الفصل الرابع عشر

لبثت جهان ترقب قدوم أبيها، وقلبها يتلظى بين عاملَيِ اليأس والأمل، فقد حلمت حلمًا هالها، ولكن الجنرال فون والنستين وعدها بأن يعتق أباها من سجنه في ذلك النهار، فمرت الساعات: التاسعة منها، والعاشرة، والحادية عشرة حتى الظهر ولم يعد أبوها، ولا جاءها خبر عنه، فخاطبت الجنرال بالتلفون، فوعدها بأن يزورها في الحال ليعلمها بسبب التأخير.

وبعد قليل جاءت الخادمة بجريدة طنين، فتناولتها جهان، وطالعت فيها هذه الإذاعة:

قد انتحر رضا باشا في سجنه صباح اليوم باكرًا بقطعه أحد شرايين معصمه الأيسر بزجاجة من المصباح الذي وجد مكسورًا على الأرض.

قرأت جهان هذا الخبر أصيل ذلك النهار هادئة ساكتة، ومن غريب أمرها أنها لم تتأثر ظاهرًا، ولم تَفُهْ بكلمة، ولم تصفق كفًّا على كف، لم تنح ولم تولول بكلمة، لم يحرك خبر هذه الفاجعة مظهرًا واحدًا من مظاهر الحزن فيها، كأنها تناهت في الغم والأسى، فوصلت بفؤادها إلى أوج الأحزان والعذاب، ومتى عظمت المصائب على امرئ أسكتته، أبهتته، جعلته ظاهرًا بل باطنًا أيضًا كالجماد، فتمسي لواعج النفس كماء الغدير وقد استحال من ريح الشتاء جليدًا، وفوق ذلك فقد كانت جهان على استعداد لاقتبال مثل هذه الفاجعة التي تراءت لها في ذلك الحلم المزعج، فشاهدت فيه سر الأوامر الرسمية: المكيدة، الأمر بالاغتيال، الدسيسة الشيطانية، الجريمة، والإذاعة الملفقة بخصوصها، أجل إن أباها قد مات، قد قتل قتلًا فظيعًا، ولا مراء أن للجنرال فون والنستين يدًا في الأمر، أو أنه عرف به في الأقل، وغض النظر ليتمم تمثيل دوره المنكر، وهو يتظاهر أنه يعمل من أجلها لتبقى صفحتها بيضاء عندها، قبحه الله! إنه فجعها بأخيها، وحرمها ابن عمها، وقتل أباها! وفوق هذا كله هو قادم الآن لمقابلتها، يا لله! ما أعمق غدر هذا الرجل، وما أشد مكره، وما أعظم جبره ووقاحته!

إنه قادم ليراني، أعادت هذه العبارة مرة ثانية محرقة الأرم، وربما كان قصده أن يهنئني على حريتي؟

وتجعدت شفتاها، واشتدتا لما جاش في صدرها من مفاعيل الغضب التي تحولت تدريجًا إلى ضحكة ازدراء وانتقام.

ولكن علي أن أقبل زيارته، أجل سأقابله بما يليق بمقامه السامي.

وذهبت إلى غرفتها مخلدة إلى أجمل ما في نفسها من الطباع وأهدئها.

وجلست مكبة على المرآة تزين وجهها.

عليَّ أن أستعد لمقابلة سيدي.

ومرت بأناملها البيضاء الناعمة في شعرها الذهبي، فأرخته مسدلة إياه على وجهها، ثم سرحته وضفرته إلى جديلتين، وهي تقول متكلفة الغنج والدلال: إكرامًا لسيدي، من أجل إله حلمي، من أجل عشيقي القادم من الشمال، قالت هذا وهي تمر الميل بين هدبيها تكحل عينيها.

ثم نهضت خالعة عنها ثيابها، ودهنت جسمها بالطيب، وارتدت فستانًا عريضًا شفافًا أخضر اللون، يجر ذيله على الأرض، ومشت بضع خطوات؛ فزاد زيه بجمال قدها، وشف تجعيده عن بياض جسمها، وأنيق خطوطه، ولبست فوقه سترة موشاة بالذهب، شدتها على الصدر، ضاغطة عليه حتى أصبح مساويًا لما تحته من الحرير الناعم، وتمنطقت بمنطقة أقل اخضرارًا من الفستان ضمت ثدييها، وقد أنزلتها قليلًا حتى ظل خصرها باديًا في لينه وتمايله. أما خفاها، فكانا من الحرير المقصب كسترتها رسمًا ولونًا، يتلألأ فوقهما خلخال من الذهب المرصع بالحجارة الثمينة، فكانت حقًّا سلطانة، بل حورية فتانة الجمال؛ إذ وقفت وهي في هذا الزي ويداها مشبوكتان حول نحرها تنظر شزرًا في المرآة، وتصعد الزفرات.

ثم قالت وهي تمزج في كفها نقطة من عطر الورد ببضع قطرات من «سكلا من رويال»، وتدهن صدرها: من أجل سيدي.

ثم نادت بالخصي سليم، فأعطته التعليمات اللازمة بخصوص القهوة، وذهبت إلى الدارخانة، وبيدها كتاب نيتشى «هكذا قال زاراتوسترا».

وجاء الجنرال فون والنستين نحو الساعة التاسعة، فأعلن قدومه إليها.

فأسرعت لمقابلته عند الباب قائلة: أهلًا وسهلًا بالجنرال، أنا مسرورة جدًّا برؤيتك مرة أخرى، وكانت جهان ترحب بالجنرال وعلى ثغرها ابتسامة ساحرة كأن لم يكن من مؤثر في عقلها وروحها، أو كأنها في ساعة أنس وحبور؛ فدهش الجنرال من تصرفها، وعبثًا حاول إيجاد سبب للريبة فيما رآه منها، جميل يصعب عليه حتى على من هو أبعد منه نظرًا وبداهة في الخاطر في مثل تلك الحال أن يخترق حصون أنسها ومجاملتها، فلقد أجادت في التكليف والمصانعة، متقنة دور السحر والتظاهر، وهي بما ارتدته من اللباس العثماني الذي لم يقابلها به قبلًا قد ازدادت فتنة وجمالًا، وقد خطر في باله في الحال أنها لم يبلغها خبر قتل أبيها، ولهذا لم يكن عنده شك أنها تزينت لأجله؛ لأجل عشيقها، لأجل من ظفر بها، وإنه لسماجة منه وفظاظة أن يكدر خاطرها الآن، ويفاجئها بالخبر، فإنه بهذا العمل يهدم معاقل آمالها، ويخيب رجاءها، ويذبح حلمها، وحلمه أيضًا بما كان يجول في نفسه من التمنيات الحيوانية، إلا أنه لم يرَ مناصًا له من الإلماع إلى الموضوع في الأقل، فكان عليه أن يقول شيئًا يطمئن بالها.

فدنا منها جالسًا على الديوان، وقال: إنه ليصعب على المرء، ليستحيل عليه أن ينجز بسرعة مقاصده، وينفذ الأهم من أوامره في هذه الأيام.

– قد يعزر وزير عثماني لم ينجز في الحال أوامر جنرال ألماني على أني أراه إبطاء عاديًّا أصبح صفة لازمة لدوائر الحكومة.

– بالتمام، بالتمام، هذا هو الواقع.

قال هذا متنفسًا الصعداء، فإنه رأى فيه فرصة للتملص من الوعد، وللنجاة من حراجة الموقف، ولكي يحول الحديث إلى نقطة أخرى تبعده عن الموضوع، توقف قليلًا ثم قال: وماذا كنت تطالعين عندما أقبلت عليك؟

– كنت أطالع كتاب نبيكم عن «الوحش الأشقر».

ودلته على العنوان، وعيناها تبرقان غنجًا وسحرًا.

– نعم إن نيتشى من أعاظم نوابغنا، ويقال إنه شاعر أكثر منه فيلسوف، أما أنا فلا أحفل بكتاباته، وطالما حاولت مطالعة هذا الكتاب فلم أستطع ذلك، ولمْ أُنْهِ إلا صفحات قليلة منه، والسبب طبيعي؛ فإن نيتشى كثير الخيال، وهذا ما لا يرغب فيه الجندي، ولكن ما أجملك وما أبهاك بهذا الزي الوطني!

– في سبيل إعزازك وإكرامك أيها الجنرال.

قالت هذا مخفية في الحال لحظة ذابلة رمته بها، أما هو فتناول يدها وكله هيام، فضغط بها على شفتيه مقبلًا إياها.

ودخل إذ ذاك سليم بطبق القهوة، فتناولت جهان الفنجان العائم عليه حب الهال، وهو دليل لها لأخذه دون الآخر الذي قدمته إلى الجنرال.

رشف الجنرال قهوته ساكتًا، وعيناه ترقبان حيطان الدارخانة الفخمة، فلاحت منه نظرة إلى متحف السلاح.

– لأبيك مجموعة سلاح جميلة.

– نعم إن له متحفًا للسلاح يروق لناظره، فهذه قطعة مغشاة بالصدأ، ولكنها من أثمن التحف التي كوفئ بها والدي من آثار الجيل الرابع عشر، وقد أهداها إليه السفير الفرنسوي، وهذا السنان هدية أحد زعماء العشائر العربية، وهذا النصل الدمشقي غنمه أمير بلوخستان في إحدى المعارك الدموية، وقد حفر عليه الأمير أثرًا تاريخيًّا.

وأنزلت سيفًا شهرته بزلاقة من غمده المُصدأ.

أتقرأ الكتابات الأثرية أيها الجنرال؟

– كلا، ولكني أراه حسامًا بديعًا، وما أجمل قرابه المرصع، أظن حجارته حقيقية؟

– نعم، فهي من الزمرد والياقوت، وقد نضدها أمير هندي، فجاءت خالية من الترتيب والإتقان، وهذا حسام أظنه من صنع هذا العصر في ألمانيا، وهو هدية السلطان عبد الحميد إلى والدي يوم تقلد مهام الصدارة العظمى. أما هذا السيف المكسور، فله حكاية غريبة في بابها، وهي أن ضابطًا يونانيًّا جيء به أسيرًا إلى والدي في أحد سهول تساليا إبان حربنا الأخيرة مع اليونان، فأمره والدي أن يسلم سيفه، فأبى قائلًا: إنه ورثه من أبيه الذي ورثه عن أجداده، وقد بقي أثرًا تاريخيًّا في عائلتهم، ولهذا فهو يؤثر كسره على تسليمه للأعداء، وإذ سمع والدي كلامه سر من بسالته، وشرف روحه، فسمح له أن يستبقي السيف، إلا أن ذلك الضابط اليوناني الشاب لم يرضَ بسيفه أن يعود إليه هدية من تركي، وقد ظل سحابة نهار كامل يستكبر الأمر ويستهوله حتى كسره على ركبته، ثم أطلق نار مسدسه في رأسه فمات منتحرًا، ولهذا احتفظ به والدي بالرغم من كسره؛ تذكارًا لتلك الحادثة، وإكرامًا لذلك اليوناني؛ اليوناني باسل شريف النفس ولكن التركي أشرف منه وأنبل؛ ولهذه المدية أيها الجنرال لسان ينطق عن حادثة محزنة، وهي أنه لما كان والدي ملحقًا عسكريًّا في السفارة العثمانية في باريس، كان يتردد علينا نائب فرنسوي قريب من عمرك، وكان يجيد التركية إذ تلقى علومه في الشرق، وقد سمح والدي لأمي التي كانت من جميلات العصر أن توافي الصالون حاسرة القناع؛ ولهذا أكثر النائب زياراته، وكثيرًا ما أشرك زوجته معه بزياراتنا، وقد دعيا والدي يومًا إلى منزلهما خارج باريس، ولم توجس أمي شرًّا من تلك العلائق الودية، حتى جاءها النائب ذات مساء بَيْنا أبي كان في التياترو مع أصحابه، فتقدم إليها راكعًا على ركبتيه، مقبلًا قدميها، مفصحًا عن شدة تعلقه بها وهيامه فيها؛ فأنكرت أمي عليه ذلك نافرة، وللحال انقلب النائب من إنسان إلى وحش؛ إذ حاول أن يرغمها لإرادته، إذ ذاك عمدت أمي إلى الحيلة لتخلص من شره، فجرته إلى حيث كانت هذه المدية — هذه المدية بعينها — فقبضت على لحيته وطعنته طعنة في قلبه قاضية، وقد تناولت صحف باريس هذه الحادثة، وبرأ الرأي العام ساحة أمي، ولكننا اضطررنا بعدئذٍ أن نغادر باريس.

وقد استغربت جهان ما ظهر من قوة الاختراع والتصور فيها، فلفقت حكاية عَزَتْ حوادثها إلى أمها، ولم تدرِ كيف خطرت في بالها، إلا أنها ناسبت المقام، وخدمت قصدها في الجنرال، ولكنها لما نظرت إلى وجهه شاهدت فيه علائم الحيرة والاضطراب، وقد ألبسها لباس التيقظ والاحتراس، فقد كان ينظر إليها واجمًا باسمًا معًا، وهي واقفة أمامه وبيدها المدية، أما هي وقد آنست منه التحذر، فتندمت لإثارة هواجسه، وللحال عادت تطمئن باله فقالت: ولكن أجمل ما في المتحف من القطع وأثمنها إنما هي في قاعة أخرى، فهلم أريكها إذا شئت.

تبادر إلى ذهن الجنرال أنه لفي موقف لا يخلو من خطر، ولكنه ما لبث أن عاد إلى طمأنينته إذ تقدمته جهان إلى غرفتها بين هو يتمشى وراءها، متأملًا قوامها الرشيق، وجمالها الفتان.

أدخلته قدس أقداس الحريم العابق بالروائح العطرية التي تسكر النفس، وتذيب الفؤاد، ولقد ظن بادئ ذي بدء أن كل ما كان أمامه وهم لا حقيقة ما خلا اليد التي أمسك بها، والعينين اللتين حدق بهما، وتلك الطلعة الجميلة؛ طلعة جهان! وذاك القد قدها اليتيم الذي ضمه إليه، فأضرم في نفسه النار وهي تشعر بحقيقة حال يفوق جمالها جمال التصور والخيال.

– لا، لا، ليس الآن.

قالت هذا جهان متطلعة فيه بعينين عاشقتين ذابلتين وهي تبتعد وتقترب منه كلهيب النار في موقد كانون.

أما السيف الذي أرادت أن تريه إياه، فقد كان معلقًا على الحائط فوق الديوان، فأنزلته قائلة: هذا أثمن السيوف وأجلها معنى، وهو أثر تحتفظ به العائلة، عائلتنا؛ لأنه جاء لوالدي بالتوارث عن أحد جدوده يوم حارب المسيحيين عند أبواب فيانا! أما أبي فلما قضى آخر أولاده استأمنني عليه قائلًا: ليكن هذا السيف من نصيب عريسك الذي سيرث شرف أجدادك المقدس.

فتناول الجنرال ذلك السيف معيدًا كلمتها «عريسك»: هذا هو السيف الذي أضعته، السيف الذي كان يجب أن أرثه، نعم.

– هو تقدمة مني إليك أيها الجنرال.

– لله درك من حسناء كريمة الأخلاق، بهية الطلعة، حلوة المحيا.

وقد تنحت عنه مرة أخرى أيضًا حائرة بأمره مترددة قائلة: لعل سليمًا قد غلط بفنجال القهوة إذ قد نفدت حيلتها التي تظاهرت بها متلبسة صفات غير طبيعية فيها، ولهذا بدأت تشعر بعناءٍ وقلق خائفة أن تكون لم تحسن ترتيب الأمر، أو أن يعود إلى ما سبق له من قلق البال، وإيجاس الشر بالرغم من أنها جاهدت في استبقاء رشدها، والمحافظة على التكتم بما تظاهرت به.

– لم يحن الوقت بعد، اجلس ودعني وحريتي هذه الليلة، السيف لك، وأنا أيضًا، و… و… وسأعود إليك في الحال.

وخرجت من الغرفة تاركة ضيفها على الديوان، أما هو فتناول السيف مرة ثانية مجيلًا نظره في ما نقش عليه بالتركية، مقلبًا إياه بيده، معجبًا بنصابه المطعم بالذهب، وكان ذلك التطعيم عربيًّا، وهو آية من القرآن لا تروق لمسيحي ما، ولا يحب سماعها وهي: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ، والضمير في هذه العبارة عائد إلى الكفار المشركين، إلا أن جهل الجنرال اللغة كان بركة ونعمة، ثم أنعم النظر بالغمد المرصع بالحجارة الكريمة، ممسكًا بالنصاب على طول ذراعه، وضغط بسنانه على البلاط ليراه يلتوي، فتبسم قائلًا: لقد أصبح ملكي، وجهان، حوريتي، سلطانتي العائدة إلي قريبًا هي لي ليلة واحدة أخرى في الأقل.

ومرت عشر دقائق قبيل أن عادت جهان وهو ينتظرها بصبر كاد أن يفرغ، وبعدئذ أخذ يتمشى في الغرفة، ولم يزل السيف في يده، وقد شعر بتخدير دب إلى يديه ورجليه، وبدوار استولى عليه بتدريج، فرمى بنفسه في الديوان، وأسند رأسه إلى وسادة شاعرًا أن يدين خفيفتين كانتا تؤاسيانه وتلاطفانه، وأن شيئًا غريبًا استحوذ على صوابه، وامتلك رشده، وأن الإغماء استولى عليه، وقبل أن يغمض عينيه في الرمق الأخير الذي هو ليس بيقظةٍ ولا بنومٍ رأى شبحًا من الجمال والبهاء يتقدم نحوه، ودخلت جهان القاعة، فنظرها الجنرال آخر مرة في حياته؛ لأنه في تلك اللحظة سقط السيف من يده، ونام نوم الموت.

اقتربت منه جهان لتتأكد حقيقة حاله، فحلت عرى سترته وطوقه تبدو منه رقبته، وتناولت السيف محدقة بجثمانه الجامد الهادئ الذي كان منذ هنيهة هائمًا دنفًا ملتهبًا شهوة وغرامًا، ثم تراجعت خطوة مترددة، مذعورة، ولكنها نشبت للحال كالنمرة صارخة، باسم الله، إما تضحية وإما انتقامًا؟ وكانت يدها ثابتة لا ترجف، ولم تخطئ طعنتها النجلاء، فتدفق الدم من حبل وريده ملطخًا فستانها، جاريًا كالنهر على الديوان، وعلى البلاط الرخامي الأبيض، ملوثًا حذاءها، فراعها مرأى الدم وأرعبها، ولهذا هرولت من الغرفة حافية صارخة: لقد نحرت الوحش الأشقر، لم يعد الوحش الأشقر في قيد الحياة.

ودخلت الدارخانة محكمة قفل الباب، وقد صور لها الوهم أن أحدًا رآها كما هي رأت مصرع أبيها، وأنه لاحق بها، فارتمت على الديوان لابطة الكتاب الذي كان هناك، واحتملت رأسها بيديها كأنها تريد أن تهدئ ما فيه من ثورة الخوف والرعب، ولقد تراءت لها الرؤيا مرة أخرى؛ فكان أمامها بوابة النعيم، ولكنها خالية من الوحش الأشقر، فقد ذبح ذلك الوحش، ومات إلى الأبد، ولكنها وثبت بغتة من على الديوان، وفي عينيها حملقة تنطق عن جنون طرأ عليها في تلك الساعة، فصاحت ذعرًا وألمًا، وقد رأت أمامها بدلًا من وحش واحد، اثنين، ثلاثة، أربعة، خمسة، جمهورًا كبيرًا من الوحوش.

ثم صرخت بملء صوتها: لا، وهي تلف ضفائر شعرها حول عنقها، لا إنهم لن يستطيعوا أن يدركوني، كلا، كلا.

وأسرعت إلى الجهة الأخرى من الغرفة تدوس كتاب نيتشى على الأرض، فأنزلت المدية التي لفقت فيها حكاية أمها مع النائب الفرنسوي.

ثم عادت جالسة تفرك بأنامل يمناها معصمها الأيسر، مستجمعة نظرها في مكان واحد، وهي تصيح: كلا، إنهم لن يدركوني أبدًا، هنا، هنا تمامًا، رأيتهم بأم عيني، رأيتهم يذبحون بالسكين.

ما قالت هذه الكلمة إلا وتجعدت شفتاها متصلبتين مكشرتين ألمًا ممزوجًا بهول استحال تدريجًا إلى ابتسامة صفراء؛ ابتسامة الموت، فمدت ذراعها وهي تميل بوجهها من الدم المتدفق منه.

أبتاه اصفح عن ابنتك، بدرم إن الوحش الأشقر لم يحيا ليفاخر بانتصاره، ابتاه لقد ذبحته بسيفك — بدرم ذبحت الوحش الأشقر — الوحش الأشقر قد مات.

وبدت قدماها البيضاوان إذ مددت رجليها المغطاتين بالأخضر كأنهما زنبقتان تدلتا من ساقهما، زنبقتان ألوتهما ريح الصبا، وبدا وجهها المتوج بضفائرها الذهبية كالموجة المغشاة بالزبد الظاهرة عند الشفق إبان بزوغ الشمس.

أما المدية وكتاب نيتشى، فقد كانا على الأرض إلى جانب الديوان، مغموسين بالدم كأنهما يشهدان شهادة حق على ما ينبغي أن يموت في الشرق وفي الغرب قبل أن تولد روح العالم الجديدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤