سارق النغمة

الحكاية التاسعة من ملحمة الحرافيش

١

كُتبت لسماحة شمس الدين جلال الناجي النجاة من الموت. استعاد صحته رويدًا، ثم استردَّ قوته. وأضافت المعركة الأخيرة إلى وجهه تشوُّهات جديدة، فانقلب ذا وجه قبيح يُنذر بالشر والإرهاب. وتبوَّأ الفتونة دون منازع، فبشَّرت فتونته بسيطرة غير محدودة. وسُرَّت نور الصباح العجمي أمه بحظها، وبانتصارها الحاسم على ضرتها سنبلة بنت الفتوة السابق سمعة الكلبشي.

ورجعت سنبلة إلى أبيها العاجز حيث أنجبت وليدها ابن شمس الدين الذي أسمته فتح الباب باسم جدها لأمها. واقتسمت ثروة شمس الدين بين ابنَيه سماحة وفتح الباب وأرملته سنبلة. وصار سماحة وصيًّا على أخيه بحكم القرابة، ولم ينازعه أحد في ذلك خوفًا من بطشه، هكذا عاد جُل ثروة أبيه إلى قبضته الحديدية. وقال سماحة لسنبلة: لقد هجرتِ أبي، تركتِه يُحتضر وحيدًا، وإنه لظلم أن ترثي بعض ماله، فلا تنتظري مليمًا من مستحقَّات فتح الباب. اعتبري بعضه إتاوةً والبعض الآخر عقوبةً لك!

٢

وخلق سماحة أسطورةً حول ذاته. أذاع أنه ما خاض المعركة ضد الكلبشي إلا دفاعًا عن أبيه رغم ما كان بينهما من خلاف وعداوة، وأن انضمام من انضمَّ إليه من رجال العصابة كان بدافع الشهامة وحدها، ولكن ذلك لم يجُز على أحد. كان قد عرف ما عرف عن ائتماره على فتوته وإغرائه بعض الرجال للانضمام إليه، وأنه انتهز فرصة نشوب المعركة بين أبيه والكلبشي لينفِّذ مؤامرته دفاعًا عن أبيه. بل لقد اتُّهم من بعض كارهيه بأنه لم يدافع عن أبيه شمس الدين كما يجب، وأنه سُرَّ لوفاته، غير أن شيئًا من همساتهم لم يبلغه، وظلَّ مزهوًّا بالأسطورة التي خلقها. وانداحت فتونته على الحارة كجبل شاهق، ولكنه أدَّب فُتوات الحارات فرفع منزلتها في الحي جميعه، وأرجع إليها الهيبة والجلال. وأنشأ بماله ومال أخيه فتح الباب دارًا جميلةً أقامت بها نور الصباح العجمي أمه، أمَّا هو فكان يتنقَّل ما بين البوظة والغرزة وبيوت العاهرات.

٣

ومات سمعة الكلبشي فورثت سنبلة عنه ثروةً لا بأس بها كان لها من الأخوات عشر. وما لبثت أن تزوَّجت من كاتب في بنك الرهونات. ولم يلقَ فتح الباب ترحيبًا من زوج أمه، وضاق به أكثر عندما أنجبت له سنبلة بنين وبنات. نشأ الغلام في جوٍّ حزين، فكان يلوذ بأمه ويتجنَّب رب البيت، وضاعفت حساسيته من ألمه ووحدته، ولم يشفع له تفوُّقه في الكُتَّاب ولا حسن خلقه ووداعته؛ لذلك ما إن بلغ التاسعة حتى مضت به سنبلة إلى الفتوة سماحة وقالت له: هذا أخوك فتح الباب وقد آن له أن يعيش تحت جناحك.

وتفحَّصه سماحة فوجده جميلًا رقيقًا حزينًا، ولكنَّ قلبه لم يرِقَّ له، وقال: ماله يبدو جائعًا؟!

فقالت سنبلة: كلا، لكنه غلام رقيق.

– لا يُصدِّق من يراه أنه وُلد من صُلب فتوات من ناحيتَي أمه وأبيه!

– هكذا هو!

فقال محاولًا التخلُّص منه: لك أن تحتفظي به.

فاغرورقت عيناها وقالت: لا يوفِّر بيتي له السعادة.

واضطُر سماحة إلى احتضانه، ومضى به إلى أمه نور الصباح، ولكنها كرهت إيواءه وقالت لابنها: لم تعُد لي طاقة على رعاية الأطفال.

الحق أنها أبت تربية ابن ضرتها سنبلة. وحار سماحة ماذا يفعل، وتجرَّع الغلام الذل والأسى بصبر. وعند ذاك تطوَّعت عجوز من صديقات نور الصباح باحتضانه. تلك كانت سحر الداية، أرملة بلا ذرية، ومن سلالة الناجي. وكانت تقيم في بدروم من حجرتَين بإحدى عمارات جلال صاحب المئذنة، وكانت طيبة القلب ومعتزةً بأصلها، فلقي فتح الباب في رحابها أول حياة دافئة خالية من الكدر، وأعانه ذلك على تحمُّل فراق أمه سنبلة.

٤

ورأى سماحة الفتوة ذات يوم فتاةً جميلةً وصغيرةً فأعجبته. لم تكن في متناول اليد كغيرها من نسائه. رآها في دوكار وعرف الدار. وآنس من وجهها الحَسن أُلفةً تنم عن تقارب روحي خفي ما لبث أن كشف أسبابه. تبيَّن له أنها فردوس حفيدة المرحوم المعلم راضي محمد أنور من زهيرة، أخي جلال صاحب المئذنة. وكان إعجابه شهوةً ورغبةً في الامتلاك، ولكنهما كانا من القوة بحيث جعلاه يفكِّر في الزواج جادًّا لأول مرة في حياته البهيمية. وأغراه بها إلى ذلك ملكيتها لمحل الغِلال وانتماؤها مثله لآل الناجي. وقد دُهشت أمه عندما طلب إليها أن تخطبها له، ولكنها سُرَّت لذلك سرورًا لا مزيد عليه. وقال لها سماحة وهو يقهقه: حسبي وحسبها أننا ننتمي إلى زهيرة الجميلة المجنونة قتَّالة الرجال!

وكان قبحه وسلوكه جديرَين برفضه، ولكن من ذا الذي يرفض يد فتوة؟!

٥

زُفَّت فردوس إلى سماحة. الْتحم ذو الوجه القبيح بذات الوجه العذب. وقد كان جميلًا ذات يوم، ولكن النبابيت أعادت خَلق وجهه. أمَّا اعتزازه بأصله وفحولته فلا حدود له؛ فرغم كل شيء نجح الزواج وجاد بسعادة ساخنة.

وبفضله أصبح سماحة مديرًا لمحل الغِلال ومالكه الفعلي. ومن حجرة الإدارة استلَّت إرادةٌ من صوان تتصرَّف في شئون المال والمعارك معًا. ووهبه الزواج عطايا من العذوبة والنضارة، ورغدًا من حياة القصور وأساليب المعيشة الرفيعة، وإطارًا ثريًّا من الرياش، والْتحف ومباهج الترف. ولم ينقطع عن العربدة ولكنه وفَّرها لعشه الشرعي، فانتقلت إلى القائمة المذهَّبة الجوزة والقرعة. وعلَّمه محل الغِلال وأُبهة الإدارة حب المال وجمعه، فقرَّر أن يعيد سيرة جده جلال صاحب الخوارق المجنونة، وأن يفرض سيطرته ‏— بعد الناس — على الأشياء الثمينة.

٦

وأثبتت فردوس أنها ذكية بقدر ما هي حسنة الحظ. لقد أحبَّت زوجها، ومضت تُنجب له ذريةً من خَلْق الحب ودفئه. فلم تألُ جهدًا في تهذيبه وامتلاكه بتسلُّل عذب لا تحَدِّي فيه ولا كبرياء. لم تكن تحترم الفتونة، ولكنها لم تُنكر مزاياها. وكسائر آل الناجي كانت تُنوِّه بذكريات الفتونة الأسطورية القديمة، بعدالتها ونقائها، ولكنها في الوقت نفسه — بحكم انتمائها إلى الوجاهة — تنفر من تلك الفتونة النقية التي تؤثر الفقر والبطولة، وتشكم السادة والوجهاء.

وإذن فلتبقَ الذكرى موضعًا للتبرُّك والفخر، ولتبقَ فتونة اليوم واقعًا يحقِّق القوة والسيادة والثراء. وما من بأس على سماحة أن يفعل ما يشاء تحت شرط أن يفعله في دارها، وفي غشاءٍ من خيوطها الذهبية المحكمة.

وتمر الأيام وهي سعيدة بحياتها، والأغنياء يزدادون غنًى، والفقراء يزدادون فقرًا.

٧

واصل فتح الباب تعلُّمه في الكُتَّاب وحفظ ما تيسَّر من القرآن. طابت نفسه بجو الحنان في مقامه الجديد فانزاح غطاء الخوف من نفسه عن كنوز من عواطف غنية وخيال بديع. غلام قمحي اللون، أسود العينَين، رائق البشرة، في ذقنه ثغرة، وفي قدِّه رشاقة، ينضح بالعذوبة والفطنة. تناسى أمَّه كما تناسته، وتعلَّق بسحر الداية قلبه. أحبَّها وقدَّسها، وتلقَّى منها أنوارًا لم تخطُر له على بالٍ.

كانت تقول له في ليالي السمر: نحن من أصل واحد مبارك هو عاشور الناجي.

طالما تحدَّثت بيقين عن ماضٍ غابر كأنما كانت حقًّا تتنفَّس فيه.

أنبل الأصول كان أصله، وخاف عليه أبوه من غضب فتوة ظالم، وجاءه في المنام من أمره بأن يترك وليده في الممر في رعاية التكية، وما تردَّد أن فعل.

ولعن فتحُ الباب مَن تقوَّلوا على جده بأنه كان لقيطًا، فقالت سحر: من أنبل الأصول كان أصله، وقد ترعرع في أحضان رجل خير، ونما شابًّا قويًّا. وذات مرة أمره ملاك في المنام أن يهجر الحارة اتقاءً للوباء، ودعا الناس إلى الهجرة ولكنهم سخروا منه، فمضى محزونًا بزوجه وولده، ولمَّا رجع أنقذ الحارة من العذاب والذل، كما أنقذه الله من الموت.

وراحت تحكي له قصة عاشور؛ عودته، مقامه في دار البنان، فتونته، عهده، حتى امتلأت عينا الصبي بالوجد والدموع، فقالت سحر: وقد اختفى ذات يوم، وطال اختفاؤه حتى آمن الناس بموته، أمَّا الحقيقة التي لا شك فيها فهي أنه لم يمت.

فسألها فتح الباب بدهشة وأمل: حتى الآن يا جدتي؟

– وحتى الغد!

– ولمَ لا يرجع؟

– عِلم ذلك عند الله وحده.

– قد يرجع فجأة؟

– لمَ لا؟!

– هل علم بما فعل أخي سماحة؟

– طبعا يا بني.

– ولمَ سكت عنه؟

– من يدرى يا بني؟

– هل يُرضيه الظلم يا جدتي؟

– كلا يا بني.

– لم يسكت عنه؟

– من يدري يا بني؟ ربما لسخطه على تهاون الناس مع الظالم؟

وسكت فتح الباب مليًّا، ثم عاد يسأل: كل ذلك حقيقي يا جدتي؟

– هل كذبَت جدتك قط؟!

٨

ويذهب فتح الباب إلى الكُتاب ويجيء. يرى جدَّه عاشور في كل مكان. إنه ينبض في قلبه وخياله، ويشتعل في أشواقه وآماله. يراه في الزاوية والسبيل والحوض، يراه في الممر وفي الساحة أمام التكية. طالما نظرت عيناه إلى هذا السور العتيق، إلى هذا الباب المغلق، إلى أشجار التوت الفارغة، كما ينظر هو إليها الآن. ما زال الجو مخضلًّا بأنفاسه ونجواه، ورغائبه وأحلامه، وسره مطوي في الغيب لا تكشفه هذه الأشعة السائلة. حتمًا سيجيء ذات يوم. هكذا تكلَّمت جدته الصادقة. سيلوح بعصاه العجراء فيتلاشى سماحة ذو الوجه القبيح. يتلاشى بظلمه الأسود وجشعه الأحمر وماله المكتنز. ويهلِّل الحرافيش ليوم الخلاص ويُسبِّحون في بحر النور. وتتقوَّض مئذنة الجنون فتتراكم أنقاضها فوق الغدر والخيانة والسفه. أم إنه يتجاهلنا لتهاوننا مع الظالم حقًّا؟ إنه يحب جده، ‏يود أن يحظى برضاه. ولكن من أين له القوة وقد خُلق رقيقًا كالخيال؟ من أين له القوة؟!

٩

ولمَّا ناهز فتح الباب المراهقة فكَّرت سحر بمستقبله، وشاورت عم مجاهد إبراهيم شيخ الحارة فقال لها: اختاري له حرفة.

فقالت باعتزاز: إنه من خيرة مَن تَعلَّم في الكُتَّاب.

فسألها الرجل: ألستِ داية فردوس هانم!

فأجابت بالإيجاب، فقال لها: حَدِّثيها بشأنه، ومن ناحيتي سأُمهِّد له عند المعلم سماحة.

١٠

وقالت سحر لفردوس هانم: فتح الباب ولد ممتاز، وهو من دمكم، وأولى الناس بالعمل في محل أخيه.

ورحَّبت الهانم بذلك ووعدت بإقناع زوجها.

١١

وتفحَّص سماحة أخاه فتح الباب بعناية وتمتم بازدراء: رقيق مثل فتاة.

فقالت سحر: هكذا خُلقُ ولكل شيء نفعه.

فتساءل ببرود: وما نفعه؟

– يحفظ القرآن، يكتب ويعرف الحساب.

فتحوَّل نحو الفتى وسأله متهكِّمًا: أأمين أنت أم طويل اليد مثل بقية الأسرة المجيدة؟

فقال فتح الباب بحرارة: إني أخاف الله وأُحب جدي.

– جدك جلال صاحب المئذنة؟

– جدي عاشور الناجي!

قطَّب سماحة وتغيَّر وجهه، فبادرت سحر تقول: إنه طفل بريء.

فقال سماحة بوحشية: جدك عاشور أوَّل من علَّمنا السرقة!

ذُهل فتح الباب وتألَّم. خافت سحر أن ينبس بكلمة تسد طريقه فقالت: إني أضمن أمانته وجده والله شهيد.

هكذا أُلحق فتح الباب بالمخزن مساعدًا لأمينه.

١٢

تفانى فتح الباب في عمله. كان المخزن يشغل بدرومًا متراميًا يماثل في اتساعه مساحة المحل كله. تُرمى فيه أجولة الغلال على الأرفف والأرض، ولكنها تتعرَّض لحركة يومية بين المجيء والذهاب، فلم يكن الميزان يكف عن العمل ولا يده تكف عن التسجيل. وبحكم عمله كان يحظى بمقابلة أخيه سماحة مرةً على الأقل كل صباح ليطلعه على حركة الوارد والصادر. وارتاح الفتوة إلى نشاطه ويقظته، ووجد فيه عينًا تلقائيةً على أمين المخزن، وقال له بأسلوبه: إني أشجِّع المجتهد وأبطش بالكسول.

١٣

وعملًا بنصيحة سحر زار نور الصباح العجمي أم معلمه ليقدِّم لها فروض الطاعة. لم يكُن قد بقي من جمالها شيء، وقد رحَّبت به بفتور دلَّ على أنها لا يمكن أن تنسى إساءة. وإذا بها تسأله: كيف حال سنبلة أمك؟

وأجاب بذل: لم أرَها منذ فارقتها لكراهية زوجها لي!

فقالت بحنق: لا عذر لها سوى أنها بلا قلب.

وغادرها مُضمرًا ألَّا يراها مرةً أخرى.

١٤

وبتوجيه جدته أيضًا زار فردوس هانم. وقد عطفت عليه فبهره جمالها وأناقتها. قالت: سمعت عن نشاطك ما يسر الخاطر.

ولكنه لاحظ أنها لم تُعرِّفه إلى أبنائها. لعلها أبَت أن تقدِّم عاملًا بسيطًا مثله بصفته عمهم. وآلمه ذلك ولكنه صمَّم على تجاهله وتناسيه. وغادرها مُعطَّرًا بشذا جمالها وأناقتها، ومضمرًا في الوقت نفسه ألَّا يزورها مرةً أخرى.

١٥

وبالعمل اكتسب ثقةً وعزة. مضى يتشبَّه بالرجال فربَّى شاربه، وطوَّق رأسه باللاثة، وعرف طريقه إلى الزاوية فتوثَّقت صلته بالشيخ سيد عثمان. وكان يجلس في القهوة ساعةً من الليل فيشرب القرفة ويدخِّن البوري، ثم لا يرجع إلى جدته حتى يطوف بالساحة؛ فقد أدركه عشق الأناشيد.

١٦

واضطرمت أعصابه بألم مجهول. وفاض قلبه بالحنين، وتلظَّى بلهب خفي. مناظر النساء سحرته، أصواتهن أرعشت قلبه. ومن أقرانه تلقَّى سيلًا من دعوات الإغراء للتعرُّف إلى البوظة والغرزة وبيوت الدعارة، ولكن الماضي كان يصرخ في أذنَيه محذِّرًا. الماضي المرهق بذكريات المئذنة والانحرافات والشهوات التي قضت على أصالة أسرته. وكأن جدته كانت تقرأ أفكاره فقالت له ذات يوم: آن لك أن تتروَّج.

وطرب للفكرة ووجد فيها الخلاص المنشود.

ولكن سرعان ما اكفهرَّ الأفق وأنذر بعواصف لا تخطر على البال.

١٧

جاءت الهمسات من خارج الحارة حاملةً نُذرًا من نوع غريب. قالت إن فيضان ذلك العام شحيح أو أنه لن يأتي. ما معنى ذلك يا ترى؟ قالت إنها الويلات تتلاحق حتى لا تُبقي على شيء. حقًّا؟ سيندر الطعام، وربما اختفى تمامًا، والعاقل من يُخزِّن اليوم ما يتبلَّغ به غدًا. وعمل بالحكمة القادرون، وترامق الحرافيش وهم يضحكون، ولم يصدِّقوا أنهم سيُحرمون من اللقمة التي ينتزعونها بالعرق، أو يتصدَّق بها عليهم المتصدِّقون.

وامتلأ الجو بالطنين، واصطبغ بصُفرة مُنفِّرة، فزحفت أشباح القلق بالليل والنهار.

١٨

واندفعت عجلة البلاء بلا تدرُّج. ارتفعت الأسعار ساعةً بعد ساعة. تلبَّد الأفق بسحب سوداء. عملت حوانيت الغذاء نصف يوم لندرة الأطعمة. تلاطمت الشكاوى والأنَّات، وتكوَّنت أمام محال الدقيق والفول مظاهرات. لم يعُد للناس من حديث إلا الطعام. لهجوا به في البوظة والغرزة والقهوة. اندلع الشرر فاشتعل نارًا. حتى الوجهاء جهروا بالشكوى، ولكن لم يصدِّقهم أحد، وفضحتهم وجوههم الريَّانة المورَّدة. وقال عنبة الخمَّار: إنه الوباء!

وتمادت الأسعار في الارتفاع وبخاصة الغِلال، وراح سماحة يصيح: لم يَعُد يبقى ما يكفي العصافير!

غير أن فتح الباب قال لجدته ليلًا: ما أكذبه يا جدتي! المخزن ملآن!

وقال لها أيضًا: ما الأسعار التي يفرضها إلا إتاوة جديدة.

فقالت له بإشفاق: احفظ لسانك يا بني.

فقال متألِّمًا: إنه وحش لا تعرف الرحمة قلبه.

١٩

وازداد الجو عبوسةً ودمامة. وامتطت الأسعار الجنون. ندر الفول والعدس والشاي والبن، واختفى الأرز والسكر، وتدلَّل الرغيف. وندَّت عن الأعصاب المرهقة بوادر استهانة؛ فتعدَّدت السرقات، وتعاقب خطف الدجاج والأرانب، وبعض السائرين ليلًا نُهبوا أمام بيوتهم، وانبرى رجال العصابة يُنذرون ويبدِّدون، ويدعون إلى الأخلاق والتضامن بحناجر قوية وبطون مكتنزة.

وكشفت الأيام عن أنيابها الحادة القاسية، وتضخَّم شبح الجوع كالمئذنة المجنونة، فشاع أن الناس يأكلون الخيل والحمير والكلاب والقطط، وأنهم عمَّا قليل سيأكل بعضهم بعضًا.

٢٠

وفي ذلك الوقت البارد الأصفر تصدَّى يوم غريب كأنما هبط من كون آخر؛ فقد زُفَّت إحسان بنت الفتوة سماحة إلى ابن صاحب وكالة الخشب. أُقيم حفل خيالي لم تشهد له الحارة مثيلًا، تحدَّى الزمنَ والجوع. وأعلنت فردوس هانم أنها ستُطعم جميع الحرافيش. وتجمهر الجياع في ساعة العرس.

وما إن ظهرت الصواني على رأس الخدم حتى هجم الحرافيش كالوحوش الضارية. تخاطفوا الطعام وتخالطوا مثل ذرات الغبار في يوم عاصف. وانتشر الشد والجذب والخطف، ثم التلاحم والشجار، حتى امتزج الدم بالمرق. وثمل الناس بالفوضى والشغب، واندفعت موجة منهم إلى البوظة فاكتسحتها. الْتهمت المزة وعبَّت من براميل البوظة، ثم انطلقوا في الحارة مُهلِّلين، وقذفوا بالطوب أشباح الخرابات، وخضعت الحارة للعربدة الهوجاء حتى مطلع الفجر.

٢١

في اليوم التالي تعرَّضت الحارة لحملة تأديب وإرهاب. انتشر فيها رجال سماحة، ومضى الفتوة يقطعها من القبو حتى مشارف الميدان ذهابًا وإيابًا. ولم ينجُ حرفوش من علقة أو إهانة، وتفشَّى الذعر فخلَت الحارة من السابلة، وأُغلقت الدكاكين، وهُجرت القهوة والغرز، حتى الزاوية لم يقصدها عابد في ذلك النهار.

٢٢

وجلس فتح الباب إلى جدته كئيبًا محزونًا، وجعل يقول: جدي عاشور لن يرجع!

فرمقته العجوز بنظرة حزينة فقال: ما زال غاضبًا علينا!

فتمتمت سحر: أيام أشد من أيام الوباء.

– وفي التكية ما زالوا يُنشدون للطرب!

– لعلها دعوات يا بني!

فتساءل فتح الباب بقلق: ألَا يجدر بهم أن يجودوا على الناس ببعض ما عندهم؟

فقالت سحر بحرارة: لا يجوز عتابهم.

– عندهم التوت، والأرض مزروعة بالخضر.

فلوَّحت بيدها محذرة، فقال متنهِّدًا: أمَّا أخي سماحة فهو الشيطان نفسه.

٢٣

في الظلام مرقت ذرة نور. في الصمت اندسَّت همسة حنان. ولم يجاوز السر خرابات الحرافيش. حرصوا على الكتمان ووجدوا في الكتمان حياتهم.

فثمة صُرة حاوية لطعام تُدس في يد أحدهم، تَعقُبها همسة تقول «مِن عاشور الناجي». وسرعان ما يذوب شبح في الظلام. حدث ذلك أول مرة في القبو، ومرةً ثانيةً وقع في الممر، وتكرَّر في الخرابات. وتهامس به الحرافيش. عرفوا بالفطرة أن السر يسعى وراءهم وأنهم المقصودون بالاتصال. تلقَّوا من الغيب لقمة. أدركوا أن معجزةً تتخلَّق في ظلام الليل. أن نافذةً للرحمة قد فُتحت. أن عاشور الناجي أو روحه تضرب فيما بينهم. أن الكون الصلد المصمت تتشقَّق جدرانه ويطل منها مجهول. وجرت الدماء في عروقهم، ونبضت قلوبهم بالحياة من جديد.

صُرة الرحمة وهمسة عاشور الناجي.

٢٤

وبعثت نشوة الفرح حياةً في الألسنة فرقصت على أنغام أمانيها. تردَّد اسم عاشور حتى تجسَّد. لم يُذكر شيء عن الصُّرة، ولكن انتشر أن عاشور يُبعث في ظلام الليل. وسخر رجال سماحة من الخرافة. قالوا إنهم يسهرون الليل فلا يلقَون أحدًا. ودعا سماحة الشيخ سيد عثمان شيخ الزاوية وقال له: جُن الناس من الجوع.

فحنى الشيخ رأسه فسأله: هل بلغك ما يُقال عن عودة عاشور؟

فحنى الشيخ رأسه بالإيجاب فسأله: ما رأيك فيه؟

– لا يُصدَّق.

– لكنه كفر أيضًا!

فقال الشيخ بإشفاق: إنه لكفر.

فقال سماحة بنبرة حاسمة: قُم بواجبك.

وراح الشيخ يخطب الناس مُحذِّرًا إياهم من الخرافة والكفر. وقال الرجل: لو بُعث عاشور حقًّا لجاءكم بالطعام. فسخر منه الحرافيش وازدادوا إيمانًا.

٢٥

انقلب الظلام قناةً سحريةً للاتصال بين الأرواح. ثمل الفضاء بالهمسات السحرية في غفلة من الرقباء. تدفَّقت النجوى مفعمةً بالحرارة. ويتساءل الرجل: أأنت عاشور الناجي؟

ولكن الهامس سرعان ما يذوب في الظلام مثل روح شارد.

همسة تدعو النائم أن يستيقظ. همسة توكِّد أن المخازن مليئة بالخير. همسة تلعن الجشع، الجشع عدو الإنسان لا القحط. همسة تتساءل: أليست المغامرة أفضل من الموت جوعًا؟! وهمسة تنبِّه إلى أنه توجد ساعة ينام فيها رجل العصابة فتتخلَّى عنهم قوتهم. وهمسة تسأل ماذا يمكن أن يقف في وجه الكثرة إذا اندفعت؟ وهمسة تتحدَّى، كيف تتردَّدون ومعكم عاشور الناجي؟!

انقلب الظلام قناةً سحريةً للاتصال بين الأرواح. ثمل الفضاء بالهمسات السحرية. شُحن الغيب بالقوى المجهولة.

٢٦

وكانت ثمة قوة أخرى تعمل بلا هوادة حتى وقفت على سر الطعام والمجهول. وكشف سماحة عن الخزي في صميم محله. وسرعان ما صرخ ضامر الحسني أمين مخزن الفتوة من الرعب وقال بحرارة: إني بريء يا معلم وليشهد الله!

فقال سماحة بوحشية: سُرق من المخزن أكثر من نصفه.

– إني بريء يا معلم!

– إنك مجرم حتى تثبت براءتك.

– لا تخسر رجلًا وهبَ لك حياته لخدمتك!

– معك أنت المفاتيح.

– أُسلِّمها لك كل مساء.

– ولكني أجدها مكانها كل صباح وأُعيدها إليك.

– ممكن أن تُؤخذ فيما بين ذلك وتعاد!

– وأنا لا أدري؟

فقال ضامر الحسني بابتهال: إذا كان السارق ممن يتردَّدون على حجرتك بلا إِذن!

استقرَّت في عينَي سماحة نظرة صلبة محتقنة بالنار كأنما تنادي الشياطين من أوكارها، وتمتم ووجهه ينضح بالدمامة والغل: إن تكن كاذبًا فقد هلكت، والويل للمجرم!

٢٧

من وراء السبيل، في ظلمة كثيفة، تسلَّل فتح الباب إلى باب المخزن. أدار المفتاح بحذر ودفع الباب برقة. وردَّ الباب وتقدَّم خطوات مستهديًا بنور الذاكرة.

اشتعل مصباح فجأةً فألقى على المكان ضوءًا فاضحًا. انذعر فتح الباب وتسمَّر في موضعه. برزت من الظلمة على ضوء المصباح وجوه مخيفة قاسية، وجه سماحة، وجه ضامر الحسني، وجوه نفر من أشِدَّاء العصابة. تلاطمت النظرات في ارتطام عنيف. انغرز الصمت في النفوس، وأز في الآذان مثل فحيح الأفاعي. احترق الجو بأنفاس حارة منطلقة من غرائز بدائية وحشية. وملأته نظرة أخيه. نفذت إلى أعماقه فاقتلعت أعضاءه من جذورها. شعر بالسم يسري في جوارحه، وبالهزيمة المطلقة، بالضياع في غياهب الفناء. انجلت عنه هموم الأمل فخاص في اليأس، وانتظر كلمة القضاء كأنها تخص شخصًا آخر. وجاءه الصوت يسأل باردًا ساخرًا حانقًا: ماذا جاء بك في هذه الساعة من الليل؟

لم يبقَ له إلا الاعتراف والشجاعة والتوكُّل على الله. أجاب بهدوء غير متوقَّع: لقد علمت كل شيء.

– ماذا جاء بك في هذه الساعة من الليل؟

فقال بشجاعة أكثر: جئت لأُنقذ أرواحًا من الموت.

– أهذا جزاء من يحسن إليك؟

فقال بهدوء: هذا ما ينبغي فعله.

– إذن فأنت عاشور الناجي؟!

فلاذ بالصمت، فقال سماحة بغل: ستُعلَّق من قدمَيك في السقف يا معلم عاشور حتى تُصفَّى روحك نقطةً بعد نقطة.

٢٨

ووقعت الواقعة. رسبت الهمسات في أعماق الحرافيش فتحوَّلت إلى قوة مُدمِّرة. اجتاح الحارة طوفان لم تعرِفه من قبل. هكذا قسَّم الحرافيش أنفسهم إلى جماعات، وتسلَّلت كل جماعة إلى مسكن رجل من رجال العصابة. تمَّ ذلك قُبيل الفجر في ساعة النوم العميق. هوجم الرجال في أَسِرَّتهم، دهمتهم الكثرة، غُلبوا على أمرهم، انهزموا، نُهبت دُورهم، زالت عنهم غشاوة السحر مخلِّفةً وراءها عاهات مستديمة. ولم يُسمع أذان الفجر من صياحهم. خرجوا من دُور العصابة كالسَّيل، غمروا الحارة، اقتحموا المخازن، نهبوا كل مخزون بها، دمَّروها تدميرًا. وأول هدف لهم كان مخزن سماحة الفتوة. بل لم يُترك قائم في المحل كله. نُهب الغلال حتى آخر حبة. ورُئي فتح الباب معلَّقًا في عرق من عروق السقف، مُدلَّى الذراعَين، مغمًى عليه أو ميتًا، ففُك وثاقه وطُرح على الأرض بين الحياة والموت. سيطروا على الحارة تمامًا حتى شعشع أول ضوء للنهار. ذُعر الناس في النوافذ والمشربيات وارتفع الصراخ، عند ذاك فُتح بابُ الفتوة سماحة، وتجلَّى الرجل مثل وحش قابضًا على نبوته.

٢٩

تطلَّعت إليه الأبصار. تسمَّروا في حقد وتصميم ولكن استبقوا إلى السكوت والتوقُّع. ها هو الوحش المخيف ولكنهم سكارى بالنصر لا يخافون، وفي الوقت نفسه يتردَّدون. لعله انتظر أن ينضم إليه رجاله فلم يعرف بعدُ ما حاق بهم. لا شك أنه سيفطن إلى ما وقع إن لم يكن قد فطن إليه بالفعل. إنه وحده يواجه الحرافيش، هو وقوته ونبوته وسحره الخرافي. وتساءل بصوت فاجر: ما معنى هذا؟!

فلم يجِبه أحد، ومن النوافذ هبطت إليه استغاثات، وأنباء النهب والسلب. تساءل مرةً أخرى: ماذا فعلتم يا أولاد الزواني؟!

لم ينبسوا، لم ينخذلوا ولم يتشجَّعوا، فتساءل بوحشية: ماذا فعلتم يا أبناء الزواني؟!

فانطلق صوت كالحجر صائحًا: جدك كان ابن الزانية!

وارتفع هدير من القهقهات فوثب سماحة وثبةً قويةً مُلوِّحًا بنبوته وصاح: اثبتوا إن كان في أسمالكم رجل!

فانحطَّ الصمت عليهم كصخرة ولكن لم يتراجع أحد. وتهيَّأ سماحة للانقضاض. عند ذاك ظهر فتح الباب شاحبًا مخلخل القدمَين، وهتف وهو يستند إلى جدار: اقذفوه بالطوب!

سرعان ما انفجر الحرافيش وانهال الطوب على الرجل. توقَّف هجومه تمامًا تحت المطر. استبقت الدماء من جراحه حتى تخضَّب بها وجهه والثياب. ترنَّح متراجعًا وهو يخور. أفلت النبوت من يده. تقوَّض بنيانه فوق عتبة الدار، وانقضَّ الجميع على الدار. فرَّ عنها أهلها من السطح إلى الأسطح المجاورة.

نُهبت ودُمِّرت، ثم تُركت خرابةً مسوَّرة.

٣٠

سرعان ما عُرف دور فتح الباب في المعركة. تجسَّد أسطورةً ونودي به فتوةً للحارة. وقد ارتبك الفتى وتحيَّر. لم يغُرَّه النصر، ولم يضلَّ في تقدير ذاته؛ فهو لم يقبض في حياته على نبوت، وجسمه الهش لا يصمد لضربة يد. وقال لمحبيه: نختار فتوةً ونأخذ عليه عهدًا بأن يحكم كما حكم عاشور.

– ولكنهم وقعوا في أسر الانفعال فصاحوا: أنت أنت الفتوة ولا فتوة غيرك!

هكذا وجد فتح الباب شمس الدين جلال الناجي نفسه فتوةً دون منازع.

٣١

وبفضل رجلَين في العصابة — ‏ دنقل وحميدة — حافظت الفتونة على هيبتها سواء في الحارة أم في الحارات المجاورة. وكان دنقل وحميدة من رجال العصابة السابقين، وكذلك كان غالبية رجالهما، ولكن فتح الباب سيطر سيطرةً مطلقةً بسحره الخاص وقوة الحرافيش المتمثِّلة في كثرتهم المنتشية بالنصر والثورة.

وفي تلك الأيام ماتت نور الصباح العجمي، وآوت فردوس هانم وأبناؤها إلى دار أُسرتها من آل راضي بعد أن فقدت جُل ثروتها فهبطت من طبقة إلى طبقة.

٣٢

وتطلَّع الناس إلى العدل. عُمرت قلوب الحرافيش بالأمل، وامتلأت أنفس الوجهاء بالمخاوف، واقتنع فتح الباب بأن العدل لا يجوز أن يتأخَّر يومًا واحدًا.

وقال لمعاونيه: علينا أن نحيي عهد عاشور الناجي.

ونشط الرجلان في توزيع الخيرات والوعود والآمال، ومضت الجراح تندمل. ولاحظ فتح الباب أن الرجلَين ينوبان عنه في جمع الإتاوات وتوزيعها، كما لاحظ أن رجال العصابة ما زالوا يتمتَّعون بامتيازاتهم؛ يستولون على أنصبة من الإتاوة، ويعيشون عيشة البطالة والبلطجة. ساورته المخاوف، وأشفق من أن ترجع الأمور رويدًا إلى مجراها القديم. واجتمع برجاله وقال لهم: أين العدل؟ أين عهد عاشور؟

فقال له دنقل: تغيَّر الوضع، ولكن علينا أن نسير بعد ذلك خطوةً خطوة.

فقال فتح الباب بامتعاض: العدل لا يقبل التأجيل.

عند ذاك قال دنقل بجرأة جديدة: لا يمكن أن يرضى رجالك بحياة بسيطة مثل بقية الناس!

فهتف بحرارة: إذا لم نبدأ بأنفسنا فلن يتحقَّق خير!

– إذا بدأنا بأنفسنا تزعزعت أركان الفتونة.

– ألم يكُن عاشور يتعيَّش من عرق جبينه؟

فقال حميدة: تلك الأيام لا يمكن أن ترجع.

– لا يمكن؟!

فقال دنقل بفتور: خطوة، خطوة.

ولو كان فتوةً حقًّا لحسم الأمر بكلمة واحدة. وساءل نفسه محزونًا: ما الفائدة ما دمت لا أملك قوة جدي عاشور؟

والحرافيش تُرى هل نسوا قُوَّتهم المدمِّرة؟!

٣٣

وفي لحظة يأس وغضب معًا صارح فتح الباب دنقل وحميدة بأنه سيعلن تخليه عن الفتونة. وجزع الرجلان واستمهلاه واعدَين إياه بتحقيق مطالبه. واجتمع الرجلان بصديقهما مجاهد إبراهيم شيخ الحارة، وقال له دنقل: فتوتنا ناقم، لا وفاق بيننا وبينه، فما رأيك؟

فأجاب العجوز بحنق: يريد أن يرجع عهد الناجي، أليس كذلك؟

– نعم.

– أن يسود الحرافيش ويستذل الوجهاء ويجعلنا أضحوكةً بين الحواري!

فقال له دنقل بكآبة: لقد هدَّد بالتخلي عن الفتونة.

فهتف مجاهد إبراهيم: ليس الآن، ليبقَ الصورة والأمل حتى نطمئن تمامًا إلى أن الحرافيش لم يعودوا إلا الحرافيش فقط، وأنهم نسوا تمامًا هبَّتهم الجنونية. حقِّقوا له نصف مطالبه.

فقال حميدة ساخطًا: الكل أو لا شيء، ذلك مطلبه!

فتفكَّر مجاهد إبراهيم مكفهرًّا، ثم قال بإصرار: فليبقَ فتوةً فترةً أخرى ولو بالقوة والقهر!

٣٤

وزار دنقل وحميدة فتح الباب في مسكنه المتواضع. انفردا به وقال له دنقل: نحن نبذل الجهد ولكننا نلقى عقبات كالجبال، ورجال العصابة غاضبون، يتوعَّدون بالشر والدم.

فتمتم فتح الباب بذهول: ولكنكما أقوى الرجال!

– هم الكثرة وهم الغدر.

فقال بإصرار: سأتخلَّى عن الفتونة!

فقال حميدة: لا نضمن لك الحياة إن فعلت.

وقال دنقل: لا تغادر مسكنك، أبدًا. ستلقى لدى أول خطوة خارجة مصرعك!

٣٥

أدرك فتح الباب موقفه عاريًا. قال لجدته سحر: ما أنا إلا أسير محاصر!

فتأوَّهت العجوز وقالت: ما باليد حيلة، اقنع بنصف الأمل.

فهتف بأسًى عميق: عليَّ اللعنة إن خُنت جدي لحظةً واحدة!

– وكيف تتحدَّى القوة؟

فتفكَّر متحيِّرًا وهو يغمغم: الحرافيش!

فقالت بإشفاق: سيقتلونك قبل أن تتصل بأحد منهم!

٣٦

لبث فتح الباب في الأسر، لا يدري أحد ما سر انزوائه، ويُؤَوَّل بالزهد تارةً أو بالمرض. كانت الأعين ترصده نهارًا وليلًا، وحتى جدته حيل بينها وبين الخروج. وكان يعلم علم اليقين بأن حياته رهن بتحمُّس الحرافيش، وأنه سيتلاشى يوم تتلاشى أسطورتهم ويركبهم الهوان. واشتد الحذر بالعصابة، ولم يتوانَوا عن مراقبة الحرافيش وممارسة الإرهاب والعنف.

وذات يوم وثب حميدة على دنقل فبطش به واستأثر لنفسه بالمركز الأول في العصابة. وعندما اطمأن جانبه من ناحية الحرافيش أعلن نفسه فتوةً على الحارة.

وظنَّ فتح الباب أن أسره قد انتهى ولم يعد له مُبرِّر أو معنًى. قال للفتوة الجديد: ما مضى قد مضى، دعني أمارس حياتي العادية وأرتزق من عملٍ مثل بقية خلق الله.

ولكن حميدة رفض مطلبه وقال له: إنك غير مأمون الجانب، فابقَ حيث أنت، وسيجيئك رزقك بلا تعب!

٣٧

هكذا انتهت سيرة فتح الباب وجهاده مثل صحوة قصيرة مشرقة في يوم طويل ملبَّد بالغيوم. وذات صباح عُثر عليه جثةً مُهشَّمةً في أسفل المئذنة المجنونة. خفقت قلوب كثيرة في أسًى، وفرحت قلوب. وقيل في تفسير ذلك إنه جُنَّ حزنًا على ضياع الفتونة من بين يدَيه، فتسلَّل ليلًا إلى مئذنة جده المجنون، فرقي فيها إلى أعلى شرفة، ثم رمى بنفسه للهلاك والكفر.

هكذا انتهت سيرة فتح الباب وجهاده.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤