الفصل السابع

كان الجنرال فون والنستين شديد الإعجاب بأصدقائه الأتراك حتى إنه حبًّا باستمالتهم إليه تمامًا أخذ عنهم شيئًا من عاداتهم، فأصبح في بعض أطواره تركيًّا، وبالرغم من أن مقامه يوجب عليهم الرصانة والتحفظ فكثيرًا ما كان ينقاد إلى ظواهر الأمور سمحًا متساهلًا، وهي خطة قد لا تجيزها القيادة الألمانية العامة، وقد تضر بالمصالح الألمانية في تركيا، ولكنها أكسبته مكانة في الباب العالي ويلدبز، وإنك تراه آنًا رصينًا متحفظًا قليل الكلام عندما يوافق ذلك مقاصده، وآنًا يلجأ إلى السياسة فيراوغ ويموه كأصدقائه الأتراك الذين عرفوا بهذه المزايا، وتفردوا بها بين سائر الأمم، ولكن ما كان يشكل أمره عليهم من أخلاق الجنرال هو حذقه العجيب في تدبير الأمور وفقًا للساعة والحال، فكان في نظرهم من هذه الوجهة رجل التغاير والمدهشات؛ فإنه وإن كان ذا عزم ثابت لا يتزعزع عن قصده، وعنيدًا لا يشفق ولا يلين في تنفيذ أوامره، فقد أدرك مذ أمَّ العاصمة العثمانية أنه في الشرق حيث لا تنفع القسوة كثيرًا، ولا الشدة تفيد؛ كيف لا وصاحب الصولة والاقتدار نفسه يلجأ غالبًا للمراوغة والمداراة.

أجل حتى السلطان في هذه الأيام يؤثر اللين على الشدة؛ والحكيم من استعان على أموره بالتأني، ولذلك عول الجنرال فون والنستين أن يسلك هذا المسلك معللًا نفسه بملك آسيوي أملًا أن يصبح حلم السيادة الذي كان يحلمه كل يوم، وطالما ردد في قلبه، من يروصه إلى بغداد، يا لها من مملكة واسعة الأرجاء! فإذا أمست هذه البلاد تحت حماية الدولة الألمانية يصبح الجنرال إذ ذاك أرفع مقامًا، وأبعد صولة من ملوك ألمانيا المقيدين؛ لأنه في صفته نائب جلالة الإمبراطور لدى السلطان، لا بد أن يولى على هذه المقاطعة؛ وإذا كان نابليون رغب يومًا في الإسلام فهو يتجاوزه إقدامًا، ويفوقه حكمة فيتزوج من امرأة مسلمة تركية.

وكان فكره مطمئنًّا من أمر جهان، فلم يكن يداخله شيء من الريب أنها ترفض شرف اسمه ومحتده، ومجد صيته ومقامه، ولم يرَ لها في الرفض سببًا واحدًا من الأسباب، أو عذرًا واحدًا من الأعذار، وقد فاتحها بالأمر مرات، فكانت تارة تظل ساكتة، وطورًا تعرب له عن نصف الحقيقة فقط، أو أنها تحوله عن الحديث في هذا الشأن فتستزيده من معالجة الشئون العامة، فاستنتج الجنرال من هذه المداعبة أنها كسائر النساء لا تجسر أن تبوح بما يكنه قلبها؛ ناهيك بجهان من امراة غريبة عنه جنسًا ودينًا، على أنه كان متيقنًا أنها راضية ضمنًا، ولا بد أن تقبل الشرف الذي سيخلعه عليها، فلا يبقى حينئذ إلا أن يعلن الأمر إلى أبيها، ويدعو شيخ الإسلام ليعقد عليهما وفقًا للأصول الإسلامية، ولم يكن هذا التعطف بل هذا التساهل من الجنرال حبًّا بعروسه التركية فقط، بل إكرامًا لشعبها أيضًا، فإن في عمله هذا ضربًا من السياسة والدهاء، يقرب في مثل هذا الوقت الأتراك من الألمان، ويوثق بينهما عرى الوداد والولاء.

تجاذبت هذه التأملات عقله وقلبه إذ كان قادمًا لزيارة جهان، وعندما فطن لمصرع أخيها أسف أسفًا حقيقيًّا، وكان في نيته أن ينكر أمامها عمل الضابط الأعلى في ساحة القتال، إلا أن هذا الأمر لم يكن ذا شأن في نظره، وما ظنه أنه سيحول دون رغبته، فخاطب نفسه قائلًا: سأعلن لها قصدي مفصحًا عن شيء من خطتي في المستقبل، وسأرسل كاتم أسراري في اليوم التالي أطلب رضاء أبيها، وفي هذا من الإكرام والتعطف ما قلما يستحقه تركي مهما عظم شأنه.

جاء هذه المرة مرتديًا ثوبه المدني، لابسًا طربوشًا قرمزي اللون، وعندما ترجل من العربة التي لم يكن فيها سواه استقبله الخادم عند الباب، وتقدمه إلى البهو الكبير حيث ظل الجنرال واقفًا يجيل نظره في الألواح المعلقة على الجدران، وقد نقشت عليها بالذهب آيات من القرآن.

لم يتعود الجنرال الانتظار في مقابلة أحد في الأستانة؛ ولم يكن فيها من يجسر أن يوقفه في البهو منتظرًا دقيقة واحدة، ولكن سلطان الحب فوق كل سلطان، وما يغتفر لجهان لا يغتفر لغيرها؛ لذلك لم يتبرم ويمتعض، بل بات يترقب قدومها مسرورًا مستبشرًا، فتأمل ما كان من شدة دهشته وغيظه حين شاهد في الباب لا جهان ذات الجمال الذهبي الباهر، بل أباها الشيخ وقد ارتدى ثوبه الرسمي، والسترة منه مزررة حتى طوقها، ولم يكن لينسى الجنرال سوء تصرف الباشا في اليوم السابق، ولم يتوقع قطعًا مثل هذه المقابلة الفجائية، على أنه حاضر الخاطر، ثابت الجأش، وهو دائمًا على استعداد لشواذ الأمور، وشوارد الحوادث، فاستجمع في الحال ما تشتت من عقله لأول وهلة متظاهرًا بما ليس فيه، وتقدم بضع خطوات وعلى فمه ابتسامة الرياء، فصافح الباشا في وسط البهو، وتقدم وإياه إلى الصدر، فأشار الباشا يمينًا إلى مجلس على ديوان الشرف، وقد حنى رأسه إجلالًا لضيفه.

جلس الجنرال وافتتح الحديث بالإفرنسية؛ لأن رضا باشا يجهل الألمانية، فقال: أتأمل أن تكون قد تناولت السيدة جهان خبر تلك الفاجعة الأليمة بصبرٍ وثبات جأش، وآمل أن تكون معافاة هذا الصباح؟

– نعم، إنها معافاة، شكرًا لك.

– وأنت يا سعادة الباشا ولئن كان القولغاسي مجيد بك آخر من لاقى حتفه من أنجالك في ميدان الحرب حبًّا بالوطن — قال هذا وهو يلفظ كل كلمة مليًّا، ويقف عندها مبطئًا ليحسن ارتجال خطاب — ينبغي لك أن تعالج مصيبتك بالصبر وأنت الجندي الصادق الوطنية، الكبير النفس والخلق، فضلًا عن أن نجلك قد مات بطلًا، وقد كوفئ على مآثره الحسنة بإنعام من جلالة الإمبراطور، وما ضر أن جاء ذلك الإنعام بعد ما قُضي الأمر.

– إن الجندي الصادق الوطنية لا يأسف لوفاة ابن له يا سعادة الجنرال، اللهم إذا صرع في معركة صرع الأبطال متممًا واجباته العسكرية، وإن لم تعتبر بطولته، ولم يكرم لأجلها، ولكنه إذا مات في المعمعة شهيد واجب مقدس، بل واجب هو أقدس عنده من وطنه ودينه إذا مات مدافعًا عن إخوانه الشاكين السلاح، ثائرًا على القائد الأعلى الذي أظهر من الوحشية والخيانة …

وقف الباشا عند هذه الكلمة إذ رأى الخادم واقفًا في الباب حاملًا على يديه طبقًا فضيًّا عليه كأس من شراب الورد، فأشار إليه الباشا أن يدخل، فدخل وقدم الكأس إلى الجنرال، فتناولها ورفعها إلى شفتيه المتقلصتين غيظًا، فما لطفت حلاوتها كلمات هم أن ينطق بها وهي أشد مرارة من كلمات الباشا.

شرب ورفع يده إلى طربوشه شاكرًا مضيفه، ثم قال: كمل حديثك يا صاحب السعادة، ولكني أعترف أنني لا أفهم ما تقول، أوَتريدني أن أزيدك إفصاحًا؟ عجبًا أوَتريد أن أعيد على مسمعك يا سعادة الجنرال ما أنت عالم به حق العلم؟

قال هذا الباشا وحاجباه يقتربان قليلًا قليلًا حتى أصبح خطًّا أسود متواصلًا فوق عينيه، أما الجنرال فكان يربت ركبته بأنامله وهو يستملك الحنق والحقد.

– آذن إذن أن أكلمك بحرية لا تعرف المواربة، فأسألك بشرفك ألم يتصل بك خبر الفاجعة في ساحة القتال؟

– أية ساحة؟ وأية فاجعة؟

قال هذا الجنرال وهو يحاول كظم غيظه والتمويه في مقاصده: ما بالك تروغ مني، وتتجاهل الأمر؟

– ليس هذا الكلام في محله يا صاحب السعادة.

– أتريد يا سعادة الجنرال أن تخفي عني الحقيقة؟ لا مراء أن الإذاعة التي وردت على وزراة الحربية وقد منع نشرها قانون المراقبة قد اتصلت بك، وجاءك تقرير عنها من ساحة الحرب أن الضابط الألماني الذي رمى ولدي برصاصة هو وحش ضار، ونذل جبان، ولا يستحق رصاصة جندي، المشنقة لأمثاله!

– سكن جأشك يا صاحب السعادة، ولا تسترسل إلى المبالغة والأوهام، ودعني أنبئك أن ما اتصل بك من خبر الرواية لا صحة له، إنها لإذاعة كاذبة، فإن موت ابنك كان حادثًا فجائيًّا يؤسف له شديد الأسف.

– والأمر الذي صدر، ومؤداه أن يرمى بالرصاص كل جندي يتراجع، ذلك الأمر الذي احتج عليه ولدي ومن أجله تمرد، الأمر الذي كان سببًا لما تدعوه حادثًا فجائيًّا، الأمر الذي لم يستطع ولدي أن يعمل بموجبه …

ومع ما جاش في صدر الجنرال فون والنستين من الغيظ والغضب ظل مدركًا مقامه، مالكًا صوابه، فرأى أن الباشا قد نصب لنفسه فخًّا في آخر ما جاء من جيشانه فقال: إذن أنت كجندي تذنب ابنك لتمرده، وتقاضه على عصيانه الأوامر العسكرية.

– أها أها، إنما هذه هي الحقيقة، إن ولدي قد رُمي بالرصاص لعصيانه الأوامر العسكرية، ولم يمت مجاهدًا جهاد الأبطال، ولا شك أنك يا سعادة الجنرال كنت عالمًا بذلك حينما كتبت تنبئني بإنعام جلالة الإمبراطور على ولدي، فلو كنت كريمًا لأخفيته عني بعد مصرعه، ولو كنت شفيقًا لرثيت لحالة شيخ تركي مخلد إلى السكينة والسلام، ولاستغنيت عن هذا الهزء والسخرية، وفوق ذلك يا سعادة الجنرال فإن صليبك الحديدي مكافأة نيئة، وتعزية حقيرة لأب خسر ابنه.

وفي هذه اللحظة جاء الخادم بالقهوة ولفائف التبغ، ولكن الجنرال أبى قبولها، وانتصب هامًّا بالانصراف، وعلى وجهه الأحمر الضارب إلى السمرة خطوط زرقاء حنقًا وغيظًا.

– أرجو أن تعذرني يا صاحب السعادة لرفضي البحث في هذا الموضوع.

وكانت لهجته لهجة محرق الأرم، وقد وقف وقفة المتوعد المهدد أمام العثماني الذي ظل جالسًا في مكانه، والاضطراب لم يزل مستحوذًا عليه، وتابع كلامه قائلًا: فإن هذه المسألة حربية محضة، وهي من خصائص أولياء الأمور العسكرية.

– أتعني أنها ليست من خصائصي؟ ألا يهم الأب مقتل ابن له؟

قال هذا رضا باشا بصوت أجش، وقد هم بالنهوض.

في أية شريعة حربية أم أدبية أم سياسية كتب ذلك؟ إنه والله لأمر غريب، لم يسمع بمثله قبل اليوم.

وحدث سكوت قصير تكلم فيه بالتهديد والوعيد، والجنرال يداه مشبوكتان وراء ظهره جامد لا يتحرك، ثم اقترب منه الباشا وحاجباه يرقصان غيظًا، والشرر يقدح من عينيه.

– وأغرب من هذا تصرفك أيها الجنرال؛ فقد أنعمت على ولدي بالصليب الحديدي بعد ما بلغك رميه بالرصاص لعصيانه الأوامر العسكرية، ثم أتيت الآن تقابلني وتقول لي إنه ليس من شأني استجلاء الأمر، بل جئت لتهنئني بمصرع ولدي! أهذا هو القصد من زيارتك؟ يا للأسف!

سمع الجنرال هذا الكلام والتفت بحدة مجتازًا البهو، وقد كانت طرة طربوشه تتمايل من طرف إلى آخر وهو يهز رأسه مرددًا كلمة الباشا: يا للأسف! ولما وصل إلى الباب أحنى رأسه مودعًا سعادته الذي ظل وسط البهو واقفًا واجمًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤