قُرة عيني

الحكاية الخامسة من ملحمة الحرافيش

١

كان لعودة سماحة بكر الناجي المباغِتة واختفائه الخاطفِ زلزلةٌ عنيفةٌ في نفوس آل الناجي والحرافيش. ولعل أبناءَه كانوا أقلَّ الناس تأثُّرًا إذ إنه جاء وذهب وهم نيام، فضلًا عن أنه لم يَعُد بالقياس إليهم إلا ذكرى باهتةً مثلَ ذكرى أُمِّهم محاسن البولاقية. ورُويت مأساته بالطول والعرض فأصبحت أسطورةً وموعظة.

٢

وانتظم رمانة وقرة ووحيد في العمل بمحل الغِلال مع عمِّهم رضوان وعم أبيهم خضر. وترامى إلى الحارة خبرٌ عجيبٌ يقول إن المخبر حلمي عبد الباسط لم يمُت كما توهَّم المتوهِّمون. وإنه شُفِي من ضربة الجندرة، وواصل حياته في خدمة الحكومة والبلطجة على محاسن. عند ذاك تجلَّى العبث في هرب سماحة، واشتدَّ الحزن عليه، فهبَّ خضر للبحث عنه. من أجل ذلك سعى سعيه لدى مأمور قسم الجمالية، من أجل ذلك فاوض فتوة الحارة «الفسخاني»، مضاعفًا له الإتاوة وواعدًا إياه بمكافأةٍ مغرية، ومن أجل ذلك أيضًا رصد مكافأةً كبيرةً لمن يعثر عليه.

وأثار نشاطُه ريبة الفسخاني. وذكَّره رجالٌ من أعوانه بتطلُّع سماحة إلى الفتونة، فقلق الرجل وقلق معه وجهاء الحارة وأعيانها.

وما تدري الحارة إلا والرجل الطيب خضر يعثر عليه مثخنًا بالجراح في عطفة الكبابجي حيث كان في سهرةٍ أخَّرته لِما بعد منتصف الليل. ولم يجِدَّ الإسعافُ في إنقاذ الرجل، فقضى نحبه عقب يومَين من الحادث. ورغم إجماع القلوب على معرفة المجرمين فقد قُيِّدَ الحادثُ كالعادة ضدَّ مجهول، وضاع خضر مثل ذرةٍ من رمال.

٣

زُلزل آل الناجي لمصرع عميدهم، وعدُّوا ذلك نهايةً من نهايات الهوان المقدَّرِ عليهم. رغم ذلك استسلموا لقدرهم وأقرُّوا بعجزهم، غير أن وحيد — ابن سماحة الأصغر — غضب غضبةً مجنونةً أنذرت بوخيم العواقب.

قال بحَنَق: قاتل عمِّنا يمرح ويُدعى الفسخاني!

وتساءل بمرارة: أكان عاشور الناجي يتصوَّر هذه النهاية لذريته؟

ومثله في الانفعال كانت ضياء أرملة خضر، ولكنها انفعلت بأسلوبها الموائم. دفعتها الجريمة فتهاوت في أحضان المجهول، جفلت من عالم الإنس، لُقِّنت لغةَ الجمادِ والطير، واحتمَت من نِصال الألم بكهف الأشباح. صارت شيخة، الحلم رؤيتها، والفنجانُ نافذتها، والنبوءة الغامضة ترجمانها. وعشقت الجلباب الأبيض والخمار الأخضر والمبخرة النحاسية، تتهادى عند الأصيل بين الساحة والميدان، تنفث الدخان العطر، تلوذ بالصمت، تتبعها جارية، تحدِّق بها الأعين.

ويسخر رجالٌ من رجال الفتوة فيقول قائلهم: ذلك آمَن من الطمع في الفتونة.

وآلم سلوكُها الشبان، كما آلم رضوان وزوجتَه أنسية وشقيقتَه صفية، ولكنهم عجزوا عن ترويضها. حتى وحيد الغاضب قال لها: دارك يا امرأة عمي. الْزمي دارك إكرامًا لذكرى عمنا خضر.

فنظرت إليه ببلاهةٍ وقالت: رأيتكَ في نومي متمطِّيًا جرادةً خضراء.

فيئس وحيد من مناقشتها، ولكنها سألته: ألَا تدري معنى ذلك؟

فلم يكترث، ولكنها قالت تجيب نفسها: إنك خُلقت للهواء!

٤

وبقوة الغضب اخترق وحيد جدار الحذر. ما أضجرَه بمحل الغِلال! ما أبعدَه عن رمانة وقرة! تقول الشيخة إنه خُلق للهواء. تُرى هل يصلح للتحدي؟

كان متوسِّط القامة وسيمًا رغم عوره، قويًّا ولكنه بالقياس إلى الفسخاني مثل هِرَّةٍ بالقياس إلى خروف. لم يندفع في مغامرة، ولكنه يضطرب كثيرًا بحركةٍ غامضةٍ وقلقٍ مُعَذِّب. طالما قال له عمه رضوان: احذر الخيال وأقبل على العمل.

وطالما قالت له عمته صفية: لا تؤِّول أحلامَ ست ضياء على هواك.

وانحرف عن خط الأسرة فصادق شيخ الحارة محمد توكُّل رغم فارق السن، وسهر معه كثيرًا في غرزة الصناديقي. وأنشأ علاقةً طيبةً مع صديق أبو طاقية الخمَّار من خلال تردُّدِه بين حين وآخر على البوظة. له صبوات في العربدة، ولكن لم تفُته أبدًا صلاة الجمعة، حتى قال له مرةً الشيخ إسماعيل القليوبي: هل يجمع الله في قلب واحد بين الخمَّارة والزاوية؟

فتساءل وحيد بمرارة: ألَا ترى قاتلًا يمرح وبريئًا يتعذَّب في الغربة؟!

٥

وفي أعقاب ليلة معربدةٍ رأى حُلمًا طويلًا. رأى نفسه في الساحة أمام التكية ولم يكُن من المولعين بالساحة. وجاءه درويش فقال له: الشيخ الأكبر يُخبرك بأن العالم قد خُلِق فجر الأمس.

فصدَّقه وحيد ثمِلًا بسعادة تفوق التصوُّر. وحُمِل على هودجٍ فراح يشقُّ الحارةَ بين صفَّين من الرجال والنساء. ورأى أُمَّه محاسن البولاقية وهي تُشير إليه وتقول: اصعد.

فارتفع به الهودج، فحملته الريح إلى خلاء يحدق به جبلٌ أحمر. ووجد نفسه يتساءل: أين الرجل؟

فانحدر عملاق من سفح الجبل وقال له: اثبت في مركز النجاة.

فقال له بيقين: إنك أنت عاشور.

فتناول ساعده ودلكه بدهان قائلًا: هذا هو السحر!

٦

عندما استيقظ وحيد وجد نفسه مفعمًا بإلهام. أذعنت له القوة والتفاؤل والنصر. لم يشكَّ في أنه قادر على المعجزة، وأنه يستطيع أن يقفز من سطح الدار إلى الأرض دون خوف من الكسر.

أطاع الريح الهوجاء فارتدى ملابسه ومضى من توِّه إلى مجلس الفسخاني بالقهوة. رماه بنظرةٍ قاسيةٍ وقال له: إني أتحدَّاك أيها المجرم!

رفع الفتوة جفنَيه الثقيلَين. تصوَّره مجنونًا. رحَّب على أي حال بالبطش بأحد أشبال الناجي. سأله: مسطول يا ابن القديمة.

فبصق على وجهه.

ووثب الفسخاني قائمًا. تجمَّع خلق للمشاهدة.

لم يتردَّد وحيد. انقضَّ على الفتوة، وبكل قوته ضربه بيده المسحورة في عنقه فتقهقر الرجل حتى وقع على ظهره وهو يشهَق. خطف وحيد نبوته وضربه على ركبتيه فشلَّه. والْتحم مع نفر من أتباعه فجندلهم بقوةٍ وسرعةٍ مذهلتَين.

لم ينقضِ النهارُ حتى كان وحيد سماحة الناجي فتوةً للحارة!

٧

عصفت الدهشة بالحارة.

خفقت قلوب الحرافيش بالأمل. اضطربت خواطر الوُجَهاء بالخوف. حلمت أسرة الناجي بالعرش المضيء. ومضى وحيد ينوِّه بالحلم الذي رآه، والمعجزة التي أحدثتها يده المسحورة، والثقة الخارقة في النصر التي هوَّنت عليه مجابهة الموت. وسرعان ما أحسَّ حرارة الأمل المتطلِّعة إليه، وبرودة الخوف المتوجِّسة منه، ولكنه آثر التمهُّل والتدبُّر، فترك الأمور تسير في طريقها المعهود عدا نفحاتٍ جاد بها على المعسرين من الحرافيش.

وسأله عمُّه رضوان: متى تحقِّق حلم أبيك الغائب؟

فأجابه بحذر: خطوة خطوة، وإلا أفلت زمام العصابة من يدي.

– هذه سياسةٌ لا بطولةٌ يا ابن أخي.

فقال بغموض: رحم الله امرأً عرف قدر نفسه.

ولم يفقد رضوان الأمل، على حين طال بوحيد التأمُّل. وكلما مضى يوم تذوَّق جلال الفتونة، ونعمة الثروة، ومداهنة الوجهاء، وأخذ يستسلم لتيار الإغراء، فتقوَى في نفسه نوازع الأنانية، وتضعف أحلام البطولة والعهد. وإذا به يشرع في إنشاء دارٍ خاصَّةٍ به، ويتمتَّع بكل جميل وطيب في الحياة، ويولع أكثر بالبوظة والمخدرات، ويتمادى في ممارسة شذوذه حتى خرج به من السر إلى العلانية، حتى قال رضوان لزوجته أنسية: أليس الأفضل أن يكون الوغد من غيرنا!

وتذكَّر الحرافيش تدهور سليمان الناجي، فقالوا إن الشر وحده هو ما يورَث في آل الناجي. وتألَّم لذلك قرة كما تألَّم عمه رضوان، أمَّا رمانة فقال: حسبنا العزَّة التي عادت إلى الناجي.

وكان رمانة يشبه أخاه وحيد في تكالبه على المسرَّات واستهانته بعهد الناجي القديم. وأطلق وحيد على نفسه «صاحب الرؤيا»، ولكن الحرافيش دعَوه سرًّا بالأعور. وعرف بشذوذه فلم يتزوَّج، وأحاط نفسه بفتية مثل المماليك؛ هكذا استقرَّت فتونة وحيد الأعور.

٨

تعب قلب رضوان. غدا العمل يرهقه رغم أنه كان دون الأربعين. ما أسرع أن يتصبَّب عرقًا باردًا وتظلم الدنيا في عينَيه! وتراكمت فوقه الأحزان بسبب مأساة أخيه سماحة وسلوك وحيد؛ لذلك عزفت نفسه عن التجارة والحياة، ومال إلى العزلة والعبادة. هكذا هجر المحلَّ تاركًا إدارته لرمانة وقرة.

٩

احتلَّ رمانة وقرة حجرة الإدارة، يشتركان في عمل واحدٍ وقلباهما مفترقان. كان قرة وسيمًا، تشع من عينَيه جاذبية، ورث من أمه محاسن دقة قسماتها ورشاقتها، فضلًا عمَّا عُرِف به من تهذيب واستقامة، كأنه شمس الدين في جماله وعذوبته دون قوته. أمَّا رمانة فكان قصيرًا بدينًا مثل برميل، غامق اللون غليظ القسمات، به استهتارٌ وخشونة. وكان قرة أقدر منه في الإدارة والتجارة، وأنقى منه في المعاملة، وقد أحبَّه العُمَّال لسماحته وجوده. وكان رمانة يخالط أخاه وحيد في الغرزة، ويتورَّط في المغامرات بنهم، وينتقد — إذا سكر — شقيقه قرة حاسدًا وساخرًا.

قال مرةً لقرة: إنك تبدِّد مالك لتشتري به حب العمال، أي حكمة في هذا؟!

فقال له قرة: العطف ليس تجارة.

– ماذا هو إذن؟

– جرِّبه يا رمانة!

فضحك ساخرًا وهو يقول: ما أنت إلا ماكر.

ورغم أن قرة كان يصغر رمانة بعام إلا أنه كان يشعر بأنه مسئول عنه، حتى عن وحيد كان يشعر بمسئوليته أيضًا. وضاق رمانة ووحيد بمثاليته. وغضب وحيد مرةً فقال له: صرتم سادة الحارة بعد أن كنتم أذِلَّاءها، ألَا تُقِر لي بهذا الجميل؟

فقال له قرة بحِدَّة: وما فقدنا سمعتنا القديمة إلا بك.

فقال بحَنَق أفقده ضبط النفس: لا أصدِّق الخرافات!

فتساءل قرة ساخرًا: ألست «صاحب الرؤيا»؟

فغادره ساخطًا محتدمًا.

كذلك ساءته مغامرات رمانة، فقال له يومًا: تزوَّج، أكرمنا بزواجك.

فقال له رمانة بحَنَق: أنت أخي، أصغر مني بعام، لا تسعَ للتسلُّط على حريتي.

وقلق رضوان ممَّا لاحظ بين الشقيقَين من منافرة، فقال لقرة: يهمُّني أن يستقر الوئام بينك وبين أخيك.

وقالت له عمته صفية: بنا من الجروح ما يكفي، ولن تُغيِّر الكون.

هذا وما زالت الشيخة ضياء تتهادى بمبخرتها في الحارة كل أصيل، تناجي المجهول، دامعة العينَين.

١٠

وكان قرة عائدًا إلى الدار ليلًا عندما اعترضته في الظلمة عجوزٌ وهي تقول: مساء الخير يا معلم قرة.

فردَّ تحيَّتها متعجِّبًا، فقالت له: ثمة من ينتظرك الآن في ساحة التكية.

فثار في نفسه حب الاستطلاع وتساءل: من؟

– ستي عزيزة كريمة المعلم إسماعيل البنان!

١١

تبع العجوز يشقان الظلمة الكثيفة تحت القبو حتى خرجا إلى ظلمة الساحة المشعشعة بأضواء النجوم. كان الزمان صيفًا والنسمة لطيفةً وانية، وعذوبة الأناشيد تملأ الجو. قادته العجوز إلى شبح واقف تحت السور العتيق. لم يتبيَّن منها شيئًا، ولم يكُن رآها أو سمع عنها من قبل. ولمَّا طال السكوت همس مشجِّعًا: إني في خدمة الهانم.

فجاءه صوتٌ ناعمٌ مضطربُ النبرة يقول: أشكرك.

ثم مستدركةً في توسَّل: لا تسئ بي الظن!

– معاذ الله.

وحجز السكوت بينهما كالأول، فأدرك أنها تُنادي شجاعةً مفتقدة، وذهبت به الظنون كلَّ مذهب، حتى اضطُر إلى أن يقول: إني مُصغٍ إليك.

فقالت وهي تزداد اضطرابًا: سُمعتك كالورد، وما هي إلا كلمة واحدة، فليُعني الله على قولها.

– إني أُصغي إليك بكل اهتمام.

– أخوك رمانة.

وانقطع الصوت كأنه اختنق فخنق قلبه. تبدَّدت ظنون، حلَّ محلَّها الظلام، تمتم: أخي رمانة؟

بدَت عاجزةً عن مواصلة الحديث، وتخايلت الحقيقةُ مثلَ حشرةٍ تزحف في الظلام. عند ذاك همست العجوز: كان قد وعدها بالزواج.

– هكذا!

فقالت العجوز: إن لم يفِ بوعده في الحال حُقَّ علينا الهلاك!

وابتعد الشبحان. وصوت نحيب مكتوم يتكلَّس حول طبلة أذنه.

١٢

وتناول عشاءه مع عمه رضوان وزوجه أنسية. ضياء لا تبارح جناحها، ورمانة دائمًا في سهرة خارج الدار. وقال له عمه: لست كعادتك.

فتمتم: إني بخير.

فقالت أنسية: لست كعادتك ورأس الحسين!

كيف يبدأ الكلام؟ رأى أن يفاتحهما بالأمر. هكذا تصوَّر وهو عائد من الساحة. إنه الآن يتراجع، قوة تمنعه وتحذِّره. لقد أودعته الفتاة سرًّا وعليه أن يصونه. يجب أن يبدأ برمانة رغم كراهيته لذلك.

١٣

نامت الدار ولكنه لم ينَم. رجع رمانة قبل الفجر بساعة واحدة.

رأى عينَيه محمرَّتَين ثقيلتَين بالخُمار. أدرك في الحال صعوبة مهمته، ولكن كيف يتصرَّف وهو يعلم أنه يستيقظ في الضحى، وأنه — قرة — يفتح المحل في الصباح الباكر، وأن حجرة الإدارة لا تتسع لمثل هذا الحديث؟

– ماذا أيقظك؟

فمضى به إلى حجرته. ارتمى على ديوان وهو يقول في حذر: موعظة الفجر؟

فتجاهل سخريته وقال برِقة: عندي حديث هام أرجو أن يتسع له صدرك يا رمانة.

– حقًّا؟!

– هذا مؤكَّد!

فقال بتربُّص: تحت شرط ألَّا يكون له علاقة بالأخلاق!

– لا شيء مقطوع الصلة بالأخلاق.

فقال بعناد: أرفض الاستماع.

– صبرك. ليس كما تتصوَّر. إنه أمر يُهمك أكثر ممَّا يُهمني، ولا يمكن إهماله.

– أثرتَ فضولي؟

فوضع راحته على منكبه برِقة وهمس: إنه يتعلَّق بعزيزة!

تراجع رأس رمانة كأنما ضُرب بحجر وتمتم: عزيزة؟!

– كريمة إسماعيل البنان.

– لا أفهم شيئًا، ماذا تريد أن تقول؟!

فقال بهدوء ناعم وقوي في آن: عليك أن تتزوَّج منها، وفي الحال!

أزاح اللاثة عن رأسه. تخلَّص من راحة أخيه بهزة من منكبه وقال بحِدة: لا حياء! أين الحياء؟! كيف اتصلت بك؟!

– لا يهم، المهم أن نمنع وقوع مأساة.

فقال بسخرية: لا مأساة إلا في خيالك!

– أعتقد أنها مأساة حقيقية.

فقال رمانة وهو ينفخ: كلا، لا رغبة لي في ذلك!

– لمَ لا؟ لا شك أنها أعجبتك مرَّة، ثم إن أباها وجيه حسن السمعة!

فقال ببرود: لا ثقة لي فيمن تستسلم!

– أيًّا ما كان الرأي فثمة أحكامٌ للشهامة أيضًا.

– أي شهامة؟! … إني أحتقر ذلك.

فقال برجاء: المطلوب الستر، ثم افعل بعد ذلك ما بدا لك.

فهزَّ رأسه في حيرة وقال: ثمة عقبة في الطريق.

– ما هي؟

– حبٌّ بيني وبين شقيقتها رئيفة!

فقال قرة بجزع: لا يمكن أن تذبح واحدةً ثم تتزوَّج من الأخرى.

فغمغم بكلام غامض، فقال قرة: وربما علمت رئيفة بالمأساة ذات يوم.

– إنها تعلم بالفعل!

– وتوافقك على ما تريد؟

فهزَّ رأسه بالإيجاب، فقال قرة: إنها لشريرة يا أخي.

– بل هي مثلي تحتقر من تستسلم!

– ولكنها شقيقتها!

فقال بحَنَق: لا توجد الكراهيةُ الحقَّةُ إلا بين الإخوة والأخوات!

فجفل قرة، ثم غضب وهتف: عليك أن تتزوَّجها في الحال.

فصاح به: لا أسمح لك!

ونهض متحديًا، مضى وهو يقول: إن تكُن رحيمًا حقًّا فتزوجها أنت!

١٤

تسقط الأمطار فوق الأرض ولا تتلاشى في الفضاء. وتومض الشُّهب ثانيةً ثم تتهاوى. والأشجار تستقر في منابتها ولا تطير في الجو. والطيور تدوم كيف شاءت ثم تأوي إلى أعشاشها بين الغصون. ثمة قوةٌ تُغري الجميع بالرقص في منظومة واحدة. لا يدري أحدٌ ما تعانيه الأشياء في سبيل ذلك من أشواق وعناء، مثلما تتلاطم السحب فتنفجر السماء بالرعود.

وقد فكَّر قُرة في همِّه طويلًا، وقال لنفسه إنه ما عليه من بأسٍ إن هو مضى في سبيله وقد بذل ما في وسعه من جهد. ماذا في وسعه أن يفعل أكثر ممَّا فعل؟ ولكنه لم يستطِع أن يمضي على هواه. استغاثة عزيزة تتردَّد مع الأناشيد، راسخة مثل السور العتيق. نحيبها متكلِّسٌ حول طبلة أذنه. إنه مسئول، وآل الناجي أيضًا، حتى عاشور المعجزة، لا يستطيع أن يهز منكبَيه ويمضي. تشده القوة الجاذبة. لن يكون أكثر حريةً من الطير والشهاب والمطر. إلى مركز العذاب والمعاناة، إلى جحيم القوى المتخاصمة المتعادلة.

– إن تكُن رحيمًا حقًّا فتزوَّجها أنت!

الوغد يتحدَّاه. الوغد يمتحنه. الوغد ينتقم منه؟ أهذا هو حظه من الزواج؟ كلا وألف مرة كلا. ولكن أين المفر؟! إنه يحتقر الاستسلام، ولكنه أيضًا يقدِّس العذاب. كأنه قدر لا يتزحزح. ولكن ألم يقُل للوغد: المطلوب الستر ثم افعل ما بدا لك.

أجل إنه الستر أولًا، ثم يفعل ما بدا له.

١٥

قال لعمه رضوان: قرَّرت أن أُكمل نصف ديني!

فضحك الرجل وقال: رمانة سبقك في ذلك بساعةٍ واحدة!

فخفق قلبه مؤمِّلًا أن يكون الله قد هداه، فسأل عمه: من يا عمي؟

– رئيفة كريمة إسماعيل البنان.

فخاب أمله وصمت، فسأله رضوان: وأنت؟

فرسم ابتسامةً على شفتَيه متظاهرًا بالدهشة وقال: يا للمصادفة العجيبة! تصوَّر يا عمي أني أُريد شقيقتها عزيزة!

فضحك رضوانُ ضحكةً عاليةً وقال: فليبارك الله لكما. إني سعيد، وإسماعيل البنان جار نبيل وتاجر أمين.

١٦

لم يتطهَّر بالقرار من هواجسه. الغبطة مازجها قلقٌ وجفاء، كما يغرق المطر النقي في الوحل. وضاعف من أَسَاه اطلاع رمانة ورئيفة على سرِّه. وإلى ذلك فقد خاف أن تأبى عزيزة يده المجلَّلة بالإحسان وتدهمهم بكارثة، ولكن جاء البشير بالرضا. وانغرز النصل الطاهر الحامي في اللحم حتى النخاع.

وتعجَّل الأمر بصورة أذهلت الجميع وأثارت الدعابة.

١٧

زُفَّت عزيزة ورئيفة إلى قرة ورمانة في عرس واحد. عرس ابتهجت له الحارة كلها. وفي حفل الزفاف رأى قرة الشقيقتَين لأول مرة في حياته. هاله تماثلهما كأنهما توءمتان. توسُّط في الطول والامتلاء، لون خمري نقي البشرة، سواد عميق في العينَين، تناسق بديع في القسمات. وفتَّش عن فروق بين الاثنتَين حتى ظفر به في ثغرة في ذقن عزيزة وهي الكبرى، وامتلاءٌ أشدُّ في الشفتَين. هذا كله لا وزن له، ولكنه عثر على فارق ملموس في نظرة العينَين المتماثلتَين؛ نظرة عزيزة ثابتة وهادئة موحية بالطمأنينة، أمَّا نظرة رئيفة فقلقة خاطفة البريق كأنما تستقرئ أعين الآخرين بلا توقُّف، ويلوح فيهما ذكاء أسود، فسرعان ما توكَّد في قلبه النفور منها. ولم تُحاول إخفاء فوزها، ولعله الوحيد الذي أدرك ذلك، أمَّا عزيزة فكانت تنظر طول الوقت إلى حذائها الأبيض المزيَّن بالأطلس والترتر. وقال لنفسه إنها عروس غير سعيدة، وهو أيضًا عريس غير سعيد، وسوف يهوِّن ذلك عليهما اتخاذَ القرارِ المتوقَّع. ومضى بها إلى الجناح المخصَّص لهما على دقِّ الدفوف وغناء العالمة وهو يتساءل تُرى ماذا فعل بنفسه؟!

١٨

ولمَّا خلا إليها وجدها متعثِّرةً في الارتباك حتى قمة رأسها. لا تجرؤ على النظر إليه ولا على إتيان أي حركة، بلا حول ولا كرامة، فريسة إحسانه. رقَّ لها بقوة، وضاعف من رقته تأثُّره بجمالها الفتَّان الحزين. ولكنه لم ينسَ أن قلبها مغلق، وأنها غريبة تمامًا، وأن فستان الزفاف بمثابة بدلة السجين. ما هي إلا فترة عبور لا دوام لها. وفي هذه اللحظة تستكن رئيفة في حضن رمانة مفعمةً بالرغبة والفوز. تُرى ماذا عليه أن يقول؟ وأعفته من ذلك فجاءه الصوت الناعم قائلًا: الشكر لك.

فَرَقَّ أكثر وقال: إني آسف وحزين.

– إني أشعر بفداحة الظلم الذي تتحمَّله.

فقال مجاملًا: ولكنك تتحمَّلين ما هو أفدح.

– إنه خطئي على أي حال!

– يا له من حديث في ليلة الدخلة. لم تَنِدَّ عن أحدهما حركة، حتى طرحة الزفاف بقيت في موضعها فوق الرأس، غير أنه تفرَّس في وجهها بحرية في غيبةٍ من عينَيها المنكَّستَين، وتأثَّر أكثر بجمالها وجاذبيتها حتى اعترف فيما بينه وبين نفسه بأنه لولا شذوذ الظرف لالتهمها. وقال بهدوء: لن تُرغمي تحت سقفي على شيء ترفضينه.

فقالت بحرارة: إني واثقة من شهامتك ولكني ..

وأمسكت لحظة، ثم قالت: ولكني أؤكِّد لك أنه لم يبقَ من الماضي إلا ذكراه المؤلمة.

تُرى ماذا تعني؟ فيمَ تفكِّر؟ ألم تدرك أبعاد إقدامه على ما فعل؟ متى يصارحها بكل شيء؟ ومتى يتحرَّر من تأثير أنوثتها الطاغية؟ وتجاهل قولها، وقال متهرِّبًا ربما: إني أعجب لشقيقتك فهي لا تقل عن أخي سوءًا!

فقالت بازدراء: ما أليقهما ببعضهما!

– ماذا بينكما؟

– شرٌّ ولا شيء إلا الشر.

– ولكن ما سببه؟

– تريد أن تستأثر بكل شيء؛ بالتفوق والحب، ولكني تفوَّقت، وتوهَّمَت أن والدَي يحبانني أكثرَ فأضمرت لي الحقد والكراهية. إنها فظيعة.

– أخي أيضًا فظيع.

ثم مستطردًا: ولكنك ..

وصمت فقالت بحرارة: انتهى، أبصرتُ بعد عمًى!

ربَّاه. واضح أنها تعيش في حلم. وهي صادقة. حقًّا؟ أجل صادقة. ما قيمة ذلك؟ المهمة شاقة. وأي خوف من تأثير جمالها وجاذبيتها؟! الضعف في أعماقه أقوى من القوة في أنوثتها. ها هي ترفع عينَيها لأول مرة فتلتقي العينان، ويواصل الشمع ذوبانه في الشمعدان الفضي.

سألته باستسلام: أودُّ أن أعرف ما يجول بخاطرك!

يا لها من ليلة صيف دافئة! ولم ينبِس. قالت: تراني غير لائقة بك؟!

فقال باندفاع: إنك صادقة وأصيلة ومحترمة!

– أشكركَ وأقدِّر عطفك، ولكن العطف لا يصلح أساسًا للحياة!

إنه يناقش، يتعذَّب، ويقاوم الإغراء. سألها: ماذا يجول في خاطركِ أنت؟

فقالت بحرارةٍ وشجاعةٍ استمدَّتها من الحديث: إني حرَّة، حرَّةٌ تمامًا، ولكن كل شيء يتوقَّف عليك.

بصراحة قال: لا أنسى أنكِ طالبتِ بالزواج منه!

فبادرته: كان الخوف ورائي لا الرغبة، صدِّقني.

فقال مخدرًا: إني أصدِّقك!

فقالت بتسليم: ولكن لك الحقُّ كل الحقِّ في التصرُّف بما تراه لائقًا.

أي هاوية؟ أي إغراء؟ أي جنون يعربد في قلبه؟ أي قلق؟ أي رغبة في دفن القلق؟ عند الأرق المعذِّب، يَسِفُّ المؤرَّق الخشخاش، فينحسر الجبين عن ثغرة تسلَّل منها أنامل النوم الناعمة.

١٩

ومضت الأيام المتأجِّجة بالصيف. استسلم قرة تمامًا وعشق عزيزة. آمن بأن الحب إذا شاء قهر التراث. ومثَّلَت عزيزةُ ورئيفةُ دورهما بإتقانٍ كشقيقتَين، فلم تلاحظ أنسية شيئًا يكدِّر البال. وفي حجرة الإدارة بمحل الغِلال واصل قرة ورمانة عملهما، ولم يُتبادَل بينهما حديث إلا في شئون العمل. هكذا تجاور الحب والمقت.

وسرعان ما حبلت عزيزة. وشمل الفرح آل البنان وآل الناجي. قرة وحده تمنَّى لو تأخَّر الحبل. وتساءل متى بدأ؟ تسلَّلت حشرة إلى قلب الزهرة النابض بالنضارة. أظلم المعبد المنير بروح شريرة. إبر الشك المحماة المسمومة. ولكنها لا تقرأ أفكاره. إنها تمرح في البراءة والحب الصادق. ولم يَعُد للتراجع موضع. إنه رجل حرٌّ وصادق وعاشق، وهو مؤمن أيضًا وثقته بالله عظيمة. وأصبح رفيقًا للسرور والألم.

٢٠

لمَ لم تحبل رئيفة؟

تردَّد السؤال بقلق في دار آل البنان وآل الناجي. وانطحنت به رئيفة وعيناها تطفحان بالحنق. لا يؤخِّر الحبل إلا عِلَّة، فالطبيعة لا تعرف التأجيل. وحامت الشبهة كالعادة حول رئيفة. ولم يهدأ لأُمِّها بال. واستُفتيت الداية فأفتت بالمشورة تلو المشورة. وبمُضي الأيام رسخ الخوف وتوكَّد الجزع فتجمَّعت سحب الأحزان.

وقال رمانة وهو ثمل في مخدعه: يا لها من ضجة!

فقالت رئيفة بحِدة: لا يرحمون، إنه الجحيم.

قال رمانة ممتعضًا: إنكما متماثلتانِ، فما النقص بك؟

فتملَّكها غضبٌ شديدٌ وتساءلَت: ألهمك الله أن النقص بي وليس بك؟!

فقال غاضبًا: إني رجلٌ كامل!

– ما من رجل إلا ويتصوَّر ذلك!

فجُنَّ جنون غضبِه المخمور وصاح: أجرِّب نفسي مع زوجةٍ أخرى؟

ارتفع رأسها والْتوى عنقها إلى الوراء مثل حية وتمتمت بازدراء: سكران!

فتمادى في غضبه قائلًا: لعل لي جنينًا ينمو في بطن أخرى.

فصاحت: مجنون!

– احفظي لسانك القذر.

– أنت أنت القذر.

فنهض مهدِّدًا فتراجعت متوثِّبةً للدفاع، فلم يتحرَّك، ولكنه قال بحقد: شيطانة وعقيم!

كانت أول مشاجَرة زوجية وقد دُهِش لعنفها.

ولكن رغبتَيهما المتلاحمتَين كانتا أقوى من الأعاصير الطارئة.

٢١

كان محمد توكُّل شيخ الحارة يُجالس صديق أبو طاقية الخمَّار عندما مرَّت الشيخة ضياء بمبخرتها. فضحك الخمَّار وهمس: رجعت الفتونة إلى آل الناجي فلمَ تواصل المرأة المجنونة البكاء؟

٢٢

في أوائل الربيع ونداءات الباعة تتردَّد بالملانة والعجور وضعت عزيزة طفلًا أسموه عزيز. وطوَّقت الشواغل قرة حتى هدأ كل شيء، فرقدت عزيزة في فراشها وراح هو يحنو على الوليد متأمِّلًا. تأمَّله بقلبٍ مضطربٍ بشتى الانفعالات المتضاربة. ورنت عزيزة إليه برِقَّة وإعياءٍ وفخارٍ وتمتمت: ما أشبهه بك!

لِمَ توكِّد ذلك؟ إنه لا يجد له شكلًا ولكنها تتكلَّم ببراءة. لقد نسيت الماضي تمامًا وهي غريقة البراءة والحب. عاد الرفيقان — السرور والألم — يتجاذبانِه. ولكنه كان مصمِّمًا على الحياة والسعادة.

٢٣

ومحافظة على المظاهر زار جناحَه رمانة ورئيفة. أهديا الوليد مصحفًا مذهَّب الغِلاف. وقال له رمانة: يتربَّى في عزِّك.

ورَنَت رئيفة إلى الوليد طويلًا وهي تقول: ما أجمله!

وتقلَّص قلب عزيزة وهي ترى نظرة رئيفة فوق وجه عزيز. وتصرَّف قرة التصرُّف الطبيعي المرح. وطيلة الوقت سأل ربه أن يُلهمه الصواب، أن يضيئه بالحقيقة، ألَّا يعرِّض حبه لمحنة مضلِّلة، أن يعبر به الوساوس والظلمات، أن يرفعه إلى براءة عزيزة وصدقها، ألَّا يتردَّى في الجحيم بإرادته.

٢٤

وحمل الطفل في لفافته ومضى به ليلًا إلى ساحة التكية. استقبل فيض الأناشيد في أوله. دعا الله أن يجعل من الصغير غُصنًا في دوحة البطولة والخير، أن تتجسَّد فيه الأحلام المقدَّسة لا الأهواء الجامحة الشريرة. وسرح فكره إلى الممرِّ الضيق حيث تُرِك عاشور في مثل سن ابنه. وكما تعبر سحابة وجه القمر فتحجب نوره اقتحمه خاطر مظلم. تذكَّر ما يتقوَّل به الأعداءُ عن عاشور وأصله. غشيته كآبة عفنة. لاذ بالأناشيد ليغتسل من عرقها الحامض. وغمغم: «اللهم هبني القوة.»

انغمس في الأنغام تمامًا وهي تردِّد:

نقدها را بود آياكه عياري كيرند
تاهمه صومعه داران بي كاري كيرند

٢٥

لمَّا خرج من القبو عائدًا سمع صوتًا غليظًا يتساءل: من القادم؟

عرف صوت أخيه وحيد الفتوة، فأجاب باسمًا: قرة سماحة الناجي.

فقهقه الفتوة. وقفا شبحَين في الظلام. تساءل وحيد: كنتَ في الساحة مثل الأجداد الطيبين؟

– بل ذهبت بالوليد، ها هو بين يدَي.

– مبارك عليك. نويت أن أزورك غدًا في المحل مهنِّئًا.

– لِمَ لا تزورُني في البيت؟

– أنت تعلم أني أتجنَّبه!

فقال قرة برِقة: إنه بيتك والله الهادي.

فقال وحيد مغيِّرًا نبرته: وكان في نيتي أن أُفاتحك بأمرٍ آخر؟

– خير؟

– أخونا رمانة.

تنهَّد قرة ولاذ بالصمت، فقال وحيد: إنه يعبث بماله بسفاهة. لست واعظًا، ولكني أعلم أنه لا يقدر على السفاهة إلا فتوة!

– أنا عارف، النصيحة غير مجدية، ولا ينجم عنها إلا الغضب!

فقال وحيد بحَنَق: إنه ينتحر.

٢٦

كأن ما يربط رمانة برئيفة شيء أقوى من الخير والشر والنزاع. لا يفرِّط أحدهما في الآخر مهما نشب بينهما من خلاف. النقار متواصلٌ والحب متواصل. يختلط العنف بالدلال، الزجر بالتنهُّدات، سوء الظن بالقُبَل. هي في اعتقاده عقيم وهو في حدسها عقيم، هو رجلها الوحيد، وهو أيضًا لا يخطُر له أن يتزوَّج عليها. ويقول وهو ثمِل: إنها قَدَر!

٢٧

وتُوفي رضوان بكر الناجي عقب مرض قصير. كان قد اعتزل الحارة حتى نُسِي تمامًا، فتذكَّره الناس بالموت بضعة أيام. وُزِّعَت تركته بالاتفاق حتى يخلص المحل لرمانةَ وقرة، ووُزِّعت بقية التركة بين أنسية زوجته وصفية أخته.

٢٨

ولم يعُد رمانة يقنع بالبوظة والمخدِّرات، فانزلق إلى القمار يدفن فيه ضجره. وتصبَّر قرة ما تصبَّر حتى فاض به الكأس، فقال له يومًا وهما في حجرة الإدارة: إنك تُبعثر مالك بلا حساب.

فقال بجفاء: إنه مالي!

– تُضطرُّ أحيانًا إلى الاقتراض مني!

– هل أكلت عليك قرضًا؟

فقال قرة باستياء: ولكن ذلك ضارٌّ بعملنا المشترك، ثم إنك لا تكاد تبذل فيه أيَّ جهد!

فقال رمانة بامتعاض: إنك لا توليني ثقتك.

فصمت قرة مليًّا، ثم قال: من الخير لكلينا أن ننفصل، فليستقلَّ كلٌّ بتجارته قبل أن نغرق معًا.

٢٩

عُرِف الخصام فاضطربت له أفئدة الأسرة.

أمَّا وحيد فقد زار قرة وقال له بكل صراحة: افعل ما تراه في صالحك.

وقال له أيضًا: ابنك يكبر يومًا عن يوم.

ثم قال عن رمانة بازدراء: إنه خنزير مثل زوج أمه!

واجتمعت صفية بقرة ورمانة وقدَّمت اقتراحها قائلة: ليستقلَّ قرة بالإدارة، وليأخذ رمانة نصيبه من الربح وهو حر فيه.

فقال رمانة: لست طفلًا يا عمتي.

فدمعت عيناها وقالت: سُمعة الناجي أمانةٌ بين يدَيكما.

فقال قرة بحزن: سمعة الناجي! لنا الفتونة وما هي بالفتونة. أبونا ضائع بلا ذنب. أخي إمَّا في البوظة وإمَّا في الغرزة، ثم يمضي إلى القمار!

فتوسلَت إليه قائلة: أنت أنت الأمل يا قرة.

فقال بشدة: لذلك أريد أن أستقلَّ بتجارتي!

٣٠

انذعرت رئيفة لفكرة الانفصال وأعلنت عن مخاوفها، حتى قال لها رمانة: أنت أيضًا لا تثقين فيَّ!

فقالت بلينٍ ومداهَنة: إنك أهل للثقة إذا أقلعت عن عاداتك السيئة.

– سأُقلع عنها حتمًا إذا اضطُررت لتحمُّل مسئوليتي!

– وهل تعرف العمل حقًّا؟

فقطَّب متسائلًا فقالت: يلزمك وقتٌ للتدريب يا رمانة، احذرِ العنادَ والغرور، كان الرأي دائمًا رأي أخيك، هو عاقدُ الصفقات، هو الرحَّالة، هو كلُّ شيء، وأنت متربِّعٌ وراء مكتبك لا شيء!

فتلظَّى بالحقد مليًّا، ثم قال: وما العمل إذا صمَّم على تحقيق فكرته؟

فقالت والشرُّ يتراقص في عينَيها: يجبُ منعه بأيِّ ثمن.

– بالقوة؟

– بأيِّ ثمن! أتدري ما معنى أن تستقلَّ الآن؟ أن تُفلس في أيامٍ أو أسابيع، أخٌ وجيهٌ وأخٌ فتوةٌ وأخٌ شحاذ!

– والعمل؟

– بادِر بالملاينة، في الوقت نفسه غيِّر حياتك، اشترك في العمل، ثم نفكِّر في كل شيء.

صمت متجهِّمًا، فرجعت تقول: خسائرك فادحة، ماذا يبقى لك لو وقع الانفصال الآن؟ تذكَّر ذلك، وتذكَّر أيضًا.

وسكتت قليلًا، ثم واصلت: وتذكَّر أيضًا أنه لا يوجد مستحيل.

٣١

مضى قرة يستعد لسفر عاجل. اقترح رمانة عليه أن يؤجِّل فكرة الانفصال لحين عودته، وقال له برِقةٍ غيرِ معهودة: ربما وجدتني لدى عودتك شخصًا آخر.

٣٢

وفي الليل تطرَّق الحديث بين قرة وعزيزة إلى الموضوع، ولم تُخفِ عزيزة مشاعرها فقالت: إنه لا يستحقُّ الثقة.

فقال قرة: بلى، ولكن الوقت لا يتسع الآن لإجراءات الانفصال.

– ليكن، ولكن لا تتردَّد. إنه لا يحبُّك، هو وزوجته يتمنيان لنا الهلاك! وتابعت عزيز وهو يلاعب قطةً بيضاء، فرقَّت عيناها وهي تقول: تلقيتُ من السماء هديةً جديدةً لك.

فرمق بطنها بحنانٍ وبهجة. وأشارت عزيزةٌ إلى عزيزٍ وتمتمت: أهلك يحلمون له بالفتونة.

فابتسم قائلًا: هكذا آل الناجي!

فقالت عزيزة: أمَّا أنا فأومن بأن أبواب الخير كثيرة.

– وعاشور؟

– دائمًا عاشور! أتحِنُّ إلى أحلامهم؟

– سأنشئه كما أنشأني المرحوم خضر، ولْيفعل بنفسه بعد ذلك ما يشاء.

– كم تريحون أنفسكم لو تتناسون أنكم ذريةُ عاشور الناجي!

– سنظل ذريته على أي حال.

ورنا إلى عزيز طويلًا، ثم تساءل: متى أُجلسه أمامي في حجرة الإدارة؟!

٣٣

اتخذ السائق مجلسه بالدوكار. وقف قرة بين مُوَدِّعيه. وحيد ورمانة والشيخ إسماعيل القليوبي شيخ الزاوية ومحمد توكُّل شيخ الحارة وآخرين. وأمسك محمد توكُّل بيد رمانة وتساءل بلهجة ذات معنًى: من يحلُّ محلَّك يا معلم عند السفر إذا استقلَّ كلٌّ منكما بتجارته؟

فتجاهل قرة الملاحظة مواصِلًا حديثًا جانبيًّا مع الشيخ إسماعيل. وفي تلك اللحظة مرَّت الشيخة ضياء بمبخرتها وعينَيها الدامعتَين. لم يَعُد منظرُها يثير استياء أحدٍ من آل الناجي، وقال وحيد: الشيخة تبارك سفرك!

وصافحهم واحدًا بعد واحد، واستقلَّ الدوكار ورمانة يقول: بالسلامة في الذهاب وفي الإياب.

ورنَّ الجرس وتهادى الدوكار نحو الميدان.

٣٤

كانت الرحلة عادةً تستغرق أسبوعًا. مضى الأسبوعُ ولكن قرة لم يرجع.

تبودلت الأفكارُ في الدار مساء، فقال رمانة: عذر الغائب معه.

وتمتمت أنسية: لا يحسب الوقت في رحلته بالساعة والدقيقة.

وقالت رئيفة: مرَّةً تأخَّر يومَين عن ميعاد عودته.

ولاذت عزيزة بالصمت.

٣٥

مرَّ اليوم التالي كما مرَّ الأول. تردَّدت الكلماتُ الملتمسةُ للطمأنينة. قالت عزيزة لنفسها: ما أبغض قلقًا لا مبرِّر له!

٣٦

يذهب الدوكار مع الصباح إلى ميناء بولاق، ثم يرجع مع الليل خاليًا. ويعذِّب السُّهاد عزيزة حتى الفجر.

٣٧

باتت الحارة تتساءل عن غياب قرة. دعت عزيزة وحيد وسألته: ماذا ترى يا معلم وحيد؟

فقال الفتوة: اعتزمت السفر بنفسي.

٣٨

غاب وحيد أيامًا ثلاثة، ثم رجع في مساء الرابع. رأت عزيزة وجهه فغاص قلبها في صدرها وهتفت: ليس وراءَك خير!

فقال وحيد بوجوم: قرَّر عملاؤه أنه لم يصِل إليهم.

فتساءلت عزيزة بوجه شاحب: ما معنى ذلك؟

فقالت أنسية وهي تداري اضطرابها: قلبي يحدِّثني بالسلامة.

فقالت عزيزة: قلبي لا يحدِّثني بذلك.

فقال رمانة: لا تستسلموا للتشاؤم.

فهتفت عزيزة: الغائبون في أسرتكم أكثر من الحاضرين.

فقالت أنسية: فليُخيِّب الله الظنونَ السيئة.

فتمتمت رئيفة: آمين.

عند ذاك ولولت عزيزة: ما العمل وأنا امرأةٌ لا حول لي؟!

فقال وحيد: لقد قمت بالخطوة الأولى وتوجد بعد ذلك خطوات.

وقالت أنسية: إنه لا أعداء له.

فقال رمانة: هذا حق، ولكن للطريق أخطاره.

فتأوَّهت عزيزة، وقال وحيد: سأفعل المستحيل.

٣٩

مضى أسبوع في إثر أسبوع. تتابعت الأيام بلا مبالاة. شُغِل الناس بالشمس والليل والنهار والطعام. أيقنوا أن المعلم قرة لن يرجع إلى حارته.

٤٠

أصرَّت عزيزة على مصارعة النسيان واللامبالاة. غياب قرة كارثةٌ يتجدَّد وقوعُها في قلبها كلَّ صباح. وهي تتمزَّق بالحزن والغضب. تأبى أن تصدِّق أن سنن الكون يمكن أن تتبدَّل بغتةً في لحظةٍ من الزمان. ومن شدة الانفعال أجهضت فرقدَت مريضةً أُسبوعًا. واستدعَت وحيد وقالت له: لن أسكت، لن أهمد، ولو مضى العمر كله على ذلك!

فقال وحيد: إنك لا تدركين حزني يا ست عزيزة، إنه لعارٌ أن يقع ذلك لشقيق فتوة!

– لن أسكت ولن أهمد.

– لم يَعُد لأحدٍ من رجالي من مهمةٍ مقدَّمةٍ على البحث والتحرِّي، استعنت أيضًا بأصدقاء من الفتوات.

وتمهَّل قليلًا، ثم قال: ذهبت إلى أمي في بولاق، إنها اليوم ضريرة، وذهبَت معي إلى فتوة بولاق، الدنيا كلها تبحث عن قرة!

٤١

من ناحية أُخرى زار أبوها إسماعيل البنان مأمور القسم فوعده الرجل بتقديم كلِّ مساعدةٍ ممكنة. وجعل أبوها يشجِّعها ويواسيها، ولكنها قالت له: كأن قلبي يعرف السر.

وقرأ أبوها خواطرها فقلق وقال: إياك وسوء الظن بالأبرياء!

– الأبرياء!

– أصغي إليَّ، اضبطي لسانك.

– لا أعداء لنا سواهما.

– قطَّاعُ الطريق أعداء كل إنسان.

– لا أعداء لنا سواهما.

– لا دليل لديك إلا سوء ظنك القديم.

فقالت بإصرار: لن أهمد ولو مضى العمر كله على ذلك.

٤٢

اقتحمت جناح الشيخة ضياء وهو ما لا يجرؤ عليه أحد. وجدَتها متربِّعةً على شلتة مستغرقةً في تهاويل السجادة. ركعت إلى جانبها. لم تلتفت المرأة إليها، لم تشعر بها. همست: يا شيخة ضياء، ما رأيُك؟

فلم يطرق الصوت باب دنياها المسحورة، فهمست بحرارة: قولي شيئًا يا شيخة ضياء!

ولكن ضياء لم تسمع، لم تُحس، لم تولد.

شعرت عزيزة بأنها تُصارع مجهولًا لا سبيل إليه، وأنها تتحدَّى المستحيل.

٤٣

وعاشت شبه منعزلةٍ في جناحها منفردةً بعزيز. حتى الطعام كان يُحمل إليها. وزارها في الجناح رمانة ورئيفة. وكان حزنُهما على الغائب جليًّا مشهودًا، وقالت لها رئيفة: عزلتُك تُضاعف من أحزاننا.

فقالت وهي تتجنَّب النظر إليهما: لم أعُد صالحةً لمعاشرة الآخرين.

فتمتم رمانة: نحن الأهل الأقربون.

فقالت بضيق: الحزن كالوباء يوجب العزلة.

فقال رمانة: بل المعاشرة تعالجه، واعلمي أنني لا أكفُّ عن البحث.

فقالت بإصرار: أجل، علينا أن نعرف القاتل!

فهتفت رئيفة: لا أصدِّق أنه قُتِل.

فقاومت عزيزة دموعها بكبرياء، ولم تهُشَّ لكلمة من الكلمات الطيبة، فلم يُسفر اللقاء عن خير. ولم تنقطع عزيزة عن وحيد أو أبيها، لم يتسلَّل اليأس إلى إرادتها، وجعلت الأيام تمضي، والمعلم قرة يذوب في المجهول.

٤٤

فُسِّر اختفاءُ المعلم قرة في الحارة باعتباره نتيجةً لعدوان قُطَّاع الطريق. هكذا يقال جهرًا كلما جاء للحادث ذكر. أمَّا همسات الاتهام في البوظة والغرزة فكانت تحوم حول رمانة، لقد قضى على شقيقه بالقتل قبل أن يقضي عليه بالفصل والإفلاس. وها هو يستقلُّ بإدارة المحل، متصرِّفًا في ماله ومال ابن أخيه اليتيم، وقد أقلع عن العربدة والقمار حتى لا يُقال بأنه يبدِّد مال اليتيم، وعمل ألف حسابٍ لوحيد فتوة الحارة. رغم ذلك فقد تضاءلت عملقة المحل، واختُصرت معاملاته، واعتذر رمانة عن ذلك بقلة درايته ومهارته التجارية.

وقال لشقيقه وحيد: ليس في وسعي أفضل من ذلك، وإني أرحِّب بأن تعمل معي إذا شئت.

ولكن وحيد قال له ببرود: أنت تعلم ألَّا خبرة لي بهذه الشئون.

٤٥

ولم تكترث عزيزة كثيرًا لِمَا يطرأ على المحل من تحوُّلٍ أو ضمور. كانت تحلم باليوم الذي يحل فيه عزيز في مكان أبيه، فيستقل عن عمه ويُعيد إلى المحل سيرته الأولى. في سبيل ذلك وقفت نفسها على تربية وحيدها. أرسلته إلى الكُتَّاب في سن مبكرة، وزوَّدته بمعلم خاص ليزيده علمًا بالحساب والمعاملة. ولم تأْلُ في تذكيره بسير أجداده من آل البنان، بل دفعها إخلاصها لقرة إلى التنويه له ببطولات الناجي ومثله العليا وأمجاده الأسطورية. وبثَّت فيه — بلا وعيٍ وبوعيٍ أحيانًا — الحذر من عمه وزوجته، والنفور منهما، وشحنت قلبه بأنباء العداوة التي اضطرمت بين أبيه وعمه، واختفاء أبيه الغريب المريب.

وكان قرةُ قد نُسِي. لم يبقَ حيًّا إلا في قلب عزيزة، ولدرجةٍ ما في خيال عزيز. وثمة حلم يقظةٍ كان متعةَ تأمُّلاتها، أن تجوب البلدان بحثًا عنه، أن تعثر عليه، أو أن تكتشف بالبينة قاتليه، أن تنتقم، أن تعيد ميزان العدل إلى استوائه الأبدي، أن يستعيد القلب صفاءه.

٤٦

وما إن جاوز عزيز العاشرة حتى طالبت عزيزة بأن يتدرَّب في محل أبيه. وسرعان ما وافق رمانة وهو يقول: أهلًا بالعزيز ابن العزيز.

وعقب ذلك تُوفي إسماعيل البنان أبو عزيزة، فورثت عنه قدرًا من المال لا بأس به، فقرَّرت أن تكنزه ليستثمره عزيز في التجارة عندما يستقلُّ عن عمه! وماتت أنسية عقب وفاة أبيها بعام ونصف، فخلَت الدار من الأحباب. لم يبقَ إلا رمانة ورئيفة، والشيخة ضياء إن عُدَّ وجودُها وجودًا. وقد عجزت الشيخة عن مواصلة مسيرتها اليومية في الحارة فاعتزلت تمامًا في جناحها، وعند الأصيل من كل يوم كانت تدلي بالمبخرة من مشربية حجرتها، وحتى الدموعُ لم تَعُد تُسعفها.

٤٧

وينظر رمانة متأمِّلًا كلما وجد الفراغ.

ها هو عزيز يجلس في مكان أبيه بحجرة الإدارة. إنه يتقدَّم بخطواتٍ ثابتةٍ تنبئ عن رجاحة عقل. يطرق بلا شك باب المراهقة. صبيٌّ جميلٌ مفعمٌ حيوية. قامة طويلة رشيقة، عذب الملامح، يلوح القلق في عينَيه كما يلوح التفكير. وبينهما مجاملة محسوسة ولكن بلا ألفة حقيقية. وثمة نفورٌ أيضًا يتوارى وراء الكلمة المهذَّبة والابتسامة الحلوة. حلوى كذبة أبريل المرة. مشحون بنفثات أمه السامة، وقد يستوي يومًا عدوًّا ذا خطر! يتصوَّر أحيانًا أنه ابنُه! ولا يتخلَّى عن تصوُّره رغم أن وجه الصبي مزيجٌ متعادلٌ من وجهَي عزيزة وقرة، ولكن ما الفائدة؟ العبرة بالروح لا بالدم. إنه ابن أخيه، بل إنه عدوه، وهو لا يستطيع أن يحبَّه مهما تصوَّر، وقد لا يقوم تصوُّره على أساس، ولعله لو علم بخواطره لازداد له كرهًا.

وقال له: إنك منطوٍ على نفسك يا عزيز، لماذا؟

حدَّق فيه الصبي بحيرةٍ كأنه لم يفهم، فقال: أين أصدقاؤك؟ لِمَ لا تخالطهم في الحارة؟

فتمتم: أحيانًا أستقبلهم في الدار.

– هذا لا يكفي.

وضحك رمانة، ثم قال: لم أسمعك تخاطبني مرةً بقولك يا عمي.

فارتبك عزيز، فقال رمانة: إني عمُّك، صديقُك أيضًا.

فابتسم عزيز وقال: طبعًا.

وكفَّ عن مضايقته بلباقة. وقال لنفسه إن عليه أن يحاول مستقبلًا أن يصطحبه إلى مجالس الرجال، أن يخرجه من قوقعة النفور، أن يسرقه من قبضة أمه.

ونظر في دفتره ولكن سرعان ما اشتعل خياله بالصور الجامحة. رأى عزيز وهو يُحتضر، إثر حادثٍ أو مرض.

٤٨

وكان يُكاشف رئيفة بهواجسه، وكانت تقول له: طالما حذَّرتك بما تُعِدُّه الأفعى.

فقال بضيق: لم أكُن بحاجة إلى تحذير!

– ولا أنت في حاجة إلى من يرشدك إلى ما ينبغي عملُه.

ما أكثر ما تردَّد ذلك بينهما! ها هو الشيطان يُطل من عينَيها الجميلتَين.

قال بحَنَق: ما كل مرة تسلم الجرة.

فقالت ساخرة: فلننتظر المصير.

– أصبح الآن يتعامل معي فثمة أمل!

– تتصوَّر أن تخطفه من حضن أمه المغلي بالحقد!

– إنه لم يعرف بعدُ أن في الدنيا طربًا وسرورًا!

– الأفعى مغروسة في أعماقه.

فنفخ متجهِّمًا. وساد الصمت إلا من هسيس الخواطر الدامية. وترامى من الحارة صياح غلمان، وتتابع نقرٌ فوق خصاص المشربية فتمتمت رئيفة: رجع المطر.

تسلَّى بفحص الجمرات في المدفأة بعُود من الحديد، قال: يا له من برد!

فقالت مارقةً من أفكاره: إنه لحلم.

– ما هو؟

– ليس مستحيلًا أن يغرى مثله بأمجاد الناجي!

– عزيز؟!

– أجل، إنه سِنُّ الأحلام، مثل أبيك المطارد!

رنا إليها بذهول. خافها بقدر ما أعجِب بها. ولكنه قال بخمول: لا ثقة له فيَّ!

– ولكنه يُشحن إذا لم يرَ اليد التي تشحنه.

وتنهَّدت بعمق وهي تقول: ثم يحذر وحيد في الوقت المناسب!

ما جدوى ذلك كله؟ إنه يشعر أحيانًا بالضجر، ولكن طاب له أن يتسلَّى بحلم يقظته الدامي.

٤٩

اصطحبه معه إلى مجالس الرجال بحجة تقديمه إلى العملاء، فلم تستطِع عزيزة أن تمانع. ودارت الجوزة ولكنه لم يدعُه إليها قط. وقال له: إنها ضرورة في مجالس الرجال، ولكن تجنَّبها فهي لا تليقُ بك.

وتعرَّف عزيز بكثيرين. أسعده أنهم يحفظون لأبيه خالص الود وجميل الذكرى. وتتلاحق الأقوال: لم نعرف له نظيرًا في أمانته ودقته.

– الأخلاق في المرتبة الأولى، ثم تجيء التجارة.

– كان في التجارة كما كان جدُّه في الفتونة!

– وا حسرتاه على عهد الناجي وأمجاده!

– سيجيء يومًا من يُعيد العهد إلى عرشه.

دائمًا تتردَّد تلك الأقوال في كل لقاء. وفي طريق العودة إلى الدار يقول له رمانة: هؤلاء الناس لا يكفُّون عن الأحلام.

ويقول له أيضًا: لولا عمك وحيد ما كان لنا قيمة في هذه الحارة.

ومرةً قال عزيز: ولكن وحيد ليس مثل عاشور.

– لا أحد مثل عاشور، لقد انتهى عصر المعجزات، حسبنا أن رجعت الفتونة إلى آل الناجي.

تمنَّى أن ينفذ إلى أعماقه. وكان — في الاجتماعات — يسترِق النظر إليه فينشرح صدره بضوء الحماس المشع من عينَيه.

٥٠

وذات مساء قالت عزيزة لعزيز: جاء اليوم الموعود.

أدرك ما ترمي إليه، ولكنه انتظر فقالت: تستطيع الآن أن تضطلع بشئونك، لم تعُد صبيًّا، استقِلَّ بتجارتك، عندي من المال ما يضمن لك نجاحًا مثل نجاح أبيك.

فهزَّ رأسه موافقًا، ولكنها لم تلمس الحماس الذي توقَّعته فقالت: أبعِد عنك عدو أبيك، وحسبه ما نهب من مالك.

– هذا متفقٌ عليه!

– ولكنك لا تبدي الحماس الواجب.

– الحماس متوفِّر، طالما انتظرت هذا اليوم.

– ستنفِّذه فورًا؟

– أَجَل.

– ولكنك مشغول البال، أكثر من مرة لاحظت ذلك فعلَّلتُه بمتاعب العمل.

– هو ذلك!

فقالت بارتياب: كلا يا عزيز، عيناك تحدِّثانني بأن هناك شيئًا آخر.

فضحك قائلًا: لا تجعلي من الحبة قبة.

سِرُّه حقيقٌ بأن يخفيه عنها بقدر ما هو حقيقٌ بأن يخفيه عن وحيد نفسه. إنه يعرف تمامًا موقفها ومشاعرها، غير أنها قالت بقلق: لا تُخفِ عني شيئًا يا عزيز، نحن محوطون بالأعداء، عليك أن تطلِعني على كل شيء.

فقال متظاهرًا بالمرح: سأنفِّذ ما اتفقنا عليه، ما عدا ذلك فهو وهم.

فقالت بمزيد من القلق: أيُّ وهم؟! ما أكثر الأوهام القاتلة!

ارتعد لنفاذ بصيرتها المستلهَمة من غريزة الأُم وحبها وخوفها معًا. غمغم متهرِّبًا: لا شيء!

فهتفت بحرارة: لا تسلمني للجنون! أُمُّك حزينةٌ أبدية، تحمَّلت ما لم تتحمَّله زوجة مخلصة. أنت أملها الوحيد، عزاءُ صبرها وتصبُّرها، استيقاظها من كابوس طويل، وقد قُضِي علينا أن نعيش في غشاء من المكر السيئ، ولن يُقدَّم لنا السمُّ إلا في قطعة من الحلوى. لا خوف عليك من العداء السافر، ولكن الخوف واجبٌ من البسمة الحلوة والكلمة العذبة والدواء الشافي وأقنعة الإخلاص التي لا حصر لها.

فتمتم وهو يتلوَّى في الحصار: لست غِرًّا يا أماه.

– ولكنك بريء والبراءة فريسة الأوغاد.

وانزلق إلى أن يقول وهو لا يدري: إنه خارج الموضوع!

– رمانة؟!

– أجل.

– حدِّثني عن الموضوع. وا حزناه! هل أصبحتُ غريبةً عن قلبي وروحي فلا أعلم شيئًا عن أخطر الأمور إلا ما تلقيه إليَّ المصادفة العمياء؟!

– لم أُضمر إخفاء شيء عنك، ولكني أعلم بهواجسك؟

– صارحني فإن قلبي يوشك أن يتوقَّف.

فنهض. راح يتمشَّى في الحجرة، ثم وقف أمامها وتساءل: ألَا يحق لي أن أفكِّر بنبل؟

فدهمتها أفكارٌ مفزعةٌ وقالت: ما العواقب يا عزيز؟! هذا ما يهم. سبق أن فكَّر جَدُّك سماحة بنبلٍ وها هو طريد كالمتسوِّل لا يدري أحد عنه شيئًا. حدِّثني عن أفكارك النبيلة يا عزيز!

مضى بنبرة اعترافية يحدِّثها عمَّا دار في اللقاءات مع العملاء، تابعته بوجه شاحب حتى خضبته في النهاية صفرةُ الموت.

وقالت بصوت متهدِّج: إنه تحريض واضح على عمك وحيد!

– لست غِرًّا.

– إني أرى رمانة في نسيج المؤامرة.

فبادَرها: لم ينبِس بكلمة، وهو دائمًا في صف وحيد، ودائمًا يحذِّرني.

– لا تصدِّقه! إنهم يردِّدون ما يشحنهم به. هل صارحتهم بأفكارك النبيلة؟

فقال بصدق: كلا، لست غِرًّا، قلت لهم إني لا أخون عمي وحيد.

– هذا حسن، هل قلت لعمك قولًا آخر؟

– كلا، تظاهرت بالميل لقوله.

تنهَّدَت بعمق، اغرورقت عيناها، غمغمَت: حمدًا لله.

ثم بحِدَّة: لقد أعطياني الحبل، ما عليك إلا أن تتوفَّر لعملك. استقِلَّ عن عدو أبيك، بل عن قاتله. توفَّر لعملك، لقد أعطياني الحبل.

٥١

ثمة صمت يُنذر بهبوب عاصفة. نظرات عزيز لا تبشِّر بخير. منذ شارف بلوغ الرشد وهو يتوقَّع منه ضربةً قاسية. لم يُفلح في كسب ثقته. بادله ملاينةً بملاينة. لم تَزِلَّ قدمه رغم دهنه الأرض تحت قدمَيه بالزيت، وها هو يتحفَّز للانتقام.

وخاطبه ذات صباح بقوله: عمَّاه!

لأول مرة ينطق بها فأيقن أنها مقدمة لشر.

– ماذا يا ابن أخي؟

فقال بهدوءٍ كريهٍ ذكَّره ببعض أحوال أبيه قرة: أرى أن أستقلَّ بتجارتي!

رغم أنه توقَّع ذلك، توقَّعه منذ طويل، إلا أن قلبه غاص في صدره، وتمتم: حقًّا؟! طبعًا أنت حر، ولكن لماذا؟ لماذا نفتِّت قوتنا؟

– أمي ترغب في مشاركتي!

– هذا ممكن مع المحافظة على الوضع الراهن.

– كان أبي يرغب في ذلك كما تعلم!

– قال ذلك يومًا ما ولكنه لم يصمِّم عليه وإلا ما منعه مانع. فقال عزيز ببرود: منعه اختفاؤه الغريب.

فانقبض قلب رمانة، ولكنه تجاهل الطعنة وقال: كان بوسعه أن يؤجِّل السفر حتى يفعل ما يشاء.

ثم باستياءٍ واضح: لا تصدِّق كلَّ ما يُقال.

فقال بجرأة لم يُبدِها من قبل: إني أصدِّق ما يستحقُّ التصديق.

فقال رمانة بيأس: أكرِّر أنك حر، ولكنه ضارٌّ بكلينا.

– ليس هو كذلك بالنسبة إليَّ.

تلقَّى طعنةً ثانيةً وهو يتلظَّى بالحقد الدفين. وقال لنفسه إن يكُن ابني حقًّا فلكيف ألفته إلى الدور الساخر الأليم الذي يلعبه؟! كيف أكبح الشيطان الذي يتمطَّى في قلبه الأسود لينتقم مني؟ قال: تعبير لا يجدر بك، ألَا تفكِّر في الأمر مليًّا؟

فقال برقةٍ ما استطاع: إنه أمرٌ متفقٌ عليه.

فقال بيأس: حتى إذا رجوتك أن تعدِل عنه؟

– يؤسفني أنني لا أستطيع تحقيق الرجاء.

– لعلها أُمُّك؟

– تريد أن تشاركني كما قلت.

– إنه سوء الظن الذي يخلق الكراهية على أساس من الأوهام.

فتردَّد قليلًا، ثم قال: ليست أوهامًا. الحسابات غير مقنعة، والشركة لم تكُن في صالحي.

– من الآن ستلعب دورك كاملًا.

فتمتم عزيز بضيق: لا فائدة يا سيدي.

فاجتاحه الغضب وهتف: إنها الكراهية، إنه الحقد الأسود، إنها اللعنة التي تطارد آل الناجي!

٥٢

رجع رمانة إلى رئيفة محطَّمًا. وسرعان ما أخبرها بكل شيء، ثم قال: بذرة الكراهية تلفظ ثمرتها السامة.

فقالت رئيفة بوجهٍ مخطوفٍ من الحقد: الأمل معقود بوحيد.

– ولكن الماكر الصغير لم يقع بعدُ في الشَّرَك.

– لا تنتظر حتى يقع.

– ليس الأمر باليسر الذي تحلُمين به.

ثم بهدوء: الأمل معقود بميراثك!

– ميراثي؟!

– عزيزة ستمده بميراثها.

– لأنها كانت تُعِده لساعة الانتقام.

– بميراثك أستطيع أن أبدأ من جديد!

فتساءلت بذهول: ومالك أنت؟

فقال بقنوط: لم يبقَ منه ما يصلح لإقامة مَحَلٍّ كريم.

فهتفت: التهمه القمار!

– ماذا؟ أهذا وقتُ الزجر؟

– لم أكنِز ميراثي مثلما فعلت الأفعى، وتريد أن تبدِّد ما بقي منه لنتسوَّل معًا!

فقال محتدًّا: سأبدأ بسلوكٍ جديد!

فضحكت ساخرة، فاشتعل غضبه وقال: لم يبقَ إلا أن أُكاشفه بأنه ابني!

فانتقل اللهب إليها وصاحَت: أَفِق! ألم تقتنع بعدُ بأنك عقيم؟!

فصاح بحَنَق: بل أنت العقيم!

– ما وجدت الداية بي من عيب!

همَّ بأن يلطمها، ولكنها تحفَّزت للرد مثل لبؤةٍ غاضبة. لم تقنع بتراجعه فتمادت في الحنق وهي تقول: أَشْمَتَّ بنا الأعداء، لعل وهمَ الأبوة الفارغ هو ما صدَّك عن التخلُّص منه طيلةَ الأعوام الماضية!

فتمتم وهو يهزُّ رأسه دهشة: تحسبين القتل لهوًا!

عند ذاك أقبلَت جاريةٌ لتستأذن في حضور محمد توكُّل شيخ الحارة!

٥٣

استقبله في بهو الاستقبال بالدور الأول. جاء الرجل في هالة من العجلة والاهتمام والقلق حتى انقبض قلب رمانة، وجلس وهو يتساءل بلا أيِّ تمهيد: هل أغضبت أخاك وحيد؟

فذُهِل رمانةُ وقال: ما بيني وبينه إلا كلُّ خير!

– رأيته الساعة في البوظة هائجًا ثمِلًا، يلعن ويسب، متهمًا إياك بأنك تحرِّض عزيزًا عليه!

فانتثر منفزعًا وهو يصيح: افتراءٌ وكذب!

فبادره محمد توكُّل: لا تتوانَ عن إقناعه، عَجِّل.

فتساءل رمانة محتدًّا: ماذا تعني؟

– إن لم تسرع فسيصيبك أذًى لا تتصوَّره.

– ولكنه أخي!

فقال توكُّل وهو لا يفطن إلى أبعاد قوله: ليس نادرًا أن يقتل الأخ أخاه في حارتنا!

فازدرد رمانة ريقه بامتعاضٍ وغمغم: هكذا!

فقال شيخ الحارة: لقد أعذر من أنذر، فتحرَّك وحق الحسين.

٥٤

لم يجرؤ رمانة على مقابلة وحيد وهو سكران، فقرَّر أن ينتظر حتى الصباح. غير أن الشيخ إسماعيل القليوبي شيخ الزاوية اقتحم عليه داره عند منتصف الليل حاملًا إنذارًا من وحيد بأنه إذا غادر داره فقد عرَّض نفسه للهلاك.

وأدرك رمانة أن عزيز هو الذي أوقع بينه وبين وحيد فتهجَّم على جناحه وانهال عليه سبًّا حتى أوشك أن يلتحم الاثنان في عراكٍ عنيف. عند ذاك اعترفت عزيزة بأنها هي التي فطنت إلى المؤامرة التي دبَّرها لابنها، وأنها أفضت بظنونها إلى وحيد. وصبَّ رمانة عليها غضبه حتى صرخَت في وجهه: ابعد عن وجهي يا قاتل قرة!

هكذا اشتعلت الدار بالغضب والكراهية على مشهدٍ من الخدم.

وفي الحال انتقلت عزيزة وعزيز إلى دار البنان، ولم يبقَ في الدار إلا رمانة ورئيفة والشيخة ضياء.

واستقلَّ عزيز بمحل الغِلال، فجدَّده، وأعاده إلى أيام ازدهاره كما كان أيام قرة، ولم يساور وحيدًا ارتيابٌ فيه، ووجد في تنبيه عزيزة له ما طمأنه من ناحية عزيز فزاره مهنِّئًا ومُضفيًا عليه أمام الحارة رضاه وحمايته. وأقلع عزيز عن أحلامه. أقلع عنها وهو حزين، غيرَ مبرَّأ من ازدراء نفسه. وقنع بممارسة الخير في محله، مع عُماله وعملائه وزبائنه ومَن يتيسَّر له مساعدتهم من الحرافيش.

٥٥

قبع رمانة في داره. قضى على نفسه بالسجن بلا حكم. يُحيط به الخوف ويستكِنُّ في قلبه الخزي. ينفق من ماله غيرِ المستثمَرِ ومن مال رئيفة. يقتله الضجر. يهرب من الضجر في الخمر والمخدِّرات. يمارس غضبه على الخدم والجدران والأثاث والمجهول.

ومضت العلاقة تتوتَّر بينه وبين رئيفة، وتسوء يومًا بعد يوم. اشمأزَّت من جبنه وبطالته وغيبوبته وصراخه. وسرعان ما اشتدَّ الخلافُ والنقار، وحلَّ النفور محل الوئام. وكلما نشبت بينهما مشاجرة طالبته بالطلاق حتى فقد وعيه ذات مرة فطلَّقها. كان القرار أهوج؛ إذ كان كلٌّ منهما لا يستغني عن حب الآخر، ولكن الغضب مجنون، والكبرياء عربيدة، والتمادي مرض. وكأنما أراد كل شريك أن يُثبت للآخر أنه هو العقيم، فسرعان ما تزوَّجت رئيفة من قريب لها، على حين تزوَّج رمانة من جارية في داره. وثبت لهما باليقين تقريبًا أنهما عقيمان. وتزوَّج رمانة من ثانية وثالثة ورابعة حتى تجرَّع كأس اليأس لآخر نقطة فيه.

عاش رمانة كما عاشت رئيفة في الجحيم، في دنيا الضجر بلا حب.

٥٦

ذات صباح جاء الحارة رجل غريب. مُعتَمٌّ بعِمامةٍ سوداء، مُتلفِّعٌ بعباءة أرجوانية، ضرير يسترشد في مسيره بطرف عصاه، ذو لحيةٍ بيضاء وجبين نبيل. مرَّت فوقه الأعين بلا اكتراث، تُرِك وشأنَه، تساءل البعض عمَّا جاء به.

عندما ابتعد عن مدخل الحارة بأذرعٍ هتف: يا أهل الله!

فسأله الخمَّار صديق أبو طاقية: ماذا تريد؟

فقال بنبرةٍ حزينة: دلوني على دار خضر سليمان الناجي.

تفرَّس صديق أبو طاقية في وجهه مليًّا. سرعان ما رأى حُلمًا. سرعان ما دهمه الماضي. صاح بذهول: يا ألطاف الله! المعلم سماحة بكر الناجي!

فقال الضرير بامتنان: نَوَّر الله قلبك!

على عجل جاء كثيرون في مقدمتهم وحيد وعزيز ومحمد توكُّل وإسماعيل القليوبي. وحَمِي العناق والتبريك والدعاء.

– يوم السعد يا أبي!

– يوم العدل يا جدي!

– يوم النور يا معلم!

وكرَّر سماحة مرارًا ووجهه يضيء بالإشراق: بارك الله فيكم، بارك الله فيكم.

وكلٌّ دعاه إلى بيته ولكنه قال بإصرار: داري دار خضر!

وانتشر الخبر فدعا الرجالَ من الدكاكين وجمع الحرافيش من الجحور والخرابات، وتعالى التهليل والدعاء، ثم زغردت النساء في النوافذ والمشربيات.

وقال صديق أبو طاقية: سبحان الله العظيم، لا غيبة تخلد ولا ظلم يدوم.

٥٧

تربَّع سماحة فوق ديوان، وجلس أمامه على الشلت وحيد ورمانة وعزيز. هكذا اجتمع وحيد ورمانة وعزيز. هكذا اجتمع وحيد ورمانة وعزيز في سلام كظيم. كما يتجاور البلسم والسم في محل العطار. امَّحت الخصومات في حضرة الأب المعذَّب شهيد النقاء.

وقال له وحيد: أعددنا لك الحمام والطعام.

فتمتم في هدوء: مهلًا، لقلبي أن يطمئن أولًا.

وحرَّك رأسه، ثم تساءل: أين خضر؟

فقال وحيد: سبحان من له الدوام!

فوجم قليلًا، ثم تساءل: وزوجته ضياء؟

– في جناحها، شيخة غائبة في ملكوت الله.

وتردَّد سماحة في إشفاق، ثم تساءل: وقرة؟!

فساد الصمت، فتأوَّه الرجل وقال: قبل الأوان! طالما حلمت بأن ضرسي انخلع.

وبسط راحته وهو يقول: يدك يا عزيز.

قبض على يده بحُنوٍّ وسأله: تذكره ولا شك؟

فقال عزيز: اختاره الله وأنا طفل.

– يا رحمة الله! ومن أُمُّك يا بني؟

– كريمة إسماعيل البنان …

– أنعِم وأكرِم، وأين هي؟

– هي وعمتي صفية في الطريق إلينا.

وسأل الرجل: وأنت يا رمانة؟

تبادل وحيد ورمانة نظرةً سريعة، وقال رمانة: لي أكثر من زوجة هُنَّ من سيقمن بخدمتك.

– أولادك؟

– لم أُرزق بذريةٍ بعد!

فشهق بعمق متمتمًا: إرادة الله وحكمته، وأنت يا وحيد؟

فساد الصمت حتى تحرَّك رأس الرجل بقلق فعاد يتساءل: وأنت يا وحيد؟

فقال وحيد مقطِّبًا: لم أتزوَّج بعد!

– أعجب ما سمعت، لم تكُن الكوابيس التي أراها بلا سبب. ورضوان؟

– البقية في حياتك.

– حقًّا؟! لم تبقَ إلا الأسماء.

وسكت مليًّا ليهضم أنباء الزمان بلا انتباهٍ للتوتُّر المستحوذ على الجالسين، ثم سأل: من الفتوة اليوم؟

فقال وحيد بشجاعةٍ لأول مرة: ابنك وحيد!

فانتفض الرجل من التأثُّر وقال: حقًّا؟!

– ابنك وحيد يا أبي.

وقصَّ قصة الرؤيا والوثوب إلى الفتونة، فتهلَّل وجه سماحة وهتف: أوَّلُ نبأٍ من السماء.

وشبَّك ذراعَيه فوق صدره ممتنًّا وقال: إذن قد رجع عهد عاشور!

ركبهم الارتباك والحرج، ولكن وحيد قال بجرأة: عهد عاشور رجع!

فهتف الضرير: يا بركة السموات السبع!

وتجلَّى الرضا في وجهه وفي حركاته المرحة، وقال: ليهنأ عاشور في غيبته الملائكية! وليسعد شمس الدين في جنات النعيم.

لم يفكِّر أحدهم لحظةً واحدةً في إيقاظه من الحلم أو الاستهانة بسعادته. وبدا هو كأنما قد نسي الغربة والمطارَدة ونعم بحسن الختام. وقال بهدوء: إليَّ بالحمام والطعام، ولتحلَّ بركة الله بالأرض.

٥٨

نام سماحة بقيةَ النهارِ كلِّه، وسهر الليل في ساحة التكية. عرفها هذه المرة عن طريق الأذن والأنف واللمس. ودعا بقوة الخيال صورة التكية والتوت والسور العتيق. وراح يملأ قلبه بالأنغام في ارتياح وغبطة.

وبسط راحتَيه وقال: حمدًا لله الذي شاءت إرادته أن أُدفن إلى جوار شمس الدين. حمدًا لله الذي أَذِنَت رحمته للعدل أن يظل في حارتنا. حمدًا لله الذي أورث ابني خيرَ إرث للإنسان؛ الخير والقوة.

وجرى شكره في ظل نشيد يترنَّم:

هو آنكه جانب أهل خدا نكهدرد

خداش در همه حال أزبلانكه دارد

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤