تمهيد

وصلنا في الجزء السابق من هذه الموسوعة إلى أوائل حكم الفرعون «بيعنخي» بن الملك «كشتا» مؤسس الأسرة الخامسة والعشرين، وقد تولى «بيعنخي» الحكم بعد والده حوالي عام ٧٥١ق.م، في «نباتا» عاصمة ملكه في بلاد «كوش»، غير أنه لم يحضر إلى مصر إلا في عام ٧٢٠ق.م، عندما أراد أحد أمراء مصر العظماء المسمى «تفنخت» حاكم بلدة «سايس» (صا الحجر الحالية) وأعظم ملوك الدلتا أو حكامها أن يجلي الكوشيين عن بلاد مصر جملة، وقد التف حوله معظم الأمراء الإقطاعيين في الدلتا ومصر الوسطى، وأخذ في الزحف نحو الجنوب حتى وصل إلى بلدة الأشمونين ضامًّا إليه كل البلاد التي كانت في طريقه في أثناء زحفه، ولما رأى «بيعنخي» الخطر الذي يتهدد ملكه في «مصر» سار على رأس جيش عظيم وأخذ في محاربة «تفنخت» والتغلب عليه وعلى من والاه من الأمراء الإقطاعيين إلى أن استسلموا جميعًا، ودان له كل وادي النيل من «نباتا» حتى نهاية الدلتا، ولكنه لم يعمل على تثبيت أركان حكمه في مصر بتعيين حكومة مركزية قوية؛ بل ترك الأمر للحكام الإقطاعيين، كل في دائرة نفوذه.

ومن أجل ذلك قاموا باضطرابات كرة أخرى وشقوا عليه عصا الطاعة وعلى رأسهم «بوكوريس» خليفة «تفنخت» في «سايس»، وكان «بيعنخي» على ما يظهر قد مات وتولى الحكم مكانه أخوه «شبكا» فحارب «بوكوريس» وانتصر عليه وقتله، كما يحدثنا بذلك الكُتاب الإغريق.

وتدل شواهد الأحوال على أن «شبكا» قد اتخذ «منف» عاصمة لملكه، ولم يتبع سياسة سلفه في اتخاذ «نباتا» مقرًّا له. وقد أخذت الأحوال تتحسن في البلاد المصرية بصورة مُحَسَّة؛ فإن الكوشيين والمصريين كانوا موحدين من حيث السلالة والدين، ولا غرابة في ذلك؛ فإن الشعبين كانا يدينان بدين الإله «آمون رع» وينتسبون إلى السلالة الحامية كما فصلنا القول في ذلك في الجزء السابق من هذه الموسوعة.

والواقع أن ملوك «كوش» الذين أسسوا لأنفسهم ملكًا عظيمًا في بلادها قاموا بنهضة قومية شاملة في «مصر» «وكوش» كان لها أثر بعيد في إحياء وادي النيل ثانية وإعادة مجده القديم، بعد أن ظل خاملًا عدة قرون في أعقاب سقوط الدولة الحديثة، وقد تناول هذا الإحياء النواحي الدينية والاقتصادية والاجتماعية والفنية جميعًا.

والواقع أن ملوك «كوش» الذين تتألف منهم ملوك الأسرة الخامسة والعشرين قاموا جميعًا على رأس تلك النهضة التي تعد بحق آخر محاولة في الأزمان القديمة لاسترداد عزة مصر وكرامتها، فنجد أن «بيعنخي» أخذ في إحياء عبادة «آمون» بصورة تذكرنا بعصر «تحتمس الثالث» وأخلافه، كما أحيا اللغة بصورة ممتازة فأعاد لها ما امتازت به من رصانة وبهجة في عهد ملوك الدولة الوسطى حينما كانت في عصرها الذهبي، وأكبر دليل على ذلك لغة اللوحة التي نقش عليها «بيعنخي» حروبه مع «تفنخت»، وفضلًا عن ذلك أبرز لنا في متن هذه اللوحة ما كان يتصف به من رحمة وتدين، هذا إلى مهارته في فنون الحرب.

أما خلفه «شبكا» فقد كان لا يقل عنه ورعًا وميلًا إلى النهوض بالبلاد التي كان يعتبر نفسه ابنها البار، وقد قص علينا هذا الفرعون أنه نقل تمثيلية بدء الخليقة التي ترجع كما يقول إلى عهد «مينا» عن بردية أكلها الدود، وقد وصفها «شبكا» بأنها من تأليف الأجداد، ويقصد بذلك أجداده المصريين، وهذه التمثيلية المنفية تعد أقدم مسرحية ظهرت في تاريخ الإنسان حتى يومنا هذا، ولا نزاع في أنها من اختراع كهنة «منف» الذين أرادوا وقتئذٍ أن يرفعوا إلههم «بتاح» إلى أعلى درجة بين الآلهة المصريين؛ فقد نسبوا إليه فعلًا أنه هو الذي خلق الإله «رع» إله الشمس الذي كان يعد خالق كل شيء.

والجزء الفلسفي الذي يحتويه هذا النقش يدل على ما كان للمصريين من مكانة مرموقة في الفلسفة الراقية، ومنذ عهد هذا الفرعون أصبحت عبادة الإله «بتاح» تحتل مكانة عالية في كل من مصر والسودان بجانب عبادة «آمون رع» الذي كان يعد إله الدولة الأكبر.

وفي عهد «شبكا» نلحظ كذلك أن فن النحت قد أخذ يزدهر بصورة جلية؛ إذ أخذ المفننون ينحتون التماثيل للملوك وعظماء القوم بما يُحاكي الطبيعة الخالية من كل زخرف، وفي أعمار متفاوتة، فلدينا تماثيل لبعض رجال الدولة تصورهم في الشباب والكهولة والشيخوخة بما فيها من معايب ومحاسن.

ولم تحدثنا الآثار بأشياء كثيرة عن خلف «شبكا» وهو أخوه «شبتكا» الذي اعتلى الملك حوالي عام ٧٠١ق.م، وكل ما عرف عنه أنه ترك بعض آثار قليلة، والظاهر أنه في أيامه قامت اضطرابات في مصر تغلب على إخمادها، ويدل تمثاله الذي وصل إلينا على أن نهضة الفن كانت سائرة في طريقها، وقد كانت عاصمة ملكه في مصر «منف» أيضًا على الرغم من أنه دفن في «الكورو» كما سبقت الإشارة إلى ذلك في الجزء العاشر من هذه الموسوعة.

ولا نزاع في أن «تهرقا» أو «ترهاقة» كما جاء ذكره في التوراة الذي خلف «شبتاكا» كان أعظم ملوك هذه الأسرة وأمجدهم أعمالًا، فعصره مليء بالأحداث الجسام من كل الوجوه، ولن نغالي إذا قلنا عنه إنه كان يضارع ملوك الأسرة الثامنة عشرة من حيث التعمير ونشر الفنون والصناعات، غير أنه يقصر عنهم من حيث الفتوح والغزو، فالآثار التي تركها لنا «تهرقا» الذي مكث على عرش الملك أكثر من ست وعشرين سنة (٦٩٠–٦٦٤ق.م) منتشرة في أرجاء وادي النيل من «نباتا» حتى الدلتا، وبخاصة ما أقامه أو أصلحه من عمائر في مكان قرية «الكوة» القريبة من «دنقلة»، وقرية «الكوة» الحالية تقع على أنقاض بلدة «جمأتون» التي أقيمت على ما يقال في عهد الفرعون «أمنحوتب الثالث»، وهناك يقع معبده العظيم الذي أقامه للإله «آمون رع»، وما بقي لنا من آثار في هذا المعبد وبخاصة اللوحات العدة التي دُوِّن فيها تاريخ بناء المعبد تحدثنا بجلاء عما كان لوادي النيل في تلك الفترة من مجد أثيل في كل نواحي العمران، وبخاصة في الفن والعمارة والثروة الهائلة، هذا بالإضافة إلى ما كان لمنف وغيرها من المدن المصرية من فضل في بث النهضة الجديدة وابتكار أشياء لم تكن معروفة من قبل.

ولم تقتصر عمائر «تهرقا» على «الكوة»، بل نجدها في «نباتا» نفسها عاصمة بلاد «كوش» وبخاصة معبد «صنم» الذي كان صنوًا لمعبد «الكوة».

أما في القطر المصري نفسه فنجد له آثارًا في كل أرجائه وبخاصة في «الكرنك» الذي شيد فيه قاعات عمد عدة، والواقع أن آثار هذا الفرعون تكاد توجد في معظم بقاع مصر والسودان.

وقد كان لهذا الفرعون نشاط عظيم في السياسة الخارجية التي كانت تشغل ملوك هذه الأسرة منذ توليهم عرش البلاد، فقد كان شغل ملوك «كوش» الشاغل زحف مملكة «آشور» على بلاد سوريا وفينيقيا وفلسطين بصورة مخيفة منذ بداية القرن السابع قبل الميلاد، وكان ملوك «كوش» يعتبرون هذه الأصقاع حاجزًا بينهم وبين الآشوريين، وأن هؤلاء إذا وطدوا أركانهم فيها أصبحوا خطرًا يهدد مصر، هذا فضلًا عن أن ملوك مصر منذ أقدم العهود كانوا أصحاب السيادة على هذه الدويلات، وأنهم كانوا أحق الناس بتملكها، من أجل ذلك أخذ ملوك مصر منذ بداية الزحف الآشوري يحرضون أهل هذه الأصقاع على الحكم الآشوري ويساعدونهم بالمال والرجال تارة خفية وتارة علانية، وقد فطن ملوك «آشور» إلى ذلك منذ البداية إلى أن اشتد النزاع بصورة كبيرة في عهد الملك «إسرحدون» الذي صمم على غزو البلاد المصرية نفسها، وكان ذلك في عهد الملك «تهرقا»، على أن هجوم الآشوريين على مصر كان منذ بداية القرن السابع قبل الميلاد على يد الملك «سرجون الثاني»، واستمرت المناوشات بين الفريقين، ولكن «آشور» لم تقم بهجمتها القاضية إلا في عهد «إسرحدون»، فلقد قام على رأس جيش عظيم إلى مصر، وقد لاقى جيشه أهوالًا عظيمة في طريقه، ولكنه في النهاية أفلح في الاستيلاء على «منف» عاصمة الملك وغيرها من البلاد في الدلتا، وقد هرب أمامه الملك «تهرقا» ملك مصر والسودان إلى «طيبة»، ولكن على أثر عودة «إسرحدون» إلى بلاده وموته في الطريق استرد «تهرقا» بلاد الدلتا ثانية، غير أن ذلك لم يدم طويلًا؛ لأن الملك «آشور بنيبال» الذي خلف والده «إسرحدون» جهز حملة ثانية وسار بها على مصر واستولى على كل البلاد مرة أخرى بعد حروب عنيفة اضطرت «تهرقا» إلى الهرب إلى «نباتا» ولم يعد بعدها إلى مصر ثانية.

ولما استتب الأمن في البلاد المصرية عاد «آشور بنيبال» إلى عاصمة ملكه، وعلى أثر ذلك قام خليفة «تهرقا» وهو أخوه «تانوت آمون» بغزو مصر كرة أخرى، وقد نجح فعلًا، ولكن ذلك لم يدم طويلًا؛ إذ عاد «آشور بنيبال» بجيش عظيم وقهر «تانوت آمون» وأتباعه فاضطر إلى الفرار صوب «نباتا»، ولم نسمع عنه بعد ذلك شيئًا، أما «آشور بنيبال» فقد خرب طيبة تخريبًا مريعًا للمرة الثانية، وقد حدثنا كتاب التوراة عن ذلك.

والغريب المدهش في كل الحروب التي قامت بين «آشور» «ومصر» في تلك الفترة الطويلة التي استمرت حوالي نصف قرن أننا لم نجد نقشًا واحدًا أو بردية أو أي متن مصري يشير إلى هذه الحروب من الجانب المصري الكوشي، والواقع أن كل ما وصل إلينا كان من المصادر الآشورية التي خلفها ملوك «آشور» في كتاباتهم المسمارية.

ومن المؤكد أن السبب في ذلك يرجع إلى أن ملوك «مصر» «وكوش» كانوا يعدون أنفسهم آلهة لا يُهزمون، ولما كانت الحروب التي قامت بينهم وبين «آشور» هي سلسلة هزائم دارت على المصريين فإن هؤلاء الملوك «كما هي العادة منذ أقدم العهود» لم يذكروا عنها شيئًا في نقوشهم، وإلا فكيف تتفق الهزيمة مع ما للإله من قوة وجبروت وسيطرة على الأكوان؟ ومن أجل ذلك تعوزنا بصورة جلية المصادر المصرية الكوشية؛ إذ إن ما وصل إلينا عن هذه الحروب كان من الجانب الآشوري وحده، ولا ندري إلى أي حد لعبت في تلك المصادر المبالغات والخيال وزهو الملوك، فلقد بلغت أوصاف انتصاراتهم مبلغًا هائلًا، كما كانت عادتهم في كل ما وصل إلينا عنهم.

وقد حتمت علينا قلة المصادر المصرية والرغبة في استكمال الفائدة من ناحية التاريخ المقارن لفهم الموقف الدولي في تلك الفترة أن نورد لمحة عن تارخ «آشور» منذ نشأتها حتى نهاية عهد الملك «آشور بنيبال» الذي بموته قُضي على دولة «آشور» في نهاية القرن السابع تقريبًا.

وقد أوردنا بعض التفاصيل عن الحروب التي قامت بين «آشور» وما جاورها من البلدان وبخاصة البلاد المتاخمة لأملاكها، وأفضنا القول في الحروب التي قامت بين «آشور» والولايات الصغيرة التي على شاطئ البحر الأبيض المتوسط وهي: سوريا وفينيقيا وفلسطين وما تحوى كل منها من دويلات صغيرة.

وكذلك أوردنا نصوص المتون الخاصة بالحروب التي قامت بين «مصر» «وآشور» والتي قامت بين «آشور» وبلاد العرب، تلك البلاد التي كانت مجهولة للعالم تقريبًا حتى تلك الفترة، وذلك إتمامًا للفائدة وفهم الموقف الدولي.

وسيلمس القارئ فيما أوردناه من متون «آشورية» ما جُبلت عليه نفوس ملوك «آشور» من غلظة وفظاعة وقسوة منقطعة النظير في التاريخ البشري، وأخيرًا أوردنا الأسباب التي يُحتمل أنها أدت لسقوط دولة «آشور» فجأة وبدون علل ملموسة مما أدهش علماء التاريخ حتى الآن.

والظاهر أن «تهرقا» كان أكبر بطل وقف في وجه «الآشوريين»؛ إذ قد دلت الآثار التي كُشف عنها حديثًا في «نينوة» (الموصل) وهي بقايا تماثيل عليها من نقوش على أنه كان محاربًا مغوارًا، وأنه كان ذا مكانة عظيمة بين دويلات الشرق الأوسط التي حاربت «إسرحدون» ومن بعده «آشور بنيبال» لنيل استقلالها.

وقد فحصنا نقوش هذه التماثيل ووصلنا في بحثنا إلى أنها على ما يظهر كانت مهداة من «تهرقا» إلى معبد بلدة تدعى «دجل»، وهذه البلدة يُحتمل جدًّا أنها قريبة من بلدة «حماة» كما جاء في برديه مصرية من عهد الملك «رعمسيس الثاني».

والظاهر أن الملك «إسرحدون» عندما استولى على هذه البلدة نقل هذه التماثيل المهداة من «تهرقا» إلى عاصمة ملكه، والنقوش التي على التماثيل تشير إلى ذلك، هذا فضلًا عن أن «إسرحدون» نفسه قد أشار في النقوش التي خلفها لنا إلى أنه استولى على تماثيل لملوك مصر، تلك إشارة عابرة عن هذا الكشف الحديث في بلدة «نينوة» القديمة، وسنفصل القول فيه في مقال خاص.

أما النضال الذي كان بين «آشور» «ومصر» فلم ينتهِ عند استيلاء «آشور بنيبال» على البلاد المصرية جملة؛ بل ظلت مصر تناضل ضد «آشور» لنيل استقلالها.

وقد جاء ذلك في نهاية الأمر على يد بطل عظيم من أبطالها من سلالة «تفنخت» على ما يظهر، وهو الملك «بسمتيك الأول» مؤسس الأسرة السادسة والعشرين، وهي الأسرة التي سارت بالبلاد شوطًا بعيدًا في مدارج الحضارة، وذلك بقيام نهضة عظيمة، وهي استمرار للنهضة الكوشية، تركت آثارًا لا تزال باقية حتى الآن في مصرنا العزيزة، وسيكون حديثنا عنها في الجزء الثاني عشر من هذه الموسوعة إن شاء الله.

•••

وإني أتقدم هنا بعظيم شكري لصديقي الأستاذ محمد النجار المفتش بوزارة التربية والتعليم لما قام به من مراجعة أصول هذا الكتاب وقراءة تجاربه بعناية بالغة، كما أتقدم بوافر الشكر إلى السيد محمد زكي خليل مدير مطبعة جامعة القاهرة ومعاونيه لما بذلوه من جهد مشكور وعناية ملحوظة في إخراج هذا الكتاب.

وكذلك أقدم عظيم شكري للأستاذ أحمد عزت بجامعة عين شمس لما بذله من مجهود عظيم في قراءة التجارب وعمل فهرس الأعلام والمصادر الإفرنجية بكل دقة وعناية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤