حالة البلاد السياسية قبل تولي «شبكا» الملك وما بعد ذلك

مقدمة

عاد «بيعنخي» إلى مقر ملكه في «نباتا» بعد أن قضى على آخر مقاومة حاول القيام بها «تفنخت» غير أن القائد أو النائب الذي تركه «بيعنخي» وراءه لإدارة البلاد لم يمضِ عليه طويل زمن في تصريف الأمور حتى أحس أن مهمته أصبحت شاقة غريبة لا قِبَل له بتحملها، وأنه ليس في استطاعته المحافظة على بقاء البلاد المصرية خاضعة راضية بالحكم الكوشي، وسبب ذلك أن سلطان بلاد «آشور» الفتية كان في تلك الفترة قد امتد على كل دولة إسرائيل بعد الاستيلاء على «السامرة»، وقد حدث ذلك قبل قيام «بيعنخي» بحملته على مصر بسنة واحدة، وكان «سرجون» عاهل آشور وقتئذٍ قد تقدم في زحفه في بلاد الشرق الأوسط حتى أصبح على أبواب مصر، وعلى الرغم من أن معلوماتنا ليست محددة جلية عن تاريخ هذه الفترة من الوجهة المصرية لانعدام المصادر الأثرية، فإنه من الجائز أن القائد الأعظم الذي كان على رأس الجيش المصري «موسري»، الذي يفتخر «سرجون» بأنه هزمه هزيمة منكرة حوالي عام ٧٢٠ق.م في موقعة «رفح»؛ أي عند حدود مصر نفسها، إما أن يكون القائد النوبي الذي تركه «بيعنخي» على رأس جيشه في شمالي مصر، وإما أن يكون قد نصب على هذا الجيش «شبكا» الذي خلف «بيعنخي» على عرش مصر بعد وفاة الأخير، والرأي الأخير هو الأرجح.

وقد كان من جراء هزيمة «شبكا» على يد الآشوريين أن ارتد إلى الجنوب، وبذلك تخلصت الدلتا من الكوشيين، وعلى أثر ذلك قفز «تفنخت» من مكمنه وجمع حوله حكام مقاطعات الدلتا وأصبح ثانية ملكًا على مصر، وتدل شواهد الأحوال على أنه هو الذي كان فرعونًا على البلاد وقتئذٍ لا الملك «أوسركون الرابع» الذي كان قد اختفى مؤقتًا، ويقال إن «تفنخت» هو الملك الذي صالح «سرجون» ملك «آشور» واسترضاه بالهدايا، وقد عد الآشوريون هذه الهدايا جزية تأتي إليهم من مصر، وسنفصل القول في ذلك في باب خاص عن الفتح الآشوري لمصر والبلاد المجاورة لها في الشرق الأوسط.

ومما تقدم نرى أن «تفنخت» بعد هزيمته على يد «بيعنخي» قد عاد ثانية إلى التربع على عرش ملك مصر ثانية حوالي ٧٢٠ق.م.

بوكاريس «بكنرف»: وقد خلفه ابنه بكنرف أو كما يسميه الإغريق «بوكاريس» على عرش الكنانة واتخذ لنفسه لقب «واح-أب-رع» وقد نطق الإغريق هذا اللقب «فوهكرس»؛ ولما كنا نعرف من الآثار أنه قد ذكرت السنة الثامنة من عهد الملك «تفنخت» فإنه لا بد كان قد أرخ عهده على أحدث تقدير بحوالي ٧٢٥ق.م، وهي آخر سنة من حكم «شيشنق الرابع».

ويعد كل من «تنفختوس» «تفنخت» وبوكاريس «بكنرف» من بين طليعة الملوك الذين حفظت لنا الكتابات الإغريقية أشياء عن حياتهم غير أنها في معظمها أساطير الأولين.

وقد أخذت المدينة الإغريقية تظهر من عالم الظلمات في العهد الذي جاء على أعقاب الكارثة التي حلت بعصر البرنز المنوي والثقافة الكفتية «أي ثقافة كريت» التي كانت معروفة في مصر في خلال عهد الأسرة الثامنة عشرة (راجع مصر القديمة الجزء الخامس) فقد كان العصر الجديد لتوسيع التجارة والاستعمار سائرًا في طريقه، وكان التجار يختلفون على مواني النيل، وكان فم النيل الغربي الذي عرف وقتئذٍ بفرع كانوب هو الذي يرتادونه كثيرًا جدًّا؛ وذلك لأنه كان يهيئ مكانًا مباشرًا للاجئين أو طريقًا على الساحل لبلاد لوبيا لا يزاحمهم فيه كثيرًا الفينيقيون.

وقد أصبح الفرع الكانوبي للنيل بالنسبة لتجارة الأغريق ذا أهمية أعظم من الفرع البيلوزي، وهو الذي كان في عهد الرعامسة ودولة اللوبيين من بعدهم الممر التجاري للفينيقيين، وقد كان التاجر الصوري المحنك يرى على أيه حال عند مطلع الشمس السفن اليونانية تبرز في الأفق ماخرة عرض البحار، وبذلك أصبح أهل جزر اليونان مسيطرين على تجارتها كما غذوا الشواطئ المصرية بما كانت تحمله سفنهم من زيت وخمر وتين وغير ذلك من منتجات بلادهم، وكانت بلدة سايس (صا الحجر الواقعة بالقرب من كفر الزيات) تقع على الفرع الكنوبي، ويسيطر على الطريق المؤدية إلى «منف».

والواقع أن كل بلاد الدلتا كانت ضيعة لأسياد بلدة «سايس»، ولا نزاع في أن الثروة التي ساعدت ملك هذه البلدة على أن يصبح أول حكام مقاطعات الدلتا ويستولي على «منف» كانت تأتي إليه من الضرائب، وما كان يجبيه من جزية يحصلها من التجارة الجديدة التي كانت قائمة بين مصر وبلاد الإغريق، وبخاصة من توريد الزيت والخمر من بلاد الإغريق، ومن تصدير القمح والشعير إلى بلاد اليونان، وكذلك من أغنام بلاد «لوبيا» التي كان صوفها لا فائدة منه لأهل مصر الذين لا يلبسون إلا الكتان، ولكنه كان يصدر إلى بلاد الإغريق الذين ينتفعون به تمامًا.

وقد أقام الميليزيون بالقرب من «سايس» مؤسسة عظيمة لتخزين سلعهم، وهذه المؤسسة أصبحت فيما بعد تدعى «نقراش»، وسنتحدث عن ذلك في حينه.

وقد كانت كل من «منف» «وسايس» معروفة للإغريق من قبل بوصفها المدن الرئيسية المصرية.

وكان «بوكاريس» مشهورًا في التقاليد التي حفظها لنا «ديدور» الكاتب اليوناني بأنه صاحب غنًى، كما كان مشهورًا بحكمته، كما كان والده «تفنخت» مشهورًا بشجاعته الحربية العظيمة، وقد قيل عن «بوكاريس» إنه حدد قانون العقود أكثر من ذي قبل؛ إذ أصبح بعد الإصلاح الذي أدخله كل من تعاقد على دين دون اتفاق مكتوب وأنكر المدين هذا الدين بعد حلف اليمين يكون معفًى منه.١

وكان «بوكاريس» في الواقع ملك أعمال، وقد قفت أثره نقمة العدالة كما كانت تقفو أثر كل محب للثراء؛ إذ يقال إن «شبكا» قبض عليه كما حدثنا بذلك «مانيتون» وحرقه حيًّا، ويقال إنه في حكمه على حسب ما جاء في التقاليد المصرية المحفوظة في الكتابات الديموطيقية أن خروفًا صغيرًا تكلم متنبئًا بالفتح الآشوري واستعباد مصر، ونقل آلهتها إلى نينوى عاصمة مملكة «آشور».

ولا شك في أنه هو الفرعون الذي أرسل للملك «سرجون» عاهل «آشور» جزية عام ٧١٥ق.م، عندما ثارت بلدة أشدد بقيادة المخاطر الإغريقي «ياوني» القبرصي، وذلك ليزيل عن نفسه كل شبهة قد توحي بأنه اشترك مع الأخير في مناهضة «آشور»، ويقال إن «بوكاريس» قد عُزل وقُتل على يد شبكا عام ٧١٢ق.م، وعلى ذلك فإنه من الجائز أن تكون هذه الرواية صحيحة في جملتها، وبموت هذا الملك انقرض آخر ملوك الأسرة الرابعة والعشرين على رأي بعض المؤرخين.

وقد مات «بوكاريس» بعد حكم مليء بالمتاعب دام سبعة أعوام.٢
والواقع أننا لا نعلم شيئًا عن أخلاقه الحقيقة؛ لأن المصادر الأصلية تعوزنا في هذه الناحية، ولكنه قد ترك أثرًا عميقًا في ذكريات القوم، فكان طبعيًّا أن نستخلص أنه أظهر أحيانًا قدرة ونشاطًا في خلال حكمه، ومن ثم نجد أنه قد انتشرت بعد موته أساطير عدة لعبت فيها العناصر الخرافية التي تفوق حد المألوف شوطًا بعيدًا مما جعلها تجري على ألسنة القوم وتتناقلها الأجيال باستمرار، فقد كان على حسب هذه الأساطير رجلًا ضعيف الجسم ليس في منظره ما يلفت النظر،٣ غير أنه كان في مقابل ذلك ذا عقل قدير ورأي سديد، كما كان يمتاز ببساطة طرائقه في الحياة٤ وكان مشهورًا بمكانته في التشريع؛ إذ كان يعد من أعلام المشرعين الستة العظام الذين أنجبتهم مصر، فقد نسب إليه كما قلنا من قبل قانون الدين والأرباح، هذا؛ وكان مشهورًا بعدالة أحكامه التي كانت تُعزى إلى إلهام إلهي؛ إذ قد منحته «إزيس» ثعبانًا٥ لف نفسه حول رأسه عندما كان يقعد إلى القضاء، فكان يغطيه بظله ويحذره ألا ينسى لحظةً مبادئ العدالة والصدق التي لا تلين،٦ وقد بقيت لنا في كتابات العهد الإغريقي الروماني بعض الأحكام التي أصدرها في قضايا شهيرة، وقد اقتبست لنا منها قصة مطولة، وذلك أنه قد حكم على عاهرة أن تتسلم ظل كيس نقود بمثابة أجر لظل حظوة قد تفضلت بها في حلم على محبها.٧
وقد صاغ أحد شعراء الإسكندرية الذي يدعى «بانكراتس» هذه القرارات الحكيمة من أحكامه في مجموعة من الشعر، وهذا الشاعر قد عاش في عهد الإمبراطور «هدريان».٨

وقد أخذ المُفتون في العهد الإمبراطوري الروماني يضعون عن هذه الأقاصيص صورًا زينوا بها جدران المباني الأثرية، فقد صوروا هذا الملك وهو ينطق بحكم بين والدتين ادعت كل منهما بنوة طفل، وبين متسولين، ادعى كل منهما ملكية عباءة بعينها، وبين ثلاثة رجال ادعى كل منهم ملكية حقيبة مليئة بالطعام، وقد كُشف عن جزء كبير من هذه الرسوم على جدران «بومبي» وروما في سلسلة مناظر تعرَّف عليها بعض العلماء على أنها للفرعون «بوكاريس».

وقصة النزاع بين الأمين تذكرنا بطبيعة الحال بقصة سليمان وحكمه بين الأُمَّين في أمر طفل.٩
على أنه من جهة أخرى نجد تقاليد غير ما ذكرنا تمثل «بوكاويس» في صورة لا تشرفه، فقد مثل في صورة ملك دنس كافر؛١٠ إذ قيل عنه أنه فكر في رغبة دنسة تنحصر في قيام مناطحة بين ثور عادي وبين الثور «منفيس» الذي كان يقدس في عين شمس،١١ وقد غضب الآلهة بطبيعة الحال من إتيانهم مثل هذا العمل، وقيل إنهم وجدوا على حين غفلة خروفًا صغيرًا يمشي على ثماني أرجل ينطق متنبئًا بأن الوجه القبلي والوجه البحري سيلحقهما الخزي فيحكمهما أجنبي.١٢

ومن المحتمل أن «شبكا» كان مشتركًا مع «بيعنخي» في حكم مصر حوالي عام ٧١٥ق.م ثم تولى الحكم بعده مباشرة، وتدلنا الآثار الآشورية على أنه أول ملك اشتبك مع الآشوريين في حرب مباشرة، كما سنفصل ذلك فيما بعد في فصل خاص يبحث في تاريخ الآشوريين وفتحهم لمصر.

١  راجع: Diodorus I, P. 79, Translated by G. H. Oldfather.
٢  راجع: The Passing of Empires (Maspero) P. 244, Note. 6.
٣  راجع: Diodorus Sicules I, 65, & 94, Translated by G. H. Oldfather.
٤  راجع: Alexis, Frag. 3 in Muller-Didot. Fragments Historicum Graecorum Vol. IV. P. 299.
٥  هذا الثعبان هو الصِّلُّ الذي يوضع في تاج الفرعون.
٦  راجع: Plutarch on False Shame § 3.
٧  راجع: Glement of Alexandira Stromateis IV, 18.
٨  راجع: Atheneus Deipnosophistae, p. 677.
٩  راجع: Maspero, The Passing of Empires P. 245-6 Note 2.
١٠  راجع: Diodorus Seculus I, 65, 94.
١١  راجع: Aelian, Hist. Animal XI, II.
١٢  راجع: Ibid XII, 3.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤