الفصل الثالث

استشاطت جهان غيظًا، واستولى عليها الغم، فصاحت يا للعار، ثم سألت نفسها: ولِمَ يا ترى يعاملني أبي بمثل هذه المعاملة؟

لم يكن لها أن تقارن بين هذا التصرف منه، ورصانة فيه معروفة، ولم تقرأ مرة في مطالعتها القصص الأوروبية التي تصف الحياة التركية أن باشا من باشاوات الدولة، أو شريفًا من أشراف بني عثمان يلجأ إلى مثل هذه الطريقة في تأديب بنيه.

يا للعار! أيعاملها أبوها كتلميذة مدرسة وهي السيدة التي ينظر إليها نساء الأستانة بعين الإكرام والإجلال؟ أيذلها هذا الإذلال وهي زعيمة بنات جنسها، ترفع أمامهن مشعال نور جديد، وتعمل على تحطيم قيود الحريم؟ يا للفظاعة! أجهان صديقة النواب والوزراء، مدبجة المقالات السياسية، ربة المنبر منبر الحرية، صاحبة الرأي الذي طالما أنار قومًا، وأحرق آخرين، نصيرة مبدأ أحدث ثورة في العقول، وحمل الرجال والنساء على العمل في سبيل الحق والحرية، أجهان تسجن في حجرتها؟ إنه لعار وأي عار! أَوَلم تكن هي أول سيدة تركية مشت في شوارع الأستانة سافرة الوجه؟ أَوَلم تكن هي أول سيدة تركية وقفت أمام الساحات الكبرى فمزقت قناعها الأبيض الحاجب وجهها، الحاجب نفسها، وحيت الشمس شمس الحرية؟ والآن هي أسيرة حجرتها الخاصة بأمرٍ من أبيها، فقد شق عليها هذا الأمر، فرمت نفسها على الديوان وكبرها وإباؤها يستحيلان دموعًا سخية.

لبثت على هذه الحال برهة من الزمن تلوم طورًا أباها وتارة تختلق له الأعذار وهي تترقب عودته مرددة في نفسها؛ لعله فعل ما فعل مسيئًا فهمها، أو عملًا بتهمة باطلة، ثم تناولت قلمًا وكتبت إلى شكري بك مذكرة ثانية، وإذ ختمت الظرف قرعت الجارية الباب، ودفعت إليها كتابًا من ابن عمها يقول فيه أن قد صدرت إليه الأوامر أن يغادر الأستانة ظهر ذاك النهار عينه، وخشية أن يفاجئها بوداعه يود أن يراها الساعة العاشرة والنصف.

فمزقت جهان مذكرتها، وكتبت إليه عجالة أخرى، وقد كانت تخشى قدومه إليها قبل أن يعود أبوها، وهي تأبى أن يشاهد ما هي فيه من الذل والغم؛ ولهذا اقتضبت العجالة بما يأتي: لا تزعج نفسك بالقدوم؛ فإني ذاهبة لمقابلة الجنرال فون والنستين في منزله، وسأراك بعدئذٍ، وفي أية حالة من الأحوال لا تبرح منزلك قبل الظهر.

ثم كتبت مذكرة إلى الجنرال، وأخرى إلى وزير الحربية ملتمسة من كليهما السماح لشكري بك أن يبقى يومًا آخر إلى أن تتمكن من مقابلتهما بعد الظهر، وقد بعثت بالمذكرتين مع سليم عبدها الأمين، ونحو الساعة العاشرة عندما دنت الجارية من الباب لتنبهها أن كاتم الأسرار الخصوصي في وزارة الحربية يرغب في مخاطبتها بالتليفون كان أبوها لم يزل خارجًا.

فقالت لجاريتها: قولي له يا زليقة، إنني في الحمام، وأصغِ جيدًا لما يكون جوابه.

وللحال عادت زليقة، وقالت لها: إن سعادته يتأسف جدًّا أنه ليس في إمكانه قضاء الحاجة التي سألته قضاءها.

وعاد سليم بعد هنيهة، وبيده جواب من الجنرال فون والنستين، وبه يعد جهان «الحسناء البارعة» بأن سيخاطب في الحال وزير الحربية بالتليفون، ويطلب إليه أن يقضي ملتمسها، فتنفست جهان الصعداء وهي تشكر الله، وقد عرفت عندئذ معنى كلام وزير الحربية، وأيقنت أن كلمة فون والنستين شرع في القسطنطينية فإنه ذو السلطة العليا، والحكم الحاكم النافذ حتى إن البادشاه ذاته كان يستشيره قبل إصدار إرادة سنية؛ ولهذا لم يكن لها أدنى شك في أن ستجاب طلبتها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤