شهد الملكة

الحكاية السادسة من ملحمة الحرافيش

١

تدهورت صحة سماحة فاضمحلَّ سريعًا، وما لبث أن أسلم الروح وهو يتأهَّب للنوم عقب صلاة الفجر، وكأنه لم يرجع من منفاه إلا ليُدفن في جوار شمس الدين. غير أنه مات سعيدًا، مات وهو يتوهَّم أنه إنما يهجر فردوسًا إلى فردوس. وقال عزيز: لقد أنكرنا حقيقة حياتنا أمامه فاعترفنا بذلك — بما فينا وحيد نفسه — إن حياتنا منكر لا يجوز إفشاؤه على مسمعٍ من الطيبين.

٢

ونجح محل الغلال نجاحًا عظيمًا، وأثرى عزيز ثراءً واسعًا. وقنع من البطولة بإيمان القلب، وحب الخير وممارسته في نطاق محدود. أقلع عن أحلام النبل مؤثرًا السلامة، ومعتذرًا عن تقصيره أمام ضميره أنه لم يُعَدَّ للبطولة ولم يملك وسائلها.

وخطبت له عزيزة أُلفت الدهشوري كريمة عامر الدهشوري صاحب وكالة الحديد، فرضي باختيار أُمِّه ملهمةِ حياتِه وراعية أمنه ونجاحه. وزُّفَّت إليه بعدَ مرور عامٍ على وفاة جَدِّه سماحة. وأقام معها في دار البنان التي اشتراها وجدَّدَها فأصبحت دار عزيز. وكانت العروس حسناء فارعةً بدينةً مثقفةً في فنون البيت وآدابه، فوجد فيها بُغيةَ قلبِه، وسرعان ما ربطهما الحب برباط متين. واستقبلا حياةً مترعةً بالسعادة والذرية.

٣

ولبث رمانة حبيس داره حتى بعد زوال الأسباب الداعية إلى ذلك؛ فقد تراجع وحيد عن وعيده بمجرَّد عودة سماحة، ولكن رمانة كره الخارج، وغاب عن الوعي والكرامة، وكان يعيش في شبه عزلةٍ عن زوجاته الأربع، ولم يسَل قط عن رئيفة، ودأب على السُّكْر والمخدِّر.

وذات مساء اشتدَّ به السُّكر فمضى مترنِّحًا إلى جناح الشيخة ضياء، فدار حول مجلسها وهو يقهقه، وراح يقول لها ساخرًا: إنك أصل البلاهة والبلاء.

وظلَّت المرأة غائبةً فقال: إني في حاجة إلى نقودك فأين تكنزينها يا معتوهة؟!

وقبض على يدها وأنهضها بعنف ففزعت المرأة وضربته بالمبخرة في وجهه. عند ذاك جُنَّ غضبُه فقبض على عنقها وشدَّ بعنفٍ فلم يتركها إلا جثةً هامدة.

٤

ارتجَّت الدار بالفزع. انقضَّ الخبر على الحارة. أبلغ شيخُ الحارة الجديدُ جبريلُ الفص القسم. قُبِض على رمانة. حوكم وقُضِي عليه بتأبيدة. ودعا عزيز إليه قُبيل حمله إلى الليمان وقال له: أعترف لك بأنني مدبِّر قتلِ أبيك.

فقال عزيز بأسًى: أعرف ذلك.

فقال بحزن: إنه مدفون بملابسه في قبرٍ وحيدٍ لصق مقام الشيخ يونس.

٥

واستخرج عزيز جثة أبيه قرة بحضور شيخ الحارة ومخبر، فضلًا عن وحيد وعزيزة. هكذا ظهر قرة وهو هيكلٌ عظميٌّ فجدَّد الأحزان. وكُفِّن ثم شُيِّع في جنازةٍ مهيبة، ثم أُعيد دفنه في قبر شمس الدين.

وقالت عزيزة: ليرتح اليوم قلبي. كان ذلك بعض حلمي، وقد ضمنت به أن أرقد إلى جواره إذا حان الأجل.

٦

وناوش الألم من جديد ضمير عزيز. وكلما ساءت سمعةُ وحيد اشتدَّ ضغطُ الألم عليه. لقد غدا الفتوةُ مضربَ الأمثال بشذوذه وشراهته في الحي كله لا في الحارة وحدها. وقد عاش بضعة أعوام بعد وفاة أبيه، ومات إثر هبوط في القلب نتيجة الإفراط في البلبعة.

وفي أثناء ذلك كله كان عزيز يتحرَّى عمَّن يصلح للفتونة من آل الناجي الكثيرين لعله يبعث عهد عاشور بعد مَوَات، ولكنه وجد آل الناجي قد ذابوا في الحرافيش، فهصرهم الفقر والبؤس، واستلَّ من أرواحهم خير ما فيها. هكذا فوجئ بموت وحيد دون أن يُعِدَّ له خليفةً لائقًا. وسرعان ما واجهته مشكلة غاية في الحساسية؛ هل يُدفن إلى جوار شمس الدين؟ لقد أبى قلبه ذلك. قالت له أُلفت الدهشوري: إنه عمك على أي حال.

ولكنه ظلَّ على إبائه، ودفنه في قبر من قبور الصدقة بحوش الناجي. ومن عجب أن ذلك التصرُّف لم يقابَل بارتياحٍ في الحارة. وقال سنقر الشمام الخمَّار الجديد: جامله حيًّا وانتقم منه ميتًا.

٧

ووثب إلى الفتونة نوح الغراب. كان فظًّا غليظًا نَهِمًا. هادن فتوات الحارات واستثمر قوته في الاستبداد بالحارة حتى صار من كبار الأثرياء في عام واحد. وتحمَّل الناس وطأته بلا مبالاة، ولم يَعُد أحدٌ يتحسَّر على فتونة الناجي بعد أن تلاشت أحلامها العذبة على يد وحيد. وابتهج الوجهاء، وانحشر الحرافيش في طَور جديد من أطوار الصعلكة والبؤس.

٨

ودارت الشمس دورتها. تُطل حينًا من سماءٍ صافية، وحينًا تتوارى وراء الغيوم. وقد جدَّد عزيز الزاوية واختار لها شيخًا جديدًا هو الشيخ خليل الدهشان عقب وفاة إسماعيل القليوبي. وجدَّد أيضًا السبيل وحوض الدواب والكُتَّاب القديم.

وترمَّلت رئيفة فعاشت وحيدةً في دارها مع الخدم. وورثت عن زوجها الجديد ثروةً غيرَ قليلة، ولكن انقطع ما بينها وبين شقيقتها عزيزة تمامًا كأنهما غريبتان، بل عدوتان. ومن عجب أنها كانت تتهمها بأنها سبب كل شرٍّ حاق بها، وأنها نفخت فيها روح التعاسة مذ كانتا في المهد.

وخرقت مألوف التقاليد في الحارة عندما مضت تزور رمانة في سجنه، فأعلنت بذلك حبَّها له رغم كل ما حصل.

هكذا مضت السنون بخيرٍ لا يُذكر، وشرٍّ لا يحصى.

٩

وذات يوم علم عزيز قرة الناجي أن أحد عماله لقي حتفه وهو ينقُل حمولةً من الغِلال. كان يدعى عاشور وينسب نفسه بصدقٍ إلى آل الناجي لانحداره من فتحية أم البنات زوجة سليمان الناجي الأول. امتلأ قلب عزيز الرقيق بالحزن، فدفن الرجل ورتَّب لزوجته معاشًا شهريًّا. وبالتحرِّي عن أسرته عرف أن بناته تزوجن، عدا بنتٍ صغيرةٍ في السادسة تُدعى زهيرة ما زالت في حاجة إلى الرعاية. اقترح عزيز على الأم أن يضمَّ الصغيرة إلى داره لتكون في خدمة أمه عزيزة هانم فرحَّبت بذلك أيَّما ترحيب. وانتقلت زهيرة إلى جناح عزيزة وكأنما انتقلت إلى الفردوس؛ تجلَّى لونها الحقيقي لأول مرة، نعمت بالغذاء والكساء، مارست واجبات الدار. واستحقَّت عطف عزيزة فخصَّتها بمعاملةٍ رقيقةٍ دون الجواري والخدم، بل أرسلتها فترةً إلى الكُتَّاب. ولم يهتمَّ عزيز برؤية البنت، ولكنها أوصى أمه بها وهو يقول في دعابة: لا تنسَي أنها من آل الناجي.

١٠

وزارت أم زهيرة المعلم عزيز في حجرة الإدارة وقد نسيها تمامًا. ذكَّرته بنفسها، وبالعامل عاشور الذي مضت عشرة أعوام على مصرعه، ودعت له طويلًا، ثم قالت: يدوم عزك، عبد ربه يرغب في الزواج من زهيرة.

وتذكَّر المعلم عزيز البنت وكان قد نسيها أيضًا، فسأل المرأة: هل ترَينه كفئًا لها؟

فقالت باعتزاز: شاب كامل، رزقه كافٍ.

فتمتم عزيز بلا اكتراث: على خيرة الله.

١١

على مائدة العشاء أنهى عزيز إلى عزيزة هانم وأُلفت هانم قراره. وسرعان ما قالت أُلفت ضاحكة: عبده الفرَّان! إنه بغل.

وقالت عزيزة محتجَّة: البنت ممتازة وتستحق من هو خير من عبده الفرَّان!

فتساءل عزيز ضاحكًا: هل تتوقَّعين أن يتقدَّم لها تاجر؟

– جمالها يؤهِّلها لذلك.

فقال عزيز بلا مبالاة: الولد كفء لها. أُمُّها راضية، لا يصح أن نفرِّط في واقع ملموس من أجل خيال قد لا يتحقَّق أبدًا.

ثم مواصلًا بنبرةِ من قرَّر أن ينهيَ الموضوع: لقد وعدتها بالموافقة فضلًا عن أنها صاحبة الحق الأول في ذلك.

١٢

جهَّزتها عزيزة هانم بالفراش والثياب والنحاس. دائمًا كانت تردِّد: يا للخسارة!

وكان عزيز يحتسي قهوة الصباح قُبيل ذهابه إلى المحل عندما جاءته عزيزة بزهيرة لتودِّعه شاكرةً ضيافته لها قبل مغادرتها الدار. دخلَت الأُمُّ وهي تنادي: تعالَي يا زهيرة لتقبِّلي يد سيدك.

وهمس عزيز معترضًا: ما ضرورة ذلك يا أمي؟!

دخلت الفتاة مسربلةً بالحياء والارتباك، ثم وقفت عند الباب. نظر نحوها مشجِّعًا. ثبَّت بصره عليها ثواني، ثم سرعان ما استردَّه. فرَّ ببصره. حافظ على وقاره الظاهر تحت عينَي أمه وزوجته. كتم الدهشة في أعماقه. دهشة عنيفة جامحة. كيف دفن هذا الكنز في جناح أمه؟ كيف أُخفي سره عنه؟ إنها قوام رشيق لا يتأتَّى لراقصة، وصفاء بشرة لا يحظى به بشر، وفتنة عينَين مسكِرة مخدِّرة. إنها روح الجمال الفتَّاك. لحظ أُلفت هانم فوجدها منهمكةً في إرضاع طفل، فتمالك نفسه وقال متشبِّثًا بالنجاة: مبارك عليك يا زهيرة.

فقالت عزيزة: قبِّلي يد سيدك.

مدَّ يده. اقتربت حتى اجتاحته رائحة القرنفل المتطايرة من شعرها الفاحم المسترسل. شعر بانطباع شفتَيها فوق ظاهر يده. خطف منها نظرةً أخرى وهي راجعة، وسرعان ما دهمه إلهام بأنه سيرى ذات يوم معجزة.

١٣

من عادته صباحًا أن يمضي بالدوكار إلى الحسين فيقرأ الفاتحة، ثم يميل إلى السكة الجديدة فالصاغة فالنحَّاسين، ثم ينتهي إلى المحل. فقد نفسه طيلة الطريق. روحه تهيم في سموات ويبقى جسده في الدوكار بلا روح. هل عرف أخيرًا لمَ تشرقُ الشمس؟ لمَ تتألَّق النجوم في الليل؟ عمَّ تُفصح أناشيد التكية؟ لمَ يتعذَّب المجانين بالسعادة؟ لمَ نحزن للموت؟ وتمر عشرة أعوام وهذا الجمال يتنفَّس في كنفه! كيف غاب السحر عن أمه وزوجته؟ هل تفطن البنت إلى ثرائها؟ أهي مثل الريح تزعزع الأركان بلا تيه؟ هل جُنَّت الأُمُّ لترحِّب بعبده الفرَّان ذلك الترحيب الأعمى؟ هل بوسعه أن يحول بين المطر وبين أن ينهمر؟ يا لتعاسة القلوب الغافلة!

في عشية الزفاف زارته أم زهيرة لتشكره. تفرَّس في وجهها بحب استطلاع. عجوز تشي مخلفاتها بجمال دابر. رمقها بحنق خفي. قال: كل شيء على ما يرام؟

– بفضل الله وفضلك.

– ألم تتعجَّلي؟

فقالت بتسليم: فاتحتها مقروءة منذ مولدها.

ومضت وهو يلعنها في سرِّه. وتساءل محزونًا لمَ لا نفعل ما نشاء؟!

١٤

زُفَّت زهيرةُ إلى عبد ربه الفرَّان في حفل متواضع. لم يرَها مذ كانت في السادسة، ولكنه اعتاد أن يعتبرها حليلته. ولمَّا رآها ليلة الدخلة صعقه جمالها، ولكنه كان مشحونًا بتعاليم وتقاليد أوجبت عليه التظاهر بالثبات والسيادة. كان فوق العشرين بعام، طويلًا مفتول العضلات، ذا سَحنة شعبية صميمة بنتوء خدَّيه وفطس أنفه وغِلظ شاربه. حليق الرأس مثل زلطة عدا ذؤابة نافرة في المقدمة. صلَّى ركعتَين، واتخذ من الخشونة إهابًا يُخفي به عذوبة الأعماق.

أُعجِبت برجولته، استنامت إلى حرارته، سلَّمت به مثل قدر.

وجدت نفسها في بدروم مكوَّن من حجرة ودهليز يُستعمل مطبخًا وحمَّامًا. وتذكَّرت الفردوس المفقود، ولكن غريزتها همست بأنه كان فندقًا للعبور لا للإقامة، وأنها كانت به ضيفة، أمَّا هذا البدروم فهو بيتها ومصيرها، فيه ملكت رجلًا، وحقَّقت حُلمًا، واطمأنَّ القلب.

١٥

وتمكَّن الحب من قلبه فكاد يهتك ستره، ولكنه غلا في إظهار الرجولة.

وحتى قبل أن ينتهي الشهر الأول سألها: هل تقبعين في البيت كما تفعل الهوانم؟

فتساءلت بدورها: ماذا تريدني أن أفعل؟

فقال بحزم: اليد البطالة نجسة!

١٦

هكذا سرحت زهيرة بالملبن وبراغيث الست. ارتدت جلباب العمل الأزرق يغطِّيها من العنق حتى الكاحل، وخطرت وهي تنادي: الملبن يا أولاد!

بانطلاقها إلى الطريق اكتشفت ذاتها. تنبَّهت إلى سحرها وقوتها. الأعين تلتهمها، الألسنة تتغنَّى بالثناء عليها، منظرها يبعث السحر ويخلق الحركة. إنها قوية مدلَّلة بالطبيعة والناس. وهي تقابل الغزل بالترفُّع والكبرياء، وتزداد تيهًا وثقةً بالنفس.

١٧

وتوثَّقت العلاقة بينها وبين عبد ربه. في الأعماق هو رجلها وهي معبودته. يعاملها بتقاليد الرجولة ولكنه يجدها صلبةً بقدر ما هي محبة، غضوبة أحيانًا بقدر ما هي مخلصة. وأنجبت له «جلال» فسرى رحيق الأمومة في أعطافها وتلقَّت سعادةً جديدة.

١٨

وكان عبد ربه الفرَّان يحمل الخبز إلى دار رئيفة هانم، فسألته ذات يوم: لماذا تترك زوجتك تسرح في الطريق؟

فقال الرجل بتسليم: الرزق يا ست هانم.

– الرزق متعدِّد السبل، إني امرأة وحيدة وفي حاجة إلى وصيفة، وخدمتي توفِّر رزقًا أكثر، وتقي من شر الطريق.

فأخذ عبد ربه وتساءل في حيرة: وجلال الصغير؟

فقالت بإغراء: لن أفرِّق بين الأم وابنها.

فغزا الطموح قلبه وقال: الأم والأب والابن في خدمتك يا ست هانم.

١٩

تمتمت زهيرة بقلق: رئيفة هانم!

فقال عبد ربه: هانم واسعة الثراء ووحيدة.

– ولكنها عدوة عزيزة هانم اللدود!

– لا شأن لنا بذلك، وخدمتها أيسر وأغنى من التسوُّل في الحارة، وأنت حاملة القفة بذراع والطفل بذراع.

– الأفضل أن أعمل في خدمة عزيزة هانم.

فقال عبد ربه باستياء: ولكنها لم تطلبك، وهذا يعني أنها لا تريدك.

وصمتت زهيرة ولكن حلمها بالفردوس نشط من جديد.

٢٠

استشاطت عزيزة هانم غضبًا عندما علمت بالخبر وهتفت: يا لها من بنت متعجِّلة!

فقالت أُلفت هانم: لم تقصدك بسوء ولكنها تسعى للرزق.

– نحن أولى بها!

فقالت أُلفت هانم معترضة: إنها ذات وليد لا تستطيع فراقه في هذه السن، وصحبته مدعاة للقذارة.

تابع عزيز الحوار باهتمام. شعر بأن زوجته لا ترتاح لرجوع زهيرة إلى الدار فاشتعل وجدانه بالتوجس وكأن أصبعًا يشير نحوه بالاتهام، فقال بحزم: رأي أُلفت عين الصواب!

٢١

كانت زهيرة تمشِّط شعر رئيفة في قاعة الجلوس عندما دخلت خادمة لتستأذن لقادم قائلة: المعلم محمد أنور.

من تعليق رئيفة عرفت زهيرة أن القادم هو ابن المرحوم زوج رئيفة، وأنه ظلَّ على ولائه لها حتى من بعد ما ذاع عن زيارتها لرمانة في سجنه. وسرعان ما جاء القادم فسلَّم وقدَّم لفافةً أنيقةً لأرملة أبيه وهو يقول: البطارخ!

فتهلَّل وجهها وشكرته. كان شابَّا متوسِّط الحال مقبول الملامح، جميل الجبة والقفطان. قالت له: فيك الخير يا محمد.

فقال بانشراح: يهمني أن تذوقي البطارخ قبل أي زبون من زبائن دكاني.

فسألته بدعابة: متى تدعني أدفع الثمن مثل بقية عُشَّاق البطارخ؟

فقال وهو يتناول قدح قرفةٍ محشوةٍ باللوز والجوز والبندق: عندما تُشرق الشمس من الغرب!

فضحكت رئيفة وقالت: فيك الخير يا محمد.

وهو يحتسي القرفة وقعت عيناه على زهيرة وهي منهمكة في تمشيط سيدتها. ذُهِل. لم يصدِّق عينَيه. ركَّز عينَيه في القدح وكأنه يهرب. قال في سره: «الغياث بالله من صنع الله!»

وسألته رئيفة: كيف حال تجارتك؟

فاستردَّ نفسه من عالم الافتتان وقال: عال ولله الحمد.

ولاحظت زهيرة نظرةً منه إليها متسوِّلةً تبرق بالانبهار فافترَّ باطنها عن بسمة.

٢٢

كان محمد أنور يتردَّد على دار رئيفة في كل مناسبة تسنح. غدا بالقياس إلى زهيرة عادة، كما غدت نظراته الملتاعة عادةً أخرى. وكان يحاذر من إثارة أدنى شُبهة عند رئيفة، ويَهَبُ دارها ما تستحقُّه من الولاء والاحترام. ما من رجلٍ رآها إلا وجُّن بها. أصبحت تؤمن تمامًا بأنها أجملُ من جميع هوانم الحارة. وهي أيضًا من آل الناجي مثل المعلم العظيم عزيز. ولكن كم أنها عجيبة الحظوظ في هذه الدنيا! توفِّر لامرأة دارًا ولأخرى بدرومًا. تعطي واحدةً تاجرًا ثريًّا وتعطي أخرى فرَّانًا. لقد تقرَّر مصيرُها وهي عمياء. حتى ميلُها الفطري لزوجها لا يقنعها بالرضا. ليست الحياة شهوةً وأمومة. ليست فقرًا وكدحًا ونعيمًا كاذبًا مستعارًا من خدمة هانم غنية. ليست أن تملك قوةً مذهلة، ثم تبدِّدها في الخنوع. باطنها يتغيَّر ببطءٍ ولكن بثباتٍ وإصرار. يتمخَّض كلَّ يومٍ عن حركة، كلَّ أسبوعٍ عن وثبة، كلَّ شهرٍ عن طفرة. إنها تكتشف ذاتها طيةً وراء طية. تنبثق من جوفها أنواعٌ شتَّى من المخلوقات المتحفِّزةِ الصارمة. وتحاكمُ في الخيال أمَّها وزوجَها ومسكنَها وحظَّها. تحقد على كل ما يطالبها بالرضا، على حكمة الأمثال وعطف الهانم وفحولة زوجها. وتتلقَّى من المجهول شرابًا ملتهبًا به يستفحلُ الخيالُ ويثمل القلبُ ويطلُع الفجرُ الأحمر.

وقال محمد أنور لرئيفة هانم ذات يوم: أما سمعت بالخبر؟ لقد وثبَت إلى الفتونة في برجوان امرأة!

فضحكت رئيفة هانم وقالت: أودُّ أن أرى امرأةً وهي تصرع الرجال.

ودارت زهيرةُ ابتسامةَ إعجابٍ واشتعلت في قلبها نيرانٌ غامضة. ورماها محمد أنور بنظرةٍ متلهِّفة متوسِّلة، فتساءلت: تُرى أيكون حلمها رجلًا مثل محمد أنور؟ لم تجد من قلبها أيَّ خفقةٍ تنبئُ عن جواب. وتأمَّله عقلها بلا حماسٍ وبلا فتور. ودهمتها فكرةٌ متحديةٌ تقول إن قلب المرأة هو ضعفها، وإن علاقتها بالرجل يجبُ أن تتحدَّد بعيدًا عن الغريزة والقلب. الحياة غالية مترامية الأبعاد لا حدَّ لآفاقها، وما الحبُّ إلا متسوِّلٌ ضريرٌ يزحفُ في أركان الأزِقَّة. وتنهَّدت وقالت لنفسها: ليس أتعس من الحظ السيئ إلا الرضا به.

٢٣

وكانت زهيرة ترضع جلال في قاعة الجلوس عندما رأت فجأةً محمد أنور يقتحم المكان. بسرعة دسَّت ثديها في ثوبها وحبكت الخمارَ حول رأسِها مرتبكةً بالحياء. رنا إليها مضطربَ النظرة، ثم تساءل: أين رئيفة هانم؟

أيقنَت بكذبه، لم تَشُكَّ في أنه رأى الهانم في الدوكار وهو ماضٍ بها إلى الميدان، ولكنها أجابت بأدب: خرجت في مشوار.

فتردَّد مليًّا، ثم قال: أنتظر؟ كلَّا، يجب أن أرجع الآن إلى الدكان، أليس كذلك؟

فقالت بحسم ودون مبالاةٍ بالمجاملة: مع السلامة يا سيدي!

ولكنه لم يكُن ينوي الذهاب. تسمَّرَ تحت وطأة قوة طاغية، واقتربَ ببصرٍ زائغٍ يشي برغبةٍ جنونيةٍ جامحة. تراجعت مُقطِّبة، اقترب أكثر، فقالت بحِدَّة: لا!

فتمتم في هلوسة: زهيرة!

فهتفت: سأذهب إن لم تذهب أنت!

– حِلمك … إني … إني أُحبِّك!

فقالت بحزمٍ: لست ساقطةً!

– معاذ الله … إني أحبك …

واضطُر إلى التراجع خوفًا من شبح رئيفة، فقال وهو يمضي: كيف أتزوَّج من امرأة متزوِّجة؟!

٢٤

عاشت في دُوامةٍ من التمرُّد والتحفُّز. على الحياة أن تغيِّر وجهَها. القوة كفيلة بأن تغيِّر أبعاد الكون. كلُّ دقيقةٍ تمرُّ بلا تغييرٍ انتصارٌ للذلِّ والتعاسة.

ولكن كيف تخوض المعركة؟ وانتهزت فرصة صداعٍ ألمَّ برئيفة هانم فتطوَّعت قائلةً: سأبيت معك يا ست هانم.

فتساءلت رئيفة: وزوجك؟

– لن يقتله الرعب إذا بات وحده!

وعندما مضت ساعتان على موعد رجوعها جاء عبد ربه مستطلعًا فقابلته وقالت له: الهانم مريضة.

فسكت الرجل لا يدري ماذا يقول، ثم تساءل بمرارة: أمَا كان يجب أن تخبريني؟

فقالت بعجلة وضيق: الهانم مريضة، ألَا تريد أن تفهم؟!

٢٥

لدى رجوعها إلى البدروم في مساء اليوم التالي أدرك عبد ربه أن الهانم كانت متوعِّكةً توعُّكًا خفيفًا لا يقتضي البيات خارج المسكن. واجتاحه الغضب فقال: الهانم ليست في حاجة إليك فالدار ملأى بالجواري.

فغضبت أيضًا إذ كانت تتمنَّى الغضب بأي سبيلٍ وتساءلت: أهذا جزاءُ الإحسان؟!

فقال بحزم: أخلاقك تسوء يومًا بعد يومٍ، وقد قرَّرت ألَّا تعودي إلى الدار.

– يا للعار!

فصاح: ملعونة الدار وصاحبتها!

فصاحت بدورها: أنا لا أنكر الجميل!

فلطمها على وجهها وغادر البدروم.

جُنَّت زهيرة بالغضب. انفجر الحنق المكتوم. صكَّت الحجرةَ بنظرةِ رفضٍ نهائية. استغرقتها اللطمة فتضخَّمت واستفحلت وانداحت في وجدانها حتى قتلت حواسها. وانهالت بقبضتها على الفراش دون مبالاةٍ بصراخ جلال.

وغادرت البدروم قاذفةً بالماضي في أحضان الفناء.

٢٦

عجبت رئيفة هانم لعودة زهيرة السريعة عقب ذهابها بساعة واحدة، ولكن الفتاة سألتها: هل تتسع دارك يا ست هانم لإيوائي؟

– لمَ كفى الله الشر؟!

فقالت بمسكنة: لن تطيب الحياة بعد الآن مع الرجل.

وهزَّت الهانم رأسها مستطلعة، فقالت زهيرة: يريد أن يمنعني من خدمتك!

فقالت رئيفة بامتعاض: الناكر للجميل.

– وانهال عليَّ ضربًا.

– يا له من وحش لا يدري أيَّ كنزٍ يحوز!

وتفكَّرت الهانم قليلًا، ثم قالت: ولكني لا أحبُّ تخريب البيوت.

فقالت زهيرة بإصرار: إني راضيةٌ عمَّا أفعل.

فقالت رئيفة باسمة: الدار دارك يا زهيرة!

٢٧

تلعثم عبد ربه الفرَّان بالخجل تحت نظرات رئيفة هانم. غمغم مستغفرًا ولكنه ركَّز على هدفه بإصرارٍ ورجولة. قال: ماذا تعني لطمة؟ ليست بعاهة مستديمة!

فقالت الهانم باستياء: إنك مخطئ وجهول.

فتمتم بأدب وتصميم: عليها أن ترجع معي الآن.

فقالت رئيفة بحِدَّة: عندما تعرف قيمتها لا قبل ذلك.

وانتزع قدمَيه من موقفه وقد احمرَّت الدنيا في عينَيه.

٢٨

جلس عبد ربه في الخمَّارة يعب من القرعة ويجفِّف شاربه بكُمِّ جلبابه الأزرق. لا حديث له إلا زهيرة. قال: هربت ومعها الولد.

فقال أحدُ السكارى: أنت خرع.

فهتف محتجًّا: رئيفة هانم تشجِّعها!

فقال له الخمَّار سنقر الشمام: تصرَّف كرجل.

– ماذا تعني؟

– طلِّقها!

فتقلَّص وجهه وقال: أحقر شعرة في جسدي تستطيع أن تقتل امرأة.

فقهقه نوح الغراب الفتوة وصفعه على قفاه مداعبًا وهو يقول: يا عنترة!

فباخ غضبه وقال بخشوع: من معلمي الأكبر تجيءُ المشورة.

فقال نوح الغراب وقد احمرَّت عيناه بالخمر والسطل: دسها بقدمك حتى تصير خرقةً بالية.

أمَّا جبريل الفقي شيخُ الحارةِ فقال: في الطلاق راحةٌ للبال.

فقال نوح الغراب: الطلاق في مثل هذه الحال عجز.

وراح عبد ربه الفرَّان يتساءل: من قال إن الزواج نصف الدين؟ ألَا إنه نصف الكفر!

٢٩

مضى عبد ربه مترنِّحًا في الظلام حتى وقف تحت دار رئيفة هانم. جاش صدره بالخُمار والغضب. تصارعت في قلبه المحتقن تقاليد الرجولة وهمسات الحب المستبدة. وبصوت غليظ متحشرج صاح: انزلي يا بنت يا زهيرة.

وجعل يخور وهو يترنَّح، ثم يعاود الصياح: معي نار الفرن وشياطين القبو.

وفُتحت نافذةٌ فأطلَّ منها الشيخ خليل الدهشان شيخ الزاوية وتساءل بغضب: من المجنون؟

– أنا عبد ربه الفرَّان.

– انجر يا سكران يا رجيم.

– أريد زوجتي والشرع معي!

– كفاك عربدةً وتهجُّمًا على دار الطيبين!

– من يُنصفني إذن إلا إبليس؟

فصاح به: عليك اللعنة.

انقضَّ على باب الدار وجعل يضربها بقبضته حتى لحق به جبريل الفص شيخ الحارة، فشدَّهُ من ذراعَيه وهو يقول: اخرس يا مجنون، سِر معي، سأكون شفيعك لدى الهانم!

٣٠

وجد جبريل الفص رئيفة هانم غاضبةً ثائرة. أصبحت المعركةُ بينها وبين عبده الفرَّان بعد أن كانت بين زهيرة وبينه. قالت بحِدَّة: الفرَّان الحقير!

فقال شيخ الحارة: ما هو إلا خادمك.

– ألم تشهد وقاحته؟ أأسلِّمها له لينتقم منها؟

– أعتقد أنه يحبها يا ست هانم!

– الحيوان لا يعرف الحب.

فتساءل جبريل الفص: وإذا طلبها لبيت الطاعة؟

فقالت بإصرار: لن تضيق بي الحيل!

٣١

استدعى نوح الغراب عبد ربه الفرَّان إلى مجلسه بالمقهى. نظر إليه مليًّا، ثم قال بنبرةٍ آمرة: طلِّق المرأة!

فذُهِل عبده الفرَّان. اجتاحه اليأس. أدرك أن رئيفة هانم عرفت كيف تنتقم. واستثقل الفتوةُ صمتَه فهتف: فقدتَ النطق؟!

فقال بخشوع: ألم تقل يا سيد الناس إن الطلاق في مثل حالتي عجز؟

فقال بسخرية: وإنك لعاجز!

– الشرع معي يا سيد الناس!

فقال الفتوة بنبرةٍ قاطعة: طلِّق يا عبد ربه.

٣٢

وقع الطلاق. سيق عبد ربه إليه كما يساق المحكوم عليه إلى المشنقة. انتهى الحلم وضاعت الجوهرة. وثملت زهيرة بنشوة الانتصار وبهجة الحرية. في الوقت نفسه وجدت نبضة أسًى في الأعماق أسفًا على حرارةٍ ستفقدها إلى الأبد. وضمَّت جلال إلى صدرها فتبدَّى لها ثمرةً لحبٍّ لا يُستهان به. وسرعان ما طالبها طموحها بالتعويض الكامل. وتجلَّت لها شخصيتها في صورةٍ واضحةٍ قاسيةٍ مجلَّلةٍ بالسمو والألم.

وقالت لها رئيفة هانم بمباهاة: هذه إرادتي إذا صمَّمت!

أجل. إنها امرأة قوية رفيعة الشأن، غير أنها لم تنفِّذ مشيئتها إلا باللجوء إلى الفتوة. الفتونة حلم الخيالِ الأبدي، حسرة آل الناجي المهلكة، ذروة الحياة المتلفِّعة بأضواء النجوم.

٣٣

وابتسمت مشجعة!

ها هو محمد أنور تاجر البطارخ يقول لها: مباركة عليك الحرية والكرامة.

وينتهز فرصة ذهاب رئيفة هانم لشأنٍ من شئونها فيهمس: إني وقلبي في الانتظار.

وتشع عيناه ببريق الرغبة فيواصل ابتهاله: على سنة الله ورسوله!

تُرى بأيِّ عينٍ ينظر إليها؟ عينِ تاجرٍ إلى خادمة؟ الحق أنه لم يملأ عينَيها قط. طالما رأته هشًّا وذليلًا، ولكنه قادرٌ على أن يجعل منها هانمًا من نوعٍ ما. هل يمكن أن تطمع في خيرٍ منه؟

وابتسمَت له مشجِّعة.

٣٤

سكر عبد ربه تمامًا حتى مادت به أرض البوظة الثابتة. وسأل سنقر الشمام: هل يعيب الرجل أن يبكي؟

فضحك الخمَّار قائلًا: إذا كان في حجم البغل مثلَك.

فحمل عبد ربه القرعة بين يديه وجعل يميل بها يمنةً ويسرةً كأنما يرقص، وراح يقول: تلاشَ يا عبد ربه، اندفِن في الظلام، حتى تراب الحارة أقوى منك. هل جرَّبت قوتك إلا مع العجين وأنت تدفعُ به داخل الفرن؟ الله يرحمك يا عبد ربه!

– ماذا جرى لعقلك؟

– طلِّق، طلقت، بكلمةٍ انتهيت، حتى القملة تقاوم، يا فرحة العِدا فيك يا عبد ربه!

فقال له سنقر محذِّرًا: إطاعة الفتوة شرف!

فانذعر عبد ربه رغم سكره وتمتم: الحمد لله.

ثم وهو يتنهَّد: وقوةٌ أخرى تطحنني!

– ما هي؟

– حب الملعونة بنت الملعونة!

فضحك سنقر وقال: هذا ما يعيب الرجل حقًّا!

فغنَّى عبد ربه بصوتٍ مثل النهيق:

عجايب والله عجايب

فقال له سنقر الشمام: اشتغل بالغناء فالمُغنون فيما يبدو خائبون مثلك في الحب.

٣٥

رجع عبد ربه يحمل الأرغفة إلى دار رئيفة هانم بعد أن تشفَّع له أكثرُ من رجلٍ طيب. وذاتَ مرةٍ سألها بخشوع: لعلك عني راضية؟

فقالت له ببرود: ما فات مات!

فتردَّد قليلًا، ثم قال بضراعة: دعيني أنفرد بها دقيقة.

فرمقته بحذر، ثم قالت: كلَّا.

– أكلمها إذا أذنتِ لي حضرتك.

فتفكَّرت قليلًا، ثم نادت زهيرة فجاءت في جِلباب كحلي كوردةٍ نضرة. ترامقا مليًّا فلم ترمش أو تغضَّ بصرها. بدَت غريبةً بعيدةً باردة. صورة متناقضة تمامًا مع صراعٍ ناشبٍ في الأعماق. قال عبد ربه: قلبي أبيض، لننس ما فات.

فلم تنبِس بكلمة، فقال: ندمت على ما كان مني.

فواصلت الصمت حتى قالت رئيفة هانم: تكلَّمي يا زهيرة.

فقال عبد ربه متشجِّعًا: رغبتي أن أردَّك، والعشرة لا تهون.

فتمتمت زهيرة: لا.

– العشرة لا تهون ولا تُنسى، وكانت لنا أيامنا الحلوة!

فغضَّت بصرها لأول مرَّةٍ وقالت بحزم: لا أنت لي ولا أنا لك!

٣٦

تسلَّل محمد أنور إلى الدار في غيبة الهانم. قابل زهيرة بلهفةٍ وهو يقول: ليس من حقِّي الحضور، ولكني أجازف من أجلكِ بكل شيء. اتبعيني في الحال لنعقد زواجنا!

فتساءلت في كبرياء: من ضمِن لك موافقتي؟

فقال بذُل: إني أحبِّك يا زهيرة.

– ولِم تدعوني إلى الهرب كأني لصة؟

فتنهَّد وهو يقول: لا فائدة، لا تريد الهانمُ أن توافقَ أبدًا!

فسألته بدهشة: فاتحتها في الموضوع؟

فحنى رأسه في غمٍّ وقال: عنيدة ومتكبِّرة!

تَلَقَّت طعنةً في صميمها فقالت بزهو: إني من آل الناجي!

– عنيدة ومتكبِّرة، أمرتني أن أنقطع عن زيارتها أنا الذي وُلدت في هذه الدار.

واجتاحها الغضبُ فقالت له: سأتبعك في الحال.

٣٧

زُفَّت زهيرة إلى المعلم محمد أنور تاجر البطارخ. غضبت رئيفة ورمتها بالخيانة والخبث. دُهِشت الحارة وجعلت من الزيجة حديثها، فتردَّد كثيرًا ذكرُ الحظِّ السعيدِ وليلة القدر وعجائب الحب. وحملت معها جلال فرحَّب به الرجل، وعَدَّ نفسه أسعد خلق الله.

وجدت زهيرة نفسها — لأول مرة — ست بيت. ها هي تملك شقةً متعدِّدة الغُرَف، ثمينةَ الأثاث، فيها الحمام والمطبخ، وبها خزان يملؤه السقَّاء كلَّ يوم. وملكَت أيضًا الفساتين والمُلاءات القريشة وعرائس البراقع الذهبية. وباتت في عنقها قلادة، في أذنَيها قرط، في ساعدَيها أساور ذهبية، في ساقها خَلخَال من فِضة.

وحفَلَت سُفرتها بالأطعمة اللذيذة، لا تكاد تقِلُّ نفاسةً عن أطعمة دار عزيز أو دار رئيفة، وهي صاحبته كما هي طاهيته.

وما إن مضى الشهر الأول حتى قرَّرت أن تحطِّم القضبانَ فهي تخرج لزيارة أُمِّها أو جارةٍ أو زيارة الحسين. ورآها الناس في زيِّها الجديدِ فهتفَت أعماقهم سبحان الله الخلاق العظيم.

٣٨

سعد محمد أنور بزهيرةَ سعادةً تفوق الخيال. لم يقتصد في إعلان حبِّه وإعجابه وتعلُّقِه الجنونيِّ بها، وتدليلِه غيرِ المحدودِ لها. ومن بادئ الأمرِ لم يرتح لخروجها وعَرْضِها فتنتَها الباهرةَ على الأعين. وأفضى إليها بملاحظاته في رِقَّةٍ بالغةٍ ولكنه كدَّر صفوها، فسرعان ما تراجع وهو يبالغ في ملاطفتها. اكتشف أنه يتحمَّل أي مكروه إلا أن يغضبَها أو يُحرمَ من رضاها ومرحها.

وأدرك أنه ضعيفٌ حِيالَها، مستهترٌ بالوصايا التقليدية، ولكنه استسلم لتيارٍ لا قِبَلَ لقلبه بمقاومته. عرفَ نفسَه تمامًا، عرف أنه أسيرُ الحبِّ ولُعبته.

وثمة شعورٌ عميقٌ وضحَ له مثل صورة حيوانٍ خرافي، وهو أنه لم يملك معبودته بعد، لعله لا يستطيع أن يملكها؟ لعلها تستعصي على أن تُمتلك، إنه شعور مهزومٌ ذو وجهٍ أصفر، يتعلَّلُ بالعِلل، ويستنجد بالأوهام، ويغطِّي مرارته بالعطايا وحلو الكلام. إنه عبدُ الحب لا نِدُّه ولا سيدُه، وزنُه في يدِه لا في قلبه أو جسدِه، تستوي لديه حمرةُ الشروق وحمرةُ الشفق. إذن فليتوارَ وراء الرقَّةِ والعذوبةِ ليحظى ببسمةِ الثغرِ الوردي، ونظرةِ العينِ الساجية، ورشاقةِ الجِيدِ وهو يتمايل في رضًا.

٣٩

وزارت يومًا وليةَ نعمتها عزيزة هانم فقبَّلت يدها وقالت: دفعَت بي ظروفٌ إلى دارٍ أخرى ولكن قلبي لم يتحوَّل.

وصفا قلب عزيزةَ بالكلمة الطيبة. لثَمَت خدَّها وأجلستها إلى جانبها فعاملتها كنِدٍّ لها. امتلأت بنفحة سعادةٍ وخيلاء. شربا القرفةَ وأكلت طبق علي لوز بالمكسرات. وسألتها عزيزة عن حالها وزوجها وجلال ابنها. وجاءت أُلفت هانم فرحَّبت بها. وقالت لها عزيزة: هذا ما يستحقه جمالك والجمال سيد الأكوان.

فقالت زهيرة: بل دعاؤك وعطفك يا سيدة النساء.

٤٠

وعقَّب محمد أنور على الزيارة متسائلًا: ورئيفة هانم ألَا تزورينها أيضًا؟

فقالت بغُصَّة: المتكبِّرة! عليها اللعنة.

– سيُجن جنونها!

– فليُجن جنونها.

فساوره القلق وتمتم: لا حدَّ لشرِّها!

فتساءلت وهي تسبل جفنها على نظرةٍ ماكرة: ألست رجلًا؟

فتقلَّص قلبه وصمت.

٤١

وذاتَ أصيلٍ شهدت الحارة منظرًا لا ينسى.

كانت زهيرة سائرةً تخطِر في مُلاءتها الفاخرة عندما وقف دوكار رئيفة هانم على كَثَبٍ منها. وأطلَّ رأسُ الهانم، وسُمع صوتها وهي تقول بنبرةِ عتابٍ لا تخلو من مسحة من مودة: زهيرة!

فالتفتت زهيرة مرتبكة، فقالت الأخرى: يا خائنة!

لم تملك إلا أن تقترب مادَّةً يدها على مرأًى ومسمعٍ من كثيرين، بينهم جبريل الفص وخليل الدهشان وعبد ربه الفرَّان. وقالت رئيفة: متى تزورينني؟

فأجابت زهيرة وهي تزداد ارتباكًا: في أقرب فرصة يا هانم، ما منعني إلا …

وغمغمت في حيرة، فقالت رئيفة بنبرةٍ عدوانيةٍ قاسيةٍ متحديةٍ مباغتة: يسعدني أن أرحِّب بخادمتي المخلصة.

وسرعان ما اشتعل الغضب بقلب زهيرة فهتفت: إني هانمٌ مثلك!

واندفعت في طريقها وقد أعماها الانفعال.

٤٢

وكان عبد ربه الفرَّان يسكر في البوظة ورياح أمشير تزمجر في الخارج. وإذا به يقول: حلمت أمس حلمًا عجيبًا.

ولمَّا لم يسأله أحدٌ عمَّا رأى واصل حديثه: رأيت الخماسين تهبُّ في غير أوانها.

فقال الخمَّار سنقر الشمَّام ضاحكًا: حلمٌ من صنع الشيطان.

– اقتلعت الأبواب، أمطرت التراب، طيَّرت عربات اليد، أطاحَت بالعِمَمِ واللاثات.

– وماذا صنعت بكَ أنت؟

– تركتني أرقصُ فوق جوادٍ أصيل.

فقال له سنقر: أَحكِم الغطاءَ فوق دُبُرك قبل النوم!

٤٣

شعر محمد أنور بالخوف يزحف نحوه. أشباح الأخطار تتراقص في أركان دنياه الضيقة. هل يحيق به مصيرٌ مثل الذي حاق بعبد ربه الفرَّان؟ وجعل يختلس النظرات من وجه زهيرة ويستجمع همَّتَه. قال لها: إنك حُبلى يا زهيرة في الشهر الرابع فيحسُن بك أن تستقري في بيتك. فقالت باستهانة: لم أشعر بالعجز بعد!

فراح يُداعب جلال بحنوٍّ ليخفِّف من وقع كلامه وقال: لقد تحدَّيتِ قوةً لا يُستهان بها، فمن الحكمة أن ننطوي على أنفسنا.

فقالت ببرود: كأنك خائف!

فقال مداريًا استياءَه: بل أرغب في توفير السعادة لبيتنا!

– إني أُمارس حريةً مشروعة.

فقال بوضوحٍ أكثر: الحقُّ أني غيرُ مرتاحٍ لذلك.

ففكَّرت قليلًا، ثم قالت: الحقُّ أني لا أطيقُ ما تدعونني إليه.

فقال بإشفاق: ولكني زوجُك.

– أيعني هذا أن تدوسني بقدمك؟

– معاذ الله، ولكني ذو حقٍّ غيرِ منكور.

فعبس وجهها حتى اكفهرَّ جمالُه، وقالت بحِدَّة: لا!

فتردَّد بين الصمت والعناد، ثم آنس منها ازدراءً أثارَه، فقال بغضب: إني ذو حق.

فقالت باستهانة: لا توجع رأسي بحقك.

فغلبه الغضب أكثر وقال بحِدَّةٍ غيرِ معهودة: لي حقُّ الطاعة.

فحدجته بدهشةٍ ضاعفت من غضبه فعاد يقول: حقُّ الطاعةِ الكاملة!

فطفح وجهها بالرفض والصلابة وفسد الجو أيَّما فساد.

٤٤

استمدَّ محمد أنور من يأسه شجاعة. وكان في صميمه مشفقًا من فقدها؛ لذلك ما كاد يراها — من دكانه — خارجةً إلى طريقها حتى فقد رصانته فاعترض سبيلها وقال لها بحزم: ارجعي إلى البيت!

فذُهِلت وهمست له: لا تُثِر فضيحة.

فقال بعناد: ارجعي إلى البيت.

ولمحت الأعين تزحف نحوها مثل الأفاعي، فاضطُرت إلى الرجوع وهي تغلي.

٤٥

في المساء، وعند ذهابه إلى بيته، وجد محمد أنور عاصفةً في انتظاره. كان يتوقَّعها تمامًا. وكان أبغضَ شيءٍ إلى قلبه أن يتمادى في الغضب، أن يفسد الجو، أن يطمس الجمال المعبود بالسخط. وأبدى استعداده لأي تنازلاتٍ تحت شرطِ الإذعانِ لرغبته المشروعة. قال لها: لا تتصوَّري أنى أسعد بإهانتك، ما أريد إلا المحافظة على سعادتنا. ولكنها بدت مثل هَبَّة من غبار. اصفرَّ الوجه وانقلبت السحنة وتطاير من العينَين شرر. تجسَّد الغيظ مقتًا أسود، وطفرت الكبرياء حيةً متوثِّبة. وقال لنفسه أعوذ بالله من هذا الشرِّ، أعوذ بالله من هذا القلب، ألَا يشفع لي ما صنعتُ معك؟

٤٦

ووجدت زهيرة نفسها في سعير. إنها تأبى أن تنهزم، ولا تنسى موقفها الأليم بين يدَيه في الحارة. وهي لا تحبُّه ولم تحبه قط. ولكن كيف تتصرَّف وأين تذهب؟ في مثل حالها تذهب الزوجة إلى أهلها وهي لا أهل لها. فإمَّا سيدةٌ في ذلة، وإمَّا هائمةٌ على وجهها. تتربَّصُ بها الشماتةُ في أكثر من دار، وفي بدروم عبد ربه أيضًا.

وتذكَّرت سيدها الأول المعلم عزيز سماحة الناجي، وجيه الحارة، وصديق زوجها. سيعلم الزوج أنها ليست مقطوعةً من شجرة على الأقل. ‏وتسلَّلت إلى محل الغِلال ورذاذٌ يتساقط فَبَلَّ مُلاءتها ووجنتَيها. اقتحمت عليه حجرة الإدارة. وجدته وحدَه، مجلَّلًا بوقاره الجميل وقد وَخَطَ المشيبُ — متعجِّلًا بعضَ الشيء — ‏ شاربَه. عرفها من أول نظرةٍ. عرفها رغم البُرقع. لم يكُن في حاجةٍ إلى تذكُّر هاتَين العينَين الساحرتَين المطلَّتَين حولَ العروس الذهبية. خُيِّل إليه أنه القَدَرُ يقتحم حصنه.‏

تهادَت إلى أذنَيه نبرتُها الناعمةُ وهي تقول: لم أجد سواك ملجأً لحيرتي.

فتساءل وهو يضبط عواطفه المتضاربة: ما الحيرة كفى الله الشر؟

– زوجي!

– إنه رجلٌ طيبٌ فيما أعلم.

– ولكنَّ معاملته ساءت جدًّا في الأيام الأخيرة.

– بلا سبب؟

– يرغب في إذلالي.

وقصَّت عليه موقفَه في الحارة، فتفكَّر عزيز قليلًا، ثم قال: التصرُّف بعيدٌ عن الحكمة، ولكن حقُّه المشروعُ لا جدال فيه.

فقالت بحرارة: لا يُفرض السجنُ على امرأةٍ في حارتنا.

فتبسَّم المعلم عزيز وقال لها: سأتحدَّث عنكِ باعتبارك من آل الناجي، ولكن عليك أن ترضَي بالمعقول.

٤٧

شفاعة المعلم عزيز لم تحقِّق لها إلا ما هو دون القليل. لم يعُد أمامها إلا الإذعان ولو إلى حين. إنها تُذعن وتُضمر السوء معًا. غير أن لقاء المعلم عزيز أسفر عن أشياء لم تجرِ لها في خاطرٍ من قبل. أشياء مثيرة جنونية رائعة الجمال. أشياء قذفَت بها إلى دنيا مغمورةٍ بالأحلام. قالت لنفسها إن المعلم عزيز معجب بها. بل أكثر من ذلك. لقد أدلَت عيناه باعترافاتٍ فاتنةٍ فمتى بدأ ذلك؟ حقًّا ما من رجلٍ رآها إلا وفُتِن، ولكن هل المعلم عزيز مثل سائر الرجال؟ ثم إنه متزوِّج وهي متزوِّجة. وهو كهلٌ أيضًا ومثالٌ للنبل وحسن السمعة. مثلُه لا يمُدُّ الطرفَ إلى امرأةٍ متزوِّجة، متزوِّجة من صديق.

وما أزهدها هي في علاقةٍ غيرِ مشروعة! ما فائدتها؟ إنها تطمح إلى اكتساب حق. في سبيل ذلك وطئت قلبها بلا رحمة، في سبيل ذلك تُحِسُّ أحيانًا بجيشان.

الجنون السامي في قدحٍ من الخمر المقدسة. وتراءى لها عزيز سماحة الناجي في هالة حُلم ورديٍّ لم تدْرِ كيف يمكن أن يتجسَّد لها في عالم الحقيقة. هل يمكن ذات يومٍ سحريٍّ أن تُصبح ضرةً لأُلفت هانم، وشبه ابنةٍ شرعيةٍ لعزيزة هانم؟

هل يمكن أن تتسلطن يومًا في دارٍ فاخرة، وتستقلَّ بالدوكار ذي الجرس الرنَّان؟

وتضاءل محمد أنور حتى انقلبَ ذرَّةً من سُخام متطايرةً فوق أديم طريقٍ طويلٍ ليس له نهاية.

٤٨

وعندما وفدت الفلَّاحات يبشِّرن بالفيضان ويبعن البلح، كانت زهيرة تعاني ولادةً عسيرةً أنجبت في أعقابها راضي الابن الثاني لها.

وسعد به محمد أنور سعادةً خفَّفت عنه ويلات الهموم والقلق، وأَمَّل أن يكون فاتحةَ عهدٍ جديدٍ من زيجة حكيمةٍ موفَّقة.

وكانت أم هشام الداية تعودُها يومًا بعد يومٍ حتى اجتازت العناء بالسلامة.

وفي آخر زيارةٍ همست في أذنها: عندي لكِ رسالة.

فرمقتها زهيرةُ بنظرةٍ متسائلة، فقالت العجوز: رسالةٌ من السماء!

فجرى خاطرُها إلى عزيز وتساءلت: ماذا عندك يا أُمَّ هشام؟

فقالت ووجهها يكتسي بقناع الإثمِ الشاحب: رسالةٌ من نوح الغراب فتوةِ حارتِنا.

دقَّ قلبُها بالمفاجأة. توقَّعت شهابًا من الشرق فَمَرَق شهابٌ من الغرب. تمالكت أعصابها وقالت: ألَا ترين أني زوجةٌ وأُم؟!

فقالت العجوز: ما يمرُّ يومٌ إلا ونرى الشمس وهي تُشرق، ثم نراها وهي تغرب، وما على الرسول إلا البلاغ.

٤٩

سرعان ما تقهقر محمد أنور. تخلَّى عن صلابته الطارئةِ الزائفةِ فآوى إلى ضعفه الفطري. لشَدَّ ما آمنَ بأن زهيرة جوهرة، بلا قلب، وأنها تُفلت من قبضته مثل الهواء. غير أنه لم يتصوَّر الحياةَ بدونها. هي روحُ الحياة وعادتُها المسيطرة، وهي شديدةُ الخطورةِ لا يؤمن لها جانب. وهل ينسى ما حاقَ بعبد ربه الفرَّان؟ لا ثقة له فيها، وكلما تزعزعت ثقتُه نزعَ أكثرَ إلى الالتصاقِ بها والاستحواذِ عليها بأيِّ ثمن. وفشلُه في ذلك يعني فشلَه في الحياة كلِّها، في الدنيا والآخرة معًا. وسوف يظلُّ الخصامُ بينها وبين رئيفةَ مصدرَ إزعاجٍ له على طول المدى. إنه يعي تمامًا أنه أتعس الناس، وأن عليه ألَّا يضن بتضحية.

ها هو مجلسُ المساء يضمُّهما معًا. هي ترضع راضي فوقَ ديوان، هو يُدخِّن البوري، جلال يُلاعب قطة. الحقُّ أنه لم يعُد يطيقُ جلال. طالما عطف عليه وأحبَّه في الماضي، ولكن ما إن جاء راضي حتى مقته وتمنَّى زوالَه من الوجود، غير أن معاملَتَه له لم تتغيَّر، ظلَّ يغمرُه بأُبوةٍ باسمةٍ كاذبة، يضيفُ بها إلى أشجانِه عناءً جديدًا.

وقال لزهيرة وهو يعتقد أنه يفعلُ المستحيلَ لاسترضائها وامتلاكها: عندي لكِ مفاجأةٌ سارَّة.

فنظرت نحوَه بفتورٍ فقال: هدية السلامة!

فابتسمَت، فواصل: عقد شراء صُوري تُصبحين به مالكةً لبيتي!

تورَّدَ وجهُها وقالت بحبور: يا لكَ من رجلٍ كريم!

إنه بيتٌ من ثلاثة طوابق، وأسفلُه دكان الفول. وسعِدَ الرجلُ بفرحتِها فاستردَّ بعضَ طمأنينته. وأسعدَها حقًّا أن تصبحَ مالكة. ومن أعماقها شكرَتْه. وشكرَتْه أيضًا لاعترافه الضمنيِّ بقوتِها وندمه على تحدِّيها. ولم يخْلُ وجدانها من ازدراءٍ له، ولم يوقف ذلك انشغالها الدائمَ بعزيز ونوح الغراب.

عزيز الغني، ونوح القوي. وعزيز ذو قوةٍ أيضًا، كما أن نوح ذو ثروةٍ تتزايدُ مع الأيام. عزيز له زوجة، ونوح له أربعةٌ وقطيعٌ من العيال. لا غنى عن القوة، ولا غنى عن المال. المالُ يخلقُ القوة، والقوةُ تخلقُ المال. تُرى كيف تسيرُ الأمور؟ إنها تؤمن بأنها لم تكد تبدأ بعد. وهي تفكِّرُ في ذلك كلِّه وهي قريبةٌ من أنفاس محمدٍ المتردِّدة.

٥٠

قرَّر محمد أنور أن يحصِّنَ سعادته بنوح الغراب. زارَه في داره وجلس بين يدَيه في بهو الضيوف كما يجلس الغلام بين يدَي شيخ الكُتَّاب. ودون أن ينبِس قدَّم له صُرَّةً مُوحية. تناولها الفتوة. مضى يعُدُّ ما فيها، ثم قال: لقد أدَّيتَ الإتاوة، فلمَ هذا القدر الجسيم؟

فقال محمد أنور: أريد أن أستظلَّ بحمايتك.

– لك أعداء؟

– وقاية من القدر!

فأعاد إليه الصُّرَّة بلا اكتراثٍ وابتسم. خفق قلب محمد بانزعاجٍ غيرِ متوقَّع، فاتسعَت عيناه في ارتيابٍ وجزع. وتمتمَ نوح الغراب: سبقَ القَدَر!

يا للويل! هل لعبت رئيفةُ لعبتها؟ هكذا تصوَّر؛ لأنه لم يخطُر له ببالٍ أن نوح الغراب يعمل لحسابه الشخصي. وقال نوح الغراب: كنتُ على وشك أن أرسل في طلبك.

فقال محمد أنور بريق جاف: ما الخبرُ يا معلم؟!

فقال بهدوءٍ مقيت: لأنصحك بتطليق زوجتك!

غاص قلبه في صدره وشعر بالموت. تساءل مذهولًا: أطلِّق؟ لا يوجد في حياتي ما يتطلَّب ذلك!

فقال له بنبرةٍ قاطعة: طلِّق زوجتك!

٥١

غادرَ محمد أنور دارَ نوح الغراب وهو فاقدٌ لحواسه الخمس. هل جاء دورُه ليُعامَل كما عومل عبدُ ربه الفرَّان؟ هل كابد تاجرٌ محترمٌ معاملةً مثل هذه من قبل؟ هل تهونُ عليه حياتُه وسعادتُه وكرامتُه كأنها لا شيء؟!

واجتاحَه غضبٌ يائسٌ عصف بتردُّدِه ونثرَهُ في الهواء.

جُنَّ محمد أنور تمامًا: أُقدِم على ما لم يقدم عليه أحدٌ من قبلُ في الحارة.

٥٢

ذهب جبريل الفص شيخُ الحارةِ إلى الفتوة نوح الغراب في مجلسه بالقهوة فحيَّاه وقال: حضرة فؤاد عبد التواب مأمور القسم يطلب مقابلتَك.

عجب الفتوة وتساءل مُقطِّبًا: لماذا؟

– لا علم لي يا معلم، وما على الرسول إلا البلاغ.

فتساءل بتحد: وإذا رفضت؟

فقال شيخ الحارة بملاينة: لعله يريدك لتقديم خدمةٍ للأمن العام يا معلم، ولا مُوجب للتحدِّي بلا ضرورة!

فهزَّ الفتوة منكبَيه استهانةً وصمت.

٥٣

استقبل المأمورُ فؤاد عبد التواب الفتوة نوح الغراب بترحيب. جلس الفتوة أمام مكتب المأمور متحلِّيًا بابتسامةٍ لطيفةٍ وروائح الجلد تفعم أنفَه. قال: يسعدني وربِّ الحسين أن أقابل المأمور.

ابتسم المأمور. كان بدينًا متوسِّطَ القامة، كَثَّ الشارب، حسنَ الملامح.

قال: يسرُّنِي أن أُقابِلَك يا معلم. الفتوة في الواقع من رجال الأمن!

– تشكر يا حضرة المأمور.

– والفتوة هو فارسُ الحارة وحاميها أيضًا، هو المروءة والشهامة، يدُ الشرطة وعينُها في مجاله، هكذا تقدِّركم الداخلية.

فكرَّر وقلقُه يتكاثف: تشكر يا حضرة المأمور.

فقال بحزمٍ يتناقض مع مجاملاته: لذلك أتوقَّع أن يجد المعلم محمد أنور الأمن في كَنفك.

فاحمرَّ وجهُ الرجلِ وتساءل: هل شكاني إليك؟

– لي وسائلي في معرفة الأخبار، وهبه لجأ إليَّ فهذا من حقِّه، ومن واجبي أن أُوفِّرَ له الأمن، ولكني أقنع بمطالبتِك بذلك!

وفصل بينهما صمت. أدرك أن المأمور يحذِّره وينذره بأسلوب لطيف.

ولمَّا طال الصمتُ سأله المأمور: ما قولك؟

فقال نوح الغراب بهدوءٍ مريب: نحن أوَّل من يحترمُ القانون.

فقال المأمور بحزم: أعتبرُك مسئولًا عنه!

٥٤

لم يحدث شيء كهذا من قبلُ في الحارة. لم يكُن يدخلُها شرطيٌّ إلا عند الضرورة القُصوى، وكافَّة جرائمِ الفتوةِ تُنسب عادةً إلى مجهولٍ حِيَالَ تصميمِ شهودِ الزور. فهل يفعل المأمورُ فؤاد عبد التواب ما لم يفعله غيره إذا عثَر على جثة محمد أنور تحت القبو أو في الممر؟ وكيف واتت الجرأةُ محمد أنور على الاستغاثة بالمأمور؟ وكيف قبل المأمور أن يتحدَّى نوح الغراب بأسلوبه اللزِج؟ وبدا لأول مرَّةٍ أن مأمورًا يضعُ نفسه في كفة ميزانٍ واحدٍ مع فتوة، مخاطرًا بهيبته المزركشة!

ولكن ثمة جانبًا مجهولًا خفي على الناس هو شخصية فؤاد عبد التواب. كان رجلًا شجاعًا وعنيدًا. وقد عُرِف في ريف الصعيد قبل نقله إلى القاهرة بالسفَّاح! ولولا تقاليدُ الداخلية نفسِها في سياستها المرسومة مع الفتوات لأقدمَ بدافعِ ذاتهِ الجريئةِ على تصفية الفتونةِ من الحارات كلِّها.

لذلك ما كاد يبلغُه أن محمد أنور لم يستشعر الأمانَ المنشودَ حتى قام بمظاهرةٍ حاسمةٍ ألجمت الألسنةَ وهزَّت جذورَ القلوب. ما تدري الحارةُ ذاتَ يومٍ إلا والمأمورُ يغزوها على رأس قوةٍ مسلحة! ترامَت نداءاتٌ عسكريةٌ جاذبةٌ للأسماع والأنظار، ثم تراءى جبريل الفص وهو يتقدَّم بين ثُلَّة من المخبرين، يتبعه ضابط القسم، فالمأمور في حلَّته الرسمية، وأخيرًا طابورٌ ضخمٌ من الجنود المدجَّجين بالسلاح. سار الموكب في تؤدة وحزمٍ حتى اخترقَ القبوَ إلى الساحة، وهناك قام بتكويناتٍ عسكريةٍ مدمدمة، ثم رجع على مهل وقد اصطفَّ الناس على الجانبَين كأنهم في يوم المحمل. لم يأبه المأمورُ بالنظر نحو الناس، ولكن عينَيه كانتا تتسلَّلان أحيانًا إلى النوافذ المكتظَّة بوجوه النساء.

وعلى مبعدة يسيرةٍ من السبيل اقترب شيخُ الحارةِ من المأمور، ولفت نظره إلى زهيرةَ في نافذتها باعتبارها محورَ المعركةِ الدائرة. ولبث نوح الغراب في مجلسه بالمقهى، أمَّا محمد أنور فقد انقبض صدرُه في دكَّانه وتوقَّع مزيدًا من الشرِّ لا الأمان، على حين راح عبد ربه الفرَّان يتابِعُ الموكبَ بذهولٍ ويقولُ لمن حوله: سنشهدُ قريبًا قيامَ القيامة!

٥٥

وأكثر من مرَّةٍ لاحظت زهيرةُ أن المأمور فؤاد عبد التواب «يصادفها» في السكة الجديدة وهي راجعة من زيارة الحسين. وأكثر من مرَّةٍ لاحظت أنه يثقبها بنظرةٍ حادَّةٍ جامحةٍ جائعة. وغمغمَت لنفسها «حتى المأمور»! وبدا الميدان ساخرًا وحافلًا بالفتن مثل جرابِ الحاوي المليء بالفئران والقطط والثعابين. وهزَّها طرَبُ الخُيَلاء. وتهيَّأَ لها أنها تمتطي نسرًا خرافيًّا يرفُّ جناحاهُ بالقوة والإلهام والخلق. عزيز، نوح الغراب، فؤاد عبد التواب، السحر والحبُّ وقمةُ المجد المكلَّلة بالنجوم. وتتابع نبضُ قلبِها، وعند كلِّ نبضٍ تتشكَّل صورةٌ برَّاقَةٌ تخرِقُ كلَّ مألوف.

٥٦

واستدعى المأمور محمد أنور إلى مقابلة في سريةٍ مطلقة. أجلسه أمامه وقال: لقد رفعتُ رايةَ القانونِ بقوةٍ لم تعرفها حارةٌ من قبل، فهل أتاك الأمان؟

فهزَّ محمد أنور رأسه في حيرةٍ وقال: لا أدري.

فقال فؤاد عبد التواب بتسليم: صدقت، أنا مثلُك، الحقُّ أني أخافُ عليك.

فقال محمد أنور بقلق: لا تساوي الحياةُ مليمًا في حارتنا!

– صدقت، قد يقتلك أيُّ وغْدٍ حقير، ماذا يفيدك بعد ذلك لو سحقنا الفتونة واقتلعنا جذورَها؟

– أجل ماذا يفيدني!

فتساءل المأمور: هل تسمع نصيحةً وإن بدت غريبة؟

– ما هي؟

– طلِّق زوجتك!

ذُهِل محمد أنور وتمتم: أنت تنصحُني بذلك؟!

– إنه أشقُّ على كرامتي ممَّا هو على كرامتك، ولكني أخاف على حياتك.

– أكاد أُجَنُّ يا حضرةَ المأمور.

فقال المأمور بدهاء: ما هو إلا إجراءٌ مؤقَّتٌ حتى أُسوِّي الحساب مع الطاغية.

– إجراء مؤقَّت؟

– ثم يعود كل شيء إلى أصله!

تفكَّر محمد أنور مليًّا، ثم قال: سأفكِّر في الأمر بكل جدية.

٥٧

رجع محمد أنور إلى بيته وهو يتخبَّطُ في اليأس. ومن جوف اليأس دهمَه إلهامٌ مباغت، فقال لزهيرة: اجمعي ما خفَّ وغَلا، سنهرُب الليلةَ بعد أن تنامَ الحارة.

ذُهِلَت زهيرة وتمتمت: نهرُب!

حتى المأمور نصحني بأن أُطلِّقك!

– المأمور؟!

– اعترف بعجزه عن حمايتي فلم يبقَ إلا الهرب.

فطنت إلى ما وراء نصيحة المأمور، ولكنها لم تدرِ كيف تتصرَّف مع زوجها. تساءلت بارتياع: أين نذهب؟

– بلاد الله واسعة، معي مالٌ لا بأس به، سننشئ عملًا جديدًا.

يا للشيطان! يريد أن يبدِّد أحلامها بضربةٍ واحدة؛ كي تصبحَ طريدة، ولكي ترتبطَ به إلى الأبد، كي تئد القوةَ والوجود، كي تذوبَ في عتمة الشقاءِ مثل سماحة. ومن يدري فقد تُضطرُّ إلى العمل بيدها من جديد مثل المتسوِّلات؟ ألَا فليهرب الجبانُ وحدَه! فلْيختفِ من حياتها إلى الأبد!

– لا تضيعي الوقت.

فقالت بفتور: بل فكِّر في الأمرِ مرتَين.

– فكَّرت مائةَ مرَّة فلم يبقَ إلا الهرب.

– كلَّا.

– كلَّا!

– إنه مستحيل.

– إنه ممكن، ستعرفين ذلك قبل طلوع الفجر.

فقالت بعناد: كلَّا.

فرمقَها بذهولٍ فقالت: إنه التشردُّ والضياع.

فقال بارتياب: لديَّ ما يكفينا.

– كلَّا.

– ألَا ترَين أني ها هنا مهدَّدٌ بالقتل؟

– لقد أخطأتَ وأنت تعرفُ ذلك!

– ما من حيلةٍ أخرى كانت بوسعي!

– وما ذنبي أنا؟

فقال بنبرةٍ جنونية: على الزوجة أن تتبعَ زوجَها!

فتبدَّت صلبةً نافرةً متحفِّزةً للتملُّص والمقت، ثم قالت: ليس في وسعك أن تحميني!

فضرب صدره بقبضته وهتف: أيتها الأفعى!

وبحركة غريزيةٍ تراجعَت إلى النافذة، فهتف: تريدين أن تلعبي لعبتك القديمة!

وقرأت الموتَ في صفرة نظرتِه اليائسةِ وتكوُّرِ قبضته وتصلُّبِ عوده، فصرخَت بأعلى صوتها مستغيثةً من النافذة، على حين وثب نحوها كالنمر.

٥٨

كُسِر الباب. تدفَّقَ إلى الداخل نوح الغراب، المعلم عزيز، وجبريل الفص شيخ الحارة. تراجع محمد أنور. سقطت زهيرةُ مغمًى عليها. دَوَّى صوتا جلال وراضي.

شُغِل الرجالُ بإعادتها إلى الوعي. أفاقت. اختفى محمد أنور تمامًا. نظر نوح الغراب إلى جبريل الفص نظرةً ذاتَ معنًى، فقال شيخ الحارة بنبرةٍ رسمية: جريمةُ شروعٍ في القتل وهرَب!

فتمتم عزيز: يكفي أنه هَرَب.

فتساءل نوح الغراب: والجريمة؟

وقال جبريل الفص: الجريمةُ واضحةٌ مثلَ الشمسِ ونحن شهودُها!

وقال عزيز مخاطبًا زهيرة: أدعوكِ إلى البيات عند أمي هذه الليلة!

٥٩

اختفى محمد أنور دون أن يطلِّقها. سرعان ما رجعت إلى شقتها. ثملت بادئَ الأمرِ بشعور الحرية، ثم آمنت بأنها ما زالت مشدودةً إلى زوجها برباط الزوجية. رغبت بشدة في الانطلاق، واجتاحتها نفثاتُ الأحلامِ الذهبية.

صمَّمت على ألَّا تضيع دقيقةً من حياتها. وزارت المعلم عزير سماحة الناجي وقالت له: هربَ وهو الآن يمارس انتقامه من بعيد.

أدرك عزيز ما تعنيه. وجد فيه عذوبةً وسحرًا. ثمل بالغبطة والأمل.

سألها: كيف تتيسَّر لكِ الحياة؟

– إيراد البيت يوفِّرُ لي عِيشة الكَفَاف.

فقال برِقة: لستِ وحيدةً فثقي من ذلك.

فحنت رأسها امتنانًا وقالت: الشكر لك، ولكني أُريد أن أؤمِّن حياةَ الطفلَين.

فتساءل وقلبه يخفق: ماذا عندكِ من رأي؟

فقالت بجرأة: أُطالبُ بالطلاق باعتباره مجرمًا هاربًا.

هكذا انفتحَ أمامه بابُ المجهول عن مغامرةٍ مزلزلة، فقال: علينا أن نُفكِّر في ذلك.

٦٠

وشُغِل المعلم عزيز بمتابعة محاكمة محمد أنور غيابيًّا وتوكيلِ محامٍ للمطالبة بالطلاق، وظلَّ قلقًا معذَّبًا بين رغبتِه وبين سمعتِه، بين قلبه وبين احترامه لأُلفت وصديقه محمد أنور، على حين تتابعت الأحداثُ من وراء ستارٍ معلنةً عن أهوائها الحارَّةِ الجنونية.

٦١

وجاء أولُ طارقٍ في الليل. فتحتِ الشُّرَّاعة فرأَت شبحًا، وشمَّت رائحةً مثيرةً للحنان والتقزُّز. تساءلت بريبة: من في هذه الساعة من الليل؟

فجاءها الصوت القديم قائلًا: عبد ربه الفرَّان.

تحرَّكت أعماقها بالرغبة والغضب معًا. هربت من ضعفها متسائلةً بِحِدَّة: ماذا تريد؟

فقال بنبرةٍ مخمورةٍ متوسِّلة: لنرجع إلى حياتنا.

– مجنون وسكران.

– أنا زوجُك الوحيد.

– اذهب وإلا ناديت الناس.

أغلقت الشُّرَّاعَة وهي تموج بالغضب والمقاومة.

٦٢

تسلَّل إلى بابها في نفس الليلة جبريل الفص شيخ الحارة. دخل متلفِّعًا بالحذر والخوف، وسرعان ما قال عقب جلوسه مباشرة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ولكن لا مفرَّ من إبلاغ الرسالة.

قالت وهي تخمِّن ما وراءه كما تخمِّن مخاوفَه: هاتِ ما عندك.

– حضرة المأمور يطلب يدَك!

صدق التخمين. إنه يخشى في الوقت نفسه أن يفطن نوح الغراب إلى دوره. ولكن ما المأمور؟ ماذا يستطيع أن يعطيها إلا اسمًا ومظهرًا فارغَين؟

ربما كان عزيز أفضل الثلاثة، ولكن نوح الغراب قوة لا يمكن تجاهلها، وهو أيضًا القوة الحقيقيةُ والسيطرةُ غيرُ المحدودة.

– ما قولك يا ست زهيرة؟

– هل يسكت نوح الغراب؟

– المأمور متكفِّلٌ بأمره!

فقالت بمكر: لي طفلان، دخلي محدود، والمأمور متزوِّج وأب.

– هو أدرى بطاقته.

فتردَّدت قليلًا، ثم قالت: وأنا أدرى بما أريد!

فتساءل جبريل الفص: تُفضِّلين أن تكوني خليلةً للغراب على أن تكوني حليلةً لحضرة المأمور؟!

فهتفت بحِدَّة: إني أشرفُ هانم في الحارة!

٦٣

قبل أن يذهب جبريل الفص جاءت أم هشام الداية فأخفتها في حجرة أخرى. ولمَّا خَلَت إليها قالت العجوز: لا شيء يقف في سبيلنا الآن.

فقالت زهيرة: نوح الغراب على العين والرأس، ولكنه متزوِّج من أربع!

– تحلين محلَّ إحداهن!

فقالت بكبرياءٍ حادَّة: زهيرة لا تكون ضرَّةً لامرأة!

فتساءلت العجوز بدهشة: يُطلِّق الأربع؟!

فقالت بإصرار: هو حرٌّ فيما يفعل وما يشاء!

٦٤

وطلَّق نوح الغراب زوجاته الأربع.

زُلزلت الحارة بالخبر، كما زُلزلت به أسراتٌ أربع، وتردَّد اسم زهيرة على الألسنة كأنشودة للجبروت والقسوة. تلقَّى المأمور الخبر فعضَّ عل شفته، وعلم به عزيز فذُهِل، ولكنه انطوى على أساه في صمت.

ومن المصادفات أن جاء خبر موت رمانة في سجنه في يوم الزِّفاف، وفي اليوم نفسه انتحرت رئيفة هانم حزنًا على رمانة مشعلةً النارَ في نفسها!

وسارت زفة نوح الغراب في موكب ضخم، وفي أمان من عهود الصداقة بينه وبين فتوات الحارات المجاورة. غير أنه حدثت مفاجأةٌ في الدرَّاسة لم يتوقَّعها أحد؛ إذ تحرَّش فتوة العطوف بالزفَّة خارقًا العهد والذمة.

كيف حدث ذلك؟ ولماذا حدث؟

على أي حال نشبت المعركة دامية. وسرعان ما ظهرت قوات من الشرطة كأنما كانت متربِّصةً للحظةٍ مناسبة.

عملت القُوَّات على فضِّ المعركة بلا هوادة.

وإذا برصاصة تُصيب العريس فترديه قتيلًا.

٦٥

اشتعلت الحارة بالخبر. شيَّعت فتوتها في جنازة مهيبة. وفزعت زهيرة للخبر أيضًا. فزعت أكثر ممَّا حزنت. اغتمَّت لاقتران زفافها بالفجيعة.

أسفت لأنها لم تستمتع بالفتونة إلا ساعات. تقوَّل الحاسدون — وما أكثرَهم —‏ بأن زيجتَها الجديدةَ صادفت مصيبتَين وجرَّتْ ستَّ مصائب.

صادفت موتَ رمانةَ وانتحارَ رئيفة. وجرَّت القضاءَ على محمد أنور، وتطليق أربع نساء، ومصرع نوح الغراب؛ فأيُّ شؤمٍ يسير بين يدَي هذه المرأة الجميلة التي لا يقف طموحُها عند حد! اكتأبت لذلك، ولكنها صرفته عن بالها بإرادةٍ من حديد. وحسبت الثروة التي ستئولُ إليها ببهجةٍ عميقةٍ استقرَّت تحت قشرةِ الحِداد. سرعان ما أفاقت من الصدمة فغمرها الارتياح. ها هي تتمتَّع ببعض جاه الفتونة دون أن تؤدِّي ثمنها لرجلٍ لم تشعر نحوه بأي عاطفةٍ طيبةٍ قط.

الأجدرُ أن تعترفَ بأنه قُتِل في اللحظة المناسبة قبل أن ينتهكَ حرمة جسدها الجميل. وإنه لقي الجزاء الذي يستحقه كلُّ طاغيةٍ قذِر. وأيُّ امتهانٍ كان يلحق بالناجي العظيم إذا استسلمَت حفيدته الرائعة لمجرمٍ فاسدٍ في لباس فتوة؟ وقالت إنه لا ملامة عليها إلا إذا ليمت ريحٌ أبية لاقتلاع شجرةٍ خاويةٍ نخرها السوس.

٦٦

وجرى همس متوتِّر بأن المأمور فؤاد عبد التواب يكمنُ وراء التدبيرِ المحكم الذي انتهى بهلاك نوح الغراب، وأنه أزاحَه من طريقه لا دفاعًا عن الأمن، ولكن طمعًا في الاستحواذ على زوجته الفاتنة زهيرة.

وضاعف من سوء الظنِّ به تدخُّلُه العجيبُ لمنع اختيار فتوة جديد للحارة، فمضت الحياةُ في الحارة بلا فتوة يضبطُها لأول مرَّةٍ في حياتها الطويلةِ العريقة، وشعر الناس بمذلَّةٍ لم يشعروا بمثلها من قبل.

وتساءل المتسائلون متى يحسر المأمور القناع ويتقدَّم للزواج من زهيرة؟!

٦٧

واستأذن شيخ الحارة في مقابلتها. أدركت في الحال ما وراء المقابلة. بدَت فاترةً حِيالَ المأمور. إنها اليوم أغنى من المأمور وقسمه جميعًا. عزيز سماحة الناجي لؤلؤة ثمينةٌ صالحة لتتويج أحلامها. عيبه أنه سيد محترمٌ نبيلٌ ورث عن جدِّه نبله دون قوته وجرأته. لقد عشق الجَد ذات يومٍ امرأةً يتنافسُ فيها ابناه، فأدَّبَ الابنَين وتزوَّج المرأة! أمَّا عزيز فعاشقٌ يكتم الحب، ينطوي عليه، يتجنَّب الخطأ، ويتوغَّل في العمر. ربما كان بوسعها أن تسحرَه وتملكه، ولكن ما جدوى ذلك وثمة رجلٌ عنيدٌ مجرمٌ ‏— المأمور— لا يتورَّع عن أن يدبِّر لعزيز مثلما دبَّرَ لنوح الغراب؟!

آه يا نسمة الأمل المضيء الهائمة فوق السحاب!

٦٨

وقالت لجبريل الفص: ليكن معلومًا أني لا أرضى بضَرَّة!

فقال شيخ الحارة: معروفٌ أن زوجة المأمور تكبره مثل أُمٍّ، وهي غنية، فهل تسدين الفراغ؟

– ماذا يوجب عليَّ ذلك؟

فقال شيخ الحارة محذِّرًا: إنه مصيبةٌ من مصائب الزمان.

غضِبَت. كتمت غضبها تمامًا. نشط خيالها وتصلَّبت إرادتها. تظاهرَت بالاستسلام وهي تقول: لينتظر العدَّةَ وعند الله التوفيق.

فتهلَّل وجهُ شيخ الحارة وتمتم: الحمد لله رب العالمين!

٦٩

لم تفرِّط في دقيقةٍ بلا عمل. اقتحمت حجرة المعلم عزيز مثل نسمة ثملة بالندى والعطر. أنيقة حزينة المظهر، ذات نظرةٍ فاتنةٍ مبتهلة. لمحَت تورُّد وجهِه، واختلاجَ عينَيه، وجيشانه بالانفعال، فقالت بنعومةٍ مستغيثة مؤثِّرَة: ما حيلتي وليس لي في الضيق سواك؟!

ها هو يعترف بالحب كل شيء فيه إلا لسانه. قال: أهلا بك يا زهيرة هانم!

– فانتشت بالأدب وتساءلت: ماذا أفعل؟ هل أستسلم للمأمور السفاح؟

فتساءل عزيز مستنكرًا: طلبَ يدَك؟

– بلا حياء.

قطَّبَ الرجل، فقالت: أيُّ خاتمةٍ لامرأةٍ سيئةِ الحظِّ لم تحظَ مرَّةً واحدةً بحرية اختيارِ شريكِ حياتِها.

فقال بتأثُّرٍ واضح: لا ترضَي بما تكرهين.

– أعترف لك بأني أخشاه!

فقال بحِدَّة: كلَّا!

– إنه مجرم كما يعلم الجميع، هو الذي قتل نوح الغراب.

– مجرمٌ قتلَ مجرمًا!

فقالت بهدوء: أجل، لو استجوبت الداخلية رجالَ العطوف لوقفت على الحقيقة.

ونظرت إليه مليًّا، ثم قالت: القضية تتطلَّبُ رجلًا محترمًا يمكنُ أن تُسمع كلمتُه في الداخلية!

وانجابَت سحابةُ الصيف عن وجه الشمس المنير.

٧٠

صدر أمرٌ مفاجئٌ بنقل المأمور فؤاد عبد التواب إلى الصعيد. خلَت السماءُ من نُذُر العواصف المهلكة. وتربَّع صيفٌ مزدهرٌ بالبطيخ والشمَّام والعنب. سرعان ما وثب إلى الفتونة سمكة العَلَّاج. أمَّا زهيرة فقد أسكرتها الخيلاء، فآمنت بأنها الفتوةُ الحقيقيُّ وراء الأحداث. قالت أنا العقل، أنا الإرادة، أنا الجمال، أنا الفوز. رمقت جلال وراضي بحنانٍ وهمست: ليكن مجدكما فوق كلِّ مجد!

٧١

وبادرت إلى زيارة المعلم عزيز الناجي لتشكره، فقالت منشرحةَ الصدر: هكذا يكون الرجال وإلا فلا.

فابتسم الرجل المفتونُ وتمتم: يسعدُني أنك سعيدة.

فقالت بدلال: نجوت من الوباء مثل جدنا العظيم.

ثم بحزن: أمَّا السعادة ..

فرنا إليها مستطلِعًا، فقالت: ما هي السعادة حتى يحقَّ لنا أن نَدَّعيها؟

– لعلها تُعرف بالفطرة!

– متى يمكن أن تصف امرأةً مثلي بأنها سعيدة؟

فقال مخفيًا اضطرابَه: لا ينقصك اليوم شيء.

فقامت في رشاقة. نظرت إليه طويلًا حتى ذابت إرادته أو كادت. قالت وهي تمضي: ينقصني أهمُّ شيءٍ في حياة الإنسان!

٧٢

استسلم المعلم عزيز لقدره، أقرَّ لضعفه بالقوة الخارقة، كأنه السورُ العتيق، كأنه بوابةُ التكية. كما وقع لجده ذات ليلةٍ في الخمَّارة. وأغربُ الجنون ما يصيبُ المرء في كهولته. استرق النظر طويلًا إلى أُمِّه عزيزة طويلًا وهو منفرد بها في جناحها. تمتم: أُمِّي.

قالت وهي تشعر بغرابة الجو: هاتِ ما عندك.

فقال بهدوء: تشاءُ إرادةُ الله أن أتزوَّج مرَّةً أخرى.

ذُهِلت الهانم. رَنَت إليه طويلًا. تساءلت: حقًّا؟!

– أجل.

– من؟

قال بعد تردُّد: زهيرة!

هتفت عزيزة محتجَّة: كلَّا!

– هي الحقيقة.

فهتفت: الأفعى!

فقال بتوسُّل: أُمِّي لا تتسرَّعي في الحكم!

– الأفعى!

– طالما أحببتها يا أمي.

– وطالما أَحَبَّتها أُلفت، ولكنها أفعى!

– إنها امرأةٌ سيئةُ الحظ.

فابتسمت عزيزة في حزنٍ وتمتمت: رئيفة أخرى.

فقال بتوسُّل: لا تأخذي بالظواهر.

– كيف سحرَتك يا سيد العقلاء؟

– أُمِّي، إني أدري ما أفعل تمامًا.

فتأوَّهت الأمُّ وتساءلت: وأُلفت الأصيلة؟

فقال بتصميم: ستظلُّ سيدة الدارِ وأُمَّ الأبناء.

– تُرى ألَا زلت تحترم أُمَّك؟

– كل الاحترام يا أُمِّي.

– إذن فاعدِل عن رأيك!

فقال بأسًى: لا أستطيع.

– سحرَتك يا بني.

– من حقي عليك أن تسعدي لسعادتي.

– أنسيت ما حصل لعبد ربه ومحمد أنور ونوح الغراب؟

فقال باستياء: ظلموها جميعًا!

– كانت هي الظالمة، وإنك تهب نفسك للشقاء.

فتمتم بهدوء: إنما الأعمال بالنيات.

فقالت عزيزة بحنق: هذه الوضيعة الخسيسة.

فقال محتجًّا: أصلنا واحد يا أُمَّاه!

– أصلكم الذي تفخرون به هو الخير لا الدم! ما حصل لعبد ربه ومحمد من أصلكم. ألم يكُن رمانة قاتلَ أبيك من أصلكم؟! ألم يكُن وحيد من أصلكم؟

قال بهدوء: ما قُدِّر كان.

٧٣

زُفَّت زهيرة إلى عزيز قرة الناجي. قاطعت عزيزة هانم الفرح. لم تعترف به، وعاشت في الدار مع أُلفت والأبناء في كَدَرٍ أبدي. وابتاع عزيز دار نوح الغراب من ورثته فأهداها إلى زهيرة. جدَّد أثاثها ورِياشها وتُحَفَها جاعلًا منها عُشَّ حُبِّه الخالد. وقد احترم حقوق أُلفت هانم كاملةً، لم يضِنَّ عليها وعلى أولادها بالرعاية المثالية والحبِّ الوقور، غير أنه لم يعرِف الحبَّ الحقيقيَّ إلا في مغيب كهولته.

٧٤

ونعمت زهيرة بشعورٍ رهيفٍ خياليٍّ مثل الإلهامِ المشرق، هو الفوز في جلاله والحلم في أُبَّهَته وكماله. الدار والثروة والجاه وسيد الوجهاء. لم تبتئس بغضب عزيزة ولا حزن أُلفت، وإن كان ثمة كبرياءٌ فهي سيدة الكبرياء وأحقُّ الناس بها بما وهبها الله من جمالٍ وذكاء. آمنت بأنها فتوة في إِهَابِ امرأة، وأن الحياة المقدَّسة لا تمتثَّل إلا للأقوياء. ولأول مرَّةٍ تجد بين يدَيها زوجًا تحترمُه وتعجب به ولا تفرِّطُ فيه، أمَّا الحبُّ فطالما قهرته في سبيل ما هو أعظمُ وأجل، وطالما قالت لنفسها: «لستُ امرأةً ضعيفةً مثل غيري من النساء.»

واستمتعت بجاهها بكل سبيل؛ فعند الأصيلِ تتوسَّطُ الدوكار مُجلسةً جلال وراضي في المقعدَين أمامها، ويمضي الدوكار على مهل مجلجلًا برنين جرسِه الفضي، وهي متسلطنة كملكة، تومض عيناها الساحرتان من وراء الياشمك. والناس يتطلَّعون إليها في إعجابٍ وحقدٍ وذهول. تتذوَّق جمال اللحظة في أناةٍ واستيعاب، منتشيةً بإلهامٍ سامٍ مُجَنَّحٍ يجعل من الدنيا ماسةً في أصبعها، تعكس صورتَها المليحةَ الفاتنة.

وتزور الحسين، وتُسَر بتجمهرِ الشحَّاذين حولها، وتهب العطايا والصدقات.

٧٥

وأنجبت لعزيز ذكرًا أسماه شمس الدين، فازدادت الدنيا جمالًا وكرمًا. وعلى حين مضت هي تتألَّق جمالًا وشبابًا، مضى المعلم عزيز ينحدرُ نحو شيخوخةٍ مبكِّرة‏. وعاملت أسرتها بكرمٍ فاق كلَّ تصوُّرٍ، فعاشت أُمُّها وأخواتُها حياةً رغدة. وحيَّرها سؤالٌ لحوح؛ ماذا عليها أن تفعل كي تخلق لنفسها سيرةً فذَّةً لم تحظَ بها امرأةٌ من قبل؟!

٧٦

وذات مرة غادرت جامع الحسين كالعادة وسط مظاهرةٍ من الشحَّاذين والمجاذيب. أجلست جلال وراضي على مقعدَيهما، وهمَّت بالصعود عندما سمعت صوتًا قريبًا يهمس: زهيرة.

نظرت نحو الصوت فرأت محمد أنور يطالعها بوجه الموت. انذعرت مندفعةً نحوَ الدوكار، ولكنَّ الرجلَ رفع عصًا غليظةً وهوى بها بكل قوته على رأسها النبيل الجميل فتهاوت على الأرض صارخة. وظلَّ يضرب الرأس بوحشيةٍ حتى هشَّمَه تمامًا غيرَ مُبالٍ ببكاء جلال وراضي.

لم يبقَ من وجه البهاء والجمال إلا عظامٌ مُحَطَّمَةٌ غارقةٌ في بركةٍ من الدم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤