الفصل الثاني عشر

حوكم القولاغاسي شكري بك في المحكمة العرفية أولًا على عصيانه الأوامر العسكرية، فكان عقابه أنه حرم وظيفته، وجرد من ألقابه، وحوكم ثانيًا على تعمده القتل لمأرب سياسي، فكان قصاصه الإعدام، ولقد أنفذ الحكم بطلقتين من بنادق ثلة عسكرية قوامها عشرة جنود، يقودهم ألماني حال صدور الحكم على الجاني، أو إذا التزمنا جانب التدقيق نقول: إنه أعدم بعد خمسين دقيقة من تلاوة القاضي صورة الحكم الذي ختمه فضيلته بقوله: إن مندوب الدول الوسطى الخطير لم تمسه يد المغتال بأذى، وهو الآن متمتع بحياة مديدة الأعوام، سعيدة ترعاه عين الله القدير الذي ينعكس نوره الإلهي على عرش جلالة المتبوع العظيم، المتجلي بقداسة الشرع الشريف، والعدالة العثمانية العزيزة الشأن والأسباب.

إلا أن المجاملات الرسمية التي أجازتها المصلحة العثمانية الألمانية العسكرية لتحكم بالعقاب على كل متعدٍ أثيم، وتنفذ حكمها بسرعة ولجاجة لم يسمع بمثلها الأتراك، وقد أنشَئُوه شريعة يجرون بموجبها عندما توافق مقاصدهم، وإلا فإنهم يكيفونها كيف شاءوا عند الحاجة، مراوغين مقدمين ومؤخرين في بنودها وأصولها، فيتغاضون في الأحايين حتى عن مجاملة الطاغية الخداع القادم إليهم من برلين الذي دعا له القاضي بطول العمر، ورعاية عين الله تعالى.

نعم، فهم خدموا مأربه في شكري بك، ولكنهم ناظرون إليه بالمرصاد؛ لما كان ينوي إجراءه في رضا باشا، فهم إذا استطاعوا بعونه تعالى لن يوافقوه على مشاركته في مكيدة يقصد بها امتهان شرف سيدة من النبيلات التركيات، ولهذا عقد أعضاء جمعية الاتحاد والترقي وهم أعداء الباشا الألداء جلسة سرية قر قرارهم فيها على توجيه احتجاج على دسيسة الجنرال، مندفعين بعامل الغيرة منه، وعامل النَّعْرَتَيْنِ الدينية والجنسية.

أرضا باشا يصبح في قبضة هذا الألماني؟ هذه لهجة غريبة تختلف نوعًا عن لهجة ذلك القاضي الذي رأس المحكمة العسكرية ينفذ فيها إرادة الجنرال كما تزين له أهواؤه حتى تذعن ابنة الباشا لمشيئته، إنه لموقف شائن معيب أوقف فيه الجنرال نفسه.

هذه غايته، وهي لم تذهب عن رجال تركيا الفتاة القابضين على أزمة الأحكام، فوالله ونبيه المصطفى لن يفوز بامرأة عثمانية، ولن ينالها قهرًا مهما تسامت غايته، ونبل قصده إن كان الله معينًا لهم، فإن وزيرًا من وزرائهم ولئن كان في الشئون العمومية عبدًا مطيعًا أوامر الجنرال يصبح في يده آلة لنيل رغائبه الذاتية، وأغراضه وميوله لمما لا يتصوره عقل، ولا يخطر في بال، وهو العار والفضيحة بعينهما، أجل رضا باشا مجرم، وجرمه الخيانة، ولا دخل للجنرال فون والنستين في أمور العدلية العثمانية، وبناء على هذا نقل رضا باشا إلى سجن خارج الأستانة، وقد منعت جهان هناك أيضًا أن تراه.

وخلت جهان بنفسها مؤنبة ذاتها نادمة على تسرعها وخشونتها مع الجنرال، فقد كان أولى بها التريث، وألا تفقد رشدها في مجالسته، فإن حياة أبيها يجب أن تنقذ مهما كان الثمن، ولكن ما عسى أن يكون عندها هذا الثمن؟ تأملت بهذا الأمر مليًّا، وقد عادت إلى مخيلتها رؤيا أمهات عنصرها راسفات في السلاسل والقيود، فاستسلمت إلى حلمها في الحرية التي هي أول أمانيها وآخرها، الحرية في انتخاب زوج لنفسها قرين لا يحنث بيمين تتطلبه، ألا يتخذ زوجة سواها، وإذا عز عليها ذلك فلتكن لها حرية الانتخاب في الأقل انتخاب أب لوليدها، بمثل هذه الجرأة وهذا الإقدام ستكون جهان مثالًا شريفًا لنساء عنصرها، وتجعل عملها هذا من أشرف مبادئ حريتها.

ولكنها تأملت مفكرة في كيفية الإقدام على مثل هذا العمل إبان هذه المشاكل المعقدة، إلا أنها لا تستطيع الذهاب إلى الجنرال فون والنستين مقدمة إليه قلبها عاريًا من التمويه، نعم إنها طالعت كثيرًا من الروايات العصرية، معجبة ببطلات أقدمن إقدامًا غريبًا دون حياء، ولا وجل في مواقف كموقفها الحالي إلا أنها لم تشعر من نفسها برغبة تدفعها إلى الإقدام المطلوب، حتى ولو لم يحدث شيء يجبرها على الإذعان لمشيئة الجنرال، فليس فيها دافع يجعلها أن تسلك مسلكًا لا يخلو من عار عليها وفضيحة، كلا إنها لا تذل نفسها، وليس في العمل الذي تنويه من عار أو فضيحة، فقد جال في خاطرها أنه إنما ترغب فيه إتمامًا لأسمى رغائبها، ولتحقيق حلمها الذهبي.

وكذلك سرحت عواطفها، فكان المنطق خادمًا مشتهاها، وكانت الفلسفة موافقة رغباتها، على أن الجنرال اليوم أصبح يكرهها كرهًا لا مزيد عليه، فقد استخفت به امرأة، وناله منها الرفض والامتهان، فهو الآن إذا سنحت له فرصة ينزل بها أشد العقوبات، وربما أفظعها وأقساها، إنه يحاول أن ينتصر عليها ويذلها لتكون غنيمة نصره كما ذكره الطبيب الألماني في المستشفى، غنيمة في تصوره — أي تصور الجنرال — إنما في عينها، فلا فرق إذا كانت في يده آلة للتضحية أو الانتقام، فإنها إنما تنجز عملًا من أسمى الأعمال وأنبلها، لا بل عملًا مضاعف الفائدة، فإنها علاوة على نيل مقصدها تنقذ حياة أبيها من الموت.

إن ما تبذله إذن ليسير في هذا السبيل، وما هو بتضحية كما يتبادر للناس، بل هو جزية تتقاضاها من الطاغية الألماني، ولد ترومه منه، وإن ما يظنه نصرًا له سيكون نصرًا باهرًا لها، ستذهب إليه إذن طالبة العفو عن أبيها، وستتركه يفعل ما شاء، ستستسلم إليه راغبة وهي تظهر أنها أسيرة، ولكنها إذا فعلت ذلك يا ترى وتم لها ما تريد أينعم الله عليها بمن تتوهم فيه ذرية شعبها المستقبلة؟

سألت نفسها هذا السؤال، وأجابت عليه بالإيجاب متوكلة على الله ونبيه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤