الفصل الحادي عشر

لما جاءت جهان تقابل الجنرال فون والنستين خف إلى باب البهو مرحبًا مؤهلًا، وقبل يدها باشًّا مسرورًا، ثم تقدم وإياها إلى الديوان في صدر القاعة، وأجلسها إلى يمينه قائلًا: وجئت أخيرًا ترينني.

هكذا افتتح الجنرال الحديث، وفي صوته رنة التأنق والملاطفة.

– نعم ولا أعلم أن لذلك داعيًا ما، إلا أن …

فقاطعها قائلًا: لا داعي لزيارتك؟ أيجيء ذلك الأحمق شكري بك إلى منزلي طالبًا حياتي، وقد عطل أثاث البيت كما ترين — انظري هنالك — وأنت لا تكلفي نفسك السؤال عني، ولم تخطي لي سطرين، حتى ولم تخاطبيني بالتليفون مستطمنة؟ لم يخطر في بالي قط أن سيدة عثمانية تكون سريعة النسيان إلى هذا الحد، بل قصيرة الحبل في الوداد، وطالما ظننتني ذا حق في معاتبتك.

فأجابت جهان وقد تحدته بأسلوب حديثة: أراك تسابقني إلى الشكوى التي أتأمل أن تكون بها مخلصًا على أنه مهما كانت الأحوال فقد كان بإمكانك أن تحول من أجلي في الأقل دون اعتقال والدي ولقد كان باستطاعتك العفو من أجلي عن شكري بك، وأن تبر بما وعدتني بشأنه، فترجئ إنفاذ الأمر العسكري الصادر إليه.

فأجاب الجنرال وقد ألبس لهجة تهديده ابتسامة صفراء: لم تقدمي إذن لتهنئتي بنجاتي من رصاصة المغتال.

– لم يكن شكري بك مالكًا رشده، وأنت المسئول عما استولى عليه من اليأس والجنون.

– أنا؟

وردد الضمير مقطبًا جفنه عابسًا، ثم قال: إن الواقع عكس ما تتهميني به، فقد أباح لي هاذيًا أنك أنت سبب تعاسته. وقد قال إنك وعدته أن تتزوجي مني فحنثت بالوعد، ويخال أنك كنت تعاملينه معاملة سيئة، غامضة الأسباب، فقد أردت ذات مساء أن تقبليه ثم ما لبثت أن طردته من منزلك؛ ولهذا زين له هذيانه أن يلعن المرأة التركية … مقبحًا التهذيب الحديث والحرية والحريم، ولقد سببت لهذا المسكين ألمًا جاء ينتقم مني عليه لما فيه من بلادة وعماوة.

فقالت جهان وقد رفعت بصرها إليه مسترحمة: ولكنك شهم كريم الأخلاق، فاعفُ عنه وسامحه، ولكي أريح أفكارك وأطمئن بالك أعترف لك أنني لا أنوي الاقتران به، ولا أستطيع ذلك، لا اليوم ولا غدًا، قد أساء فهمي، فضلًا عن أن ليس له أن يكون أمينًا على الميثاق الذي أتطلبه في الزواج لا هو ولا سواه من أبناء عنصري في هذا الجيل يستطيع ذلك، وقد تيقنت هذا تمام اليقين، فسامح شكري بك، اعفُ عنه، أغثه.

– لم أخالف لكِ أمرًا قبل اليوم.

– ولا ترد طلبي الآن.

– لست أنا المدعي على شكري بك، فهو لم يسئ إلي خاصة، بل إلى المصلحة الألمانية التي أقمت أمينًا على جزء صغير منها، وكلمتي في هذا الشأن لا تتجاوز حدود وظيفتي.

– إن كلمتك في الأستانة شرع يطاع.

– نحن اليوم في زمن حرب أيتها الحسناء، أيتها العزيزة جهان، وأعداؤنا لا يرحمون ولا يشفقون.

– أنتم الظافرون، والرحمة أولى بالظافر.

وبعد أن توقفت عن الحديث قليلًا وهي تشعر أنها قد قامت بواجبها نحو شكري بك، وأن الجنرال سيلبي طلبها، ويعفو عنه، عادت تسأل عن أبيها: وأبي، لماذا اعتقل ما ذنبه؟

– أواه، أبوك، الآن تسأليني عن أبيك؟

قال هذا وفي صوته نبرات التثريب، وقد قصد أن يفهمها أنه كان متعجبًا من عدم حضورها لمقابلته قبل ذلك الوقت، ثم عاد إلى الكلام فقال: إن ذنبه أفظع من ذنب ابن عمك، فقد بلغني أن أباك خان الوطن، وخان الدول الوسطى.

فصاحت جهان قائلة: خيانة! إن هذا لمن المستحيل.

– إنه يراسل الأمير صباح الدين ولطيف باشا في باريس، وهما من ألد أعداء الحكومة الحاضرة، ومن أصدقاء الحلفاء، ولقد ضبط له كتاب يوقع فيه ولي العهد القائل: إنه يحاول قلب الحكومة، وإن أباك موقن أن تركيا مستعدة للمفاوضة على حدة بشأن الصلح، وهناك بين أوراقه المضبوطة حجج أخرى تثبت خيانته.

فلم تستطع جهان كتم تأثرها، وإخفاء كدرها، وقد علا خديها اصفرار، واغرورقت عيناها بالدموع.

– وما عسى أن يجري الآن؟

– سيُحاكم أبوكِ على خيانته.

– ألجأ إلى مراحمك، أرجوك مساعدتي، كلمة منك …

خنق البكاء صوتها؛ فتساقطت العبرات على خديها.

– لو أنك جئتِ قبل الآن.

– إني مخطئة أعترف بخطئي.

– خلت أنك تستغنين عني، وأنك قادرة أن تستخفي بي. إذن لماذا لم تأتي قبل الآن؟

– تريثت قليلًا لعلي أرى منكَ ما كنت أتأمل، فتفد عليَّ لتراني، أو تراسلني في الأقل.

– وإذا رأيت أنني لم أقم بما تأملت ذهبت تقابلين غيري من أولياء الأمر، أليس كذلك؟

– كلا.

– كلا! ألم تسترحمي غيري!

– كلا.

– عفوًا أيتها الحسناء، أيتها العزيزة جهان (قال هذا وهو يربط قفا يدها بأنامله).

اسمحي لي أن أخبرك ماذا فعلت مؤخرًا، ذهبت أولًا إلى وزير الخارجية لتقابليه في منزله، فأرسل إليك كاتم أسراره قائلًا: إنه لا يستطيع مواجهتك بشأن أبيك، ولقد نصح لك أن تبتعدي عن السياسة، وأن تقتصري على شغلك في المستشفى، ثم ذهبت إلى الباب العالي تسترحمين وزير الداخلية فلم تتمكني من الوصول إليه، ولقد حدثك عثماني من أبناء جنسك في الرواق إذ هممت بالخروج، ونصح لك أن تحتجبي عن الناس، وقد هلل لك بعض الشبان إذ ظهرت أمام الباب العالي، فأسكتهم نفر من البوليس، وبدد شملهم، وفي اليوم التالي ذهبت إلى يلدبز مؤزرة، ولكن جلالة السلطان لم يستطع أن يعينك في مثل هذه الأحوال، فأشار عليك أن تتكلي على الله، وبدلًا من أن تعملي بمشورته، وتلقي اتكالك عليه تعالى جئت الآن إليَّ، ألا ترين أيتها الحسناء، أيتها العزيزة أني واقف على سائر أعمالك وحركاتك؟

فارتاعت جهان، وذعرت لما تجلى لها من سلطان هذا الرجل، ومن اتساع دائرة عرفانه، إن مقدرته لسحرية، فقد قاومها في البدء متدرجًا إلى كشف أمرها، ثم أدهشها بما يعلم، فصغرت أمامه، وأحست أنها أسيرة بين يديه، بل أسيرة بين تلك القوة السحرية الألمانية التي تحد كل شيء.

– ولكني اعترفت لك بخطئي.

– ليس لمثلك أن يخطئ، وليس لمثلك أن تغفل اعتذارًا هو دين لي عليك.

– ولماذا الاعتذار؟

– ألم أكتب إليك أني قادم لأراك؟

– لقد كنت في المستشفى صباح زيارتك، ولم يكن باستطاعتي إهمال واجباتي، أولم يقدم إليك أبي عذري بهذا الشأن؟

– إن أباك سلك مسلكًا لا يليق بمقامه، ولا بمقام عثماني كريم الأصل.

– ولهذا قبضت عليه، أليس كذلك؟

قالت هذا بسرعة من يتحقق في الحال ظنونه.

– أخطأت، أنا لست ممن يتنازلون إلى الانتقام.

– بل أصبت في ظني، بلى، قد أدركت أيها الجنرال غايتك، ولكنك لا تستطيع أن تنال مرامك مني بمعاملتك والدي هذه المعاملة.

فأخذ الجنرال يدها بكلتا يديه غير مكترث بما بدا في عينيها من نار الغيظ: ها قد اقتربت من الموضوع، وذلك ما يسرني، فأسألك مرة ثانية مغضيًا عن هواجسك، وعتابك الذي لا أساس له، ولا حاجة إليه أن تقبلي بي زوجًا.

فسحبت جهان يدها مجيبة: ذلك مستحيل.

فنهض الجنرال إذ ذاك ساخطًا: مستحيل؟ ولماذا؟

– لا أقدر أن أقترن بمسيحي.

– لا يليق بك مثل هذا الاعتقاد.

– إني أشعر بما أعتقد، وإني متيقنة أن الأمراء العثمانية لا تكون سعيدة إذا اقترنت بأوروبي.

– وما أنت؟

– ما أنا من هذا القبيل سوى امرأة عثمانية.

قالت هذا ببطء وهدوء فيهما تهكم واستهزاء.

– أنت امرأة عثمانية، ولكنك تفوقين باقي النساء في تهذيبك، فلقد تغذيت بلبان آدابنا ومدنيتنا. أيتها الحسناء، أيتها العزيزة جهان، عودي إلى معقولك، إلى صوابك، أنت تعلمين مقدار حبي لك، وإجلالي إياك، وتعلمين أيضًا أني أعجب بشعبك، وأحترم تقاليده، ولهذا أحب أن أعيش بينهم، وأن أكون نصيرهم، أسلِّم بدعواك التي تخلصين بها النية، أنا مسلم أغار على صوالح شعبك مثلك، وسيتولى شيخ الإسلام إذا شئت عقد الزواج.

– في موضوع الزواج لا فائدة من الكلام.

– ماذا إذن؟

فترددت قليلًا ثم أجابت: جئت لأراك بشأن والدي وابن عمي لا لأبحث معك بغير ذلك من الشئون.

– قضية ابن عمك ليست بيدي، أما قضية أبيك ففيها نظر، ولربما تجهلين أنه لولاي لوقع أبوك في مخالب أعدائه قبل اليوم من زمان طويل، وقصته سياسية محضة، ولقد أبيت استعمال الوسائط التي رغبت فيها الجمعية في معاقبته.

– والآن؟

– ثقي أن أمنيتك هي أمنيتي، ولكن لماذا التصلب بالرأي، ولماذا التحفظ والمخالفة؟ تقولين إنك لا تستطيعين الاقتران بأحد من أبناء أمتك، وترفضين الآن ما أقترحه عليكِ.

– أرفض آسفة.

– إنك تتصنعين.

– أنا مخلصة، أقسم بالله إني مخلصة بما أقول.

– لا تركي ولا أجنبي! أوروبي! يا لك من امرأة صعبة المراس.

– آه ما أشقاني، تزوجت مرة، ولا أستطيع أن أتزوج مرة ثانية، أنا متزوجة من الحرية.

– مواربة سفسطة كلام.

– حقًّا ما أقول، صدقني، ثق بصفاء نيتي.

– إذا صدقتك وجب علي أن أسألك أن تكوني خليلتي.

وقعت هذه الكلمة «خليلتي» على أذن جهان وقوع الصاعقة، خليلة الألماني حظيته، يا لها من كلمة تحول دمها إلى لهيب عندما تفتكر بها! أهذه غاية طموحها؟

قالت هذا وهي لم تزل تنظر إليه بعين تقدح نارًا، وتابعت كلامها: حظية سرية، ولقد هجرت الاثنين: الأمير، والقصر، لاعنة كلاهما، والآن يجيئها هذا الرجل فيقترح عليها أن تكبل بنفس القيود، وأن تقبل بذات العار، ولقد جال بفكرها أمر واحد أكثر من مرة أثناء الحديث وهو أن تخبره أن ما تريده منه حقيقة هو ولد، وأن حفلة زفاف على الطقوس المسيحية أو الإسلامية لا تأتي بنفع يرجى؛ لأن كلاهما يختلف مذهبًا، ولا يمكن أن يعتنق الواحد مذهب الآخر بإخلاص حقيقي، وما ذلك إلا تمويهًا وغشًّا، إما سلمته نفسها تتميمًا لغرض كان يجول في صدرها، فذلك حسبها، وبه مناها ورضاها، وتبقى القرابة بينهما مقدسة، ولئن تكن قصيرة، إما حليلة حظية! لا سمح الله! ونهضت من على الديوان ووجهها مضطرم غيظًا وحنقًا.

– عقيدتي بالزواج أسمى مما تظن يا حضرة الجنرال.

قالت هذا متطلعة فيه وجهًا لوجه.

– ولكن هذا ما يعني «بحرية الزواج» الأوروبي العصرية.

– وقد تجهل ما أعنيه أنا.

قالت هذا وهي لم تزل تنظر إليه بعين تقدح نارًا، وتابعت كلامها: هذا من سوء حظي أيها الجنرال، وقد تجهله أنت أيضًا يا حضرة الجنرال، فإن اقتراحك لا يليق بك، هو شائن معيب، وقد هدمت به أملي بك، وضربت اعتقادي الحسن بالألمان ضربة أليمة لا شفاء له منها.

– ولكن إذا كنت لا ترغبين بي زوجًا (قال هذا واقفًا أمامها، ويداه مشبوكتان وراء ظهره) فلماذا لا ترغبين بي صديقًا، إذا كنت لا تحبين أن تكوني زوجتي لِمَ لا تكوني خليلتي؟

– أخالك تسألني هذا لقاء إنقاذك أبي من الموت، يا حضرة الجنرال فون والنستين إن في ابتغائك أن أضحي شرفي من أجلك أظهرت بأنك لست بشريف النفس والأخلاق.

وخرجت من البهو مسرعة حانقة قبل أن يفوه الجنرال بكلمة جوابًا …

ليس الجنرال فون والنستين من الرجال الذين يتبسطون بدخائل أنفسهم، ويدرسون نزعاتهم الباطنية درسًا دقيقًا، فهو إذا صمم على أمر سعى له بكليته دون أن يحاسب نفسه في المحلل والمحرم من وسائط الفوز فيه، وما هو من الذين يتغاضون عن أمر فيه امتهان شرفهم، أما شأنه وجهان فرأى أنه لمن الضعف أن يقف في منتصف الطريق فيه مهما كانت الأسباب والنتائج حسية أم وهمية، فقد نظر إلى الأمام بقدر ما تستطيع أن تصل إليه باصرته، ولكنه كان يفتقر إلى ذلك النور الداخلي، إلى تلك البصيرة التي تحسر نقاب الغوامض التي تزيح ستار المخبأ، وتكشف المخبأ من الأمور.

وما عسى أن يخبئ له هؤلاء الأتراك الذين أخطأ الظن بهم فخالهم رقيقي الجانب، سهلي المأخذ، ليني العريكة، أليفي التزلف والذل، منها أنهم من المقاومين إرادته، المنافسين في شئونه، المعرضين مقامه للذل والامتهان، ألعله يا ترى كان مخطئًا بظنه بهم؟ أو لعل فيه ضعفًا خفيًّا شجعهم على الغطرسة، وأيقظ فيهم طبيعة الغدر والجحود؟

وكان يتمشى في أرض الغرفة وهو يجاذب هذه الأفكار وتتجاذبه، وقد بلغ الاضطراب منه مبلغًا عظيمًا بعد أن ذهبت جهان، فوقف لأول مرة موقف المرتاب بقوته، الناظر إلى عظمته وسؤدده، نظر من اعتاد النقد والتزييف، وهو يسائل نفسه قائلًا: أوَيمكن أن تكون يا ترى عظمتي خارجية — عرضية وقتية — بنت ساعتها؟ أوَليس فيها شيء طبيعي دائم قائم بنفسه يدور على محوره؟! كلها سطحية؟ أوَليست هي جزءًا من العظمة الألمانية؟ أو هل هي جزء من نفسي المتزعزعة؟ ليست قوة نفسية فردية، بل هي قوة الخداع في السيادة، في اكتساب عبودية الآخرين فقط، أليس فيها من السيادة الروحية ما يستميل إلى القلوب البشرية؟ أوَليس لدي شيء من العظمة الحقيقية أو السيادة الروحية؟!

وقد هالته هذه الاستفهامات الإنكارية، وشق عليه أن يصدق ما تنبأ به في ساعة تجلت له نفسه مما فيها من الضعف والخلل.

أجل، أستطيع أن أقضي على حياة تركي متغطرس، ولكن من أين لي أن أجبره على الإذعان لمشيئتي؟ هو ذا الباشا العجوز قد أهانني في بيته، وذاك البك الأحمق جاء يخطف حياتي في بيتي، والآن قد رفضت هذه المرأة الشرف الذي أطرحه عليها، وتهينني فوق ذلك، وتنكر علي شرف النفس والأخلاق، إن هذا في الحقيقة لكثير على الجنرال فون والنستين احتماله، وستحاسب جهان على سوء أدبها وتمردها، إنها لن تكون زوجة ولا حظية؟ المرأة هي هي أينما كانت، فضلًا عن أن هذه الولاعة التركية لأردأ طبعًا من الفرنسوية، أو لعلها يا ترى تقاوم قوة وحشية فيه! إذا كان هذا فلتستعد للنقمة، فإنه لن يمهلها بين تدمي أصابعها ندمًا، ولقد أقسم أنها إذا أبت أن تكون زوجته أو حظيته فستكون عبدة رقة لشهواته ولو يومًا واحدًا، نعم إنها خارج الحريم، ولكنها ليست خارج العبودية التي ستحقق رغبته بها، أجل سيؤدبها، سيمتلكها سيذلها، فقد أصبحت الآن في قبضة يده، تحت رحمته، وسوف تعود إليه، ما زال أبوها سجينًا حيًّا، فعليه إذن أن يرجئ محاكمته إلى أمدٍ قصير، إلى أن ينال من جهان مرامه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤