الفصل الرابع

فلما خرج شيطان الوساوس معنا إذا طلبنا النزهة فرارًا منه، وإذا فعل بعد أن يكون قد نال منا مراده فلا يعتم أن ينفصل عنا إذا ثابرنا في الطريق ماشين، وإننا في ابتغائنا البعد منه، ومن أنفسنا المشتعلة غيظًا إنما نبتغي في الحقيقة ملاشات هاجس مزعج، أو فكرة منكرة، عاملين بها السياط كأنها أتان منهوكة، وإن هي إلا أتان الشيطان نمتطيها رواحًا، فنقتلها ونعود على الأقدام مستبشرين راضين، تصحبنا رفيقة صالحة أمينة يدعوها الناس «الحكمة».

عاد رضا باشا إلى منزله مرددًا المثل المأثور: «العجلة من الشيطان»؛ لأن نزهة الصباح أثمرت خيرًا في نفسه، فسرت عنه قليلًا، وأعادت إليه عطفه الوالدي، ورأفته المعهودة، ولما فتح الباب على جهان كانت نار غلوائه قد همدت تمامًا، ومع أن ما بدر منه مساء البارح لا يستوجب الندم في حال غير الحال الحاضرة، فأشفق أن يدفع بابنته جهان إلى تطرف في تصرفها فتفسد عليه أقصى أمانيه، كيف لا وقد وطَّن النفس أن ينقل من الأستانة إلى قونية العاصمة العثمانية القديمة حيث يود أن يقضي آخر أيام حياته بسلام الله ورضائه، مصطحبًا ابنته وصهره المقبل شكري بك؛ ولذلك رأى أن يداري جهان، ويطيب خاطرها.

كانت جهان جالسة على مقعدٍ قرب منضدتها، ورأسها مطأطئ على صدرها، وقد شبكت يديها حول ركبتها، مطرقة مفكرة، ولما دخل أبوها وتقدم نحوها وهي على هذه الصورة، دافعًا إليها المفتاح، ولكنها لم تتحرك ولم ترفع نظرها إليه، فجلس بالرغم من ذلك على كرسي بجانبها، وأخذ يدها بيده قائلًا: جهان — عزيزتي — تأسفت كثيرًا لما حدث، وعسى أن لا يعود مثله، ولن يعود إن شاء الله.

ثم تصدر أمامها وقال: تطلعي إليَّ الآن، وقولي لي: أبين البنات حتى القرويات منهن من تخاطب أباها كما خاطبتني ليلة أمس؟ ألا ينتظر منك وأنت السيدة المهذبة ذات المواهب السامية أن ترعي البر، وتقيمي على الطاعة البنوية التي هي من مزايا عنصرنا الخاصة، ومن أقدس تقاليدنا؟ وماذا يقولون عنك الذين يقرءون كتاباتك في الجرائد، والذين يسمعون خطاباتك، والذين ينظرون إليك كحاملة نبراس النور والمعرفة إذا أخبرتهم اليوم أن جهان تعصي أوامر أبيها، وتستخف بكلامه، وتقاوم رغائبه، بل هي لا تحترمه ولا تحبه، حتى إنها لا توجد من نفسها رادعًا عن أن تسمعه المهين من الكلام.

فالتفتت نحوه جهان وعيناها مغرورقتان بالدموع: «ليس هذا بصحيح يا أبي، معاذ الله أن أكون عقوقة.»

– ولكنك يا حبيبتي جهان لم تعودي تكترثين بأوامري كالسابق، بل تتنحين عني، ولا تستنصحينني أو تستشيرينني بما تفعلين، ولم تعودي على الأقل تقرئين أمامي ما تكتبين.

– ذلك لأنك لم تكن قاسيًا جائرًا كما أنت اليوم، واعذرني إذا قلت إنك مقاوم آرائي ومقاصدي اليوم على غير عادة منك في الماضي.

– أفلا ترين أن الجواسيس ملئوا المدينة — ألمان وأتراك — حتى أصبح المرء مسالمًا كان أو مشاغبًا لا يستطيع أن يعيش بطمأنينة، وليس من الناس من يأمن على حياته في هذه الأيام، أفيحسن منك — والحالة هذه — أن تتدخلي بالشئون السياسية وأنت ابنة رضا باشا، أو يليق بشرف محتدك ومقامك أن تترددي إلى الباب العالي، وإلى النوادي، والنزل في بارا؟ أيجوز أن تذهبي لمقابلة الجنرال فون والنستين؟ أَوَتظنين أن المرأة الأوروبية تستحسن مثل هذا التصرف منك؟

– ذهبت مرة واحدة لقضاء شغل يتعلق بالمستشفى.

– كان حريًّا بك أن تكتبي إليه عن ذلك.

– ولكنه أمر مهم ضروري، ولم يكن لي منفسح من الوقت.

– إذن كان عليك أن تبعثي رسولًا.

فتململت جهان، وانتقلت من كرسيها إلى الديوان، وقالت: بدرم لماذا تعذبني ثانية بشأن هذا الرجل؟

– لا أكتمك أني أكرهه، وأوجس شرًّا من تردده إلى منزلنا، وأعيد عليك ما قلته الليلة البارحة: «إن ما تذيعه الصحافة عنك وعنه عار لاسمي»، لم أبحث معك قبلًا بمحالفتنا مع ألمانيا، تلك المحالفة التي لا أزال أعتقد أنها جريمة على أمتنا، بل جريمة على الإسلام والمسلمين قاطبة، فلك ما ترتأينه في هذا الموضوع، ولكني أضطر أن أعيد ما قلت البارح، إن محالفة بيتية مع ألماني لضرب من المستحيل، ولا مراء أنك توافقينني على الأقل بأنها مجردة من كل حكمة، ولا تظني أني أقاومها لأسبابٍ دينية، كلا فلست من رجال الدين، ولا من رجال الفقه، ولكني لا أريدها لأسبابٍ حسية وعقلية، أنت يا جهان عاقلة حكيمة، ذات رأي أصيل، فماذا تقولين في هذا الرجل؟ إنه اليوم الحاكم بأمره في الأستانة، ينبغي أن نتقرب منه، أليس غريبًا هو عن حياتنا وعاداتنا، ولغتنا وأخلاقنا، وديانتنا وتقاليدنا؟ وعدا هذا فهو أرمل، وعمره ضعف عمرك.

– بدرم، أوافقك على كل ما ذكرت، ولكن …

قالت هذا واستسلمت للتأمل.

– ولكن ماذا؟

– لا أدري، بدرم، فإني لا أجد كلمة تعبر عن عواطفي، والحق أني لا أفهم عواطفي.

– لا يليق بك مثل هذا العذر، أفصحي عما يجول في خاطرك، ولا تخفي شيئًا عني.

– أخاف أن تزدري بي.

– معاذ الله، أنت امرأة حصيفة ولا أرى ما يدعوك إلى الخوف من توقع الازدراء.

– حسن، مساء اليوم الذي به قابلت هذا الرجل لأول مرة تراءت لي رؤيا، ليست حلمًا، بل رؤيا، وكنت إذ ذاك جالسة وراء منضدتي أترجم نيتشى، فأسدل سجل على عيني فجأة، وأصبح عقلي كخلية النحل غليانًا، وابتدأت أرى نقطًا صفراء تتراقص أمامي على صفحات الكتاب، فسقط القلم من يدي، ورأيت هذه الغرفة تدريجًا تمتلئ … ولكن ما الفائدة؟ تهز رأسك قائلًا: إنها أضغاث أحلام.

فأجاب الباشا وعلى وجهه أمائر الرغبة باستماع الحديث: أنا مصغٍ تمام الإصغاء، كملي حديثك.

– خيل لي في هذه الغرفة شبح امراة كأنها والدتي، وقد شاهدت الشبح جليًّا، ثم ابتدأ يتضاعف عدده، وتتكاثر الأشباح كلما حدقت بها بصري حتى رأيت أمامي مئات من النساء مرتديات أردية سوداء راسفات بالسلاسل والقيود، وعيون الكل منصوبة نحوي ملؤها استرحام كأنهن يرغبن بمخاطبتي بإبلاغي حقيقة هائلة، بالتماس عمل ذي شأن، وقد أرسلن إلى مسمعي هذه الكلمات «إما تضحية أو انتقامًا»، وهي كلمات لفظها صوت طالما اعتادت أذناي استماعه، كأنه صوت أمي. انظر، فقد كتبت الكلمات كما سمعتها.

أما أبوها، فكان يلهو بسبحته ليهدئ ثائر أفكاره، وبعد أن شزر الوريقة التي أرته إياها سألها قائلًا: ما فحوى هذا؟

– اعلم أن ذاك الصوت إنما هو صوت الأم، أم عنصرنا، أم ألوف من الأجيال أم ماضينا، هو صوت يدعوني إلى المفاداة في سبيل أم مستقبلنا، وهو عمل خطير لا بد أن تتمه إحدى نسائنا إن لم يكن أنا فغيري «إما تضحية وإما انتقامًا»، هذا تفسيري تلك الرؤيا التي ما تراءت لي إلا وشعرت أن شيئًا فائق القوى الطبيعية يقودني نحو هذا الرجل، ولقد كذبتك إذ قلت إني ذهبت لمقابلته مرة واحدة فقد زرته في منزله ثلاث مرات منذ آخر زيارته لنا.

– أأنت ذهبت إلى منزله؟ جهان ابنتي؟

– نعم ذهبت ولكن زياراتي كانت لشئون تتعلق بالأمة.

لعبت النار في عين رضا باشا، ولكنه جمع من نفسه قوة لتسكين جيشانه، ثم سألها: أَوَتحبينه حقيقة؟

– كلا.

– أَوَتقصدين إذن أن تقترني به لسببٍ من الأسباب؟

– كلا.

– إذن؟

– بدرم، أناشدك الله ألا تسألني سؤالًا آخر عن هذا الأمر، فإني لا أستطيع، لا أستطيع أن أجيب، لا أدري كيف أجيب …

فصاح بها وفي صوته غصة وارتعاش: جهان ابنتي؟ والله لقد صدقت ظنوني، صدقت والله ظنوني. قال هذا ونزع عنه طربوشه ليمسح العرق عن جبينه.

عندئذ تقدمت إليه جهان فجثت حياله باكية، وكلمته بصوتٍ مضطرب: كلا، كلا، يا أبتاه ليس الأمر ما ظننت، أقسم لك بالله وبالنبي إن الأمر ليس كما ظننت، لقد أسأت فهمي، فصدقني إن حقيقة الحال ليست كما تتوهم، أجهان ابنة رضا باشا، أواه! تقسو بي بدرم إلى هذا الحد بالظنون الباطلة؟

– إذن ما معنى كتابتك السرية إليه الليلة البارحة؟

– أَوَظننتها للجنرال فون والنستين؟

– إذن لمن؟

– لشكري.

تنفس الأب الصعداء، واستبشرت الابنة بشيء من الفرج، وكلاهما وقف عند هذا الحد من الحديث لاجئًا إلى السكوت كما يلجأ الإنسان إلى مخبأ من العاصفة؟ وظلا كذلك برهة، ثم قال الأب: ولم المكاتبة السرية مع شكري، وعلى الأخص في ساعة كهذه؟

– لأنه تلقى أمرًا عسكريًّا بأن يسرع إلى ساحة الحرب، وموعد ذلك اليوم بعد الظهر.

ما سمع الباشا هذا الخبر إلا وانتصب على قدميه ثانية قابضًا على لحيته بيده المرتجفة، وشرار السخط والغضب تبرق في عينيه.

– ولكني كتبت إليه أن لا يبرح قبل أن يراني، وهو ذا مذكرته التي استلمتها منه باكرًا في هذا الصباح.

– قسمًا بالله ونبيه، لن يسير شكري بك إلى ميدان القتال، لقد وهبت الأمة ثلاثة أبناء، وهو ذا رابعهم أيضًا في ساحات الوغى، وقد لا يعود لي حيًّا، وقد لا أراه مرة أخرى، وقد كان باستطاعتي أن أوقد شرار ثورة تقضي على الألمان، أو تقصيهم بيوم واحد عن الأستانة، لقد طفح الكيل، ولم يعد ضباطنا يحتملون غطرسة الألمان وتفوقهم، لم يعد بإمكانهم أن يذعنوا لأوامرهم الوحشية، أما أنا فقد أخلدت إلى السكينة لا لأجلهم، بل لأجل سيدي ومولاي البادشاه الذي لا أحني هامي مطيعًا لسواه، وإني ذاهب في الحال لأسعى بمقابلة جلالته … شكري بك لن يسير إلى ساحة الحرب ليخدم هواء ظالم أجنبي.

– ولكني كتبت إليه.

– إلى من؟

– إلى الرجل الذي ذكرته الآن، وقد وعدني أن يلغي هذا الأمر أو أن يؤجله.

– كان ينبغي لك أن تستشيريني قبل أن تفعلي ذلك، فإن كتابتك إليه في هذا الأمر لا تأتي بفائدة ما؛ فهو إذا تباطأ في استكشافه حقيقة ما بينك وبين شكري لا يتباطأ في اتخاذ الوسائط التي تفسد عليك مساعيك، وسيرسل شكري إلى ساحة الحرب، وربما كان إلى حتفه، موقنًا أن في ذلك ينال منا مراده، ألا إنه لمخطئ، فشكري لن يذهب إلى ساحة الحرب حتى وإن حكم عرفيًّا لعصيانه، وأنت ستتزوجين منه غدًا، لا بل اليوم، اليوم.

– أتزوج منه، ثم يرسل إلى قبره أليس كذلك؟

– قلت لك لن يذهب إلى ساحة الحرب.

عقب ذلك سكوت جاءت أثناءه الجارية تدعوهما إلى الغداء.

اتفق الاثنان — الأب وابنته — نهائيًّا على أن يتخذا سائر التدابير اللازمة لإلغاء الأمر في سفر شكري بك، أو تأجيله، ومما فاه به الباشا على المائدة إذ عاد إلى الموضوع قوله: «متى يعلم هؤلاء الألمان أنه مهما عظم نفوذهم يجب أن ينتهي عند سلاملك التركي؟ يمكنهم أن يستبدوا بأمورنا في الباب العالي حتى وفي يلديز أيضًا، ولكنهم والله والنبي لن يستبدوا بأمورنا في منازلنا.»

كان رضا باشا لم يزل وابنته يتناولان الغداء إذ جاء الخادم يعلن قدوم ياور الجنرال فون والنستين.

– قدم إليه السيكارات، وقل: إني قادم لمقابلته في الحال.

أحنى الخادم رأسه طوعًا، ثم لمس فمه وجبينه بيده تسليمًا وتنحى، وما هو إلا ربع ساعة من الزمن حتى ذهب الباشا إلى السلاملك حيث كان الياور بالانتظار، وهناك قدم الضابط الألماني الرسالة التي جاء بها، وأتبعها بهذه الكلمات، وسعادة الجنرال قادم بذاته عند الساعة الرابعة بعد ظهر اليوم ليقوم بواجب التهاني لسعادتكم.

ففض رضا باشا الرسالة، وأعارها نظرة، ثم أدخلها جيبه دون أن يهتم بما حوته، وقال وهو لم يزل واقفًا: أبلغ سعادة الجنرال أننا نرحب بقدومه، ونتأهل به.

وعاد إلى ابنته، وعلى طرف فيه ابتسامة صفراوية، وقال لها: تأملي يا جهان، إن ذاك الألماني متبع قواعدنا؛ فهو يرشونا ليكسب ثقتنا.

أما الرسالة فقد كانت مكتوبة بالتركية بيد لم تمارس الكتابة بتلك اللغة، فكأنها يد متتلمذ رفعته الضرورة إلى مقام كتامة الأسرار في الأستانة، ولا يبعد أن يكون أحد أولئك المتتلمذين الذين كانوا يتلقون اللغات الشرقية، وقد جاءتهم الحرب الحاضرة خير مريح لهم من عناء الدرس.

لم تقرأ جهان الرسالة كما قرأها أبوها بروح الازدراء، بل بشعور وامتنان حقيقيين، على أنها لو جاءت في غير هذا الوقت متضمنة غير ما احتوته لكانت جهان لا شك تنقد عبارتها البتراء، واقتضاب ترجمتها، وركاكة تركيبها، وخلوها من آيات التبجيل والإكرام مما يمجه الذوق التركي، إلا أن «جلالة الإمبراطور قد أنعم بالصليب الحديدي على نجلك مجيد بك لبسالته في ساحة الوغى.»

كلمات رنحت جهان افتخارًا بأخيها المحبوب، وقد أملت أن تكون الرسالة التالية من الجنرال فون والنستين حاملة إليها إنعامًا عليها من الإمبراطور.

ثم أشار إليها أبوها بإيناس وبشاشة قائلًا: لك أن تستقبلي الجنرال بعد الظهر، وهذا سرورك برسالته، فإنك لا تضطرين أن تتظاهري بغير الطلاقة والترحاب، أما أنا فلن أكون حاضرًا، فإني ذاهب إلى يلديز.

لما كان ياور الجنرال فون والنستين مجتازًا البوابة والعربة تهيأ لركوبه، إذا ببائع جرائد قد دخل بصحيفة يومية رفعها الخادم إلى رضا باشا، فقرأ فقرة من مقالة التحرير في الصفحة الأولى، وفتح الجريدة ليطالع الأنباء الرسمية والمحلية في الصفحة الثانية، وإذ وقع بصره على جدولٍ كبير من أسماء القتلى في الأسبوع الماضي، فنظر فيه قليلًا وللحال قدم الصفحة إلى عينيه مرتعشًا ليدقق النظر فيها، فشهق شهقة طويلة مرتميًا على الديوان مرددًا: مستحيل، مستحيل!

أما اسم مجيد بك ابن رضا باشا فلم يكن بين أسماء الأسرى ولا الجرحى، بل بين القتلى.

وفي عمود آخر من الجريدة فقرة خاصة عن بسالة العقيد، وإقدامه في ساحة الحرب استرسل بها قلم الجريدة إلى تعزية والده الشيخ الجليل، ولهذا لم يعد من باب للشك لدى رضا باشا، فتنهد قائلًا: «لتكن إرادة الله تعالى، إلا أن نعمته لتأتينا إما متيسرة وإما بطيئة يوم لا نستحقها، ويوم نكون في غنى عنها.»

قال هذا وقد ترقرقت في عينيه الدموع، أما جهان فكانت ترسل من أعماق قلبها تنهدات ارتعش لها بدنها وهي جالسة على الكرسي، ساد على الأب والابنة سكون الحزن، وفي خلاله جاء الخادم معلنًا قدوم شكري بك، فدُعِيَ إلى «الدارخانة»، أو للبهو الخاص، ولما مثل أمام الباشا قبل يده، وضغط على يد جهان بكلتا يديه مظهرًا حزنه بعبارات متقطعة أثارها غضب مازجته الأحزان.

– جئت الآن من وزارة الحربية حيث تناقل الموظفون من الوزير إلى أقل كاتب في الوزارة الخبر المشئوم، وكل ينهال باللعنات على الألمان مستنزلًا عليهم غضب الله … يا لها من فظاعة! رماه الأمير بالرصاص خطأ؛ ما شاء الله! الألمان لا يرمون أحدًا بالرصاص خطأ، كذب كذب وافتراء، فقد استقيت الحقيقة من كاتم أسرار وزارة الحربية وهي هذه.

أمرت القيادة الجنود أن يهجموا على خط من خنادق الأعداء، ويستولوا عليه عنوة مهما كلف الأمر؛ فلما تراجع قسم منهم شاهدوا مسدسات ضباطهم مصوبة عليهم، فاحتج الأمير آلاي مجيد بك — وأنت تعلمين أخلاقه وإباءة نفسه — وقد رفض أن يطيع أمر ضابطه الأعلى قائلًا: أنا لا أطيق أن أرى ألمانيًّا مصوبًا مسدسًا على جندي عثماني، فكان جواب الضابط الألماني وجيزًا قاطعًا؛ فقد صرع الأمير آلاي مجيد برصاصتين أصابتا قلبه، أما فرقته فقد وقفت بجانبه، متمردة على هذه الوحشية، ولكن — وا أسفاه — إن الذين بقوا في قيد الحياة منها بعد تلك الوقفة الباسلة قد هلكوا بمتفجرات مدافعنا.

– أَوَلم يبلغ الجنرال فون والنستين هذا الخبر؟

– لا مراء في أن يكون قد بلغه الخبر حال وصوله وزارة الحربية.

– لا لا لا أظن بلغه الخبر، وإلا لما كتب هذا الكتاب، ولاستغنى عن إرسال وسام الصليب الحديدي، بل لكان حفظه لآخر.

– الألماني يرمي بالرصاص بطلًا عثمانيًّا! يا للفظاعة يا للعار! كفى ما احتملنا منهم!

دخل الخادم معلنًا قدوم الجنرال فون والنستين، فنهضت جهان منتصبة، أما شكري فظل جامدًا في مكانه.

– أنا أقابله.

– اذهبي يا ابنتي إلى غرفتك.

– لا بل يجب أن أراه.

– لن تريه اليوم يا ابنتي، اصبري ريثما يهدأ غضبك، واذهبي الآن إلى غرفتك.

فسقطت جهان في كرسيها وهي تستر وجهها بيديها، وسلم رضا باشا الجريدة إلى شكري بك قائلًا: أره هذه الفقرة، وقل له إنني لا أستطيع أن أقابله اليوم.

كان الجنرال فون والنستين مصحوبًا بمستشاره وياوره مرتديًا لباسه الحربي، وعلى رأسه خوذة بيضاء، وفي رجله جزمة سوداء يشع مهمازها، وقد كاد يفرغ صبره وهو ينتظر في غرفة السلاملك كاظمًا غيظه؛ لأن الباشا — وقد علم بهذه الزيارة الشبيهة بالرسمية — لم يسرع لمقابلته عند الباب، وشد ما كان اندهاشه عندما جاء شكري بك لتأدية السلام، بل ليقدم إليه رسالة للباشا.

اطلع الجنرال على الخبر في الصحيفة، وأعادها متجاهلًا الأمر، فقال: يا للأسف؛ ثم قطب حاجبيه، ونظر إلى شكري بك نظرة استنكاف قائلًا: وما السبب في بقائك هنا حتى الآن؟

– سأبرح غدًا إن شاء الله.

– ولكن الأوامر صدرت إليك أن تبرح اليوم، وكان يجب أن تكون في طريقك.

– لم أستطع أن أكمل استعداداتي للرحيل.

– على الجندي أن يكون دائمًا مستعدًّا للانصياع إلى الأوامر أي ساعة من النهار أو الليل، عملك هذا مخالف للنظام.

ومر إذ ذاك بالضابط التركي، وعلى وجهه أمائر التذمر، وقد خرج من البيت تغلي في صدره مراجل السخط والغضب أقلها من سوء معاملة رضا باشا له، وأكثرها من عصيان شكري بك أوامره.

وإن مات ابنه أليس في إنعام الإمبراطور ما يعزيه، إنعام هو شرف لبيته، ومجد سلالته، يعززه ويفتخر به على مرور الأحقاب؟ وقد أعمل الفكرة الجنرال بهذا الشعور، واستمر يحدث نفسه: «حتى بمثل هذه الساعة كان أولى به أن يقتبل التهاني.»

سارت العربة وهو فيها يستعر حنقًا وغضبًا، أتحقير وامتهان من تركي إلى قائد ألماني؟ إنها لفظاعة، أَوَيستخف تركي بإنعام الإمبراطور؟ إنه لجرم لا يغتفر، إلا أن الجنرال فون والنستين قد جاء لزيارة الباشا بشرف أعظم لو أدرك ذلك ووعى، فإنه جاء ليزف اسمه إلى اسم ابنته جهان؛ ولهذا إكرامًا لخاطرها سيحاول أن يطفئ نار غضبه، وإكرامًا لها سيهضم هذه الإهانة، وسيحتملها إلى حين.

وهكذا كان، فإنه لما عاد إلى بيته كتب إلى جهان رسالة تعزية، وقد أنبأها أنه قادم لمشاهدتها في الغد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤