الفصل العاشر

ذهبت جهان باكرًا صباح اليوم التالي لتقابل وزير الحربية في منزله، وهناك أدخلها ياوره الألماني إلى السلاملك حيث جاءها بعد انتظار دقائق قليلة كاتم الأسرار، وقال لها: إذا كانت زيارتها تتعلق بمسألة اعتقال أبيها فإن سعادة الوزير لا يمكنه مقابلتها، ولقد نصح لها عن لسان سعادته أن تتأنى بما تفعل، وأن تلزم جانب الحكمة بما تقول في هذا الشأن، وأن تبتعد جهدها عن السياسات، وأن تقتصر على شغلها في المستشفى.

– لا حاجة إلى اهتمام سعادته بشئوني.

قالت هذا بلهجة أسف وضياع أمل، ثم تابعت كلامها قائلة: ولكن ما الداعي لاعتقال والدي؟

– يقال إنه ارتكب الخيانة.

– مَنْ؟ أبي؟ مستحيل.

فبسط كاتم الأسرار ذراعيه رافعًا كتفيه دليل أنه غير متيقن، وأن الأمر لا يعنيه.

عليَّ أن أرى الوزير.

– بكل أسف، هذا مستحيل الآن.

– ومتى يمكنني أن أراه، أرجو منك أن تسأله عني.

فابتسم كاتم الأسرار ابتسامة صفراء، وقد أذعن لطلبها، وعاد بعد دقيقة وقد استحالت ابتسامته غيظًا.

– ليس بإمكان سعادته أن يقابلك، وليس له دخل في قضية أبيك.

فعادت جهان إلى عربتها، وأمرت الحوذي أن يسير بها إلى الباب العالي، إلا أن وزير الداخلية رفض أن يرسل كاتم أسراره لمقابلتها، وقد أنبأها الكاتب عند الباب أن معه أوامر منطوقها أن سعادته في شغلٍ شاغل لا يمكنه مقابلة أحد من الناس.

هناك في الرواق كانت جماهير الناس من طلاب الوظائف والمتاجرين السياسيين، ومخبري الجرائد والمقاولين، وبالاختصار جماعة البطالين قد تألبوا من كل فجٍ عثماني ينتظرون باسم الله، ويعللون النفس بالمواعيد وهم في تلك الحالة يغمغمون الكلام، فيتناولون متسقطات الأخبار، وشوائع السياسة، ويتجسسون بعضهم بعضًا، ولقد اقترب من جهان شاب ألماني وعلى رأسه طربوش عثماني قرمزي اللون، وسألها بالتركية الفصحى إذا كانت تشاء إتحافه بشيء، أو إذا كانت تود أن ينقل عنها شيئًا إلى جريدته، أما هي فهزت رأسها نفيًا ورفضًا، وتقدم إليها آخر بالجبة والعمامة، فأسر لها بدعوى الولاء والغيرة أن تنزل ستار عربتها بعد أن تدخلها؛ لأن ذلك أكثر لياقة بمقام الخانم، فشكرته جهان، وتابعت سيرها رافعة الرأس شامخة وهي تتضرع بالصبر وثبات الجأش، ولقد جال في فكرها قولها مخاطبة نفسها: ما ذنبي يا ترى، وما خطيئتي حتى يجب علي أن أخبئ وجهي حياء وخوفًا، ولقد تجمهر حول عربتها عدد من الأحداث ألبستهم أوروبية، وعلى رءوسهم عمائم بيضاء، فتهللوا بها هاتفين إليها بأصوات السرور والإعجاب، داعين إياها إذا ظهرت على درج الباب العالي بدرة المعارف، وقمر التهذيب، ووردة النبوغ، وسيف الحرية إلى آخره، وقد ازداد عدد المتجمهرين حتى اضطر البوليس إلى تفريقهم ليعطوا العربة طريقًا لتسير بجهان.

على أن الموكب الفخم الذي احتفى بجهان ذاك الاحتفاء لما يبهج ناظرها، ويسر قلبها لو أنه جاء في غير هذا الوقت؛ إذ كانت عوامل الغضب والحنق تتأجج في صدرها ذلك الصباح، فما نفع الشهرة والمجد والنبوغ وهي تعاني أشد الأمور، تقاسي الذل، تقف في باب وزير كأنها طالبة رفدًا، أو كأحد طلاب الوظائف الذين لا يفارقون ذلك المكان، ويؤبى عليها الدخول؟ وما الذي يحمل أولي الأمر على الامتناع من مقابلتها، وطالما التمسوا مساعدة قلمها السيال، وطالما رحبوا بها، وتأهلوا مظهرين عظيم سرورهم بها، ومقدرين كل مساعدة تقدمها إليهم، وكل كلمة جميلة ترسلها إلى آذانهم؟ أوَيمكن أن يكون أبوها خائنًا لأمته؟ إلا أن مقاومته دعوة الجهاد ليست على شيء من الخيانة، كلا ليس هذا السبب، لا بد أن يكون ثَمَّة أسباب أخرى، أو لعله أساء نحو الجنرال فون والنستين! ولكن كيف يمكن أن تعزى إساءته إلى خيانة الأمة، خيانة الحكومة!

استسلمت جهان إلى بساطة قلبها، واستملكتها سذاجة الفطرة التركية، وهي كثيرًا ما تلجأ إلى مثل ذلك لدى وقوعها في مشكلات الأمور، فاستمرت تسائل نفسها: ولماذا ألقي القبض على أبيها؟ ولماذا لم يأت الجنرال فون والنستين ليراها، ولماذا لم يكتب إليها أو يخبرها بالتليفون عما جرى؟ ترى أيأمل أن تذهب إليه أولًا؟ ولقد تبادر لذهنها أن تتردد في أن من المحتمل أن أباها نسي أن يخبره لماذا لم تقابله بدلًا من أبيها يوم زارهم في الصباح، «أو لعله يا ترى يظن أنه بتلك المعاملة يستطيع الحصول على رضاء أبي، فيقتادني إلى مشيئته فيضعنا كلانا تحت رحمته، فنذوق بأسه، ونشعر بقوته ونفوذه؟ إنه في ضلالٍ مبين، لن أذهب لمقابلته.»

وعادت جهان إلى منزلها، وفي الحال كتبت إلى جلالة السلطان كتابًا تلتمس به سماحه باجتماع خصوصي بينها وبين حضرته السلطانية، وفي اليوم التالي تناولت جوابًا لطيفًا من مستشار السلطان الخصوصي مذيلًا بمذكرة خصوصية من قلم المستشار نفسه جاء فيها نصيحة لجهان أن تأتي إلى يلديز، وعليها أردية سيدة عثمانية تليق بشأنها، وعلى وجهها القناع المعتاد، ولقد اشمأزت من تلك المذكرة، وحق لها الاشمئزاز، ولكنها رغبت في التسليم لمشيئة جلالة الخليفة المعظم على أمل أن تحصل على إعتاق أبيها؛ لعلها تستغني عن استرحام الجنرال فون والنستين.

أما اجتماعها بالسلطان فلم يأتِ — ويا للأسف — بالفائدة التي أملتها؛ فإن جلالته أجابها على التماسها بهدوء ورزانة وهو يهز رأسه المغطى بالبياض مبديًا عظيم أسفه، وعميق شعوره مع كريمة تابعه الأمين المحبوب رضا باشا، ولقد ذرف بالفعل دمعه من كفر الأيام، ومعاكستها، وتلبد جوها بالغيوم المظلمة إذ أصبحت فيها كلمة الخليفة غير مطاعة، ولا مسموعة، ولا معتبرة.

– لتكن مشيئة الله تعالى يا بنيتي، علينا أن نسلم أنفسنا لإرادته تعالى فهو يفعل ما يشاء.

وخرجت جهان من يلديز بحالة سوءٍ وهيجان لا تلوي على تسليم وإذعان، وهي حالة أشبه بالعاصمة العثمانية نفسها في ذلك اليوم، فإن المدينة كانت تتأجج فيها نار التعصب الذي تطايرت شظاياه في كل ناحية من نواحيها، وهي روح راقت لجهان؛ لأن فيها آثار الثورة تعمل في نفسها، فتشتد تعلقًا بالإسلام أكثر من كل يوم من أيام حياتها، إلا أن المقالة الثورية التي كتبتها لجريدة طنين يجب أن تمزق؛ لأن الجريدة التي لمحت تلميحًا عن فاجعة غاليبولي قد صدر الأمر بحجبها، وهناك أيضًا كاتب تهجم على الحكومة، ورمى الطاغية الألماني بانتقادٍ عنيف؛ فأودع غيابات السجن مكبلًا بالحديد، وكان البوليس حيث يرى اثنين يتهامسان في الشارع، ويتساران يدخل بينهما معترضًا باسم المحالفة والإسلام، وجميع الظواهر تدل على أن الطاغية الحديدية كانت قابضة على الأستانة، وكل أرباب المصادر، وأولي الأمر فيها تحت أمره ومراقبته.

على أن في المدينة أماكن عديدة لم يستطع جواسيسه أو رجال حاشيته أن يدخلوا إليها، ولا رجال البوليس والخفية أولئك ممن هم دونه نفوذًا وقوة، وتلك الأماكن إنما هي عرصات الجوامع، والجوامع نفسها حيث كان الناس يتألبون للمحادثات عن ماجريات النهار وشئونه المحزنة يؤولونها تأويلات شتى، وهناك خطر عظيم من احمرار عيون المتمسكين بالإسلام تمسكًا شديدًا، المتعصبين لمذهبهم تعصبًا غريبًا، وهم ممن تقصر يد الحكومة أجنبية كانت أم وطنية عن القبض عليهم.

ولقد عاد الخصي سليم ذات مساء من صلاته في أحد الجوامع فأعاد لجهان إجابة على سؤالها ما سمعه في الجامع.

– كانوا يا مولاتي جماعات جماعات بين كهولٍ وأحداث، شيوخ ومعلمين، أفندية وحمالين ومتاجرين، يتهامسون ويضجون مشيرين بأيديهم، وإياها باسطين، مستغيثين بالله المعين، ولقد سمعت أحدهم يقول: وما يزيد في الهول والفداحة أنه سيتزوج بالابنة بعد أن يعدم أباها وابن عمها، وقال آخر: إن هذا لمما يأباه الإسلام، ومما لا نتحمله، فإنه والابنة سيذبحان كالخنازير، وقال شيخ مسن: قسمًا بالله والمصطفى لن نسمح لألماني مهما كان نافذ الرأي، عظيم الشأن أن يدنس سلالة الإسلام، وقد أجابه صديق له معلم «خوجه» حدث السن: كلا، إن هذا لمن المستحيل، ويجب أن تنذر ابنة رضا باشا؛ فإنها إذا أذعنت لإرادة كافر فسوف تجر من بيته، وتسحب من حضنه الدنس، ويعمل بها السيف، هذا ما سمعته بأذني يا خانم، وأقسم بالله قد ارتجفت لسماعه خوفًا وذعرًا.

أما جهان فأخذت تتأمل في نفسها قائلة: لعل هذي هي الروح الإسلامية التي رغبت أن تلجأ إليها مستغيثة، أو هذا هو الشعب الذي تطلب معونته باسم العدالة والحرية؟ لا. لا. لا. إنهم لا يفهمونها، ولن يحسنوا فهمها، فإن بينها وبينهم لهوة تزداد عمقًا، وظلامًا يومًا فيومًا.

ولقد لبثت جهان يومين بعد زيارتها يلديز لترى ما يفعل الجنرال فون والنستين، ولما رأت أن انتظارها ذهب أدراج الرياح عزمت على أن تذهب لمقابلته بنفسها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤