه.

لكن التركيز على صلب يسوع باعتباره الجانب المحوري في مهمة يسوع على الأرض هو تطوُّر متأخر نوعًا ما كما أثبتت العالمتان ريتا ناكاشيما بروك وريبكا آن باركر. تفترض المؤلفتان في كتابهما «إنقاذ الفردوس: كيف قايضت المسيحية حب هذا العالم بالصلب والإمبراطورية» (2008: xi)، أن الأعمال الفنية المسيحية التي تصوِّر الصلب، المُعَدَّة للعرض العام في الكنائس، لم تظهر إلا بعد القرن التاسع؛ فقد زارتا الكنائس والأديرة والمدافن والأضرحة والمتاحف في إيطاليا وتركيا وبقاع أخرى عاش فيها المسيحيون الأوائل، حيث عثرتا على عشرات من صور يسوع التي تعود إلى ما قبل القرن العاشر، لكنه لم يكن مصلوبًا على الصليب في أيٍّ منها.
خلافًا لذلك، تُظهره الصور التي تعود إلى النصف الأول من التاريخ المسيحي معافًى وسعيدًا — في هيئة راعٍ، أو شافٍ، أو صانع معجزات، أو معلِّم. ويظهر في كثير منها بلا لحية، وبشعر طويل. وغالبًا ما يكون واقفًا وسط منظر طبيعي خلاب به نباتات ملونة، أو أنهار متدفقة، أو يمام، أو بجع، أو غزلان. توجز بروك وباركر الموضوع كما يأتي:
حالما نظرنا في أثاث كنيسة أخرى من الكنائس الأولى، رأينا بقدر أوضح كيف أن كلًّا منها صوَّرت أبعادًا من الفردوس. أتاحت المِساحات للمسيحيين بيئة بصرية وارفة: كونًا من النجوم في سموات منتصف الليل، وأشعة الشمس الذهبية، والمياه المتلألئة التي تعج بالأسماك، وحيوانات مملوءة حيوية، ومروجًا وارفة مليئة بالأزهار وأشجار الفاكهة … كانت الفردوس، كما أدركنا، هي الصورة السائدة للأماكن المقدسة المسيحية الأولى. (بروك وباركر، 2008: xiv)

لكن إذا كان المسيحيون قد بجَّلوا طيلة تسعة قرون يسوع قويًّا يعيش في فردوس، فكيف حدث أن المسيحيين الذين جاءوا بعدها عبدوا يسوع هزيلًا يُعذَّب حتى الموت؟ تقول بروك وباركر إننا لكي نفهم هذا التحول في الخيال المسيحي، يجب أن نعرف مَن صنع أول عمل فني لعملية الصَّلب للكنائس. إن أقدم عمل من هذه الأعمال لا يزال باقيًا هو صليب جيرو (سُمِّي تيمُّنًا برئيس الأساقفة الذي أمر بصنعه) بكاتدرائية كولونيا. وهو نحت للمسيح المصلوب بالحجم الطبيعي من خشب البلوط، صنعه الساكسونيون عام ٩٦٥ تقريبًا. والساكسونيون قبائل جرمانية أجبرتها على اعتناق المسيحية جيوش شارلمان، ملك الفرنجة، بعد أن هزمهم في سلسلة من الحروب (٧٧٢–٨٠٤). فبعد انكسارهم، كان عليهم أن يختاروا بين العماد والموت. ولم يكتفِ شارلمان بشن الحرب على الساكسونيين أكثر من ثلاثين عامًا، ولكنه، بعد انتصاره، نفى عشرة آلاف منهم، ومنح أراضيهم للأبوترايت، وهي جماعة ساعدته في هزيمتهم. وكما تشرح بروك وباركر، يعكس صليب جيرو العنف الذي جرى من خلاله تحويل الساكسونيين إلى المسيحية. لقد فرضوا رؤيتهم المأساوية لمعاناتهم على دينهم الجديد، وبهذا حولوا يسوع إلى ضحية مثلهم. وفي القرون التالية، أصبحت الأعمال الفنية التي تتناول موضوع الصلب أكثر دموية، جاعلة التفاصيل المرعبة لمعاناة يسوع في صميم رؤية الرهبان الآلاميين وميل جيبسون.

تزامن عرض تماثيل يسوع الصليب في الكنائس الغربية مع حدوث تحوُّل مهمٍّ في اللاهوت المسيحي؛ فقد كانت هذه الفترة هي التي شهدت انتشار نظرية الكفَّارة — فكرة أن يسوع قد صُلب ليدفع دَيْن الخطيئة البشرية — في كتاب أَنْسِلم، أسقف كانتربري (تُوفي عام ١١٠٩)، بعنوان «لماذا تجسَّد الله؟». كان لدى الأجيال الأولى من المسيحيين تفسيرات مختلفة تمامًا لما أنجزه يسوع بحياته وموته. قال جميع اللاهوتيين المسيحيين تقريبًا إنه بوقوع آدم وحواء في الخطيئة، وقعا هما وجميع نسلهما تحت ولاية الشيطان، وإن موت يسوع على الصليب كان جزءًا من الصفقة التي أبرمها الله مع الشيطان كي يفديهم أو «يخلِّصهم». كان من بين هؤلاء المفكرين أوريجانوس، وإيرينيئوس، وجريجوريوس أسقف نيصص، وأمبروز، وأوغسطينوس، ويوحنا ذهبي الفم، وجريجوريوس الكبير. إلى كل هؤلاء المفكرين اللاهوتيين، وجَّه أنسلم سؤالًا بسيطًا: كيف أمكن للشيطان أن يحصل على الولاية على الجنس البشري من الله القدير غير المحدود؟ يستطيع الله أن يفعل ما يريد في الحال وبلا عناء؛ ومِن ثَمَّ، ففكرة أن الله اضطُر إلى إبرام صفقة مع الشيطان لاسترداد الجنس البشري لا يمكن أن تكون صحيحة.

بدلًا من كل نظريات الفداء التي كانت سائدة حينئذٍ، اقترح أنسلم نظريته — الكفَّارة. قال: إن الله، بصفته ملك الكون، تدين له خليقته بالطاعة الكاملة. وعليه، عندما عصا آدم وحواء الله في جنة عدن؛ فإنهما خاناه فيما يستحقه. وبوقوعهما في الخطيئة؛ فإنهما خلقا دَيْنًا، ولكي يغفر الله خطيئتهما، فلا بد من ردِّ دَيْنه. ما جعل الأمور أسوأ على الجنس البشري الذي ورث الخطيئة الأصلية من آدم، أن الإساءة في حق كائن غير محدود — الله — هي إساءة غير محدودة، وتستلزم لذلك دفع ثمن غير محدود. لم يكن الجنس البشري يقدر على دفع ثمن غير محدود، بالطبع. لا يستطيع سوى كائن غير محدود — الله — فعل ذلك. وهكذا، ما كان مطلوبًا هو دفع ثمن غير محدود «إلى» الله، «من قِبَل» الله نيابةً عن البشرية. وهذا في رأي أنسلم، هو ما حققه موت الله الإنسان، يسوع. بكلمات أنسلم، لمَّا كان الثمن «لا يستطيع أن يدفعه أحد سوى الله، ولا ينبغي أن يدفعه أحد سوى الإنسان، كان من الضروري إذًا أن يدفعه الله المتجسد في صورة إنسان» («لماذا تجسد الله؟» الفصل السادس). دفع يسوع هذا الثمن بموته على الصليب.

راجت نظرية الكفَّارة التي وضعها أنسلم بين المسيحيين الغربيين، ولكنها لم تلقَ رواجًا بين المسيحيين الشرقيين مثل الأرثوذكس اليونانيين، الذين سبق أن انشقوا رسميًّا عن الكنيسة الرومانية الكاثوليكية في «الانشقاق الكبير» عام ١٠٥٤، بعد قرون من التباعد. ولأن المسيحيين الشرقيين لم يروا الصلب جوهر حياة يسوع، فلم يبجِّلوا المسيح المصلوب. وحتى في الغرب، لم ينجرف الجميع مع أنسلم. علَّق أحد النقاد القدامى، وهو بيتر أبيلار (تُوفي عام ١١٤٢)، قائلًا:

كم يبدو قاسيًا وفاسدًا أن يطلب [الله] دم البريء ثمنًا لأي شيء، أو أن يرضيه بأي شكلٍ من الأشكال ذبح شخص بريء — ما بالك بأن ينظر الله إلى موت ابنه بمثل هذا القبول بأنه بموته تصالح مع العالم كله. («تعليق على رسالة إلى أهل رومية»، مقتبس في كتاب بروك وباركر، ٢٠٠٨: ٢٩٣)

لكن نظرية الكفارة راجت في المسيحية الغربية.

بعدها بأربعة قرون، عدَّل المصلحان مارتن لوثر (تُوفي عام ١٥٤٦) وجون كالفن (تُوفي عام ١٥٦٤) نظرية الكفارة عند أنسلم، ليركزا على الصلب باعتباره عقوبة على الخطيئة. يُطلَق على أفكارهما الآن نظرية البدلية العقابية للكفارة. وفقًا لتلك النظرية، على الرغم من أن يسوع كان بلا خطيئة؛ فإن الله وضع عليه ذنب خطايا الناس، وهو، بعد أن أخذ مكانهم، احتمل العقاب الذي كانوا يستحقونه. وكان موته على الصليب هو الثمن الكامل لجميع خطايا البشر، ومِن ثَمَّ أرضى كلًّا من غضب الله وبره. ومِن ثَمَّ أصبح الله حرًّا الآن كي يسامح الخطأة.

على الرغم من أن عملية صلب المسيح صارت محورية للمسيحيين خلال الأعوام التسعمائة الأخيرة؛ فإنها لم تكن كذلك على الدوام.

المراجع

  • Anselm of Canterbury (2013) Cur Deus Homo: To Which Is Added a Selection of His Letters, Hard Press Editions, Stockbridge, MA.
  • Brock, R.N. and Parker, R.A. (2008) Saving Paradise: How Christianity Traded Love of This World for Crucifixion and Empire. Beacon Press, Boston.

(٧) قمعت الكنيسة العلم في العصور الوسطى

ضربت ظاهرة فقدان الذاكرة العلمية كل أنحاء أوروبا … منذ عام ٣٠٠ حتى عام ١٣٠٠ على الأقل. خلال تلك القرون، قمع الإيمان والعقيدة الجامدة المسيحيان صورة العالم النافعة التي رسمها الجغرافيون القدماء بتمهُّل شديد ومعاناة كبيرة وبدقة متناهية. (دانييل بورستين (1983: x)، أمين مكتبة الكونجرس)

يعكس الاقتباس المذكور أعلاه سوء فهم شائعًا عن مصير البحث العلمي بين يدي المسيحية في العصور الوسطى. بالمثل، في كتاب «الكون» — الكتاب العلمي الأكثر مبيعًا دومًا باللغة الإنجليزية — يقدم الفلكي كارل ساجان (١٩٨٠: ٢٨٠) إطارًا زمنيًّا للأشخاص الذين اقترنوا بعلم الفلك، يبدأ من اليونان القديمة بطاليس الملطي (تُوفي نحو عام ٥٤٦ قبل الميلاد)، ثم ينتقل إلى هيباتيا السكندرية (تُوفيت عام ٤١٥ ميلاديًّا)، لكنه بعدئذٍ يقفز ألف عام ليستكمل الإطار الزمني بكريستوفر كولومبوس وليوناردو دافينشي. وتعليق ساجان على ما يسميه «العصور المظلمة» هو أن: «الفجوة الألفية في منتصف المخطط البياني تمثل فرصة ضائعة فادحة للنوع البشري.» وفي وقت أحدث، افترض تشارلز فريمان (٢٠٠٣) أن العلوم انحسرت بدرجة هائلة بعدما أصبحت المسيحية الدين الرسمي للإمبراطورية الرومانية.

حتى أولئك الذين لم يقرءوا هذه الكتب، تناهى إلى مسامعهم أنه خلال «العصور المظلمة» ظنَّ المسيحيون الأوروبيون أن الأرض مسطحة. واحتاج الأمر أن يثبت كريستوفر كولومبوس ثم العلماء الحديثون، وفق القصة، أنها مستديرة.

سمع كثيرون منا بمثل تلك العبارات التي تصف الصراع بين العلوم والمسيحية مرارًا وتكرارًا لدرجة أننا قد نظن أنه صراع قديم. الواقع أن هذا الصراع بدأ منذ أقل من ١٥٠ عامًا. لم يبدأ الأشخاص الذين درسوا الطبيعة في تسمية عملهم «علمًا»، وأنفسهم «علماء» إلا بعد عام ١٨٠٠. قبل ذلك، كانوا يسمون ما يفعلونه «فلسفة طبيعية» أو «تاريخًا طبيعيًّا». وعلى مرِّ القرون، طالما ثارت مناقشات حول «المنطق» و«الإيمان»، لكن لم يكن هناك صراع مفترَض بين ما نسميه الآن «علمًا» وبين المسيحية. غير أنه في مطلع القرن التاسع عشر، بدأت الكتب تظهر وكلمة «علم» في عناوينها التي تناقش كيف كان العلم والمسيحية، أو لم يكونا، متعارضين. وبحلول عام ١٨٦٠ بدأت المدارس وكليات اللاهوت الأمريكية في تعيين أساتذة جامعيين كانت وظيفتهم إظهار توافق العلم والمسيحية (نمبرز، ٢٠٠٩: ٣).

في أواخر القرن التاسع عشر، أيدت شخصيتان أمريكيتان بارزتان فكرة أن الكنيسة الكاثوليكية خاصةً قمعت العلم: وهما جون ويليام دريبر، وهو عالم، وطبيب، ومؤرخ؛ وأندرو ديكسون وايت، وهو أحد مؤسِّسي جامعة كورنيل وأول من رأسها. وفقًا لما جاء عن دريبر (١٨٧٤: ٥٢)؛ فإن الكنيسة في أوائل العصور الوسطى:

أكدت أن المعرفة كلها توجد في الكتب المقدسة وتقاليد الكنيسة … ومِن ثَمَّ نصَّبت الكنيسة نفسها باعتبارها مستودع المعرفة وفيصلها … لقد سلكت مسارًا حدد مستقبلها الوظيفي بأكمله؛ فقد صارت حجر عثرة في سبيل تقدُّم أوروبا الفكري على مدى أكثر من ألف عام.

وقال دريبر أيضًا: «تُعتبر الكنيسة الرومانية الكاثوليكية والعلم، من جانب أنصار كلٍّ منهما، متعارضَين تعارضًا مطلقًا؛ ولا يمكن أن يجتمعا» (١٨٧٤: ٣٦٣).

أمعن في هذا الهجوم على الكاثوليكية أندرو ديكسون وايت في عمله المؤلَّف من مجلَّدين «تاريخ حرب العلم واللاهوت في العالم المسيحي» (١٨٩٦). تتضح فرضية وايت أن الكاثوليكية قمعت العلم في عناوين فصول مثل «من الخلق إلى التطور»، و«من التكوين إلى الجيولوجيا»، و«من السحر إلى الكيمياء والفيزياء»، و«من المعجزات إلى الطب»، و«من المس الشيطاني إلى الجنون».

على الرغم من رواج نموذج «الحرب» في العلاقة بين العلم والمسيحية — من دريبر ووايت إلى بورستين وساجان — فإن مؤرخي العلوم المعاصرين يقولون إنه خرافة إلى حد كبير. نجد تصحيحًا نافعًا لهذه الخرافة في ٢٥ مقالة مجمَّعة في كتاب رونالد نمبرز «جاليليو يذهب إلى السجن وخرافات أخرى حول العلم والدين» (٢٠٠٩).

في فصل بعنوان «مسيحيو العصور الوسطى أولئك كانوا يُعلِّمون أن الأرض مسطحة» على سبيل المثال، تشير ليزلي كورماك إلى أن الإغريق سبق وأدركوا أن الأرض كروية. ذكر أرسطو أن المواضع المتغيرة للبروج في السماء إذ يتحرك أحدها عبر الأرض تُثبت أن الأرض لا بد أن تكون كروية. وقدَّر عالم الرياضيات إراتوستينس أن محيطها يبلغ ٢٥ ألف ميل تقريبًا؛ وتقول التقديرات الحديثة إنه يبلغ ٢٤٩٠٢ ميل. وكاد يتفق جميع المفكرين المسيحيين الأوائل الذين تناولوا موضوع شكل الأرض على أنها كانت كروية. وكان من هؤلاء أمبروز (تُوفي عام ٣٩٧)، وجيروم (تُوفي عام ٤٢٠)، وأوغسطينوس (تُوفي عام ٤٣٠). وكان مخالفهم الوحيد هو لاكتانتيوس (تُوفي عام ٣٢٠ تقريبًا)، لكنه رفض كل فلسفة اليونانيين وعلومهم. وكان هناك اتفاق مماثل بين كُتَّاب العصور الوسطى المسيحيين، باستثناء كوزماس إنديكوبليستس، وهو نسطوري مسيحي من مصر عاش في القرن السادس. وفي أوج العصور الوسطى، اقتبس كُتَّاب مسيحيون مثل توما الأكويني أدلة أرسطو على كروية شكل الأرض مع اتفاقهم معها.

يستشهد أولئك الذين يُحاجُّون لإثبات التعارض بين الكاثوليكية والعلم في أغلب الأحيان باللاهوتي المبكر ترتليان (تُوفي عام ٢٤٠ تقريبًا)، الذي سأل في كتابه «مذكرة ضد الهراطقة»، (٢٠١٢، الفصل السابع): «ما علاقة أثينا [الفلسفة اليونانية] حقًّا بأورشليم [الديانة المسيحية]؟» ثم يستنتج: لا شيء. وما الوفاق الذي يجمع بين أكاديمية [أفلاطون] والكنيسة؟ ويزعم: لا وفاق. من وجهة نظر ترتليان، تستند حياة المسيحي إلى الإيمان، لا إلى الفلسفة. لكن حتى هذا الخصم اللدود للمصادر غير المسيحية، استخدمها عندما وافقت أغراضه، كما يوضح ديفيد ليندبرج (نمبرز، ٢٠٠٩: ٨–١٨)؛ ففي كتابه «إلى الوثنيين» (٢٠١٠، الفصل الثالث)، وفي الفصل الثالث على سبيل المثال، عندما يريد ترتليان دحض فكرة أن الكون يمكن أن يكون إلهًا، يقول: «لا بد وأنه إما تكوَّن على يد كائن ما، وفقًا لرؤية أفلاطون المستنيرة، أو أنه لم يتكون بفعل أحد، وفقًا للرأي الجامد لإبيقور؛ وبما أن تكوينه كان له بداية، فلابد أن له نهاية أيضًا.» ويخلص ترتليان إلى أن الشيء الذي له بداية ونهاية لا يمكن أن يكون إلهًا. أظهر ترتليان في هذا الموضع وفي مواضع أخرى معرفة كبيرة بالفلسفة الطبيعية والفلسفة عمومًا. ينطبق الشيء نفسه على نقاد مسيحيين آخرين أوائل للفلسفة اليونانية، مثل القديس باسيليوس القيساري (تُوفي عام ٣٧٩ تقريبًا). غير أن هؤلاء الأفراد لم يكونوا متحدثين باسم الكنيسة. لقد عاشوا قبل أن تصير المسيحية الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية.

وحينما دُعيت المسيحية الأيديولوجية الرسمية للإمبراطورية، كان أكثر متحدثيها الرسميين تأثيرًا هو أوغسطينوس (تُوفي عام ٤٣٠). ويعتبره كثيرون حقًّا أبرز المفكرين المسيحيين في التاريخ. وقد كان يحبذ استخدام المنطق. يتلخص النهج العام لأوغسطينوس في شعاره «آمن كي تفهم، وافهم كي تؤمن» (الرسالة ١٢٠ في سبارو-سيمبسون، ٢٠١٢). قال أوغسطينوس إن ثمة أشياء كان على الله أن يعلنها، مثل طبيعة يسوع المسيح، لكن ثمة أشياء كثيرة أيضًا يمكن أن يعرفها الأشخاص من خلال التجربة والتفكير، مثل حركة النجوم وطبيعة النباتات والحيوانات. وقد رأى أن ما تعلَّمه الناس عن العالم الطبيعي لا يتعارض مع ما أعلنه الله، وإنما يؤيده في الواقع.

باستخدام المعنى الذي توصل إليه أرسطو ﻟ «العلوم» باعتبارها أنواعًا من المعرفة، كثيرًا ما كان يُطلق على اللاهوت في العصور الوسطى «سيد العلوم»، مع اعتبار «الفلسفة الطبيعية» واحدة من العلوم التي تخدم اللاهوت. ينطبق هذا النموذج في كتاب أوغسطينوس «المعنى الحرفي لسفر التكوين» (١٩٨٢). يستعين أوغسطينوس في شرحه كيف خلق الله العالم، بالكثير من الأفكار من العلم اليوناني والروماني عن الكواكب، والقمر، والضوء، والصوت، والطقس، والمواسم، والزمن، والمد والجزر، والعناصر الأربعة، والنباتات، والحيوانات. ولفهم المغزى الديني لخلق الله، يقول أوغسطينوس إننا لا بد أن نعرف شيئًا عن كنه الأشياء التي خلقها وكيفية أدائها. تأتي مثل هذه المعرفة من الفلسفة الطبيعية — أي العلم — التي يحث بقوة على اكتسابها، مِن ثَمَّ لا يُعرِض عن المسيحيين غيرُ المسيحيين الأكثرُ اطلاعًا:

حتى غير المسيحي لديه فكرة عن الأرض والسموات وعناصر هذا العالم الأخرى، وعن حركة النجوم ومدارها، بل وحتى عن أحجامها ومواضعها النسبية، وعن كسوف الشمس وخسوف القمر القابلين للتنبؤ، وعن دورات السنوات والمواسم، وعن أنواع الحيوانات، والشجيرات، والأحجار وما إلى ذلك، وهو يعتبر هذه المعرفة مؤكدة استنادًا إلى المنطق والتجربة. عندئذٍ من الشائن بل والخطير أن يسمع الملحد مسيحيًّا … وهو ينطق بالتفاهات عن هذه الموضوعات؛ وخليق بنا أن نتخذ كل السبل لدرء وقوع مثل هذا الموقف الحرج. (أوغسطينوس أسقف هيبو، ١٩٨٢: ٤٢-٤٣)

أصبح تأكيد أوغسطينوس التوافق ما بين العلم واللاهوت هو سياسة الكنيسة في العصور الوسطى. والواقع أن مسئولي الكنيسة أيَّدوا إنشاء الجامعات الأوروبية، التي انبثق كثير منها من مدارس الأديرة ومدارس الكاتدرائيات. وبحلول عام ١٢٠٠، كان لدى كلٍّ من بولونيا وباريس وأكسفورد جامعات، وبحلول عام ١٥٠٠، كان هناك ٦٠ جامعة في أنحاء أوروبا. وكانت جامعة أكسفورد قد بدأت نحو عام ١١١٥ بمجموعة من الطلاب الذين تجمعوا حول كهنةٍ أوغسطينيِّين بدير سانت فرايدسوايد. ومنحها البابا إنوسنت الرابع عام ١٢٥٤ الحق في منح شهادات متقدمة. وأُنشئت جامعة كامبريدج نحو عام ١٢٠٩ واعترف بها البابا يوحنا الثاني والعشرون عام ١٣١٨.

تناول نحو ٣٠ في المائة من المناهج في جامعات العصور الوسطى العالم الطبيعي. بحلول عام ١٥٠٠، كان مئات الآلاف من الطلاب قد تلقَّوا تعليمًا في فروع العلوم مثل الهندسة، والبصريات، والفيزياء، والفلك، والمنطق، والبيولوجيا (جرانت، ١٩٨٤). كانت هذه الموضوعات جزءًا من المنهج الدراسي لطلاب الجامعة، وكانت تُدرَّس دون الرجوع إلى المذهب الكنسي. وكان اللاهوت يُدرَّس من قِبَل كلية منفصلة، عادة في مستوى الماجستير، ولم يتلقَّ معظم طلاب الجامعات أي تدريب لاهوتي (شانك، ٢٠٠٩). ومن بين الموضوعات التي كانت تُدرس في مستوى الماجستير، كان اللاهوت هو الأقل شعبية؛ إذ كان يأتي بعد القانون والطب.

حتى في كليات اللاهوت، كثيرًا ما كانت تُستخدَم حجج الفلسفة الطبيعية. وكانت أشهرها هي «الطرق الخمس» لإثبات وجود الله التي ناقشها توما الأكويني، القارئ النَّهم لأعمال أرسطو. تقول الطريقة الأولى المأخوذة من «فيزياء» أرسطو إن الحركة والتغيرات الأخرى في العالم تستلزم مُحرِّكًا ثابتًا. وتتحدث الطريقة الثانية، المأخوذة عن أرسطو أيضًا، عن «علة أولى» للأشياء في الكون. وتستخدم الطريقة الثالثة، «من الإمكانية والضرورة»، المبدأ البدهي أنه لو كان الكون فراغًا في أي وقت من الأوقات، لما خرج شيء من هذا الفراغ قطُّ. أخذ توما الطريقة الرابعة — لأن الله هو المطلق الكمال؛ فإنه يخلق الكمال في الأشياء الأخرى — من «كتاب العلل»، وهو كتاب نُسب إلى أرسطو لكنه مشتق في الواقع من عمل فيلسوف الأفلاطونية الجديدة بروقلس. وتشبه الطريقة الخامسة لتوما، المشتقة من نظام الطبيعة وتصميمها، كثيرًا حجة التصميم الذكي المعاصرة لإثبات وجود الله. وتأتي من كثير من المصادر الفلسفية، المأخوذة في الأصل عن عمل أفلاطون «طيماوس».

هذه الحجج النابعة من الفلسفة الطبيعية، هي أشهر عمل لتوما الأكويني، وخلال خمسة عقود بعد وفاته أعلنه البابا يوحنا الثاني والعشرون قديسًا. وفي عام ١٥٦٧، أعلنه البابا بيوس الخامس طبيب الكنيسة (بمعنى أنه كان مرجعية محل ثقة)، وفي عام ١٨٧٩، أعلن البابا ليو الثالث عشر أن الفكر الأكويني هو البيان الشافي للمذهب الكاثوليكي، وأنه يجب تدريسه في كل الكليات والجامعات الكاثوليكية. ما كان من الممكن أن يعترف به أيٌّ من أولئك البابوات لو أن كنيسة العصور الوسطى كانت مناهضة للعلم.

يمكن تطبيق التعليق التالي بشأن الفلك، المقتبس من جون هيلبورن على العلوم عامة:

قدمت الكنيسة الكاثوليكية الرومانية من الدعم المالي والاجتماعي لدراسة الفلك لمدة تتجاوز ستة قرون، بدءًا من التعافي من التعلم القديم في أواخر العصور الوسطى ووصولًا إلى عصر التنوير، أكثر مما قدمته أي مؤسسة أخرى، وربما كل المؤسسات الأخرى. (هيلبورن، ١٩٩٩: ٣)

صحيح أن الاكتشافات العظيمة لجاليليو ونيوتن وعصر التنوير حدثت في وقت لاحق، لكن الأعمال العلمية التي دعمتها الكنيسة في العصور الوسطى مهَّدت الطريق. كما يقول لورنس برينسيب، أستاذ الكيمياء وتاريخ العلوم والتكنولوجيا بجامعة جونز هوبكنز:

يدرك مؤرخو العلوم الآن أن التطورات المذهلة للفترة التي يُطلق عليها الثورة العلمية قامت إلى حد كبير على المساهمات والأسس الإيجابية التي تعود إلى فترة أوج العصور الوسطى … قدمت الملاحظات والنظريات القروسطية في حقول البصريات، والحركة، والفلك، والمادة وغيرها، معلومات مهمة ونقاط انطلاق لتطورات القرنين السادس عشر والسابع عشر. إن تأسيس الجامعات في العصور الوسطى، وظهور ثقافة النقاش، والصرامة المنطقية للاهوت الأكاديمي، كلها ساعدت في توفير مناخ وثقافة ضروريين للثورة العلمية. (برينسيب، ٢٠٠٩: ١٠٥)

المراجع

  • Augustine of Hippo. (1982) The literal meaning of Genesis, translated by John Taylor, in Ancient Christian Writers: The Works of the Fathers in Translation, volumes 41-42 (eds Johannes Quaesten et al.), Newman, New York.
  • Boorstin, D. (1983) The Discoverers: A History of Man’s Search to Know His World and Himself, Random House, New York.
  • Draper, J.W. (1874) History of the Conflict between Religion and Science, D. Appleton and Co, New York.
  • Freeman, C. (2003) The Closing of the Western Mind: The Rise of Faith and the Fall of Reason, Knopf, New York.
  • Grant, E. (1984) Science in the medieval university, in Rebirth, Reform, and Resilience: Universities in Transition, 1300–1700 (eds J. Kittleson and P. Transue), pp. 68–102, Ohio State University Press, Columbus OH.
  • Heilbron, J. (1999) The Sun in the Church: Cathedrals as Solar Observatories, Harvard University Press, Cambridge MA.
  • Numbers, R.L. (ed) (2009) Galileo Goes to Jail and Other Myths about Science and Religion, Harvard University Press, Cambridge MA.
  • Lawrence Principe (2009) That Catholics did not contribute to the scientific revolution, in Galileo Goes to Jail and Other Myths about Science and Religion (ed R.L. Numbers), Harvard University Press, Cambridge MA.
  • Sagan, C. (1980) Cosmos, Ballantine, New York.
  • Shank, M. (2009) That the medieval Christian Church suppressed the growth of science, in Galileo Goes to Jail and Other Myths about Science and Religion (ed R.L. Numbers) pp. 19–27, Harvard University Press, Cambridge MA.
  • Sparrow-Simpson, W.J. (ed) (2012) The Letters of St. Augustine, Hard Press Editions, Stockbridge MA.
  • Tertullian (2010) Ad Nationes Book II, Kessinger, Whitefish MT.
  • Tertullian (2012) On the Testimony of the Soul and on the “Prescription of Heretics”, Hard Press Editions, Stockbridge MA.
  • White, A.D. (1896) A History of the Warfare of Science with Theology in Christendom, D. Appleton and Co., New York.

(٨) الكاثوليك ليسوا مسيحيين

احذر! «الكنيسة» الرومانية الكاثوليكية ليست مسيحية. تتنافى كل تعاليم الدين الروماني الكاثوليكي في التطبيق العملي مع الكتاب المقدس تكرارًا … إن الكنيسة الرومانية الكاثوليكية هي أكبر طائفة دينية في العالم ولن يجاهر معظم المبشِّرين بقول ذلك لأنها كبيرة للغاية. (jesus-is-lord.com (على الإنترنت))
وفقًا لموقعَي jesus-is-lord.com وjesus-is-savior.com ليس الكاثوليكيون مسيحيين. يقدم موقع faithdefenders.com عشرة أسباب لهذا الزعم؛ أولًا: حقيقة أن الكنيسة الكاثوليكية تعتبر أن مريم، أم يسوع، يمكنها أن تتشفع لدى الله نيابةً عن هؤلاء الذين يُصلُّون لها. ثانيًا: أن الكنيسة الكاثوليكية تُقدِّم تعليمًا مفاده أن مريم وُلدت دون أن ترث الخطيئة الأصلية، وأنها عندما ماتت، أُخِذت إلى السماء، جسدًا وروحًا. ثالثًا: تشرح الكنيسة الكاثوليكية أيضًا أن مريم كانت عذراء على الدوام. رابعًا: تفيد الكنيسة أن الناس سوف يذهبون إلى المَطْهَر، حيث يُطَهَّرون من وصمة الخطيئة قبل دخول السماء. خامسًا: تجيز الكنيسة صور المسيح ومريم العذراء والملائكة والقديسين. سادسًا، لعل الأمر الأبشع هو أن الكنيسة تُلزِم الناس بالاعتراف بخطاياهم للكهنة المُخولين بحلهم منها. سابعًا، تُلزم الناس بتلقي أسرار مقدسة أخرى (يصفها موقع فيث ديفندرز بأنها «أعمال») لتحقيق الخلاص. ثامنًا، تُعلِّم الكنيسة أيضًا أن البابوات هم خلفاء المفوَّض أو «الوكيل» الأصلي الذي خوَّله يسوع بأن يكون بمنزلة مرجعية عليا للمجتمع. تاسعًا، يُعمِّد الكاثوليكيون الرُّضَّعَ كي يزيلوا وصمة «الخطيئة الأصلية». وأخيرًا، تشترط الكنيسة عزوبة كهنتها. من أجل هذه الأسباب، تخلُص الحجة إلى أنه ينبغي أن يكون واضحًا «أن المسيحية الكتابية والتعليم الكاثوليكي لا يتفقان … لا يمكن أن يكون المرء مسيحيًّا مؤمنًا بالكتاب المقدس وكاثوليكيًّا ملتزمًا معًا» (faithdefenders.com على الإنترنت).

تعكس هذه النظرة المعاصرة الموقف التقليدي للمعمدانيين؛ فمن بين أقدم الوثائق الرسمية للمعمدانيين وثيقة «إقرار الإيمان المعمداني» التي ترجع إلى عام ١٦٨٩ (الكنيسة المعمدانية، على الإنترنت). لا تزال هذه العقيدة مهمة عند المعمدانيين؛ إذ اعتمدتها جمعية الكنائس المعمدانية بفيلادلفيا عام ١٧٤٢. وهي تتألف من ٣٢ فصلًا تتناول قضايا أساسية للمعتقَد المعمداني، منها تلك القضايا التي دعت إلى فصل الكنيسة المعمدانية عن المسيحية الأنجليكانية في المقام الأول. ومن بين المعتقدات الأساسية كثير من تلك المعتقدات التي كان يتشاركها معظم المسيحيين، مثل اعتقاد الله الثالوث (الله الواحد ذي «الأقانيم» الثلاثة: الآب، والابن، والروح القدس)، والمنشأ الإلهي لكل ما يوجد، والخطيئة الأصلية، وتعهُّد الله بإنجاء أولئك الذين يفعلون مشيئته (العهد)، وبأن المسيح وسيط للخلاص البشري، والإرادة الحرة التي هي القدرة على الاختيار ما بين الاعتقاد بيسوع بوصفه المصدر الوحيد للخلاص أو الامتناع عن ذلك. يعني ذلك أن الناس لا يمكن أن يحصلوا على الخلاص من خلال القيام بأعمال صالحة؛ وإنما تُظهِر الأعمال الصالحة أن الناس قد حصلوا على النجاة بالفعل بأن اختاروا اعتقاد الخلاص من خلال يسوع والخضوع لمعمودية بالتغطيس الكامل.

يناقش الفصل السادس والعشرون من وثيقة «إقرار الإيمان المعمداني» أيضًا طبيعة الكنيسة المسيحية العامة أو (الكاثوليكية) (الكنيسة المعمدانية، على الإنترنت). تتألف الكنيسة من «العدد الكامل للمختارين» (أولئك الذين اختاروا إظهار اعتقادهم بالخلاص من خلال التعميد بالتغطيس الكامل)، وليس لها سوى قائد واحد، يسوع. «الرب يسوع المسيح هو رأس الكنيسة المُخوَّل من قِبَل الآب كل السلطان لدعوة الكنيسة وتأسيسها وتنظيمها وقيادتها على نحوٍ أسمى وسيادي.» يسترسل الفصل: «ولا يمكن أن يكون بابا روما بأي شكل من الأشكال هو رأس الكنيسة مِن ثَمَّ، وإنما هو عدو المسيح، وإنسان الخطيئة، وابن الهلاك، الذي يمجد نفسه في الكنيسة في مواجهة المسيح، وكل ذلك الذي يُدعى الله؛ الذي سوف يدمره الرب ببهاء مجيئه.» ولمَّا كان البابا عدو المسيح فلا يمكن اعتباره مسيحيًّا. ويستطرد بأن أولئك الذين يخضعون للسلطان البابوي، مُسمِّين أنفسهم كاثوليكيين، لا يمكن اعتبارهم مسيحيين أيضًا.

لا شك أن الكاثوليكيين يعتبرون أنفسهم مسيحيين. ومن الناحية الاصطلاحية، المسيحي هو أي شخص يعتبر يسوع هو المسيح — «المسيَّا». قد يختلف المسيحيون فيما بينهم، لكن بتعبير دارج، يظلون مسيحيين ما داموا اختاروا أن يُعرِّفوا أنفسهم بأنهم مسيحيون.

ومع ذلك، يمكن تفهُّم رفض المعمدانيين السلطة البابوية. تعود أصولهم التاريخية إلى المسيحية الإنجليزية، التي أعلنت استقلالها عن سلطة البابا في «مرسوم السيادة الأول» الصادر عام ١٥٣٤. أعلن الملك هنري الثامن نفسه وخلفاءه من بعده قادة كنيسة إنجلترا. وكلُّ من خالف ذلك كان عرضة للاتهام بالخيانة. خلَف هنري ابنُه البالغ من العمر تسع سنوات، إدوارد السادس الذي واصل الأوصياء عليه سياسات هنري الدينية ومددوها. وعندما لقي إدوارد نحبه في سن السادسة عشرة، خلفته أخته غير الشقيقة ماري التي فسخت مرسوم السيادة وأعادت تثبيت الكاثوليكية. وكلُّ من خالفها كان عرضة للاتهام بالهرطقة. حازت ماري لقب «ماري الدموية» بسبب إعدامها مئات المنشقين الدينيين. وذهبت مجموعة من رجال الدين الإنجليز إلى المنفى لتجنب الاضطهاد. وخلفت إليزابيث الأولى أختَها غير الشقيقة ماري، وفي عام ١٥٥٨، نصَّب «مرسوم السيادة الثاني» الملوكَ البريطانيين مرة أخرى رءوسًا للكنيسة. وردًّا على ذلك، في عام ١٥٧٠ أعلن البابا بيوس الخامس الحرمان الكنسي لأولئك الذي أعلنوا ولاءهم للملكة البريطانية إليزابيث الأولى، ناعتًا إياها بالمهرطقة. ومع ذلك ظل هناك خلاف وسخط بين رجال الدين على ما بدا إسرافًا في الدنيوية وإضفاء طابع سياسي على المسيحية. يردُّ المؤرخون أصل التعليم المعمداني إلى أحد هؤلاء الخدام المنشقين الذين عاشوا في مطلع القرن السابع عشر، وهو جون سميث.

أكد سميث وأتباعه نقاء التعليم المسيحي، محتكمين إلى الكتاب المقدس وحده، وليس المذاهب التي من صنع المرجعيات الكنسية. ومن التعاليم الكتابية فكرة «عدو المسيح» (المذكورة في رسائل يوحنا). تُفهم الإشارة بأنها تنبؤ بأنه حينما يعود يسوع في آخر الزمان، فسوف يتصدى لهذا الشخص الشديد الشر ويهزمه. على أن العبارات المستخدمة في «إقرار الإيمان» الصادر عام ١٦٨٩ — «إنسان الخطيئة»، و«ابن الهلاك» — ليست مأخوذة من رسائل يوحنا وإنما من رسالة منسوبة إلى بولس الرسول، رسالة تسالونيكي الثانية. تعترض هذه الرسالة على الرأي القائل إن يسوع كان قد عاد بالفعل إلى مجتمعه، وذكرت أن المجيء الثاني لن يحدث إلا بعد حدوث اضطرابات وأن «إنسان الخطيئة … ابن الهلاك» سوف يُستعلَن (تسالونيكي الثانية ٢: ٣).

يشير استخدام مثل هذه المصطلحات الصريحة بوضوح إلى أن الكنيسة المعمدانية في هذا الوقت شعرت بأنها مهددَّة بشدة من قِبَل الكنيسة الرومانية. لعل هذا الإحساس بالخطر انتهى، لكن فكرة أن الكنيسة الكاثوليكية ليست مسيحية ما زالت مستمرة، وليست محصورة بالمثقفين على الإنترنت. إن الاختلافات بين الكنيستين الكاثوليكية والمعمدانية كبيرة بالدرجة التي جعلت المرجعيات الدينية تتصدى لها في القرن الماضي.

أصدرت الجمعية المعمدانية الجنوبية بالولايات المتحدة قرارًا في يونيو ١٩٩٤ بعنوان «قرار بشأن المعمدانية الجنوبية والكاثوليكية الرومانية». أكدت هذه الوثيقة مرة أخرى الاختلافات بين الاثنتين:

اختلف المعمدانيون تاريخيًّا عن الرومان الكاثوليكيين في مسائل مثل: طبيعة الخلاص وسبله، وشخصية الكنيسة ووظيفتها، ودور المعمودية وتفسيرها، والعشاء الرباني، وتقديس العذراء مريم، وتبجيل القديسين، وعصمة البابا، وهيكل القيادة الكنسية، والعلاقة بين الكتاب المقدس والتقليد باعتبارهما مصدرَي السلطة الروحية والتعليمية للإيمان والممارسة. (الجمعية المعمدانية الجنوبية، ١٩٩٤)

غير أن القرار سلَّم بأن الطائفتين اشتركتا في المخاوف بشأن قدسية حياة الإنسان وقيم الأسرة، ومعارضة الإباحية، «وكفالة حقوق كل الأفراد دون اعتبار للاختلاف في الدين والعرق والنوع والطبقة، والكثير من نطاقات الاهتمام الأخلاقي الأخرى.» وعليه، خليق بجميع «المنظمات المسيحية» التضافر من أجل مواجهة المخاوف المشتركة. ومع ذلك، خلصت الوثيقة إلى أنها ملتزمة «بالمذهب المعمداني التاريخي» للتبرير «بالنعمة وحدها من خلال الإيمان وحده بالمسيح وحده دون أي إضافة من الأعمال الصالحة أو الجهود البشرية؛ ونحن نؤكد أن التبرير بالإيمان وحده هو من أساسيات الرسالة المسيحية.» ومِن ثَمَّ فالجمعية المعمدانية الجنوبية «تؤكد التزامها بالتبشير والشهادة الإرسالية بين المجتمعات والأفراد غير المتَّسمين بالاعتقاد الأصيل بالمسيح وحده.» بعبارة أخرى، تؤكد الوثيقة أن الكاثوليكيين لا يزالون بحاجة إلى اعتناق المسيحية كي يصيروا «جزءًا من الجماعات التي تنادي بتعاليم الكتاب المقدس وتمجيد المسيح.»

وعلى الرغم من أن هذا البيان به شيء من التناقض، فربما يمكن فهمه على أنه يُشير إلى أن الكاثوليكيين لا يزالون بحاجة إلى التحوُّل كيما يصيروا مسيحيين. ومع ذلك أُحرز تقدُّم في الاتصالات ما بين الطائفتين. ظلت الحوارات الكاثوليكية-المعمدانية جارية منذ ثمانينيات القرن العشرين. وفي عام ٢٠٠٧ عقد البابا بندكت السادس عشر سلسلة من النقاشات بين المعمدانيين والكاثوليك. وفور إعلان البابا بندكت استقالته عام ٢٠١٣، أعرب رئيس الجمعية العالمية المعمدانية، جون أبتون، عن تقديره للحفاوة الكريمة التي استقبلهم بها البابا، وعن احترامه «أفكار الجماعات المسيحية الأخرى وآراءها». وعلق الأمين العام للجمعية نيفيل كالام بأن البابا بندكت السادس عشر كان «قد أمدَّ المجتمع المسيحي بمستودع غني بالتأملات يستحق الدراسة المتمعنة»، وأن الحوارات قد عزَّزت «الشهود المسيحي» (تحالف المعمدانيين العالمي، ٢٠١٣).

المراجع

قراءات إضافية

  • Freeman, C.W. (2009) Baptists and Catholics together? Making up is hard to do, Commonweal, January 16.

(٩) أُسست الولايات المتحدة بوصفها دولة مسيحية

أنشأ الدستور الولايات المتحدة الأمريكية بوصفها أمة مسيحية. (عضو مجلس الشيوخ الأمريكي، جون ماكين، المرشح الرئاسي في عام ٢٠٠٨ في حوار أجري عام ٢٠٠٧ مع موقع beliefnet.com (جيلجوف، ٢٠٠٧))

في الولايات المتحدة الأمريكية، تتشابك المسيحية والسياسة تمامًا. وترفع أبنية الكنائس الأعلام الأمريكية. ويعين مجلس الشيوخ الأمريكي ومجلس النواب رجال دين، جميعهم من المسيحيين، لافتتاح كل جلسة بتلاوة الصلوات. وكثيرًا ما يتضرَّع الساسة إلى الله في خطبهم؛ وبعضهم يقود صلوات مسيحية جماعية مثل حاكم ولاية تكساس، ريك بيري. في عام ٢٠٠٤، خاض الخادم المعمداني آل شاربتون حملة لنيل ترشيح الحزب الديمقراطي له لخوض الانتخابات الرئاسية. وفي عام ٢٠٠٨، حصل الخادم بالطائفة المعمدانية الجنوبية مايك هاكابي على المركز الثاني من حيث عدد أصوات المندوبين لتسميته من قِبَل الحزب الجمهوري. ومنذ عام ١٩٥٣، يُعقد سنويًّا إفطار الصلاة القومي في واشنطن في الخميس الأول من شهر فبراير. ويتولى استضافة الزوَّار في هذا اليوم أعضاء من الكونجرس، وتنظمه مؤسسة الزمالة، وهي جماعة مسيحية محافظة، وتشتمل فعالياته على سلسلة من الاجتماعات، ووجبات إفطار وغداء وعشاء، ويخلط الدين والسياسة والأعمال التجارية.

تظهر على العملات المعدنية والورقية الأمريكية كلمتا «بالله نثق»، وقَسَم الولاء هو «لأمة واحدة خاضعة لله». ويقول أحد مقاطع النشيد الوطني:
ولتكن إذًا أبدًا حين يقف الرجال الأحرار،
بين وطنهم المحبوب وخراب الحرب؛
مباركة بالنصر والسلام، عسى الأرض المنقَذة من السماء
أن تُشيد بالقوة التي حفظتنا وجعلتنا أمة!
إذًا علينا أن ننتصر، عندما تكون قضيتنا عادلة،
ويكون شعارنا بعدئذٍ «بالله نثق»
والراية الموشَّاة بالنجوم سترفرف بالنصر
على أرض الأحرار وموطن الشجعان!

كثيرًا ما استخدم الرئيس رونالد ريجان اللغة المسيحية في خطاباته؛ فلدى قبوله الترشح عن الحزب الجمهوري عام ١٩٨٤، تحدَّث عن أمريكا على أنها «مَدِينَةٌ مَوْضُوعَةٌ عَلَى جَبَلٍ.» وهي عبارة مأخوذة من الموعظة على الجبل (متَّى ٥: ١٤) كان لها أصداء كبيرة لدى الأمريكيين منذ أن استخدمها البيوريتاني جون وينثروب أولًا في وعظةٍ عام ١٦٣٠. وفي خطاب وداعه عام ١٩٨٩، أشار إلى أمريكا على أنها «مدينة شاهقة مزهوة، ومبنية على الصخر، وأقوى من المحيطات وقوة الرياح العاتية، ومباركة هي من الله، تعج بناس من مختلف الأنواع يعيشون معًا في تناغم وسلام.»

وحينما يحتفل الأمريكيون بأحداث من تاريخهم، كثيرًا ما يربطونها بالمسيحية؛ فقد أصدرت هيئة خدمات جيري فالويل، احتفالًا بالذكرى المئوية الثانية لإنشاء البلاد، نسخة من الكتاب المقدس للذكرى المئوية الثانية، وعلى غلافها الأمامي صورة لناقوس الحرية وإلى جانبه عبارة «١٧٧٦–١٩٧٦»، فوق اقتباس من رسالة كورنثوس الثانية (٣: ١٧) يقول: «… وَحَيْثُ رُوحُ الرَّبِّ هُنَاكَ حُرِّيَّةٌ.»

بالنظر إلى كل هذا الخلط بين المسيحية والسياسة الأمريكية، فليس من المستغرب أن كثيرين يخالجهم الظن بأن أمريكا أسسها المسيحيون لتكون بلدًا مسيحيًّا. هذا الادعاء ادعاه عشرات الساسة والشخصيات الإعلامية، مثل عضو مجلس الشيوخ جون ماكين في الاقتباس المذكور في بداية هذا الجزء. غير أنه، في حقيقة الأمر، لا يذكر الدستور الأمريكي المسيحية، أو يسوع، أو الله، أو الكتاب المقدس. وإن كانت كلمة دين قد وردت في الدستور، فقد كان هذا فقط لتأكيد أنه «لا يجوز أبدًا اشتراط امتحان ديني بوصفه مؤهلًا لتبوء أي منصب رسمي أو مسئولية عامة في ظل الولايات المتحدة» (المادة ٥، الفقرة ٣). بل وتمادى التعديل الأول للدستور، مؤكدًا أن الدولة لن يكون لها أبدًا دين رسمي.

كان لمعظم المستعمرات الأمريكية، على غرار معظم البلدان الأوروبية في ذلك الوقت، ديانات رسمية تدعمها الحكومة، غير أن واضعي الدستور رفضوا فكرة وجود دين رسمي للأمة الجديدة. فدين قومي يمكن أن يصير ذريعة لمساندة الطغاة واضطهاد الأقلية، وكلاهما حدث بالفعل في أوروبا. ومِن ثَمَّ أصرَّ مؤسسو الولايات المتحدة على إبعاد الدين عن السياسة. وكانت الواقعة السابقة لفصل الدين عن السياسة في الدستور، هي «إعلان فيرجينيا للحريات الدينية» الذي كتبه توماس جيفرسون عام ١٧٧٧، وتم تمريره بعد إدخال تنقيحات عليه في عام١٧٨٦. ووفقًا لجيمس ماديسون، صديق توماس جيفرسون، وخليفته رئيسًا، هذا الإعلان «أخمد إلى الأبد الأمل الطموح في سن قوانين لعقل الإنسان» (ماديسون، ١٧٨٦). يُذكر في الإعلان:

تُقِر الجمعية العمومية أنه لا يجوز إجبار أي شخص على المواظبة على أي عبادة، أو مكان، أو هيئة دينية من أي نوع، أو تأييدها، أو أن يُجبَر أو يُقيَّد أو يؤذى أو يُشَق عليه في بدنه أو ممتلكاته، أو يعاني بطريقة أخرى بسبب آرائه الدينية أو معتقده؛ ولكن يتمتع كل الناس بحرِّية المجاهرة بآرائهم في الأمور الدينية وحمايتها بالنقاش والحُجة.

حقيقةُ أن الولايات المتحدة لم تؤسَّس بوصفها دولة مسيحية أُقِرت في اتفاقية كُتِبت في ظل رئاسة جورج واشنطن، ووُقعت في ظل رئاسة جون آدمز. في عام ١٧٩٦ تممت الأمة الجديدة معاهدة مع طرابلس (فيما يُعرَف بليبيا الحالية). تنص المادة الحادية عشرة أنه بالنظر إلى أنه لا شيء يربط الولايات المتحدة بالمسيحية، تتطلع الحكومة الأمريكية إلى بناء علاقات طيبة مع دولة طرابلس ذات الأغلبية المسلمة:

حكومة الولايات المتحدة الأمريكية ليست مؤسسة، بأي حال من الأحوال، على الدين المسيحي — حيث إنها لا تتسم بأي طابع عدائي ضد شرائع المسلمين أو دينهم أو سِلمهم — وحيث إن الولايات المذكورة لم تدخل قطُّ في أي حرب أو عمل من أعمال العدوان ضد أي أمة محمدية [مسلمة]، يعلن الطرفان أنه ما من ذريعة تنبع من الآراء الدينية ستتسبب أبدًا في إفساد الانسجام القائم بين البلدين. (مشروع أفالون، على الإنترنت)

إن حقيقة أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تؤسَّس بوصفها أمة مسيحية لا تستبعد بالطبع إمكانية أن مؤسسيها كانوا مسيحيين. لكن نظرة متمعنة فيما قالوه وما كتبوه تبيِّن أن معظمهم لم يكونوا مسيحيين، وإنما كانوا ربوبيين. الربوبية هي نظرة إلى العالم نشأت في عصر التنوير في القرن الثامن عشر، وراجت بين العلماء والمفكرين. يؤمن الربوبيون أن الله خلق العالم، وأنه يتركه يدور وفقًا لقوانين الطبيعة، التي تُسمى في بعض الأحيان القوانين العلمية.

وعلى خلاف قوانين الإنسان، لا يمكن خرق قوانين الطبيعة. انظر إلى قوانين الجاذبية. إن كان شخص يقف مباشرة تحت صخرة هاوية، فستصيبه. ثمة اختلاف ها هنا بين الربوبيين والمسيحيين. يعتقد المسيحيون أن الله يجيب بعض الصلوات بالإخلال بقوانين الطبيعة. لو أن امرأً يمشي عبر وادٍ عميق ونظر إلى أعلى ليجد صخرة ساقطة وصلى إلى الله، فعندئذٍ قد يجعل الله الصخرة تغير مسارها أو حتى تختفي. لكن الربوبيين يقولون إن الله إذ أرسى قوانين الطبيعة، فلن يخرقها. ولأن الربوبيين يؤمنون بأن العالم تحكمه قوانين الطبيعة، فهم لا يؤمنون بالمعجزات أو بالصلوات التي تطلب من الله التدخل في النظام الطبيعي للأشياء.

علاوة على هذا، ولأن الربوبيين لا يؤمنون بأن الله يتدخل في الطبيعة؛ فإنهم يرفضون فكرة أن الله أوحى لبشر بالكتب المقدسة. من وجهة نظرهم، الكتب المقدسة هي مجموعة من الكتابات البشرية. وإن كان الله لا يتدخل في العالم، أيضًا، فهو لم يتجسد في صورة إنسان. يسوع ليس الله. ومِن ثَمَّ يرفض الربوبيون أيضًا مبدأ الثالوث.

وكعينة تمثيلية للآباء المؤسسين للولايات المتحدة، لنتأمل في بنجامين فرانكلين، وتوماس بين، وجورج واشنطن، وجون آدمز، وتوماس جيفرسون، وجيمس ماديسون. وفقًا لمعظم المؤرخين لم يكن أيٌّ منهم مسيحيًّا.

كان بنجامين فرانكلين (تُوفي عام ١٧٩٠) أكبر الآباء المؤسسين وأشهر أمريكي في عصره. ولمَّا كان عالمًا وزعيمًا سياسيًّا وكاتبًا، فقد ساعد في تنظيم الثورة وكتابة «إعلان الاستقلال» والدستور. وفي المسائل الدينية، بدأ منشقًا — مسيحيًّا رفض كنيسة إنجلترا. لكن فرانكلين يصف حدثًا غيَّر مجرى حياته خلال سنوات مراهقته:

وقع في يدي بعض الكتب التي تهاجم الربوبية … وحدث أنها تركت فيَّ أثرًا معاكسًا لذلك الذي قُصد بها؛ حيث إن حجج الربوبية المقتبَسة بغية دحضها بدت لي أمتن كثيرًا من الدحض نفسه؛ باختصار، سرعان ما صرتُ ربوبيًّا بالكامل. (فرانكلين ١٩٩٦: ص٢٧)

لأن فرانكلين رأى الله بوصفه الخالقَ الذي يَدَع العالم يدور من تلقاء ذاته؛ فإنه لم يرَ الكنائس والعبادة مناسبتين. «لا يمكنني أن أدرك سوى أنه هو، الآب غير المحدود، لا ينتظر ولا يطلب عبادة أو ثناءً منا، ولكنه أسمى من ذلك قطعًا» (فرانكلين، ١٧٢٨).

أغلب الظن أن توماس بين (تُوفي عام ١٨٠٩) كانت له اليد الطولى في بدء الثورة الأمريكية عندما نشر في يناير ١٧٧٦ كتاب «الفطرة السليمة» (بين ٢٠٠٥). كان معظم الأمريكيين في ذلك الوقت يتمنون أن خلافاتهم مع بريطانيا يمكن حلها بشكل سلمي، غير أن منشور بين التحريضي جادل بأن بريطانيا لن تعاملهم بنزاهة، أبدًا، ومِن ثَمَّ يجدر بهم أن يعلنوا استقلالهم. وفي الأمور الدينية، كان بين ثوريًّا بالقدر نفسه. قدَّم كتابه الأكثر مبيعًا «عصر العقل: تحقيق الثيولوجيا الحقيقية والخيالية» (١٧٩٤، ١٧٩٥، ١٨٠٧) الربوبية إلى جموع الأمريكيين، بالإضافة إلى نقد عقلاني للمسيحية وللأديان الطائفية الأخرى كافة.

ربوبية بين متمثلة في الفصل العاشر في الجزء الأول من كتاب «عصر العقل»:

الفكرة الوحيدة التي يستطيع الإنسان أن يلصقها باسم الله هي فكرة أنه «العلة الأولى»، علة كل الأشياء … كل شيء نراه يحمل في ذاته الأدلة الداخلية على أنه لم يصنع نفسه … والاقتناع المنبثق من هذه الأدلة هو ما يحملنا، وكأنه بالضرورة، على الإيمان بعلَّة أولى موجودة إلى الأبد، من طبيعة مختلفة تمام الاختلاف عن أي وجود مادي سمعنا به، وبقوتها توجد الأشياء كلها؛ وهذه العلة الأولى يسميها الإنسان الله.

لو كان الزعماء الدينيون راضين بهذا الإيمان بالعلة الأولى، كما يقول بين، لصاغوا أعرافًا معقولة. لكنهم بدلًا من هذا صاغوا أفكارًا تتنافى مع الله الأبدي اللامحدود الكلي الصلاح:

كلما قرأنا القصص السفيهة، والفسق الشهواني، والإعدامات القاسية الموجعة، والانتقام الحرون، التي يعج بها أكثر من نصف الكتاب المقدس، سيكون أكثر ملاءمة أن ندعوه كلمة الشيطان من أن ندعوه كلمة الله. إنه تاريخ للشر ساعد في إفساد البشرية وجعلها متوحشة. (بين، ١٧٩٤، ١٧٩٥، ١٨٠٧، الجزء الأول، القسم الرابع)

ماذا يعلِّمنا العهد الجديد؟ يعلِّمنا أن نؤمن بأن «القدير» ارتكب الفجور مع امرأة مخطوبة لرجل لتتزوج منه؛ والاعتقاد بهذا الفجور يُدعى إيمانًا. (بين، ١٧٩٤، ١٧٩٥، ١٨٠٧، الجزء الثاني، القسم العشرون)

ربما كان جورج واشنطن (تُوفي عام ١٧٩٩) أكثر المؤسسين تبجيلًا، وأول رئيس للبلاد يرتاد اجتماعات الكنيسة الإنجيلية، ومع ذلك يقول عنه معظم المؤرخين إنه كان ربوبيًّا (بولر ١٩٦٣: ١٤-١٥). يُستند في هذا إلى زعم توماس جيفرسون «طالما أخبرني جوفرنور موريس بأن الجنرال واشنطن لم يعد يؤمن بهذا النظام (المسيحية) أكثر مما آمن به هو» (توماس جيفرسون، ١٨٠٠). ومع أن واشنطن قلَّما كتب في الأمور الدينية؛ فإنه كان يُعبِّر من حين إلى آخر عن ازدرائه بشِقاق الدين:

دائمًا ما تكون التناقضات الدينية منتِجة لمرارة ومشاعر كراهية مستعصية أكثر مما ينبع من أي سبب آخر. (جورج واشنطن، خطاب إلى إدوارد نوينهام، ٢٠ أكتوبر ١٧٩٢، في سيلدس، ١٩٨٣)

وعلى غرار واشنطن، كان لدى جون آدمز (تُوفي عام ١٨٢٦)، ثاني رئيس للولايات المتحدة، توجُّه سلبي تجاه الانقسامات الكثيرة داخل المسيحية، التي رأى أنها مؤسسة على المذاهب التي أنشأها قادة الكنيسة، لا الكتاب المقدس. وبالفعل، بدا أنه كان يرفض سلطة الكنيسة. وكتب في مذكراته: «في أي موضع من الإنجيل نجد وصية تأمرنا بمجامع كنسية، واجتماعات، ومجالس، ومراسيم، وعقائد، واعترافات، وأَيْمان، واشتراكات، وكمٍّ مهولٍ من التفاهات الأخرى التي نجد الدين رازحًا تحتها في هذه الأيام؟» وكان من ضمن هذه «التفاهات» ألوهية المسيح التي سمَّاها آدمز «غطاءً مناسبًا تتستر تحته السخافة» (آدمز، ١٨٥٠: ٤).

آمن توماس جيفرسون (تُوفي عام ١٨٢٦)، المؤلف الأساسي لإعلان الاستقلال، الرئيس الثالث، بالخالق، وبيسوع معلِّمًا أخلاقيًّا. لكنه رفض التعليم الذي يقول إن المسيح هو الله، مشيرًا إلى هذا المبدأ بأنه «خزعبلات تشبِّه الله بوحش سيربيروس آخر له جسم وثلاثة رءوس» (خطاب إلى جيمس سميث، ٨ ديسمبر ١٨٢٢؛ آدمز ولاستر، ١٩٨٣). وعلى غرار أول رئيسين، رأى جيفرسون أن انقسامات المسيحية إلى آلاف الطوائف كان خطأً. ذكر في كتابه «مذكرات عن فرجينيا»:

منذ دخول المسيحية وملايين من الرجال والنساء والأطفال الأبرياء يتعرضون للحرق والتعذيب والتغريم والسجن؛ ومع ذلك لم نتقدَّم قيد أُنملة نحو الاتساق. ماذا كان أثر الإكراه؟ أن جعل نصف العالم حمقى والنصف الآخر منافقين، أن عزز الغش والخطأ في كل أرجاء المسكونة. (بيدين، ١٩٥٤)

ولأن جيفرسون كان أكثر ثورية من آدمز؛ فإنه كان شديد الانتقاد للأناجيل: «نجد في الأناجيل أرضية لجهل بذيء، ولأمور مستحيلة، ولخرافات، ولتعصب وافتراءات» (فورد، ١٩٠٤-١٩٠٥: ٣٢٥). ولكي يُبقي جيفرسون على ما رأى أنه تعاليم يسوع الأخلاقية الثمينة، نقَّح العهد الجديد بحذف الأجزاء الخارقة للطبيعة ثم لصق الأجزاء المتبقية معًا. واليوم يُطلق عليه «إنجيل جيفرسون»؛ أما هو فأطلق عليه «حياة يسوع الناصري وأخلاقه» (جيفرسون، ٢٠٠٩). يحذف هذا النص كل قصص المعجزات، وينتهي بفقرة من الإصحاح التاسع عشر من إنجيل يوحنا: «وَكَانَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي صُلِبَ فِيهِ بُسْتَانٌ وَفِي الْبُسْتَانِ قَبْرٌ جَدِيدٌ لَمْ يُوضَعْ فِيهِ أَحَدٌ قَطُّ. فَهُنَاكَ وَضَعَا يَسُوعَ. وَوَضَعَا حَجَرًا كَبيرًا عَلى بابِ القَبْر ورَحَلا.»

كان جيمس ماديسون (تُوفي عام ١٨٣٦) الذي كان يُلقَّب «أبا الدستور» أيضًا ناقدًا للكنائس المتعددة المنقسمة. في عام ١٧٨٥، حينما كانت ولاية فرجينيا تنظر في مشروع قانون لجبي الضرائب لمساندة تعاليم المسيحية، كتب ماديسون في القسم السابع من وثيقته «تذكار واحتجاج ضد التقويمات الدينية»:

تشهد التجربة أن المؤسسات الكنسية، بدلًا من أن تحفظ نقاوة الدين وفاعليته، كانت لها عملية مناقضة؛ فعلى مدار خمسة عشر قرنًا تقريبًا كان التأسيس الشرعي للمسيحية محل اختبار. فماذا كانت ثماره؟ ساد في كل مكان بقدر أو آخر كبرياء وتكاسل بين رجال الدين، وجهل وخنوع بين العامة، وبين هذا وذاك خرافات وتعصب واضطهاد. (بوركيت، ٢٠١٣)

إذا كانت الولايات المتحدة لم تنشأ بوصفها أمة مسيحية، إذًا، فمتى وكيف بدأت الفكرة؟ في القرن التاسع عشر، شهد البلد الجديد موجات عديدة من التبشير المسيحي — التبشير بالإنجيل — بالإضافة إلى مولد ديانات جديدة مثل «كنيسة يسوع المسيح لقديسي الأيام الأخيرة» (المورمونية) و«الأدفنتست السبتيين». أضاف كثير من المبشرين إلى تعاليم المسيحية التقليدية فكرة أن الأمة الجديدة كانت لها علاقة خاصة مع الله؛ وسمَّاها بعضهم «إسرائيل الجديدة». لكن هذا التوجه لم يعكس آراء مؤسسي الدولة. كانوا شديدي الانتقاد للمسيحية لدرجة أنه في إحدى الوعظات التي وردت في الصحف عام ١٨٣١، تأفف خادم أسقفي يُدعى دكتور بيرد ويلسون في مدينة ألباني بولاية نيويورك، من أن «مؤسسي أمتنا كانوا كلهم تقريبًا كفارًا»، ومن أن الرؤساء «الذين انتُخِبوا حتى الآن لم يعبِّر أيٌّ منهم عن اعتقادٍ للمسيحية» (ريمسبرج، ١٩٠٦: ١٢٠).

المراجع

  • Adams, C. (1850) The Works of John Adams, Second President of the United States: With a Life of the Author, Notes, and Illustrations, Volume 2, p. 4, Charles C. Little and James Brown, Boston.
  • Adams, D.W. and Lester, R.W. (eds) (1983) Jefferson’s Extracts from the Gospels: “The Philosophy of Jesus” and “The Life and Morals of Jesus”, Princeton University Press, Princeton, 408–410.
  • Avalon Project (online) The Barbary Treaties 1786–1816: Treaty of Peace and Friendship, Signed at Tripoli November 4, 1796, http://avalon.law.yale.edu/18th_century/bar1796t.asp (accessed January 11, 2014).
  • Boller, P. (1963). George Washington and Religion, Southern Methodist University Press, Dallas.
  • Burkett, C. (ed) (2013) 50 Core American Documents, Ashbrook Press, Ashland OH, p. 9.
  • Ford, P. (ed) (1904-1905) Works of Thomas Jefferson, Volume 4. New York: G. P. Putnam’s Sons.
  • Franklin, B. (1728). Articles of Belief and Acts of Religion.
  • Franklin, B. (1996) Autobiography of Benjamin Franklin, Dover, New York.
  • Gilgoff, D. (2007) John McCain: Constitution Establised a “Christian Nation”, www.beliefnet.com/News/Politics/2007/06/John-Mccain-Constitution-Established-A-Christian-Nation.aspx (accessed January 8, 2014).
  • Jefferson, T. (1800) private journal, February, in The Works, Vol. 4 (Thomas Jefferson, 1904-1905), G.P. Putnam’s Sons, New York, p. 572.
  • Jefferson, T. (2009) The Jefferson Bible: The Life and Morals of Jesus of Nazareth, Wilder Publications, Radford VA.
  • Madison, J. (1786) Madison Letter to Jefferson on the Bill Concerning Religious Freedom, January 22, www.churchstatelaw.com/historicalmaterials/8_7_7.asp (accessed January 11, 2014).
  • Paine, T. (1794, 1795, 1807) The Age of Reason: Being an Investigation of True and Fabulous Theology. Common Sense and Other Writings (T. Thomas, 2005), Barnes and Noble Classics, New York.
  • Paine, T. (2005) Common Sense and Other Writings, Barnes and Noble Classics, New York.
  • Peden, W. (ed) (1954) Notes on the State of Virginia, Chapel Hill: University of North Carolina Press for the Institute of Early American History and Culture, Williamsburg, Virginia, Query 17.
  • Remsberg, J. (1906) Six Historic Americans, The Truth Seeker, New York.
  • Seldes, G. (ed) (1983) The Great Quotations, Citadel Press, Secaucus, New Jersey, p. 726.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤