الفصل السابع

خرافات عن التقاليد الشرقية

  • (١)

    الهندوسية تقليد ديني واحد.

  • (٢)

    تروج الهندوسية النظام الطبقي.

  • (٣)

    يعبد الهندوس الأصنام.

  • (٤)

    بوذا إله للبوذيين.

  • (٥)

    بوذا الضاحك (بوداي هو-تي) هو بوذا.

مقدمة

كما ذكرنا في الفصل الثاني، لا ينطبق مصطلح «دين» بحذافيره على كل الثقافات؛ فهو يوائم المسيحية الحديثة التي تُعرَّف على أنها (أ) مجموعة ممارسات ومعتقدات متماسكة، (ب) تتعلق بالجانب المقدس من الحياة، وهكذا يمكن تمييزها من الجوانب غير الدينية من الحياة. لا يتوافق أيٌّ من هاتين السمتين مع التقاليد الشرقية، لكن الأوروبيين، حينما حاولوا فهم تقاليد الهند والشرق الأقصى، اعتبروها بطبيعة الحال مشابهة لتقاليدهم. وأدى هذا إلى بعض الخرافات التي سننظر فيها في هذا الفصل. وتنتج خرافات أخرى من سوء فهم بسيط نتيجة الإخفاق في فهم هذه التقاليد كما يفهمها ممارسوها.

(١) الهندوسية تقليد ديني واحد

«الهندوسية ليست ديانة. هي طريقة حياة.» يمكنك أن تسمع هذه الجملة اليوم في كل صالة استقبال أينما يجلس النشء لمناقشة الثقافة الهندوسية والتحدُّث عن الهند. («الهندوسية: ديانة أم طريقة حياة؟» (فيلانسوامي، ٢٠١٣))

مضى صاحب الاقتباس المذكور أعلاه ليصف الزعم بأن الهندوسية ليست ديانة بأنه «مقولة خاطئة.» واستطرد: «لا يمكن لأي امرئ مفكر أن يقبله أو يمنحه أي صدقية على الإطلاق. يا لها من حماقة منقطعة النظير متدثرة بمثل هذه الجملة الجذابة!» إن اعتبار شيءٍ ما دينًا أو غير ذلك هو أمر يمكن أن يكون له تداعيات خطيرة، والواقع أن هذا هو سياق رفض فيلانسوامي العنيف الزعمَ بأن الهندوسية ليست دينًا. لكن، بعيدًا عن العواقب، يفترض العلماء أن مصطلح «هندوسية» ينبغي استخدامه بحذر؛ فالهندوسية ليست دينًا بالمعنى الذي ينطبق به هذا المصطلح على المسيحية، على سبيل المثال؛ فهي ليست منظومة واحدة من المعتقدات والممارسات التي يقبلها كلُّ من يُدعَى «هندوسيًّا»، ولا يمكن أن تقتصر بسلاسة على جانب من جوانب الحياة يمكن تعريفه بأنه الجانب «الديني»، متمايزًا من الحياة «الدنيوية».

يأتي مصطلح «هندوسية» من كلمة «هندو»، وهي كلمة فارسية وعربية تشير ببساطة إلى الأشخاص الذي يعيشون على الضفة الشرقية من نهر السند (الذي يجري مباشرة اليوم في قلب باكستان). وكانت كلمة «هندو» مقصورة بصرامة على المدلول الجغرافي، ولا علاقة لها بالهوية الدينية أو الأيديولوجية. وكان الفارسيون يطلقون على المكان الذي كان الهندوس يعيشون فيه «هندوستان»، أما العرب فكانوا يطلقون عليه «الهند». وحينما استخدم شعب الهند مصطلح «هندوسي»، كان الغرض الوحيد هو تمييز أنفسهم من المحتلين الأجانب. ومرة أخرى لم يكن للكلمة مدلول يعبر عن الهوية الدينية (أوكونيل، ١٩٧٣).

كان الأوروبيون هم من شرعوا في استخدام لفظة «هندو» للإشارة إلى الهنود الذين لم يكونوا مسيحيين، ولا مسلمين، ولا يهودًا، مانحين الكلمة هويتها الدينية. ولم تميِّز بين الهندوس وأتباع الديانة اليانية أو السيخية، وهما ديانتان هنديتان أصليتان أخريان. حينئذٍ سُكَّ مصطلح «الهندوسية» للدلالة على نظير ديني للمسيحية أو الإسلام أو اليهودية. وهي كلمة إنجليزية، ولم تبدأ في الانتشار إلا في القرن التاسع عشر.

تستبعد لفظة «هندوسي»، بحسب استعمالها الحالي، اليانيين والسيخ الذين يتبعون تقاليد هندية أصلية، لكنهم لا يعترفون بحجية كتب «الفيدا»، وهذا — القبول بحجية كتب «الفيدا» — هو ما أصبح محددًا لوصف الناس بأنهم «هندوس».

تتألف «الفيدا» من مجموعات من قصص الخلق، وقصص عن آلهة، وتراتيل تسبيح للآلهة، وصلوات، وتعليمات لشعائر مختلفة، وتأمل فلسفي. وهي منظومة في أربع مجموعات رئيسة: «الريج فيدا»، و«الياجور فيدا»، و«السما فيدا»، و«الأتارفا فيدا». ويُعتقد أن «الفيدا» تلقَّاها في الماضي السحيق أناس كانوا منسجمين انسجامًا مع الحقائق الكونية، وبالطبع مع «براهمان»، الحقيقة المطلقة المجردة. ولذا يُنسَب إلى براهمان الفضل في أنه مصدر الكون، ومصدر كتب «الفيدا» المقدسة أيضًا.

آلهة الهندوسية كثيرة ومتنوعة. بعضها يُعَد تشخيصات للظواهر الطبيعية مثل النار والعواصف والسماء. والبعض الآخر وحيد الشخصية، بينما البعض الآخر متعدد الشخصيات. الإلهة شاكتي، على سبيل المثال، يمكن اعتبارها الطاقة بهذه الطريقة، أو طاقة آلهة مختلفة، أو إلهة هي نفسها. بل إن البعض يعتبرونها طاقة الخالق، ومِن ثَمَّ فهي نفسها الخالقة.

يصف كتاب «الريج فيدا» ٣٣ إلهًا، بعضها مألوف أكثر من غيره. ومن بينها الإله ديوس بيتا، الآب السماوي. ونظير ديوس بيتا في الميثولوجيا الإغريقية هو العظيم «زيوس باتر»، «الآب زيوس»، رب كل الآلهة. ويقابله في الميثولوجيا الرومانية الإله الروماني الأسمى جوبيتر.

آلهة الهندوسية كثيرة ومتنوعة. بعضها يُعتبر تشخيصات للظواهر الطبيعية مثل النار والعواصف والسماء. والبعض الآخر وحيد الشخصية، بينما البعض الآخر متعدد الشخصيات. على سبيل المثال، يمكن أن تستخدم كلمة «شاكتي» — التي تعني «القوة» — باعتبارها اسم إلهة مفردة تُدعى أيضًا «ديفي»، أو يمكن أن تشير إلى طاقة آلهةٍ ذكور مختلفين «لكلٍّ منهم شاكتيه». بل وفي أحد التقاليد الهندوسية تكون شاكتي أو ديفي هي الكائن الأسمى.

بعض الآلهة غير معروف إلا في مناطق معينة من الهند، بينما بعضها الآخر معروف على مستوى العالم. ومثال هذا جانيشا، الإله ذو رأس الفيل المعروف بأنه «مذلِّل العقبات». وهو شهير لدرجة أن أناسًا لا يعتبرون أنفسهم هندوسيين يعتمدون عليه في جلب الحظ السعيد. عدد آلهة الهندوسية وإلهاتها المتعارف عليه هو ٣٣٠ مليون إله وإلهة.

بعض آلهة الهندوسية يعتبر أعظم من البعض الآخر. من بين «الآلهة العظيمة» (الماهاديفا) فيشنو الحافظ، وشيفا الهادم الخالق من جديد. وكلٌّ منهما مقترن بإلهة يمكن أن تُدعى شاكتي الخاصة به. أما ساراسواتي، إلهة المعرفة، فهي تساعد الإله براهما؛ وتساعد لاكشمي، إلهة الرغَد، الإلهَ فيشنو. وقرينة الإله العظيم شيفا هي الإلهة ديفي التي تُدعى أيضًا شاكتي. وثمة تقليد قديم يعتقد أن براهما هو ثالث الآلهة العظيمة، إله يخلق بالنيابة عن الآخرين — سواء شيفا أو فيشنو أو شكل من أشكال ديفي.

لكن الاعتقاد بإله أو آلهة ليس ضروريًّا ليكون المرء هندوسيًّا. هناك تقليد فلسفي عميق في الهندوسية، يستند إلى نص آخر، وهو «الأوبانيشاد». على غرار كتب «الفيدا»، يُعتَقد أن نصوص «الأوبانيشاد» تلقَّاها أو «سمعها» أفراد غير عاديين في الماضي السحيق، ولم يؤلفوها. ومن ثم يُعتقد أنها إلهية المنشأ؛ ولذا فهي تتمتع بحجية مثل «الفيدا». تُعلِّم نصوص «الأوبانيشاد» أن الآلهة جميعهم هم تجليات للحقيقة المطلقة، الخالدة، والحقيقية التي تستوعب الجميع، وهي: براهمان. كل الآلهة والإلهات لا تعدو في نهاية المطاف كونها تجليات لبراهمان، وكذلك كل كائن حي، ومن ذلك كل إنسان.

هذا التعليم متجذر لدرجة أن نصوص «الأوبانيشاد» تُعتبر خاتمة كتب «الفيدا»، أو هي «الفيدانتا»، ويمكن أن يحتاج فهمها إلى أعمار لا حصر لها حافلة بالتجارب والتأملات. وحينما يحقق المرء هذا الفهم، يتحرر من حدود الوجود المادي الفردي (يصل إلى «الموكشا»). ومتى تحرر الفرد من دورة الولادات المتكررة («السامسارا»)، يصبح ما كان عليه المرء دائمًا حقًّا: متحدًا بالحقيقي.

ثمة كثير من المدارس الفكرية التي تتناول الحكمة المطروحة في الأدب الفيدي وتفاسيره. وهي تقدِّم براهمان بطرق مختلفة — بوصفه إلهًا، أو أسمى من الألوهية، على سبيل المثال. وهذه «الحقيقة المطلقة» سامية للغاية، مع ذلك، لدرجة أن الكلمات وسائل قاصرة عن بلوغها. ويُوصى بأنواع متنوعة من الأفعال («اليوجا») عوضًا عنها. من هذه الأفعال المعيشة الأخلاقية، وضبط النفس، وأيضًا التأمل والتفكر والتنسك الخاشع.

لكن، مثلما تكون الحقيقة كلها واحدة في النهاية، تدرك الممارسات الهندوسية أن قوانين الكون ثابتة ودقيقة. بعبارة أخرى، تتجاوب الأفعال كلها في كل أنحاء الكون. ومِن ثَمَّ تكون للأفعال الصالحة — مثل الاضطلاع بالمسئوليات العائلية، وإظهار الاحترام للآلهة والإلهات، والدراسة، والتأمل — آثار إيجابية تشمل تقدُّم الفرد على درب التحرر من دورة الولادات المتكررة. وتكون للأفعال السيئة، مثل تلك الأفعال التي تحدث بدافع الجشع والجبن، الآثار المعاكسة. ولذلك، من واجب المرء أن يتصرف وفقًا لقانون الكون لدرجة أن مصطلح «دارما» نفسه يُستخدَم للإشارة إلى كلٍّ من «الواجب» و«قانون الكون». ويُعرَف مبدأ السببية باسم «كارما».

مثلما تتنوع التقاليد الهندية التي تُعرف جمعيًّا باسم الهندوسية؛ فإنها تتقاسم رؤية العالم التي تُوصف بمفاهيم «الحقيقة المطلقة»، و«الدارما»، و«الكارما»، بالإضافة إلى احترام الكتب المقدسة التي تنقل هذه «الحكمة» أو «المعرفة» — معنى كلمة «فيدا» السنسكريتية. وهكذا، على الرغم من أنه لا يُشترط اعتناق عقائد معينة أو مزاولة ممارسات بعينها عند الهندوس، فالهندوسية كما نفهمها اليوم يجوز اعتبارها ديانة. وبتعبير سيمون ويتمان (١٩٩٨: ٢٦٤)، يؤكد تعريف الهندوسية لذاتها أن الهندوسية «كلٌّ دينيٌّ واحد، مهما تنوعت محتوياتها بغزارة.»

المراجع

  • Veylanswami, S.B. (2013) Hinduism: Religion or Way of Life? Hinduism Today, April-May, www.hinduismtoday.com/modules/smartsection/item.php?itemid=5359 (accessed January 9, 2014).
  • O’Conell, J. (1973) The word ‘Hindu’ in Gaudiya Vaisnava texts, Journal of the American Oriental Society 93(3) 340–344.
  • Weightman, S. (1998) Hinduism, in A new handbook of living religions (ed J.R. Hinnells), Penguin, New York, pp. 261–309.

قراءات إضافية

  • Flood, G. (2005) The Blackwell Companion to Hinduism, John Wiley & Sons, Ltd, Chichester.

(٢) تروج الهندوسية النظام الطبقي

النظام الطبقي، عمومًا، هو عملية لتصنيف الأشخاص في فئات مهنية. وقد تغلغل في كثير من جوانب المجتمع الهندي لقرون. ولأن النظام الطبقي مترسخ بعمق في الدين، ويقوم على تقسيم العمل، فهو يُملي، هو وأشياء أخرى، نوع المهن التي يمكن أن تسعى وراءها امرأة ما والتفاعلات الاجتماعية التي قد تحظى بها. الطبقات هي أحد أوجه الدين الهندوسي. لا تتبع الديانات الأخرى في الهند هذا النظام. («مزاولة الأعمال التجارية في الهند للمبتدئين» (مانيان، ٢٠٠٧))

يواصل تفسير النظام الطبقي في الهند المقتبس أعلاه وصف «الطبقات الرئيسة الأربع» في النظام الطبقي، مُشيرًا إلى أنها تُسمى أيضًا «الفارنا» (كلمة «طبقة» باللغة السنسكريتية). إن مساواة الطبقة بالفارنا هو سوء فهم شائع، وكذلك المسلَّمات ذات الصلة التي تقول إن الطبقات موصًى بها من الدين، ومقصورة على الهندوسية. الواقع أن الطبقات ليست هي نفسها الفارنا، والفارنا فقط هي المترسخة في الكتب المقدسة الهندوسية. أما النظام الطبقي فهو بنيان اجتماعي تكوَّن شيئًا فشيئًا على مرِّ القرون، وهو واسع الانتشار لدرجة أنه ظاهر على نحو ملحوظ حتى في بعض المجتمعات المسيحية والمسلمة في الهند.

الفارنات أربع فئات اجتماعية تحددها المساهمات التي يقدمها الناس إلى المجتمع. البراهمة هم الكهنة والعلماء، والكشاترِيا هم المحاربون والحكام، والفيشيا هم الرعاة والمزارعون والحرفيون والتجار، والشودرا هم أولئك الذين يعملون لدى الآخرين. يصف بعض الباحثين السمات المحدِّدة ببساطة بأنها «كيفية كسب الناس قوتهم»، على أن هذا لا يعبِّر عن ثراء الأساس النصوصي للفارنا. كان اضطلاع المرء بمسئولياته، بوصفه عالمًا أو كاهنًا أو محاربًا أو حاكمًا أو راعيًا أو مزارعًا أو حرفيًّا أو تاجرًا أو عاملًا — المهن التي كانت تغطي دروب الحياة كلها في المجتمع التقليدي — واجبًا مقدسًا؛ فكل مهنة كانت ضرورية لإنجاح سير المجتمع، ومن ثم جميعها جديرة بالاحترام بالتساوي.

يظهر الإقرار الديني بالفارنات في واحدة من أشهر قصص الخلق في الهندوسية. يصف نص «الريج فيدا» الهندوسي المقدس كيف انبثق العالم وسكانه من «ذات» أو «إنسان» أوَّلي، «بوروشا». من فمه جاء العلماء الكهنة؛ ومن ذراعيه المحاربون؛ ومن فخديه الرعاة والمزارعون والحرفيون والتجار؛ ومن قدميه العمال. هذه هي الفارنات الأربع.

أما الطبقات الاجتماعية في المقابل فتُعَد بالآلاف. هي «الجاتِيات»، وليست مستمَدة من كتب «الفيدا» المقدسة. ويرجع إقرارها تقليديًّا إلى القواعد الواردة في قوانين مانو. يُرجع العلماء قوانين مانو إلى القرون الأولى الميلادية، وهي الفترة التي شهدت اضطرابات سياسية في الهند، وسادت فيها مخاوف مفهومة بشأن الترتيب الاجتماعي. يقدَّم النص نفسه على أنه من تأليف تلميذ أحد أبناء الإله براهما، وهي وسيلة تمنحه صدقية أكيدة، لكنه ينتمي في الفكر الهندوسي إلى صنف أدبي يُعرَف بأنه «تقليدي» («سمِريتي») وليس إلهي المنشأ («شروتي»).

تسترجع قوانين مانو إنشاء الفارنات، وتُسهب في وصف سماتها وواجباتها، ومستويات النقاوة، والقضايا الاجتماعية المتنوعة مثل وضع المرأة. وعلى مدار القرون، ومن خلال الشروحات العديدة لقوانين مانو، كوَّن المجتمع الهندي التراتب الاجتماعي المعقد الذي بات معروفًا للعالم الحديث باسم «النظام الطبقي».

انطوى ذلك النظام على نظام صارم للتراتبية الاجتماعية يتداخل بلا شك مع الفارنات. يظل البراهمة مهيمنين، على الرغم من أنه توجد فروق لا حصر لها حتى داخل فارنا البراهمة، كما توجد في الفارنات الأخرى. وهناك أيضًا أناس خارج النظام بالكامل — «المنبوذون» — وهي ظاهرة لا توجد في الفارنات. يمثل المنبوذون، الذين يُشتهرون باسم «الداليت»، سدس سكان الهند. والمنبوذون مهمَّشون من المجتمع السائد، ومحرومون من الحق في الدراسة، أو العبادة، أو الأكل، أو الاختلاط مع الهنود الآخرين. هم حرفيًّا «لا يُلامَسون»، وهو مصطلح آخر مستخدم للإشارة إليهم.

ويمكن تتبُّع منشأ فكرة حظر ملامسة المنبوذين وصولًا إلى الأفكار القديمة عن الدنس والنقاء؛ ففي المجتمع التقليدي، يؤدي الاحتكاك بسوائل الجسد الحيوية أو الكائنات الميتة إلى النجاسة. وأي احتكاك من هذا القبيل لا بد من علاجه بطقوس التنقية التي تتضمن التطهر والصلوات. توجد هذه الظاهرة في مجتمعات في أنحاء العالم. حتى في اليهودية الأرثوذكسية والإسلام الحديثَيْن يُعَد الحيض والنفاس من مصادر النجاسة، ومِن ثَمَّ لا بدَّ أن تتطهر النساء وفقًا للشعائر قبل استئناف حياتهن الطبيعية. لكن وفقًا للنظام الطبقي، النجاسة حالة ملازمة لمن تجعلهم سبل رزقهم في اتصال منتظم مع مثل هذه المواد. يشمل ذلك من يعملون جزارين، ودابغي جلود، ومنظفي شوارع، وعمال مجارٍ، وخادمات، ومديري منازل.

ترتبط مكانة المنبوذين المتدنية أيضًا بأفكار الكارما؛ فكما رأينا أعلاه، تُعلِّم الكتب المقدسة الهندوسية أن لكل الأفعال تبعات كونية. الأفعال الصالحة سوف تقرب الفرد من التحرر من دورة الولادات المتكررة، وتملؤه ببهجة الوجود النقي، أما الأفعال السيئة فسيكون لها التأثير المضاد. هكذا، أولئك الذين وُلدوا في وضعٍ اجتماعيٍّ متدنٍّ، قد يُفتَرض أنهم فعلوا ما يستحقون به ذلك.

ومع ذلك، يرفض كثير من المصلحين في العالم الحديث فكرة أن النظام الطبقي مباح دينيًّا، ويولون اهتمامًا خاصًّا لمحنة «الداليت». والواقع أن الدستور الهندي يحظر التمييز على أساس الدين أو العرق أو الطبقة أو الجنس أو محل الميلاد، ويجعل التمييز المبني على أساس «حظر الملامسة» خاضعًا للعقاب بمقتضى القانون. ورفض زعيم كفاح الهند من أجل الاستقلال عن إنجلترا، المهاتما غاندي، حتى استخدام لفظ «لا يُلامَس». ودعا المنبوذين «أولاد الله» («هاريجان»). حتى وسط أولئك الذين يعتقدون أن النظام الطبقي يمكن أن يرجع إلى أصول دينية يوجد نقاد لشكله الجديد. كتب المعلم البراهمي الموقر سوامي كريشناناندا (تُوفي عام ٢٠٠١) أن النظام كان يخدم في الأصل الاستقرار الاجتماعي، لكن بمرور الوقت «حلت محله الرجعية والتعصب من خلال انتشار الأنانية والجشع والكراهية، بما يتنافى وممارسة الدين الحقيقي بوصفها تعبيرًا اجتماعيًّا عن التطلع الروحاني الداخلي إلى ارتقاء تدريجي على مراحل إلى الله القدير» (http://www.swami-krishnananda.org/disc/disc_03.pdf الصفحة الثالثة (تاريخ التصفح ١٢ يناير ٢٠١٤)).

المراجع

قراءات إضافية

  • Dumont, L. (1981) Homo Hierarchicus: The Caste System and Its Implications, University of Chicago Press, Chicago.
  • Rao, A. (2009) The Caste Question: Dalits and the Politics of Modern India, University of California Press, Berkeley.

(٣) يعبد الهندوس الأصنام

[بيناريس] متحف أصنام هائل — وكلها غير متقنة الصنع، ومشوهة، وقبيحة. تتجمع خلال أحلام المرء ليلًا، كغوغاء وحشية من الكوابيس. (مارك توين (١٩٨٩: ٥٠٤)، لدى زيارة مدينة بيناريس (فاراناسي حاليًّا)، وهي من أقدس المدن للهندوسية، على ضفاف نهر الجانج)

كان ما وصفه توين بعبارة «غوغاء وحشية من الكوابيس» هو آلاف الصور لجمع آلهة الهند الغفير؛ فقد كان يزور فاراناسي، لكنه وجد صور الآلهة والإلهات في كل مكان في الهند: في المعابد، في البيوت، في المتاجر، في المكاتب، في سيارات الأجرة، على الحافلات، في المسارح، على المظلات، على الجدران.

كما رأينا أعلاه، عدد الآلهة في الهندوسية لا حصر له تقريبًا، وكذلك عدد صورهم. وكل إله له ملامح مميزة تُصوَّر — سواء في التماثيل أو الرسومات على أسطح مستوية — بتفصيلٍ شديدٍ وبألوان زاهية. سبق أن ذكرنا الإله جانيشا ذا رأس الفيل. عادة ما يُصوَّر بالألوان البرتقالي والوردي والبنفسجي والأزرق الوهاجة، بتاج ذهبي وجواهر كثيرة. أما الإلهة دورجا التي لا تُقهر، فعادةً ما تُصَّور باللون الذهبي اللامع. وتكون مرصَّعة بالمجوهرات حتى أكثر من جانيشا. ولها أربع أذرع على الأقل — كلٌّ منها تحمل شيئًا ذا معنًى، وتظهر في بعض الأحيان ممتطية نمرًا أو أسدًا، ولكنها دائمًا ما ترتسم على شفتيها ابتسامة عذبة. أما كالي، الذات الأخرى لدورجا، فتظهر في المقابل، باللون البنفسجي بالكامل، أو الأزرق، أو حتى الأسود. مجوهراتها مصنوعة من الجماجم البشرية؛ لسانها (أو ألسنتها) يتدلَّى للخارج في سخرية خبيثة، وأحيانًا ما تكشف عن أنيابها. وتقف على الجثث، وسط ألسنة اللهب أحيانًا.

بعض الصور أقل تفصيلًا. يمكن أن يُرى الرَّب شيفا، الإله العظيم لدورة الحفظ والدمار، في وضعية لطيفة على هيئة رجل ذي أربع أذرع عند تصويره في شخصيته «رب الرقص». ويُمثَّل في صورة أكثر رمزية بعمود حجري بسيط يُعرَف باسم «لينجام» (أو «لينج»)، وكثيرًا ما يظهر مع «يوني» (أو «بيتا») إناء قليل العمق على شكل وتد له مزراب، يرمز إلى «العبور» أو «الأصل» أو «محل الميلاد». قد يعبِّر اللينجام بوضوح عن قوة شيفا البارزة دائمًا. وبالنظر إلى أن اللينجام يظهر ملتحمًا بيوني — التي قد تُرى على أنها رمز للأعضاء الجنسية الأنثوية — فإنه قد يُعتبر رمزًا للعضو الذكري. وقد يمثِّلان معًا الطاقة الخلَّاقة.

تشتمل عبادة شيفا وشاكتي، اللذين يُرمَز إليهما باللينجام واليوني، على تقديم اللبن أو العسل أو السمن، والزهور، بالإضافة إلى أشياء أخرى، التي تُسكب على اللينجام أو يُدهن بها، ثم تسيل من خلال اليوني. وتُقدَّم أنواع مشابهة من «البوجا» للآلهة الأخرى. يُطلق على جانب آخر من جوانب العبادة «دارشان». وهو «أن ترى» الإله و«تكون مرئيًّا» له. يمكن حدوث «الدارشان» حينما يقدم الناس القرابين إلى صور الآلهة في المعابد، أو أثناء رحلات الحج إلى أماكن توجد بها صور شهيرة لأحد الآلهة، أو حينما يحتفلون بيوم عيد إله ما بالانضمام إلى الحشود ليشهدوا صورة خاصة على امتداد طريق الاستعراض.

بالنظر من الخارج إلى المجموعة الهائلة من صور الآلهة، وتقديم العطايا للصور، والتكالب على الوجود في محضر هذه الصور، يمكن أن يشبه هذا بسهولة عبادة الأصنام؛ أي إنه يمكن أن يبدو وكأن الناس يعبدون «صورًا منحوتة» كما جاء في الكتاب المقدس العبري: «لا تَصْنَعْ لَكَ تِمْثَالًا مَنْحُوتًا وَلا صُورَةً مَا مِمَّا فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ وَمَا فِي الأرْضِ مِنْ تَحْتُ وَمَا فِي الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ الأرْضِ.» (سفر الخروج ٢٠: ٤). يرجع هذا التحريم في الكتاب المقدس إلى أن الناس كانوا يعبدون أشياء مثل «العجل الذهبي» — التماثيل التي كانوا يعتقدون على نحو أسطوري أن لها قوة إلهية. يرفض اليهود والمسلمون حتى يومنا هذا صنع لوحات أو تماثيل للشخصيات المقدسة، خشية الخلط ما بين الصورة والإله نفسه.

أهمية التواصل البصري مع الإله في الهندوسية متجلية في تمثيلات الأعين في الصور الهندوسية. كثير من الآلهة مرسوم بعين ثالثة؛ وحتى أكثر من ذلك لبعضها؛ وحتى حينما تتجلى عينان فقط، فغالبًا ما يُبالَغ في حجمهما أو لونهما. عبَّرت العالِمة المتخصصة في الديانة الهندوسية ديانا إيك (١٩٩٦: ٧) عن ذلك قائلة «تلتقي نظرة الأعين الضخمة في الصورة مع نظرة العابد، وهذا التبادل للنظرات هو في صميم العبادة الهندوسية.»

غير أن ادعاء عبادة الأصنام، في حالة الهندوسية، في غير محله. يؤمن العابدون أن الأشكال المنحوتة ليست سوى تجسيد للإله، وليست الإله نفسه. ومِن ثَمَّ فالإله هو الذي يُمجَّد، لا الصورة. ما يبدو على هيئة صورة أو «صنم» هو في الواقع تجلٍّ ملموس للإله من وجهة نظر الهندوس. ومع ذلك، وكما رأينا أعلاه، فما من تعددية للآلهة في الفكر الهندوسي إلا وهي تَجَلٍّ للحقيقة المطلقة، براهمان. ولا يمكن لأي عدد من الآلهة أو الصور أن يستوعب براهمان. فبراهمان لا شكل له، ولا سمات محدِّدة. لكن الحقيقة المطلقة التي لا شكل لها ولا حد تتجلى في التنويعة اللانهائية من الأشياء في العالم المرئي. يُعبَّر عن هذه الوحدة الكامنة في التعددية في النص الهندوسي المقدس «الأوبانيشاد»، في حوار بين تلميذ وأحد «الحكماء» («الريشي») الذي «استوعب» حكمة كتب «الفيدا». يبدأ بالتلميذ يسأل عن عدد الآلهة.
أجاب الحكيم: «ثلاثة آلاف وثلاثمائة وستة.»
قال التلميذ: «أجل، لكن ما عدد الآلهة بالضبط؟»
«ثلاثة وثلاثون.»
قال: «أجل، لكن ما عدد الآلهة بالضبط؟»
«ستة.»
قال: «أجل، لكن ما عدد الآلهة بالضبط؟»
«ثلاثة.»
قال: «أجل، لكن ما عدد الآلهة بالضبط؟»
«اثنان.»
قال: «أجل، لكن ما عدد الآلهة بالضبط؟»
«واحد ونصف.»
قال: «أجل، لكن ما عدد الآلهة بالضبط؟»
«واحد.»
(إيك، ١٩٩٦: ٢٧)
إن لم يستطع إله واحد أو تجسيد (صورة) لإله أن يستوعب الحقيقة المطلقة، فبمقدور كلٍّ منها أن يومئ بأحد جوانب الحقيقة المطلقة. لكن في الحياة العادية نادرًا ما نولي انتباهنا للمطلق. والاحتفاء بتجسد فريد لهذا المطلق يتيح لنا تلك الفرصة. وكما يشرح الكُتيب التقليدي لعبادة فيشنو:

كيف يمكننا أن نتأمل في الله في غياب الهيئة؟ فإن كان بلا شكل، فأين سيثبت العقل نفسه؟ متى لا يجد العقل شيئًا يتشبث به، يَزِل عن التأمل أو ينزلق إلى حالة إغفاء. هكذا يتأمل العاقل في شكل ما، متذكرًا مع هذا أن الشكل هو فقط صورة مركَّبة وليس حقيقة. (إيك، ١٩٩٦: ص٤٥)

المراجع

  • Eck, D. (1996) Darshan: Seeing the Divine Image in India, Columbia University Press, New York.
  • Swami Krishnananda, Religion and Spirituality, http://www.swami-krishnananda.org/disc/disc_03.pdf, page 3 (accessed January 12, 2014).
  • Twain, M. (1989) Following the Equator, American Publishing Co., Hartford CN.

(٤) بوذا إله للبوذيين

يزعم البوذيون — على غرار الرومانيين الكاثوليكيين المخدوعين — ويتعلمون أنهم لا يعبدون بوذا، قائلين إنهم فقط «يُصلُّون» لتمثاله. حقيقة الأمر (كما سترون في الصور العديدة على هذه الصفحة) أن البوذيين يركعون بالفعل في عبادة وتبجيل لبوذا. «عبادة بوذا الشيطانية» (ستيوارت، ٢٠١١)

كما رأينا في الفصل الأول، ينزع الأشخاص الذين لا يعرفون سوى الأديان التوحيدية الغربية إلى التفكير في أن قوام أي ديانة هو العبادة. وحينما يرى الناس تماثيل من قبيل «تيان تان بوذا» في بكين الذي يبلغ ارتفاعه ٣٤ مترًا (١١٢ قدمًا)، فقد يفترضون أن بوذا إله يُعبَد. يلحظ بعض المسيحيين، مع ذلك، أوجه تشابه بين بوذا ويسوع، ويسوع يُعبَد. كلاهما بشَّر بين مجموعة صغيرة من الأتباع في البداية، ثم بين جموع أكبر فأكبر. وبعد موتهما أصبح أتباعهما رسلًا ينشرون رسالتيهما في كل أصقاع الأرض. شيَّدوا الكنائس والمعابد التي تئوي تماثيل يسوع وبوذا، وصنعوا رتب الرهبان والراهبات. لكن هنا تنتهي أوجه التشابه. بينما يُعبَد يسوع بوصفه إلهًا، فلا يُعبَد البوذا. كان مُعلِّمًا حكيمًا ذا «روح عظيمة» — يرمز لها بضخامة بعض تماثيله — لكنه لم يكن سوى مُعلِّم، وما علَّمه كان علاجًا للقضاء على عذاب الحياة.

«بوذا» لقب، وليس اسمًا. ويعني «اليقظ» (أحيانا ما يُترجَم إلى «المستنير»). مُنِح لقب «بوذا» لرجل عاش في شمال الهند في القرن الخامس قبل الميلاد. كان اسمه سيدهارتا جوتاما، وشبَّ أميرًا. ووفق التقليد البوذي، ظهرت نبوءة قبل مولده تقول إنه سيصير ملكًا أو زعيمًا دينيًّا. وقد أراده أبوه الملك أن يتبع خطاه، ولذا، وقاه من مشكلات الحياة، لأنها غالبًا ما تقود الناس إلى الدين. تزوج سيدهارتا من ابنة عمه، وهي أميرة حسناء، وعاش في قصر أبيه، جاهلًا معاناة العالم بالخارج. غير أن سيدهارتا، وهو في أواخر العشرينيات من عمره، جال بعيدًا عن القصر ليستطلع شكل العالم. وخارج قصره المعزول، شاهد سيدهارتا أشخاصًا أحنى العمر ظهورهم، يعانون المرض، ونادبين ينوحون على موت أحبائهم. مسَّت هذه التجارب شغاف قلب الشاب لدرجة أنه ترك عائلته ونعيم القصر، وشرع في استكشاف علاج للمعاناة.

أمضى سيدهارتا سنوات في الدراسة بمعية معلِّمين هندوس تقليديين، ينهل من حكمتهم ويتبع ممارساتهم، ومنها أقصى أشكال إنكار الذات. لكن لم يُقدِّم أيٌّ من الطرق التقليدية التحرُّر من المعاناة الذي كان يسعى إليه. في آخر المطاف، قرَّر أن يكف عن الانتقال من مُعلِّم إلى آخر، وأن يجلس ببساطة ويتأمل إلى أن توصَّل إليه. بعد وقت، خرج من تأمله «يقظًا»؛ اكتشف كلًّا من سبب المعاناة وعلاجها. وأصبح «البوذا». كما رأينا في الفصل الثاني، تتلخص تعاليمه في «الحقائق النبيلة الأربع»: أن الحياة تشوبها المعاناة، والمعاناة تسببها الرغبة (أو التعلق)، وأن المعاناة يمكن تحاشيها بالقضاء على الرغبة، وطريقة القضاء عليها هي اتباع الطريق الثُّماني:
الرؤى السليمة: بمعنى أن تفهم العالم فهمًا صحيحًا.
التطلعات السليمة: الالتزام بإنهاء الرغبة.
الكلام السليم: تجنُّب الكذب أو التحدُّث بغضب، وإنما التحدث برفق.
الفعل السليم: السلوك على نحو سلمي وأمين.
طريقة العيش السليمة: الامتناع عن إلحاق الضرر بأي كائن حي.
السعي السليم: المثابرة في السعي.
الانتباه السليم: إيلاء انتباهٍ تامٍّ لما يحدث وما يفعله المرء.
التركيز السليم: التمتع بالسلام في أي موقف من خلال التركيز عليه بعمق.

بعبارة أخرى، يمكن للمرء من خلال الكف عن الرغبة، والعيش ببساطة، والتحلي بالرأفة نحو كل الكائنات الحية، أن يقبل الحياة بما تحمله له، ويتجنب المعاناة، ويجد السلام. كان هذا التعليم هو لب الوعظة الأولى للبوذا. وعظها بين النُّساك الخمسة الذين كان يعيش معهم، وأصبحوا «السانغا» الأوائل — جماعة الرهبان البوذيين — وشرع في نشر الرسالة حتى يمكن للآخرين أن يتحرَّروا من المعاناة. وعلى عكس المبشرين المسيحيين، لم يعظ بوذا وأتباعه عن الله أو عن آلهة. وإنما انصب تركيزهم بالكامل على الشأن العملي المتعلق بالمعاناة البشرية وكيفية التغلب عليها.

وحالما انتشرت البوذية في أنحاء آسيا، حاولت مجتمعاتٌ البقاء ملتزمة بالتعليم الأصلي للبوذا. ويُطلق على تقاليدهم الموجودة اليوم في سريلانكا، وميانمار، وتايلاند، وكامبوديا، ولاوس، بوذية «ثيرافادا» أو «هينايانا» (المَرْكبة الصغرى). لكن بعد مرور نحو خمسة قرون على موت البوذا، ومع دخول البوذية إلى الصين وكوريا واليابان، أضيفت أفكار وممارسات جديدة لإنشاء تقاليد تُسمَّى بوذية «ماهايانا» (المَرْكبة الكبرى). تحتوي تقاليد الماهايانا على شخصيات تقوم بدور المخلِّصين، ويصلي الناس لهم طالبين مساعدتهم، مع أنهم ليسوا آلهة ولكنهم بشر. ويُطلق على هؤلاء الشخصيات لقب «بوذيساتفا».

على غرار الهندوس، يؤمن البوذيون بأن الأشخاص يُولدون مرارًا وتكرارًا إلى أن يصبحوا «يقظين». حينئذٍ، يتوقفون عن تكرار التجسُّد، ويدخلون في حالة الوجود السعيدة التي تُعرف بالنيرفانا. والبوذيساتفا هو الشخص الذي بلغ «اليقظة» وأصبح قاب قوسين أو أدنى من دخول حالة النيرفانا، ولكن من باب الإشفاق على كل أولئك الذين لا يزالون يجاهدون في دورة المعاناة وتكرار الميلاد، يتنازل عن النيرفانا ليساعد الآخرين على بلوغ الاستنارة. واحد من أهم البوذيساتفا هو أفالوكيتسافارا، الذي يُدعى أحيانًا «بوذا الرحمة». يُقال إنه يعيش في مملكة سماوية خاصة، سيجلب إليها أولئك الذين يطلبون مساعدته. في اليابان، ثمة نسخة أنثوية من أفالوكيتسافارا تُسمى كانون. وعلى غرار البوذيساتفا الآخرين، هي ليست إلهة، مع أنها قد تبدو كذلك حينما يصلي البوذيون أمام تمثال كانون.

في أحد أنواع بوذية الماهايانا الذي يُدعى «الأرض النقية»، يُقال إن راهبًا يُدعى دارماكارا أقسم ذات مرة أنه إذا بلغ النيرفانا فسوف يخلق أرضًا نقية مباركة — شبيهة بالفكرة الغربية عن السماء — وسيدعو إليها الناس الذين تشفَّعوا باسمه التماسًا لمساعدته لحظة موتهم. يُطلق على هذه الشخصية «أميتابها» في اللغة السنسكريتية و«أميدا» في اليابانية. ودوره، بصفته مخلِّصًا لأولئك الذين يصلون له، أشبه بدور يسوع في المسيحية، لكنه، على عكس يسوع، ليس إلهًا.

ومن تقاليد الماهايانا التي تُثبت بوضوح أن البوذا ليس إلهًا بوذية الزن. سيرًا على خطى بوذا، يشدِّد معلمو طائفة الزن على التحرر من التعلق بوصفه وسيلة للتخلُّص من الرغبة. خليق بنا أن نتحرر من التعلق ليس فقط بالممتلكات والمراكز الاجتماعية، كما يقولون، ولكن بالمفاهيم وأنظمة التفكير أيضًا؛ ولذا، يحاولون تحرير التفكير المنطقي المعتاد من مساراته المألوفة بطرح ألغاز «كُوَان» على تلاميذهم — أسئلة مربكة من قبيل «ما الصوت الصادر عن التصفيق بيد واحدة؟» بالتحرر من مسارات التفكير المألوفة، يشجعون على نزع احترام النصوص البوذية المقدسة والبوذا نفسه. وفقًا لإحدى قصص الزن، زار المعلم تانكا (تُوفي عام ٨٢٤) ديرًا في عزِّ الشتاء، وكان الجليد قد غطى مُؤَن الرهبان من الحطب. ولمَّا كان تانكا يرتجف من البرد، اتجه إلى المذبح، وأنزل أحد تماثيل البوذا الخشبية، وحطمه إلى قطع، واستخدمها في إشعال النيران ليستدفئ. بل إن هناك حكمة في الزن تقول: «إذا قابلت البوذا، فاقتله.»

البوذا إذًا هو مؤسِّس تقليد ديني عظيم، لكنه ليس إلهًا. واليوم، ثمة آلاف من المعابد البوذية في أنحاء العالم، وأكثر منها تماثيل للبوذا. لكن تماثيل البوذا ليست جزءًا من العبادة. هي موجودة هناك لمساعدة الناس على تركيز انتباههم على تعاليم البوذا العملية للغاية فيما يخص طبيعة المعاناة، وإلهامهم في مساعيهم على طول الطريق الثُّماني.

المراجع

قراءات إضافية

  • Keown, D. (2013) Buddhism: A Very Short Introduction, Oxford University Press, New York.
  • Dalai Lama (2002) How to Practice: The Way to a Meaningful Life, Simon and Schuster, New York.

(٥) بوذا الضاحك (بوداي هو-تي) هو بوذا

بوذا الأماني السعيدة يجلب السلام والسعادة لبيتك.

إذا أردت أن تجتذب المزيد من الثراء والعافية والفرح، فاحرص على دلك بطن بوذا الضاحك كل يوم، وتمنَّ أمنية لنفسك ولعائلتك. يُشتهر بوذا الضاحك بأنه أيضًا بوذا الذي يجلب الثراء والسعادة … نحن نتخصص في صنع تماثيل بوذا عالية الجودة، ونراعي التفاصيل، ونعتني بالصنعة الرفيعة الجودة. جميع تماثيل بوذا التي ننتجها «صناعة يدوية» وكل قطعة فريدة. (إعلان عن تماثيل بوذا الضاحك باعته شركة ويلث بوذا إنك بنيويورك وفانكوفر)

ترافق مع الشعبية الحالية التي يحظى بها التأمل، و«الفنج شوِي»، والظواهر الأخرى ذات الصلة بالبوذية، رواج كبير لصور البوذا، أو على الأقل الصور التي يسمِّيها الناس البوذا. المشكلة هي أن بعض هذه الصور ليست البوذا. واحدة من أشهر الصور هي لشخصية ذكر بدين أصلع عاري الصدر، يضحك من القلب، كثيرًا ما يُطلق عليه بوذا الضاحك. تعرِض مطاعم صينية كثيرة مثل هذه التماثيل، وقد يخبر العاملون الزبائن أن دلك بطنه يجلب الحظ السعيد والثراء والرغد. ومؤخرًا، عرض منشور هدايا شهير (http://acacialifestyle.com/six-littlebuddhas/p/51068) «ستة تماثيل بوذا صغيرة» في صندوق هدايا. قيل للعملاء إن «ستة تماثيل لبوذا الضاحك (رقم مبشِّر) ترمز إلى الصحة والسعادة والرغد والعمر المديد.» غير أن بوذا الضاحك المزعوم ليس البوذا في حقيقة الأمر.

ظهر بوذا الضاحك أول ما ظهر في الصين. واسم العَلَم الصيني له هو «بوداي»، بمعنى «المُحِب» أو «الودود». وفي فيتنام يُطلق عليه «بو داي»، أما في اليابان فيسمى «هوتي». وهو شفيع المطاعم والنوادل. وعندما يفرط أحدهم في تناول الطعام أو الشراب، قد يُرجع الأصدقاء ذلك، على سبيل المزاح، إلى تأثير «بوداي».

لفظة «بوداي» تعني «الكيس القماشي» إشارة إلى الكيس الذي يحمله هذا الشخص. يمتلئ الكيس بالأرز والطعام والحلوى من أجل الأطفال الذين كثيرًا ما يلتفُّون حوله. من طيبته أصبح شفيع الأطفال والضعفاء والفقراء.

يخبرنا المؤرخون أن بوداي قد نُحت محاكاة لراهب بوذي في مذهب تشان (زن) يُدعى تشيسي عاش في الصين في القرن العاشر — بعد البوذا بأكثر من ١٥٠٠ عام. ولطيبته وبشاشته، سئم عيشة الدير، وشرع يعيش متسولًا جائلًا. كان لطفه مع الناس الذين يلقاهم على قارعة الطريق سببًا في أن يصير شخصية أسطورية في نهاية المطاف، والتفَّت حوله جماعة من المعجبين.

في بعض التقاليد الآسيوية، جرت مماهاة بوداي بمايتريا بوذا، وهو مخلِّص يُعتَقد أنه سيأتي في المستقبل البعيد عندما يتدهور الجنس البشري. ويقال إن البوذا تنبأ بأنه بعد خمسة آلاف سنة، سوف ينسى الناس رسالته. وبعد أن ينغمسوا في الأنانية والحسد والكراهية، ستتدهور صحتهم وينخفض متوسط أعمارهم، وسوف يخوضون فترات طويلة من المجاعات والأمراض والحروب. يقول الكتاب المقدس البوذي «كاكافاتي سوتا»، في مجموعة المحادثات (ديغا نيقايا) السادسة والعشرين:

في ذلك الزمن، سوف يظهر في العالم يا إخوتي «شخص مبجل» يُدعى مايتريا، مكتمل اليقظة، ومملوء حكمة وألوهية، وسعيد، وملم بمعرفة العوالم، وقائد لا مثيل له للبشر المستعدين للانقياد، ومعلم الآلهة والبشر، مبجل، بوذا كما أنا الآن تمامًا. (ديفيدز وكاربنتر ١٩٩٥)

في «المايتريافيانكارنا»، «نبوة مجيء مايتريا» (كونز، ١٩٥٩: ٢٣٩)، يصف بوذا هذا المخلِّص بأنه شخصية ضخمة وسيمة مهيبة:

سيكون له صوت سماوي يُسمع في أقاصي الأرض؛ ستكون لبشرته صبغة ذهبية، وسيشع من جسده رونق، وسيكون صدره عريضًا، وستكون أطرافه مكتملة النضج، وستكون عيناه مثل بتلات اللوتس. قدُّه ثمانون ذراعًا [١٢٠ قدمًا] طولًا، وعشرون ذراعًا [٣٠ قدمًا] عرضًا.

لعل ضخامة حجم مايتريا هي التي تفسر ذلك الالتباس بينه وبين بوذا الضاحك، لكن أيًّا منهما لا يُعتبر البوذا.

المراجع

  • Conze, E. (1959) Buddhist Scriptures, Penguin Books, New York.
  • T.W. Rhys Davids and J.E. Carpenter (1995) Digha Nikaya. Pali Text Society, Melksham, U.K.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤