الفصل الثامن

أفاقت جهان ذلك الصباح مكدرة مغتاظة، ناقمة على نفسها والكون، وكانت كل أفكارها من صبغة واحدة سوداء، ومن صيغة واحدة مكسرة مشوشة، وقفت في الرواق تتنشق الهواء النقي فبدا لها ذلك المنظر البديع خاليًا من مظاهر الجمال التي أخذت بمجامع لبها في اليوم السابق، في حين أن الشمس وقد انعكست أشعتها على قبب المآذن، وتلألأت على وجه القرن الذهبي وقواربه كانت أعظم جمالًا وأبهة من الماضي، ولكن حزن جهان على أخيها حال دون بصيرتها، والمنظر البهيج البديع، وقد تراءى لها أخوها في الحلم واضعًا سيفه بين يديها، وجهان امرأة تعتقد بصحة الأحلام، وعلى الأخص الأحلام المنذرة بالشؤم وسوء العاقبة، وطالما تحققت صحتها، فزاد ذلك الآن في اضطراب نفسها.

ومع ذلك فهي لا تجاذف بيومها أن يذهب ضحية الهواجس، ولا تحب أن تضيعه في المجادلات العقيمة كما أضاعت أيامها الماضية، لا ولن تقضيه في الحزن والكآبة؛ ولهذا قد لامت نفسها إذ سمحت لأمورها الخاصة أن تشغلها عن العمل الكبير العمومي الذي تقدسه، فإن سار شكري بك إلى ميدان الحرب أم لم يسر، وإن سر الجنرال فون والنستين منها ومن أبيها أو استاء، وإن كان مصرع أخيها انتقامًا أو تضحية، وكثيرًا ما كانت تردد هذه الكلمات في حلم مزعج، فهذه كلها أمور ثانوية لا ينبغي أن تصرفها عن مساعيها الخيرية والعمومية؛ ولهذا عليها إذن أن تسكن روعها، وتستجمع قواها ومعقولها لتنظر فيما يتطلب منها اليوم من الأعمال.

أمرت بإحضار عربتها الخاصة، وأرسلت الجارية إلى الجنينة لتجيئها بسلة من الأزهار، وارتدت للحال فستانها الأسود المصنوع على الزي الباريسي، وغطت رأسها بقبعة سوداء من المخمل محاطة بالشرائط الرفيعة، وقد تدلى من أطرافها برقع شفاف يرسف على وجهها من جبينها إلى ذقنها، وهو زي أوروبي، واصطلاح في الحداد، ثم خرجت من غرفتها عزومة متيقظة، خفيفة الحركة، ثابتة الخطى، تلوح للرائي كأنها مالكة أمرها، فائزة في قصدها، منتصرة على هواجسها.

أما أبوها، فقد حبذ فكرتها في تخلفها عن المنزل ذلك الصباح، ولهذا لم يعترض على ذهابها إلى المستشفى، لولا ذلك لطلب إليها أن تذهب إما للتنزه في العربة، أو لزيارة إحدى صديقاتها، ولكن الحكمة في تصرفها راقت له، فإن عملها في المستشفى عذر كافٍ للتخلف عن مقابلة أي كان وإن كان أسمى مقامًا من الجنرال فون والنستين، على أن رضا باشا لم يتسلح بهذا العذر، فإنه عندما جاء الجنرال فون والنستين لزيارتهم أمر خادمه أن يقول له: إن جهان غائبة عن المنزل، وإنها في المستشفى، ثم عاد لداعٍ من الدواعي فاستدعى الخادم، وذهب بنفسه إلى البهو، إلا أن الجنرال كما لا يخفى على القارئ لم يتنازل أن يسأل عن جهان، وعن عدم قدومها للقائه، والباشا لم يشأ من تلقاء نفسه أن يعرب له عن واقعة الحال.

قلنا قبل هذه العبارة المعترضة إن رضا باشا سر لعمل ابنته ذلك الصباح، فما كان نقابها الأوروبي، ومركبتها المقفلة، ورضاؤها بمرافقة سليم لها كما أمر إلا إذعانًا لإرادة والدها، فإن جهان لم تكن مجردة تمامًا من تلك الخلة؛ خلة المداراة التي تميز أية امرأة تركية دونها أدبًا وتهذيبًا وحكمة، فضلًا عن أنها كانت ماهرة بارعة في التوفيق بين سخافات الأمور، والمهم منها الجوهري، فهي مولودة في مهد السياسة، ولا نعني بذلك أنها كانت ترغب دائمًا في التسليم والإذعان، أو أن التساهل كان دينها كما يقول الأتراك، ففي موضوع واحد على الأقل يتفرع منه مواضيع عديدة، كحرية المرأة، وانعتاق الحريم، والاكتفاء بزوجة واحدة، والجهاد على كفر الزوج التركي، وولوعه بالتنوع والتعدد من النساء … إلخ إلخ. ففي هذه الأمور كانت جهان ثابتة العقيدة لا يزعزعها فيها حال أو زمان أو سلطان، ولا تعرف فيها المداراة ولا المراوغة ولا التساهل.

ولم تكن هذه الخلة التي اقتبستها جهان من الغرب مخالفة روح الجنرال فون والنستين الغربية الغريزية فيه، إلا أنه سلك مسلكًا شرقيًّا كما أنها سلكت مسلكًا غربيًّا، توصلا لما في كليهما من المطامح العلوية، فاختلفا واسطة، واتفقا غاية، وما أدركا أنهما يضحيان في سبيل مطامعهما ما فطر كل منهما عليه من السجايا النفسية الثابتة الأسباب، تخلق كل منهما بخلق الآخر؛ رغبة بتحقيق أمل كبير حبًّا برقي اجتماعي أو أدبي، غاية جهان القصوى مثلًا وأسبابها غربية إنما هي لتحقيق حلم عقلي، وغاية الجنرال وأسبابها شريفة إنما هي لتحقيق حلم سياسي، وكلا الحلمين جميل — إذا صحت الأحلام — ولكن مسألة التخلق هذه أو الاجتهاد في التخلق إنما هي مسألة دقيقة يلذ للمفكر درس أسبابها ونتائجها، فهل يفوز يا ترى امرؤ غربي وامرأة شرقية بأمنية ما تذكر إذا لجآ إلى المداهنة والتمليق يخادعان بعضهما بعضًا، ويخادعان أنفسهما أيضًا؟ وبعبارة أخرى: ماذا ينتظر من اثنين راقيين كل منهما يعمل لنفسه فقط أن يبلغا من أوطار الروح العلوية؟ كيف يمكنهما أن يوفقا بين المقتبس والموروث من سجاياهما الغربية والشرقية؛ ليتم التوازن والتقارن بين الاثنين، ويتم بذلك ما ينشده كل منهما من السعادة والحبور، ومن السيادة والمجد؟ في هذه الرواية مثال لهذه القضية الغامضة، لا وسيلة عقلية أو اجتماعية لحلها.

كانت جهان أحب المؤاسيات للجرحى في المستشفى، وأقربهن من قلوبهم ألمانيات كُنَّ أو عثمانيات، مسيحيات أو مسلمات، بل كانت سلطانة يجلونها، إلهة يعبدونها، وكان ذلك اليوم الذي لا يرون فيه وجهها يوم وحشة مظلمة، بل يوم شؤم عظيم، كما قال أحدهم: فلئن أشرقت مائة شمس في كبد السماء لم يكن لهم غير جهان شمسًا ساطعة علوية، هي رأس التفاؤل في أعينهم، هي البلسم الشافي لجروحهم، هي معبودتهم بعد الله والنبي.

– لقد عادت إليَّ صحتي يا خانم.

قال هذا جندي أسمر البشرة، مقبلًا وردة تناولها من جهان وهو يضغط على اليد الكريمة التي جادت عليه بعلبة من اللفائف، ثم قال: وسأعود غدًا إلى ساحة الحرب، وقد لا أعود أراك مرة ثانية في هذا المستشفى ولكن جنبي هذه الوردة فإنها تحاكي جمالك، سأذب عن الوطن باسمك، وإذا قدر لي أن أعود محمولًا إلى المستشفى فسأكون سعيدًا بمشاهدتك يا مولاتي قبل أن أموت.

فرفعت جهان قناعها، وقبلت خديه مودعة.

ثم تقدمت نحو ضابط كان جالسًا على كرسي فألبست صدره وردة، فقال لها: قرأت مقالتك في تصوير أفكار يا لها من مقالة جميلة تأخذ بمجامع القلوب، فقد أصبت بها كبد الحقيقة خانم وأنا أذهب مذهبك، فأرى أن الجيل الجديد يجب أن ينشأ في مهد الحب المقدس بعيدًا عن العبودية، وأشهد لك يا سيدتي أنني لن أتزوج أكثر من امرأة واحدة، ففي الاكتفاء بزوجة طريق نهوضنا وإصلاحنا.

– ومن هو الأحمق الأرعن، بل من هو الأعمى الذي يسمح لامرأة أخرى أن تقاسم هذه السيدة النبيلة سعادتها؟

قال هذا شاب شديد السمرة، أسود العينين، معصب بالربائط وهو يلتفت نحو الضابط.

وكانت رئيسة الممرضات ترافق جهان بالتجول بين المرضى وهي كهلة ذات محيا وقور، وعليها شيماء التقى والحنان، ولما لم تكن تفهم إلا النذر اليسير من اللغة التركية دعت إليها ابنة بملابس الممرضات مساعدة في ذلك القسم من المستشفى طالبة إليها أن تنقل لها ما كان يقوله الجنود.

وإذ عرفت ما جال بين جهان والضابط التفتت إليها وقالت: أأنت أيضًا تحبرين المقالات للجرائد؟ ما شاء الله!

ولكن جهان لم تسمع كلام الرئيسة إذ كانت تعين في الجلوس كهلًا معصب الرأس، ولما استوى في سريره ظل ماسكًا بيدها، وقال: أنت شقيقة مجيد بك، بيكنا الشريف الباسل، إنه كان ضابطي يا سيدتي، وقد شهدت مصرعه، تغمده الله برحمته ورضوانه، وجعل هذه المصيبة خاتمة أحزانك، وا أسفاه لقد مات من أجلنا، مات مدافعًا عنا، ومقاومًا قسوة الألمان وبربرتهم! أولئك الكلاب، ألا لعن الله تراب آبائهم.

وإذ قال هذا ارتجفت يداه وترجرج صوته كأنه شاهد ثانية هول تلك الفاجعة.

ولكن الرئيسة وقد فهمت بعض ما قاله، سارعت لمساعدة جهان، فأسندت معها الجريح إلى وسادة لافظة بعض كلمات بالألمانية لم يفهمها، إلا أن ابتسامتها ورنة صوتها اللطيف لمما رعى قلبه، واستهواه.

أما جهان فمسحت دموعها قائلة في نفسها: ما أشرفها وما أرقها! أوَتستطيع يا ترى امرأة تركية أن تؤانس امرأ أو تؤاسيه، وقد شتم أمامها آباءها؟! إن في الروح الألمانية لعظمة وأنفة! ثم وقف فكرها فجأة كأنها أمسكت شعورها الأصلي، فسمعت صوت عقلها يقول: ولكن الألمان قد تعلموا هذه العظمة والأنفة تعلمًا صناعيًّا، تعلمًا اكتسابيًّا، وهو من قواعد نظامهم العسكري، مع هذا فإن سيادتهم المطلقة على شعورهم لمما يستحق الإعجاب.

ذهبت جهان إلى غرفة خاصة لتلبس ثوبها الرسمي إذ لم يكن عملها لينحصر في توزيع اللفائف والأزهار على المرضى، أو في الابتسامات اللطيفة، والكلام الحلو الجميل، بل كان لها عمل آخر في المستشفى وهو التمريض، وهي لم تتهجم تهجمًا على الوظيفة، فقد أنشأت من أخواتها بنات عائلات الأستانة فيلقًا من مسلمات ومسيحيات درست وإياهن مهنة التمريض، ومارسته قبل أن أجيز لها حمل الربائط، وأدوات الجراحة.

وحالما خرجت مع من خرج من غرفة الجراحة تقدم منها طبيب ألماني وقال: أتأمل أن يكون الخبر صحيحًا، فإن الجنرال أحد رجالنا العظام، هو بطل همام.

فابتسمت جهان ابتسامة تريد بها إخفاء الحقيقة تحت ستار الإلباس، ولكن الطبيب الألماني تابع كلامه: ومع أنه بطل مغوار عقد له النصر مرارًا، فأنت اليوم أعظم فتوحاته، ولهذا أهنئك.

– أشكر لك عواطفك الشريفة، إلا أن خبر انتصاره الأخير لم يعلن رسميًّا، وقد يكون مبالغًا فيه.

قالت هذا ومالت عنه حياءً إلى دكتور عثماني، فإنها لم تكن صريحة حرة إلا بقلمها تكتب بما تشعر، وما تعتقد بدون محاباة أو مداراة، ولكنها في حديثها كانت شرقية تجمجم الكلام وتوريه، وبالأخص مع الأجانب، وقد كانت تعجب بالألمانيين، ولكنها لم تجد من نفسها دافعًا يدفعها إلى استحسان عادات فيهم همجية، وصراحة في أقوالهم رأسها الخشونة والتفوق، أما الطبيب العثماني فقال لها: أمامك هذا الصباح عمليتان جراحيتان: في الأولى قد يموت العليل تحت المباضع، والأحسن أن لا تكوني حاضرة، ولقد ألحت عليهم أن يترك ذلك العليل وشأنه، أو يسرع بالمخدرات لإراحته من آلامه، ولكن ذلك الألماني الأبله أبى إلا أن يزيد في عذابه، ويسرع بموته في عملية جراحية، إن الألمان يدعون معرفة كل شيء، أما والله إن ادعاءهم وغطرستهم لمما يضيق عنه احتمال المرء، يأتينا تلميذ ما كاد ينهي دروسه في الكلية فتزين له الوقاحة أن يملي على جراح معدود من جراحينا، ولكن ما هذا الذي أسمعه عنك، وعن ذلك الغطريس الألماني؟! قولي إن الخبر كاذب فأهنئك، فإني والله لأستقبح قرانًا مثل هذا، ولا أصدق أن ابنة من أجمل بناتنا وأشرفهن وأذكاهن وأكرمهن محتدًا تضحى على مذبح السياسة الألمانية، سامح الله أباك، فقد كنت أعتقد …

– ولكن أبي من رأيك.

– وأنت؟

– عفوًا يا دكتور، فإني لم آتِ هذا المكان لأتحدث بأموري الخصوصية.

ثم تحولت عنه قائلة: إن هذا الطبيب شر من وصيفه الألماني، وقد لامت نفسها لمقاطعتها للطبيب الألماني فجأة دون أن تحسن ملاطفته، فلئن يكن كلامه خشنًا احمرت وجنتاها منه حياءً وخجلًا، فقد فرحت بمقدمات البشائر.

وجاءت رئيسة الممرضات إلى غرفة جهان إذ كانت تضع قبعتها على رأسها، وتتلثم للخروج، فقالت لها ووجهها طافح بالسرور: عزيزتي جهان، إنه لعمل يعد لك تاج مآثرك، فقد اقتبست عاداتنا، وتخلقت بأخلاقنا، وتهذبت بتهذيبنا وآدابنا، والآن ستعتنقين ديانتنا المسيحية، فأكرم به عملًا يكسبك السعادتين: سعادة هذه الدنيا، وسعادة الآخرة، فأنا لا أشك أن سوف تعتنقين مذهب الجنرال إذا اقترنت به، فاسمحي لي أن أهنئك يا عزيزتي جهان.

– ولكن ما قولك إذا اكتمل الحظ فاعتنق الجنرال مذهبي؟

ورفعت حاجبها وهي تبتسم ابتسامة تهكم واستعجاب، فغصت الرئيسة بريقها وأجابت: هذا مستحيل.

– لا مستحيل في الحب والسياسة، ولكن ما ألطفك سيدتي، وما أكرمك تبشرينني بسعادة مزدوجة لا أظنني أهلًا لها.

وتأملت جهان بمجاملة الرئيسة قائلة في نفسها: يا لها من امرأة سليمة الطوية، تسر بساطتها القلب وتفرحه، ولكن ما الذي دعا الجنرال فون والنستين أن يشيع الخبر بالرغم من عادته بالتحفظ والتكتم؟ فلا مراء أنه مصدر هذه الإشاعات! وقد كتبت إليه جهان في عصاري ذلك النهار تظهر استياءها من ذلك، وتعترض على شيوع الخبر، أما جوابها على اقتراح رئيسة الممرضات في أنها ستعتنق الدين المسيحي فكان صريحًا جليًّا في مقالة أنجزتها مساء ذلك اليوم موضوعها: «الإسلام والحرية».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤