الفصل الأول

أمر طمحت إليه جهان فجال في أحلامها، وشغل أعماق جنانها المتقد، أمر تفرد جليًّا ساطعًا بين أمانيها، فاتجهت إليه بكل كيانها.

كان قبلتها في صلاتها، كان كعبة آمالها الروحية والعقلية والاجتماعية، كان رمزًا فيه وعد لناشده ووعيد، بل شارة تأميل وتهديد، تراءى لها في الرؤيا، وصورته في الحلم، وكانت تهدس به في ساعاتها العصيبة.

إنما هي الحرية، كتبت رسالتها بأحرفٍ من ذهب على سماء سحماء، وبخطوط من دم على ظلمات زائلة، نقشت على لوح النفس بعد ما أمحت عنه التقاليد القديمة.

الحرية، وسواء كانت متشحة ثوب الحداد، أو ثوب الجهاد، أو ثوب النصر — سوداء الصبغة كانت أو حمراء أو زهراء — فكانت جهان تقتبلها، وترحب بها، وتجلها في كل حال من الأحوال.

ولكن آلهة تراءت لها في الأحلام مرتدية رداء شديد الاخضرار، شاهرة سيفًا أحدب، وعلى جبينها هلال من الياقوت — آلهة إسلامية متوشحة ألوان العلم النبوي الداعي إلى الجهاد — كأنها تدعو جهان إلى حربٍ مقدسة لا على النصارى الكافرين، بل على كفر الرجل وطغيانه؛ لتهب الحرية أخواتها في الرق والعبودية؛ لتهب الأم التركية، بل الأمة العثمانية، بل المسلمين قاطبة تلك الهبة السماوية.

وجهان ابنة رضا باشا وامرأة الأمير سيف الدين إنما هي مسلمة في لبها الإسلام الحقيقي بالرغم من أنها هجرت منذ ثلاثة أشهر قصر زوجها المشيد على ضفاف البوسفور؛ لأنه حنث بيمينه أنه لا يتخذ لنفسه امرأة أخرى، ولا يقاسم قلبه غيرها، ولهذا عادت جهان إلى بيت أبيها بما في قلبها من الغم، وبما في روحها من الأحلام، وآلت على نفسها إصلاح الحريم.

ومنذ ذاك الحين شرعت تسعى سنة كاملة سعيًا متواصلًا أثمر قليلًا، وأكسبها شهرة جنت أكثر من مرة عليها، وقد دعت جهان نفسها «ابنة الثورة»، وكانت إذا حدثها أبوها في أمر تسيبها شكري بك تبسم غير مبالية، وتقول: «إني متزوجة من الحرية.»

وكرَّت الأيام حتى جاء يوم فيه تعرفت بالجنرال فون والنستين المشير في الأستانة، ومنذ ذلك اليوم داخل حبها الصحيح ريبة قليلة، فكانت تقف مرارًا ناظرة إلى تلك الصدفة المزعجة، راغبة بعض الرغبة بشكري بك، ولكن طموحها إلى السيادة بعدما تعرفت بالجنرال قد احتل شطرًا من قلبها إلى الحرية.

في ذات مساء بعد ما تنافرت وأباها أرسلت حوذيها برسالة سرية لم تدرك مغبتها في تلك الساعة، ثم جلست وهي متسربلة سربال الليل على ديوانها الفاخر، قلقة البال، فاقدة الصبر، مضطربة العقل والنفس، تتربص رجوع الرسول، ولكي تخفف من وساوسها تناولت «نيتشى» الذي كانت تحل أقواله المحل الأول، وتقرؤه بلغته الألمانية الأصلية، ولكنها لم تلبث أن أخذت عيناها ترحل عن الصفحة، فنهضت وعليها سيماء الملل، والتفت بعباءة من الحرير زرقاء اللون موشاة بالذهب، ثم فتحت درفة الشباك، ووقفت في رواقه تتنشق الهواء النقي.

وكانت ليلة من ليالي الصيف الثقيلة الظل لا هواء يحرك الأغصان في الجنينة، ولا نسيم يمازج روائح الياسمين، وزهر الليمون، فيخفف من نفحاتها التي تؤثر في النفس تأثير البنج.

وتمثل أمامها القرن الذهبي سلسلة من القوارب والسواري كأنها أنسجة من العنكبوت متعرشة على أسوار غير منظورة، وأشعة الهلال تنعكس على مآذن جامع أيوب مرة فأخرى كلما لاح من خلال السحاب، والسرو في الجبانة القريبة أضاع شكله ومزيته، فبدا كأشباح من ظلام الرجاء الذي هو رمزه.

سرحت جهان نظرها في هذا المشهد المدلهم، فوقعت في قلبها وحشة تلك الليلة وقع خطب جسيم، ولم تكن تسمع شيئًا من خلال السكينة المخيمة حولها — وهي تصغي بانتباه، وصبر كاد يفرغ مترقبة عودة الرسول — إلا وقع قوائم الجواد في الشارع المجاور، وظلت جهان في الرواق مراقبة حتى دخلت العربة، واجتازت حائط الجنينة، إذ ذاك تنبهت من قرع السوط ثلاث مرات متتابعة إلى ما سيأتيها بثلاث ساعات من النوم بعدما ركنت هواجسها إذ تسلمت الرسالة.

إلا أنها بعد قليل استيقظت متأففة مغمومة غاضبة من نفسها، ومن متحشر زنيم دب إلى سريرها ووسادتها، فلامس خديها وجبينها؛ ولهذا نهضت جهان لتحجب عنها أشعة الشمس، ولكنها ما أطلت من النافذة إلا ودخلت في يقظة فجائية إذ شاهدت المشهد ذاته، وقد استحال جمالًا مهيبًا، فقد كانت قبب جامع أيوب البيضاء تشع بالشمس، والسرو يتمايل بخطرات النسيم الفجرية بعد ما انقشع الظلام عن زهوه الطبيعي، والقوارب تبعث على تسريح الطرف وانشراح الصدر؛ والقرن الذهبي اللاذوردي تحجبه التموجات الفضية الشفافة الضاربة فيها الخيوط الذهبية، والعصافير تنتقل من جذع إلى آخر في الجنينة، مزقزقة مغردة تداعب بعضها بعضًا، وصوت المؤذن وهو يدعو المؤمنين إلى الصلاة يلبس مظاهر الابتهاج خشوعًا، وهذا ما سلب النعاس من عيني جهان، فلم تعد لها قدرة على المنام إذ تنبهت روحها في داخلها، فلبت مبتهجة متخشعة دعوة الشمس التي تحرك أسمى الآمال في أدنى البشر، وتلمس أجنحة الأحلام المتواهية بإكسير الحياة.

وقفت في الرواق كالشمس المشعة على قبب إسطمبول كأن وجهها كوِّن من النور، وعينيها من ازرقاق السماء سماء الشرق، وجدائل شعرها المسترسل على كتفيها العاريتين من ذهب الشفق المحاط بالغيوم البيضاء، ولو تسنى لأحد الناس أن يرمقها وهي على تلك الهيئة — وذلك ضرب من المحال؛ لأن النافذة مطلة على الجنينة — لقال إنها إلهة ولا غَرْوَ، وهي تلك التي وصفها الشاعر التركي العصري إذ قال:

شمس تخترق جدران سجنها، وردة تطلع من خلال الشقوق في صخرة طالعها.

ولكن جهان كسرت سلاسل الحريم، وكانت آنئذ أقل اهتمامًا بجمالها الرائع من مواهبها العقلية، فقد ملأت كيانها تلك الأمنية التي عقدت النية على إحرازها لنفسها ولأمتها، وهي أمنية تجلت لها كوحي إلهي، تجلت لها في هذا الفجر المنبثق نورًا، فصعدت بفكرها إلى قمم الروح وآمالها، وهي تشعر أن الشمس لم توقظها في يوم من الأيام كما أيقظتها في ذلك اليوم.

تبارك يوم فتح أبوابًا ذهبية لنفسها، لعقلها، لروحها، لقلبها، وقلب أمتها الناهضة، تبارك سحر لبس سحره نفس فتاة شرقية متمردة، فرأت فيه تحقيق آمال لها ولأخواتها الطامحات إلى الحرية والنور، ولها ولإخوانها المجاهدين دفاعًا عن الملة والوطن.

أحنت جهان رأسها أمام الشمس المتصاعدة تسبح الله وتتلو الفاتحة، ثم قالت في سرها: كل ما يأتينا به اليوم هو من لدنك أيها الرحمن الرحيم رب العالمين.

ولكن عقل جهان عقل غربي التهذيب، عقل تسعرت فيه الثورة والتمرد، غربي المعرفة، له صلاة خاصة تلتها في ذلك الصباح عندما وقفت في الرواق، ووجهها مرفوع نحو الشمس.

أيها الرب الكريم القدير، أنت الزارع فينا بذور الأماني الخالدة فلا تلعنا إذا تدبرناها بالتربية، أنت مبدع الحب والحرية فلا ترذلنا إذا حطمنا جدران سجننا، أنت متناهٍ رحمة وعدلًا، فلا تسخط علينا إذا قاومنا كفر الرجل وطغيانه.

ثم هزت رأسها قائلة: كلا، كأنها تريد أن تقتاد الشريعة الإلهية بيدها، وأعادت قولها: كلا، بصوت متقطع كأنها تجديف بعد صلاتها «كلا، إننا لن نخضع منذ اليوم لطغيان الرجل وجبره، ولا فرق إن كان زوجًا أو أخًا أو أبًا، أو صاحب تاج وصولجان.»

قالت هذا وخطت نحو منضدتها لتراجع المذكرة التي كانت تدون فيها ما يُطلب منها من الأعمال، فكان يومها هذا الذي تبتدئ فيه قصتنا كثير المواعيد ساعاته رهينة أعمال شتى، فإن شغلها في المستشفى يتناول ساعات الصباح، وبعد الظهر عليها أن تلقي عظة في إحدى مدارس البنات في إسطمبول، وفي المساء تبيع أزهارًا في السوق الخيرية في جنائن تقسيم.

وكان عليها أيضًا أن تنجز مقالة في موضوع الجهاد لجريدة طنين، ناهيك بفرضها اليومي من كتاب نيتشى «هكذا قال زاراتوسترا»، الذي كانت تنقله إلى اللغة التركية، ولكنها أهملته أيامًا، فهذا القدر من العمل لامرأة تركية ما يستوجب الإعجاب، ولكن ثقة جهان بنفسها لمن الأمور المدهشة، وفي كلا الأمرين لم تكن شرقية، على أنها لم تتجاوز في نشاطها وإقدامها كونها امرأة، وكثيرًا ما حال إعجابها بجمالها دون ثقتها بنفسها.

كانت جهان سليمة الطوية، مخلصة فيما تقول وتفعل، وكانت فوق ذلك ذات حنكة عجيبة، كثيرة المعرفة بأساليب الاجتماع والسياسة، جديرة بأن تكون زعيمة من زعيمات أميركا المطالبات بالحقوق النسائية، أو نبيلة من نبيلات لندره، أو صاحبة صالون في باريس، ولكنها تركية المولد، وقد قُضي عليها أن تقيم في وسطٍ تقاليدُه قديمة قاسية، ناهيك بما ورثته عن الأجداد مما كان يحول دون أميالها العصرية، ويزعزع معقولًا تشرب التهذيب الأجنبي، وطالما تجاذبت هذه الأضداد نفسها فأحدثت فيها حيرة الانتقاء والتفضيل، بل طالما قاست أشد العذابات الروحية والعقلية وهي تسعى في التوفيق بين عناصر متباينة متضاربة، ولم يكن لامرأة تركية، بل لامرئ شرقي فيما مضى من الزمان أن يتوفق في مثل هذا السير.

هكذا كانت جهان غريبة الأطوار متباينة الأميال والآمال، ولكنها ذات صلاح وفطنة، وقد كان الدين متأصلًا في قلبها، ولكنها كانت بعيدة عن التظاهر بالتقوى، ولا تكترث بالخرافات والترهات الدينية، ولقد كانت وهي تسعى لإتمام مقاصدها الجليلة متأنية متسرعة معًا، ثابتة حينًا، وحينًا مترددة، أديبة بارعة، تقية متعقلة، طامحة شاردة، ناشدة حب وإيمان وسيادة، كأن قلبها دائرة للأدب والأدباء، وعقلها ديوان للسياسة والسياسيين، ونفسها جامع للعصريين من المؤمنين، فضلًا عن ذلك أن الجنرال فون والنستين كان قد سعى لها بإنعام من الإمبراطور، فزادها ذلك نشاطًا وعزمًا، وأكسب حماستها الشرقية أجنحة غربية، وطلى معدن عجبها القليل من الذهب.

لبست ثيابها صباح ذاك اليوم وهي تقول: «تبارك هذا الفجر» ولكنها لما اقتربت من منضدتها وقع نظرها على كتاب نيتشى وفيه صحيفة ظاهر طرفها وضعتها علامة لمطالعتها، صحيفة خط فيها ما يفسد كل مساعيها لو اكترثت به، خط فيها ما يلاشي كل آمالها وأمانيها الحديثة والقديمة، لو قرأت مذعنة طائعة، وكانت تلك العلامة موضوعة في الكتاب منذ ثلاثة أيام، ولهذا كانت عرضة لاطلاعها ثلاث مرات، ولإثارة تمردها ثلاث مرات أيضًا.

وجاءت ليلة أمس فانفجرت شعلة غضب من مصدر تلك الأوامر التي أخذت تقرأها جهان مرة أخرى.

من رضا باشا إلى ابنته جهان:

يجب عليك من الآن فصاعدًا ألا تخرجي حاسرة القناع أو دون حاجب من الحجاب، وألا تفرطي بالكلام في الأماكن العمومية، وألا تتدخلي بالسياسة، وألا تنشري من مقالاتك في الجرائد، وعدا هذا كله يجب عليك أن تمتنعي عن مقابلة الجنرال فون والنستين، وعن مراسلته.

قرأت ما تقدم، واسترسلت إلى التأمل؛ إن أباها ولا شك مخطئ بآخر ما جاء في أوامره، ولهذا وجب عليها أن تقنعه بخطئه فلا يهتم بذلك الأمر، ولو كانت فعلت لما تجرأت أن تبوح بسر قلبها، ولكنها امرأة ولم تكن تؤكد أنها إذا حان الوقت تستطيع أن تجمع قوة من نفسها كافية لتدير مقصدها من ذلك السر، وكشرقية مسلمة تعتقد بالقضاء والقدر تركت الأمور تجري مجراها، موكلة أمرها إلى الله على أنها كانت تحب أباها وتجله إجلالًا، فوطنت النية أن تذعن ولو لبعض أوامره.

أعادت العلامة إلى الكتاب، وراحت تنادي جاريتها فوجدت الباب موصدًا، عالجت الغال فلم يذعن لإرادتها، ففتشت على المفتاح فلم تجده، فلبثت مفكرة محتارة بأمرها، من قفل الباب ترى؟ ألا يمكن أن تكون هي نفسها قد أوصدت الباب، وأحكمت قفله أثناء غضبها الليلة البارحة؟ وعلى فرض أنها هي التي فعلت ذلك فأين المفتاح؟ أهذه نتيجة صبرها ثلاثة أيام؟

لبت الجارية نداء مولاتها ولكنها لم تجسر أن تخبرها عن قفل الباب، وجاء غيرها من الخدام أيضًا فأظهروا استغرابهم، وتجاهلوا الأمر، حتى إن خصيها العبد الأمين سليمان الذي أنصت لصوت سيدته داخل غرفتها قد هز رأسه متأسفًا وتنحى: عجبًا أجهان سجينة في غرفتها الخاصة؟ ولماذا؟

لم يجبها أحد من الخدام؛ لأن الأوامر صدرت إليهم مشددة بأن يحافظوا على الصمت التام، وأن لا يتداخلوا فيما لا يعنيهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤