الفصل السابع

آخرة الفاطميين

أما سيدة الملك فبلغها العزم على منع أهل ذلك القصر من الخروج، ورأت الجند محدقًا به من كل ناحية فاكتفت بالبكاء وهي في غرفتها، فندبت أخاها وبكته والحاضنة بين يديها تبكي معها.

وإنهما لفي ذلك إذ سمعتا دبدبة عند باب القصر، فخافت سيدة الملك ونهضت ياقوتة وهي تقول: «لا تخافي يا سيدتي بعد أن سماك صلاح الدين أخته.» ولم تصل إلى باب الغرفة حتى سمعت قارعًا يقرعه بلطف فسُرِّي عنها، وفتحته فرأت قراقوش واقفًا باحترام وهو يقول: «هل مولاتنا سيدة الملك هنا؟»

قالت: «نعم، ماذا تريد منها؟ إنها في أشد حالات الحزن.»

قال: «أريد أن أعزيها وأطمئنها وأطلب إليها بألا تهتم بما تراه من دخول بعض الناس إلى هذا القصر أو خروجهم منه، وأحب أن أسألها في شيء.»

فصاحت سيدة الملك من الداخل: «تفضل يا أستاذ، ماذا تريد؟»

فدخل قراقوش وهو ينظر إليها نظرة الاستعطاف، فالتفتت إليه وقالت: «ما وراءك الآن؟ ماذا تريد؟ ها إن أمير المؤمنين قد مات، فليسكن روعك وروع أصحابك.» وغصت بريقها.

فجثا قراقوش بين يديها قائلًا: «إن موت أمير المؤمنين قد ساءني يا سيدتي، لكنه جرى بقضاء الله ولا مرد لقضائه. وإنما جئت الآن لأخبرك أن مولاي السلطان أمرني أن أقبض على ما في هذه القصور من الأموال وعلى مَن في هذا القصر من النساء، وهن كثيرات كما تعلمين. وإنما أستثني منهن سيدتي أخت أمير المؤمنين ومَن شاءت أن يصحبها من أهل هذا القصر من غير أهلها و…»

فقطعت كلامه قائلة: «وماذا صنعتم بأهلي، وأين هم؟»

قال: «لا بأس عليهم؛ لأن المولى الراحل — رحمه الله — قد أوصى السلطان بهم خيرًا، وهو عازم على نقلهم من هذا القصر إلى قصر آخر يكونون فيه تحت رعايته، لا بأس عليهم خصوصًا مولاتي سيدة الملك، فمن تريدين أن يخرج معك من الأتباع، وماذا تريدين من الأثاث والآنية أو غير ذلك؟»

فأطرقت وقد كبر عليها الخروج من ذلك القصر. ومع اطمئنانها بما ستناله من الرعاية عند صلاح الدين لم تتمالك عن النفور من هذا الأمر وقالت: «تخرجوننا من قصورنا؟! وماذا تفعلون بمن فيها من النساء والرجال والأطفال فإنهم يعدون بالآلاف.»

قال: «يا سيدتي، إن مولاي صلاح الدين سيعمل بما لا يمس كرامة أحد. فمن كانت من الجواري ذات بعل أطلقها مع بعلها، ومَن كانت حرة ولا بعل لها أطلق سراحها. وأما الجواري غير الحرائر فيهبهن لبعض رجاله. أما أهل الخليفة فإنهم سيقيمون نساءً ورجالًا في غاية الإكرام والحفاوة تحت عنايته، ويفرق فيهم الأعطية والألبسة والأقوات بحيث لا ينقصهم شيء كأنهم في قصورهم في حياة الخليفة — رحمه الله — ولا سيما سيدتي، فإنها ستنال كل رعاية هي ومَن معها.»

فقطعت كلامه قائلة: «وماذا تفعلون بولي العهد داوود؟ ألم يبايعوه؟»

فبلع ريقه وقال: «لا أظنهم يبايعون أحدًا، فإن السلطان نور الدين مولانا الأكبر قد أمر أن نبايع للمستضيء بالله العباسي، حتى لا يكون على الأرض خليفتان. على أني لا أرى الخلافة إلا تعبًا لصاحبها وخطرًا عليه ولا فائدة منها … أستميح سيدتي عذرًا في اختصار الحديث؛ لأني مضطر للاشتغال بتنفيذ أوامر مولاي السلطان بالاستيلاء على ما في هذه القصور كما قلت لك. فأخبريني ما الذي تريدين أن أحتفظ به.» قال ذلك ونهض وأظهر أنه يريد الخروج فقالت: «أريد أن تصحبك هذه الحاضنة وهي تخبرك بما أريد أن آخذه من الأثاث والثياب.» وحوَّلت وجهها عنه.

فأتمت ياقوتة كلامها قائلة: «دعوا هذه الغرفة والتي إلى جانبها لا يمسهما أحد، وأنا أهيئ فيهما ما يجب نقله … بارك الله فيك يا أستاذ.»

فتحوَّل قراقوش وخرج، فلما خلت ياقوتة بسيدة الملك قالت لها: «الحمد لله أن صلاح الدين قائم بوعده. رأيتك تدققين في السؤال وتستغربين عدم المبايعة لسيدي داود … احمدي الله أنهم لم يستخدموا السيف في فناء مَن بقي من أهل الخلافة كما فعل غيرهم في مثل هذه الحال. ألم يأمر أبو العباس السفاح بقتل كل مَن بقي من بني أمية حتى لا يبقى واحد منهم يطالب بالخلافة؟ فلو أمر صلاح الدين مثل هذا الأمر مَن يقدر على رده؟ أم تظنين المغرور أبا الحسن يرده، لعنة الله عليه.»

فلما سمعت ذكر أبي الحسن أحست براحة؛ لأنها نجت من حبائله في ظل صلاح الدين ونشطت للخروج فقالت: «أعدِّي ما نحتاج إليه من أثمن المتاع وأخفه.» قالت ذلك وتنهدت. فأخذت ياقوتة تهتم بذلك. وكان يومهم هذا من أعظم أيام الشدة؛ لأنهم في يوم الانتقال من دولة إلى دولة.

•••

أما قراقوش فإنه قبض على مَن في تلك القصور من النساء وعرضهن على صلاح الدين، فوجد أكثرهن من الحرائر فأطلقهن. وجمع الباقيات فوهبهن الحرية وفرَّقهن في رجاله وأخلى تلك القصور من الناس. وأخذ كل ما صلح له ولأهله وأمرائه والخواص من مماليكه وأوليائه من الذخائر وغيرها. وأخذوا من الجواهر والمصوغات ما لا يحصره وصف. ونكتفي هنا بنقل عبارة مؤرخ الدولتين في كتاب الروضتين قال: «وأخلى دوره (دور العاضد) وأغلق قصوره، وسلَّط جنوده على الموجود، وأبطل الوزن والعد عن الموزون والمعدود. وأخذ كل ما صلح له ولأهله وأمرائه ولخواص مماليكه وأوليائه من أخائر الذخائر وزواهر الجواهر ونفائس الملابس ومحاسن العرائس وقلائد الفرائد والدرة اليتيمة والياقوتة العالية الغالية القيمة، والمصوغات التبرية والمصنوعات العنبرية والأواني الفضية والصواني الصينية والمنسوجات المغربية والممزوجات الذهبية والمحوكات النضارية والكرائم واليتائم والعقود والتمائم والنقود، والمنظوم والمنضود والمحلول والمشدود والمنعوت والمنحوت والدر والياقوت، والحلي والوشي والعبير والحبير والوثير، والنثير والعيني واللجيني والبسط والفرش، وما لا يُعد إحصاء ولا يُحد استقصاء، فوقع فيها الفناء وكشف عنها الغطاء وأسرف فيها العطاء، وأطلق البيع بعد ذلك في كل حدث وعتيق ولبيس وسحيق وبال وأسمال ورخيص وغالٍ، وكل منقول ومحمول ومصوغ ومعمول، واستمر البيع فيها عشر سنين، وتنقلت في البلاد بأيدي المسافرين والواردين والصادرين.»

أما أهل الخليفة فنقلهم صلاح الدين إلى دار برجوان في الحارة المنسوبة إليه. واختص سيدة الملك بالإكرام والحفاوة.

وكانت مصر إلى ذلك اليوم خلافة مستقلة يُدعى على منابرها لخليفتها الشيعي العاضد لدين الله. فأمر صلاح الدين أن تتحول الخطبة للمستضيء بالله الخليفة العباسي كما كان نور الدين قد طلب منه على يد أبيه نجم الدين. وكان قد اعتذر له في التأجيل خوف الفتنة والواقع أنه أجَّلها ليستعين بذلك على نور الدين إذا أراد أن يأخذ مصر منه بالقوة. فيأخذ هو جانب لعاضد ويتقوى به وبالمصريين على دفع عسكر الشام. فلما تأكد ضعف العاضد وتحقق اشتغال نور الدين عن مناهضته عزم على إقامة الخطبة العباسية مظهرًا بها الطاعة لنور الدين. فلم يجسر أحد من العلماء أن يبدأ بذلك إلا رجل أعجمي اسمه الأمير العالم تصدى للخطبة. فلما كان يوم الجمعة صعد المنبر ودعا للمستضيء العباسي فوافقه الناس ولم يظهروا معارضة، فكتب بذلك إلى سائر بلاد مصر. وكان هذا في أثناء اشتداد المرض على العاضد وتُوفي ولم يُعلم به. فأصبحت مصر بذلك تابعة لبغداد من حيث الخلافة من سنة ٥٦٧ﻫ، ومنعوا أبناء العاضد وسائر الرجال من أهله عن الزواج حتى لا يعقبوا نسلًا يطالب بالخلافة.

أما سيدة الملك فلما رأت نفسها في قصرها الجديد في دار برجوان أكبرت ذلك الانتقال. ولما بلغها تحول الدعوة للعباسيين تحققت ذهاب دولة العلويين فشقَّ ذلك عليها كثيرًا، علاوة على وفاة أخيها. وقضت أيامًا وهي منزوية في غرفة من قصرها لا تكلم أحدًا إلا ياقوتة تتردد إليها لتخفف عنها، ومهما يكن من مشاغلها المتقدم ذكرها فإن أمرها مع عماد الدين كان غالبًا عليها. وقد فارقته في تلك الليلة المهولة وهي بين الشك واليقين من أمره. وكانت وهي في إبان أحزانها تود أن تفاتحها ياقوتة بحديثه لعلها تسمع ما يقوي أملها بلقائه، وياقوتة لا تفعل ليس عن تهيب ولكنها كانت ترى اشتغال سيدتها بحب ذلك الشاب من قبيل العبث وتود أن تنساه وتتحول عنه، فلا ترى من الحكمة أن تفاتحها بذكره أو أن تجعل ذكره من أسباب اطمئنانها وراحتها.

على أنها كانت قد استأذنت صلاح الدين في الخروج للتنزه في البساتين، ولم يكن يُؤذن لسواها بذلك من أهل الخليفة، ولكن صلاح الدين كان كثير العناية بسيدة الملك والاحترام لإرادتها قيامًا بعهده لأخيها. وكان ذلك من أكبر أسباب تعزيتها على مصائبها. على أنه اشتغل عنها مدة بالحروب في الشام وتُوفي في أثناء ذلك أبوه (سنة ٥٦٨ﻫ.) وحدثت أمور أخرى شغلته عنها، لكنه كان يوصي بهاء الدين قراقوش بها.

مضت مدة لم تسمع فيها شيئًا عن عماد الدين، ولا هي تعرف مقره ولا مصيره. ولا ترى بابًا للسؤال أو البحث، فضاق صدرها واستولى عليها القنوط وتغلبت عليها السويداء وأصبحت لا تفرح بنزهة ولا ترتاح إلى حديث. وقلَّ طعامها وتكاثر أرقها، فأخذت في الهزال وياقوتة تبذل جهدها في تسليتها، وكلما رأت ضعفها وانقباضها تحيَّرت في أمرها. وكانت تظن طول غياب عماد الدين ينسيها إياه، ولما لم تعد تسمعها تذكره ظنتها نسيته، لكنها ما لبثت أن أدركت خطأها ذات ليلة وهي نائمة في غرفة مستطرقة إلى غرفتها؛ إذ أفاقت على صوت سيدة الملك وهي تناديها: «ياقوتة ياقوتة!»

فوثبت من فراشها إلى فراش سيدتها فرأتها قد قعدت على السرير وشعرها منفوش وتغيَّرت سحنتها فترامت عليها وصاحت: «مولاتي حبيبتي ماذا تريدين؟»

فقالت: «عماد الدين، عماد الدين! أين هو؟ سمعتهم ينادونه.»

فقالت: «أين هو يا سيدتي؟ إنه ليس هنا، إنك ترين حلمًا. ألا تعلمين أنه مسافر؟»

فأزاحت شعرها عن جبينها وتفرست فيما حولها وعيناها تدلان على اضطرابها وارتيابها وقالت: «إنه مسافر؟ آه ما أطول السفر! إني سمعت اسمه في الحلم، يا ليتني ظللت نائمة لعلي أسمع ذكره مرة ثانية أو ربما تراءى لي طيفه.» قالت ذلك وأغرقت في البكاء.

فأكبت ياقوتة عليها وأخذت تخفف عنها وتقول: «لماذا تفعلين ذلك يا سيدتي؟ ماذا أصابك؟ أين تعقلك وحكمتك؟»

فاجتذبت نفسها من بين ذراعيها وهي تقول: «لا تذكري التعقل والحكمة. لا محل لهما مع الحب يا ياقوتة … يا لله ماذا جرى لي؟ ويلاه لم أعد أخشى التصريح بما في قلبي، لكنني حبسته زمانًا حتى كاد يقتلني، تدبري الأمر وأسعفيني، آه يا عماد الدين.» وعادت إلى البكاء.

فجثت ياقوتة بين يديها وقالت: «هوني عليك يا مولاتي واتكلي عليَّ. لماذا لم تفاتحيني بهذا الأمر من قبل؟»

قالت: «وما الفائدة من الكلام؟ ها إني قد كلمتك، أخبريني أين عماد الدين؟ ما العمل للوصول إليه؟ ألم تعلمي مقره؟ ألم تسألي أحدًا عنه؟ قولي.»

قالت وهي تمسح دموع سيدتها بمنديلها: «نعم سألت عنه وقد علمت من الأستاذ بهاء الدين قراقوش أنه سار بمهمة سرية إذا نجح فيها صار رجلًا عظيمًا يليق بسيدة الملك، وهذا أمر ذو بال يا سيدتي؛ لأن بنت الخليفة وأخت الخليفة لا يليق بها أن تتزوج بواحد من عامة الناس و… و…»

فقطعت كلامها قائلة: «لا تقولي خليفة ولا عامة، إنني أسيرة في هذا القصر وهو طليق، وقلبي أسير أيضًا ولا أدري إذا كان قلبه كذلك.» وشرقت بدموعها.

فأخذت ياقوتة تضمها وتمسح دموعها وتقبِّلها وتقول: «خففي عنك يا سيدتي، وارجعي إلى رشدك. اصبري. لنرى ماذا نعمل.»

قالت: «ماذا نعمل قد طال غيابه، ولا أدري ما أصابه.»

قالت: «لم يصبه شيء، ولا بد من عودته ظافرًا ويصير من كبار الرجال. وإذا علم صلاح الدين بميلك إليه زاده رفعة وتقدمًا، يظهر أنك نسيت هذه النعمة. نسيت التفات صلاح الدين إليك ومعاملته إياك معاملة الأخ لأخته.»

قالت: «كلا، لم أنسَ ذلك، ولولاه لقضيت حزنًا وكآبة … ولكن ما الذي أسمعني اسم عماد الدين في هذه الليلة؟»

قالت: «لعل ذلك فاتحة القرب، تمهلي إلى الغد لنرى ما يكون.»

وأشارت إليها أن تعود إلى الرقاد فأطاعتها ونامت وانصرفت ياقوتة إلى غرفتها وهي تفكر في سيدتها وقد ندمت لسكوتها عن ذكر عماد الدين كل هذه المدة، على أنها اعتقدت أن سيدتها لم تسمع اسم عماد الدين عبثًا، وأنه لا بد من شيء يحدث بشأنه.

وقد تحقق ظنها في صباح اليوم التالي؛ إذ جاءها قراقوش يقول: «إن السلطان صلاح الدين قادم بعد قليل لمقابلة سيدة الملك.»

فبُغتت لكنها توسمت في تلك المقابلة خيرًا — وصاحب اليأس يتوسم في كل جديد فرجًا — فقالت: «هل يطلب مولانا السلطان أن يقابل سيدتي ويخاطبها؟ إنه يفعل حسنًا لأنها منقبضة النفس وهي تستأنس برؤيته، أنا ذاهبة لأخبرها بقدومه.» ومضت إليها.

•••

وكانت سيدة الملك قد نهضت من الفراش وهمت أن تستدعي ياقوتة، فلما دخلت عليها قرأت البشر في محياها فخفق قلبها وقالت: «ما وراءك؟»

فقالت وهي تبتسم: «لعل الفرج قريب … إن السلطان صلاح الدين آتٍ لمشاهدتك.»

قالت: «هو طلب ذلك من تلقاء نفسه؟» وتوردت وجنتاها من البغتة.

قالت: «نعم يا سيدتي، فلعل عنده خبرًا يسرك. قومي والبسي ثيابك.»

فنهضت وساعدتها ياقوتة في اللبس فارتدت ثوبًا بسيطًا وأصلحت شعرها وخمارها، وخرجت إلى قاعة الاستقبال وركبتاها ترتعشان من التأثر.

وبعد قليل سمعت وقع خطوات في الدار وإذا ببهاء الدين قراقوش قد دخل وهو يقول: «إن مولانا السلطان قادم.»

فتهيأت سيدة الملك لملاقاته. ثم دخل صلاح الدين وهو يتلطف في إلقاء التحية، فهمَّت بالنهوض له، فأشار إليها أن تقعد وهو يبتسم وقال: «اجلسي يا أختي، قد أبطأت في زيارتك هذه المرة لغيابي عن مصر، كيف أنت؟ أرجو أن تكوني في خير.»

فلما سمعته يناديها بالأخوة انبسطت نفسها وقالت: «طالما كنت مشمولة برضاء السلطان صلاح الدين فأنا في خير، والحمد لله.»

قعد صلاح الدين على وسادة بين يديها وهو يشير إلى قراقوش أن يقعد. وظلت ياقوتة واقفة. فقال صلاح الدين يخاطب سيدة الملك: «أرجو أن تكوني حائزة أسباب الراحة في هذا القصر.»

قالت: «نعم إني من نعم السلطان لا ينقصني شيء من أسباب الراحة؛ لأن الأستاذ بهاء الدين لا يدخر وسعًا في هذا السبيل … ويكفيني من أسباب السعادة أن يدعوني السلطان صلاح الدين أخته.»

قال: «فإذا كنت راضية عن هذه الأخوة لم يبقَ باعث لوضع هذا النقاب على محياك.» وضحك.

فأزاحت النقاب عن وجهها وقالت: «نعم صدقت.» وأطرق حياءً.

فرأى صلاح الدين الضعف في وجهها فقال: «أراك منحرفة المزاج يا سيدة الملك، هل تشكين من شيء؟»

فسكتت وظلت مطرقة، فالتفت إلى ياقوتة، فعلمت أنه يستفهمها عن سبب ذلك النحول فقالت: «إنها لا تشكو ألمًا ولكنها منحرفة المزاج قليلًا.»

قال: «لا بأس عليك يا أختي. وأرجو ألا أكون قد أثقلت عليك بهذه الزيارة … وإنما حملني عليك حب مصلحتك. ولكي أسألك عن أمر لا أحب أن يطلع عليه سواك وأظنك أعلم الناس به.»

فتطلعت إلى معرفة ما يقوله وقالت: «إني رهينة ما تريد يا سيدي.» وشخصت في وجهه لترى ما يريده.

فالتفت يمينًا وشمالًا كأنه يتحقق خلو المكان من الغرباء وقال: «أنت تعلمين أن أخاك — رحمه الله — أوصاني بك وبسائر أهلك خيرًا، وأظنني قمت بواجب الوصية.» فأشارت بعينيها ورأسها أن «نعم.» فقال: «وأظنني لم أقصر أيضًا في توخي كل وسيلة لإسعاد حال هذه البلاد من كل وجه، فرفعتُ كثيرًا من المظالم التي كانت في عهد الدولة الماضية، وقد أتاها الذين كانوا محيطين بالمرحوم أخيك. وكنت أظن هذا كافيًا لإجماع أولئك القوم على الطاعة.» وسكت.

فقالت: «أظنهم مجمعين؛ لأن مولانا السلطان لم يدخر وسعًا في تخفيف الضرائب وإجراء العدل.» قال: «وكان في إمكاني لما تحولت هذه الدولة إلى يدي أن أقتل كل مَن كان من الأمراء والوزراء على رأي الدولة الماضية لكنني لم أفعل ذلك رغبة في أن يعرفوا لنا هذا الفضل.»

فاستغربت قوله وتوسمت من ورائه شيئًا جديدًا، وأشارت بعينيها كأنها تستفهم عما حدث فقال: «ولكنني علمت أن هؤلاء الأمراء والأعيان يتآمرون علينا.» فرفعت بصرها وقالت: «يتآمرون على السلطان؟» قال: «نعم، ولو تآمروا فيما بينهم فقط لهان شرهم، لكنهم يستعينون علينا بالأعداء. إنهم يخابرون أعداءنا الإفرنج في ساحل الشام وصقلية، يحرضونهم على مناوأتنا ليُتاح لهم القيام علينا أو تخرج هذه البلاد من أيدينا.» قال ذلك وقد بان الغضب في غنة صوته.

فأجفلت وقالت: «يتواطئون مع الإفرنج على سلطانهم؟ يا لها من خيانة!» وأطرقت لحظة ثم قالت: «هل وثق سيدي من هذا الخبر؟»

قال: «إني واثق تمام الثقة مما أقول؛ لأن خبرهم جاءني من رجل أثق به وثوقي بنفسي. قبَّحهم الله! إذا كانوا يعدون خروج الدولة من الخلافة العبيدية إلى العباسية شرًّا وكلتاهما إسلاميتان فكيف بانتقالها إلى الإفرنج وهم أعداؤنا الألداء مذهبًا ووطنًا؟ فبدلًا من أن نتعاون على صيانة بلادنا منهم ندلهم على عوراتنا ونحرضهم على فتح بلادنا. هل رأيت أضعف رأيًا من هؤلاء؟ ألا يحل قتل الساعين في ذلك؟» قال هذا وقد ارتفع صوته وأبرقت عيناه برغم ما حاوله من تلطيف غضبه بين يدي سيدة الملك وقد عبث بعثنونه وأخذ يحكه.

أما هي فإنها شاركته في الغضب وأحست بنوع من الخجل؛ لأن الذين قاموا بتلك المؤامرة من رجال أخيها فقالت: «نعم، إنها خيانة عظيمة، ولكنني أستغرب وقوع مثل هذا العمل من قوم عقلاء … فربما كان الساعون فيه من بعض العامة الجهلاء.»

قال: «إنهم من أكبر الأمراء الأعيان، وفيهم رجل يزعم أنه من سلالة العبيد بين أقربائكم. ولم نوفَّق إلى القبض عليه مع مَن كان في القصر منكم، وحسبناه اكتفى بالنجاة من القتل واختفى، لكنه الآن من أكبر المحرضين على الخيانة، أظنك عرفته … ولولا دخوله في هذا الأمر لم أتعبك في شرح هذه الواقعة. وإنما أردت الاستعانة بك في استطلاع حاله لعلك تعرفين عنه شيئًا؛ لأنه أقرب المقربين لأخيك — رحمه الله — حتى إنه كان طامعًا في ولاية العهد بعده، أظنك عرفته.»

فعلمت سيدة الملك أنه يعني أبا الحسن فامتقع لونها غضبًا وقالت: «نعم عرفته، أظنك تعني ذلك الشريف الكاذب، إنه يدَّعي النسب فينا وليس هو منَّا، ألا تعني أبا الحسن؟»

قال: «إياه أعني، إنه من أكبر المنافقين الخائنين؛ لأنه جاءنا والمرحوم العاضد على فراش الموت وتوسَّل إلينا في نقل ولاية العهد إليه على أن يكون عونًا لنا في كل شيء فلم نوافقه. فانقلب إلى دس الدسائس ونصب الحبائل، فأطاعه جماعة من المارقين، وسينال كل منهم جزاءه، وإنما ألتمس منك أن ترشدينا عما تعلميه من مكان أبي الحسن.» قال ذلك وهو يتلطف في السؤال بخفض صوته.

فظلت ساكتة وقد تمنت أن يكون ما يقوله صلاح الدين صحيحًا ليقع أبو الحسن في شر أعماله وتتخلص منه، وأحبت أن تتحقق صحة تلك الدعوة فقالت: «نعم أعرف نقص هذا الرجل وسوء خلقه ومطامعه وسأبحث عن مكانه، ولكنني أرجو أن يكون سيدي على ثقة في الخبر، وإذا شاء أن يزيدني بيانًا فإنه يعينني على البحث.»

قال: «إن هذا الخبر تلقيته من عدة مصادر، فشككت فيه حتى أتاني بشأنه كتاب من رجل لا أشك في صدقه، كتب الكتاب بخطه وقد وصل إليَّ في فجر أمس سرًّا مع وفد أرسله الإفرنج الموالون لأولئك الخائنين بحجة أنهم يحملون إليَّ هدية من بعض ملوكهم، وهم إنما يحتالون في مقابلة تلك العصابة ليتموا المكيدة، وهذا هو الكتاب إذا طالعتِه أغناني عن زيادة الإيضاح.» قال ذلك ومد يده إلى جيبه واستخرج لفافة دفعها إلى قراقوش ليقرأها.

ففتحها بهاء الدين وأخذ يقرأ:

أكتب هذا الكتاب إلى مولاي السلطان وأنا في أعماق السجن في بيت المقدس. ولا يسعني الوقت لتفصيل سبب سعيي؛ فإن الكلام فيه يطول وإنما أسرعت إلى كتابته لأنقل إلى مولاي خبرًا مهمًّا عرفته من ثقة، وأخاف إذا تأخر وصوله أن ينتهي بما أكره وقوعه، علمت بعد خروجي من مصر بموت العاضد وانتقال الدولة إلى مولاي السلطان، وسمعت وأنا في السجن أن بعض رجال تلك الدولة يجتمعون سرًّا في الفسطاط يتآمرون على إخراج هذا الأمر من حوزته. وقد خابروا الإفرنج في هذه الديار أن يهاجموا مصر بجند كثيف يجمعونه من هنا ومن صقلية، وأن أهل مصر يكونون معهم على جندكم. وأن أولئك المؤتمرين يرأسهم رجل من العلويين اسمه أبو الحسن، وهو الذي أغرى الناقمين على هذه الدولة فوافقوه واستنجدوا الإفرنج. وقد وافقهم الإفرنج وأخذوا يتأهبون لهذه الحملة، لكنهم هيئوا جماعة بصورة وفد يحمل هدية إلى السلطان صلاح الدين من ملك الإفرنج وهم في الحقيقة يريدون الاجتماع بتلك العصابة وإتمام المؤامرة. وقد وفقني الله بواسطة صديق لي هنا أن أطلع على ذلك، وأن أرسل هذه الرسالة مع حامل هذا الكتاب، وهو بحسب الظاهر من جملة خدم الوفد أو هو دليلهم في الطريق، فدفعت إليه هذا الكتاب، فإذا وصل إليكم فادفعوا إلى حامله مائة دينار وأكرموه. أما أنا فما زلت هنا وسأبقى حتى يُتاح لي الخروج للقيام بالمهمة التي وقفت حياتي للقيام بها في خدمة مولاي السلطان، وأنا ظافر بها بإذن الله، فإما أن أعود إليكم فائزًا منصورًا أو أموت في هذا السبيل فداء لمولاي؛ لأن حياتي وحياة كل رجاله مبذولة في خدمته.

كانت سيدة الملك تسمع الكتاب ونفسها تحدثها في أثناء ذلك أن الكتاب يتعلق بعماد الدين. فلما سمعت قوله في الفقرة الأخيرة يذكر المهمة التي انتُدب لها خفق قلبها وتبادر إلى ذهنها أن يكون هذا الكتاب من عماد الدين نفسه، خصوصًا لأنه يقول إنه برح مصر قبل وفاة أخيها، فبدت البغتة في وجهها وتسارعت دقات قلبها ولم تتمالك عند الفراغ من تلاوة الكتاب أن قالت: «هل يأمر السلطان أن أعرف مَن هو صاحب هذا الكتاب؟»

قال: «ينبغي لنا حفظ اسمه، لكنني نظرًا إلى ما بدا لي من غيرتك وصدق لهجتك لا أرى مانعًا من ذكره، إنه شاب جمع بين المروءة والحماسة وصدق المودة، كنا أنفذناه لأمر هام لا يجسر عليه سواه، لا أظنك تعرفينه.» ووقع نظر صلاح الدين وهو يتكلم على نظر بهاء الدين قراقوش فقرأ في وجهه شيئًا يستدعي التوقف عن التصريح، لكنه لم يدرك السبب ولا استطاع التوقف بعد أن وعد بالتصريح، ونظر إلى سيدة الملك فرآها متطاولة بعنقها وعيناها شاخصتان إلى شفتيه تكادان تحتلبان الكلام مِن فيه احتلابًا فقال: «إن صاحب هذه الرسالة اسمه عماد الدين.»

لم يكد يلفظ باسمه حتى صاحت سيدة الملك: «عماد الدين؟» وأُغمي عليها!

فدهش السلطان ونهض وأسرعت ياقوتة إلى الماء وأخذت ترش سيدتها به وتفرك يديها، واقترب بهاء الدين من صلاح الدين فأصغى إليه فقال له: «كنت أشرت إلى مولاي ألا يذكر هذا الاسم.»

فقال: «وما الذين يعنيها من أمره؟ هل تعرف شيئًا عن ذلك؟»

فقال همسًا في أذنه: «عرفت شيئًا منه قبل سفره، لكن ضياء الدين الهكاري منعني من إبلاغه لمولاي مخافة أن يفسد سعيه يومئذٍ في خطبة هذه السيدة.» وضحك.

فقال صلاح الدين: «وما هي علاقتها به؟ يظهر أنها تحبه.»

فأومأ إليه أن يتبعه إلى غرفة أخرى ريثما تفرغ ياقوتة من معالجة سيدتها، فتبعه فلما خلا به قص عليه ما كان من أمر عماد الدين ليلة مجيئه إلى القصر في السرداب، وكيف وشى به أبو الحسن ولم يتمكنوا من القبض عليه إلى آخر الحديث.

فوقف صلاح الدين يفكر فيما اتفق وقوعه في تلك الجلسة، وقد سُرَّ لاطِّلاعه على ذلك السر؛ لأنه يحب عماد الدين ويريد إكرام سيدة الملك. وشكر الله لأنه لم يوفَّق إلى خطبتها، فقال لبهاء الدين: «لقد سرني اطلاعي على ذلك، فيجب علينا أن نسعى في جمع شمل هذين المحبين، والحمد لله أن سعي أبي الحسن لم يتكلل بالنجاح.»

فقال قراقوش: «ويمكننا أن نتخذ سعينا في مصلحتها وسيلة إلى سعيها في مساعدتنا على كشف تلك المؤامرة؛ لأنها من أقدر الناس على ذلك فإذا أخلصت الخدمة في هذا السبيل ساعدناها على مرامها.»

فضحك صلاح الدين وقال: «لله درك يا بهاء الدين! إنك لا تنظر في خير لأحد إن لم يَعُد جانب منه عليك، أحسنت.»

قال: «إنما يهمني القيام بخدمة مولاي، أعزه الله.»

ثم تحوَّل صلاح الدين نحو باب القاعة وسأل عن سيدة الملك، فقيل له إنها أفاقت، فدخل فرآها جالسة على وسادة وقد أطرقت خجلًا، وبان التعب في محياها وذبلت عيناها، فتقدم نحوها وقال: «قد علمت أمرك، وسرني ما علمته من علاقة حبيبنا عماد الدين بك، واعلمي أني باذل أقصى جهد في تقصير مدة غيابه، ولا يكون إلا ما تريدين، وقد أوصيت صديقي بهاء الدين أن ينظر فيما كنا فيه، أستودعك الله.»

فوقفت لوداعه والخجل غالب عليها ولم تجب بلسانها، لكن عينيها أدتا واجب الشكر، على أنها لم تستطع السكوت عما يخالج فؤادها من الخوف على عماد الدين فقالت وصوتها يرتجف: «ولكنه في أعماق السجن يا مولاي.»

قال: «إنه سيأتي بإذن الله، وإذا ظل في السجن فإننا نفتح بيت المقدس لنخرجه منه، وإن في فتحه تعزيزًا لدولة الإسلام. لا تخافي.» وابتسم ومشى مشية الأسد وهي تشيعه ببصرها وتزداد إعجابًا بعلو همته، وكبر نفسه، ورأت انتقال السيادة إليه وذهاب دولة أخيها أمرًا طبيعيًّا لا بد من وقوعه لما كانت تعلمه من ضعف نفوس رجال أخيها وفساد آرائهم وتنازعهم على التافه من الأمور شأن الدولة في أواخر عمرها.

وبعد خروج صلاح الدين تقدم بهاء الدين إليها فقال: «سأعود إليك بعد قليل ريثما ترتاحين كوني مطمئنة.» وضحك.

•••

لم يبقَ هناك إلا سيدة الملك وياقوتة. ووجهها مشرق: «الحمد لله صدق ظني ونلت ما كنت أريده.»

فتنهدت سيدة الملك وقالت: «ما الذي نلناه وقد تبين لي من نص ذلك الكتاب أن عماد الدين في أعماق السجن عند الإفرنج وأنه مصمم على مهمة يظهر أنها غاية في الخطر، وأنه إذا لم يفز بها ظل هناك أو …» وغصت بريقها.

فقالت: «ألا يكفي يا مولاتي أننا علمنا بوجوده حيًّا؟ وأن صلاح الدين عون لك في الوصول إليه؟ وسيقتص من ذلك الخائن؟ هيا بنا إلى الطعام واتكلي على الله.»

فنهضت وقد سُرِّي عنها وتناولت طعامها وحديثهما في أثناء ذلك عن المؤامرة وأبي الحسن. وبعد الطعام أتى قراقوش — وهو يدخل المكان بلا استئذان — وقال: «يا سيدة الملك، أهنئك برضا السلطان صلاح الدين فإنه أوصاني بك خيرًا … إنما ينبغي لنا أن نكشف عن مكان المؤامرة، فهل تعرفين عنه شيئًا؟»

فأطرقت تفكر ثم قالت: «أنَّى لي ذلك وأنا لا أعرف شارعًا من شوارع هذا البلد؛ لأني قضيت عمري محبوسة في القصور.»

فتصدت ياقوتة للكلام وقالت: «إنَّ كشفَ هذا المخبَّأ عليَّ.»

فقال قراقوش: «أين هو؟»

قالت: «لا أعلم، ولكني أرجو البلوغ إلى خبره … ألا تعرف الغلام جوهر؟»

قال: «أعرفه … ألم يكن من غلمان القصر؟»

قال: «نعم. وهو جاسوس ذلك الخائن، كان يحمل إليه أخبارنا ويطلعه على أسرارنا.»

قال: «وما الفائدة من معرفته إذا كان هذا شأنه وهو خائن لنا؟»

قالت: «إن الخائن لا يثبت في الأمانة لأحد. كان في الأمس عينًا لأبي الحسن علينا، وهو الآن سيكون عينًا لنا عليه.»

قال: «أين هو؟» قالت: «هو في هذا القصر، وقد أخبرني بعض الغلمان أنه غاضب على أبي الحسن؛ لأنه أساء معاملته ولم يبقَ له فيه وطر بعد خروج مولاتي من ذلك القصر ودخولها في حياطة مولانا السلطان. فنفر منه وجاء يتزلف إلينا … هل أستقدمه إليك الآن؟» قال: «افعلي.»

فأمرت أحد الغلمان أن يستقدمه، وعادت فرأت سيدتها قد أبرقت عيناها من السرور وقالت لها: «بُورك فيك يا ياقوتة، إنك ساحرة.»

قالت: «لا بد أن يعود كيد الخائن إلى نحره.» ثم جاء جوهر وعيناه ترقصان في وجهه من الاضطراب. وكذلك بصر المنافق لا يستقر في مكانه.

فنظر إليه قراقوش نظر المتفرِّس وقال له: «يا جوهر، بلغنا أن أبا الحسن خدعك حينًا حين أخرجك عن طاعة مولاتنا … لكني سرني أنك رجعت إلى الصواب وعلمت أنك لا تنال خيرًا إلا بصدق الخدمة في مصلحة مولاتنا سيدة الملك ومولانا السلطان …»

فأكب جوهر على يد بهاء الدين يقبِّلها ويتظاهر بالندم والإخلاص وقال: «يعلم الله أني كنت مغشوشًا، فإن ذلك الرجل خدعني وأوهمني أنه يد الإمام المرحوم ويفعل ما يشاء. ثم علمت أنه يريد به شرًّا وأنا قد رُبيت في خدمة مولاي، فلا يليق بي أن أغدر به. فلما تحققت سوء قصد أبي الحسن تركته لأني أكره الخيانة. ولا سيما لمن أحسن إليَّ وأنا صنيعته وعبده.» فقال قراقوش وهو يُظهِر أنه صدقه: «بارك الله فيك … واعلم أني حسن الظن بك وسأزيد في عطائك ولا أسألك عما مضى. وإنما أطلب إليك أمرًا واحدًا هو هين عليك وفيه انتقام لك من ذلك الخائن، فهل تطيعني؟» فلم يصدق جوهر أنه نال هذه الرعاية بعد خياناته الماضية فقال: «إني رهين الإشارة يا سيدي.» قال: «أطلب منك أن تخبرني عن المكان الذي يجتمع فيه أبو الحسن وأقرانه، هل تعرف أين هو؟»

قال: «ذلك هين يا سيدي … نعم أعرفه وأعرف الذين يجتمعون معه — قبحهم الله — كنت عازمًا أن أطلعكم على ذلك، وإن لم تسألوني عنه فإنه فرضٌ علينا، وكان يمنعني الخجل من خطئي الماضي.»

فربت على ظهره وضحك وقال: «عافاك الله، هل المكان بعيد من هنا؟» قال: «هو في الفسطاط يا سيدي.»

قال: «الآن تحققت صدقك؛ لأني كنت عالمًا أنه هناك. فأنا واضع ثقتي فيك من هذه الساعة. وأنت تعلم أن ثقتي هي ثقة مولانا السلطان، ولا يخفى عليك ما يستفيده صاحب هذه الثقة. أصلح ما أفسدته يا جوهر، وقد أوصتني مولاتنا سيدة الملك خيرًا بك وأخبرتني كم كنت مخلصًا في خدمتها قبلًا. ولكن ذلك الخائن أغراك بهذه الخيانة. مضى ما مضى تعالَ معي.» قال ذلك وتحوَّل وتبعه جوهر. وقد بادر إلى العمل قبل أن يحدث ما يغيِّر عزم ذلك الغلام المتقلب. وصمم ألا يفارقه قبل الوصول إلى المطلوب. على أنه تذكَّر أمرًا أحب أن يقوله لسيدة الملك قبل الذهاب، فرجع إليها وقال: «ينبغي لك يا سيدتي أن تتكلي عليَّ في كل ما يخطر لك، ولا بد أنك تذكرين اطلاعي على مجيء عماد الدين إلى قصرك، وأحمد الله على أنه نجا سالمًا.» فاغتنمت تقربه إليها وتلطفه في طمأنتها وقالت: «أما وأنت معي وقد رأيت السلطان راضيًا عني فإني أتقدم إليك أن تزيدني بيانًا عن حال عماد الدين.» قال: «لا أعرف عن حاله الآن غير ما في كتابه الذي تلوته عليك الساعة.» قالت: «أعني هل عليه خطر هناك؟ ومتى تظنه يعود؟»

قال: «لا أعلم متى يعود، أما الخطر فلا أخافه عليه لعلمي بشجاعته وتعقله، ولا بد من الاتكال على الله … كوني مطمئنة في كل حال.» قال ذلك ومشى.

فهرع جوهر في أثره وقد سرَّه ما يؤمله من الفوز بالمكافأة، لا يهمه ما يترتب على عمله من قتل النفوس وخراب البيوت. إن أمثال هذا الخائن ينقصهم الشعور الحي الذي يسمونه الضمير. فهم ينظرون في الأعمال من حيث ما يعود عليهم من النفع ولا يشعرون بغير ذلك. والدنيا عندهم لها وجهان: وجه منفعتهم، وهو ما ينبغي بقاؤه، وأما الوجه الآخر فهو كالعُدة في نظرهم، فلا يبالون أن يُمحى من الوجود أو يُساق أصحابه إلى المجازر. وقد يسرهم ما يرونه في الآخرين من الأذى وإن لم ينالوا هم منه خيرًا لأنفسهم. فكيف إذا كان لهم منه نفع. نعوذ بالله من هؤلاء. لكنهم بحمد الله قليلون ولو كانوا كثارًا لخربت الدنيا من عهد بعيد.

•••

مشى قراقوش وجوهر في خدمته، وكان جوهر مملوكًا حبشيًّا وفيه ذكاء، لكنه لم يكن له ضمير كما علمت، فالتفت قراقوش إليه في أثناء الطريق وقال: «يا جوهر ما العمل الآن؟» قال: «الأمر لمولاي.» قال: «أنا متكل عليك في الوصول إلى الغرض، أريد أن أطلع على مجتمع القوم وأسمع حديثهم، هل يتيسر ذلك الليلة؟»

قال: «نعم يا سيدي، نذهب بعد الغروب إذا شئت.» قال: «إلى أين؟» قال: «إلى الفسطاط؛ لأن القوم يجتمعون في بيت هناك أعرفه، ولا يمكن أن يهتدي إليه سواي، في دار خربة لا يُتوصل إليها إلا من أزقة ضيقة مظلمة، ولا بد من التنكر.»

قال: «وماذا ترى أن نفعل؟» قال: «أرى أن يتنكر مولاي الأستاذ بلباس طبيب نصراني وأنا أكون في خدمته أحمل له جراب العقاقير وأقود بغلته.»

قال: «هذا هين.»

وصلا بعد هنيهة إلى منزل قراقوش فدخلا، وأمر قراقوش ألا يدخل البيت أحد من الناس ولو أنه السلطان صلاح الدين نفسه. وأمر جوهر أن يُعد ما يلزم للتنكر وسأله عن محل الاجتماع أين موقعه في الفسطاط فقال: «قرب جامع عمرو.» وعيَّن النقطة، فتركه يهيئ ما يلزم، وأخذ في إعداد فرقة من الجند تسبقه لتتربص في خان قرب ذلك المجتمع، ودبَّر وسيلة للإحاطة بالمنزل عند ابتداء الإشارة.

أعد كل شيء قبل الغروب، ولم تغب الشمس حتى كان قراقوش قد تزيى بزي أطباء النصارى، والزنار على وسطه والعمامة على رأسه وأُعدت له البغلة. ومشى جوهر في ركابه، ولا يشك مَن يراهما أنهما الطبيب وغلامه.

برحا القاهرة عند الغروب وقطعا المسافة بينها وبين الفسطاط بسرعة، ثم أطل قراقوش على الفسطاط من مرتفع فرأى آثار الحريق ما زالت ظاهرة فيها، وقد خربت أكثر أبنيتها بأمر شاور منذ بضع سنين (سنة ٥٦٤ﻫ)؛ إذ خاف شاور الوزير من وصول الصليبيين إليها واستيلائهم عليها فأمر أهلها بالخروج منها إلى القاهرة، وألقى النار فيها وأمر بنهبها. فانتقلوا ونُهبت المدينة وافتقر أهلها وذهبت أموالهم. وظل الحريق عاملًا فيها ٥٤ يومًا، فاختلطت الأزقة حتى اشتبهت على المارة. ولولا جوهر ومعرفته الشوارع جيدًا لاستحال على قراقوش الوصول إلى المكان المطلوب. ولكن ذلك الحبشي كان يقود البغلة ويتخطى الخرائب كأنه ماشٍ في داره. ودليله الأظهر مئذنة جامع عمرو، فإنها كانت بارزة في الفسطاط دون سواها.

لم يتجاوزا جامع عمرو حتى خيَّم الغسق وأظلمت الدنيا وقلَّ الناس في الشوارع. والمتأمل في الفسطاط يجد فرقًا كبيرًا بينها وبين القاهرة؛ فإن هذه أكثر عمارة وسكانًا وأضخم خانات وأعظم آثارًا. سكن الأمراء فيها؛ لأنها خاصة برجال الدولة، وأما الفسطاط فإنها مقر الباعة والصناع ويكثر فيها السوقة والملاحون لقربها من النيل، وقد زادها الحريق حقارة.

ولما توسَّط قراقوش المدينة ورأى نفسه منفردًا هناك مع جوهر خطر له أن ذلك الحبشي ربما ينوي الغدر به وهو خائن لا يُركن إليه، فالتفت نحوه وقال: «أين نحن يا جوهر، يظهر أننا قد بعدنا عن المكان المطلوب الذي ذكرته وتجاوزنا جامع عمرو؟»

قال: «ثق يا مولاي أنني ذاهب بك إلى المكان المطلوب، وقد تجاوزناه الآن حقيقة كما قلت، ولكنني أريد أن تشرف عليه من منزل آخر بابه في شارع آخر. ألا تريد أن ترى القوم مجتمعين وتسمع ما يدور بينهم؟»

قال: «بلى، ولكن تمهَّل قليلًا.» قال ذلك وتفرس فيما يجاوره فعلم أنه على مقربة من الخان الذي أوصى الجند أن يتربصوا فيه فقال: «أخبرني يا جوهر أين هو البيت الذي يجتمعون فيه؟ دلني عليه بإصبعك من هنا.» فأشار هذا بإصبعه قائلًا: «ألا ترى هذا النور المعلق على تلك السارية.» قال: «رأيته.» قال: «أترى وراءه بيتًا خربًا؟ إنهم يجتمعون في داخله.»

فتحول قراقوش ببغلته إلى الخان فلقيه قائد الفرقة بالباب فأوصاه أن يفرِّق جنده حول ذلك البيت من كل ناحية بحيث لا يشعر به أحد، ولا يظهر أحد من رجاله في الطريق، ثم قال: «إذا رأيتم مصباحًا يتحرك فوق أحد هذه الأسطح حركة رحوية فاهجموا على هذا البيت من كل ناحية واقبضوا على مَن فيه.» وعاد فأدار شكيمة بغلته وجوهر يقودها حتى دخل الزقاق المطلوب ووصل إلى باب فدقه وقراقوش لا يزال على البغلة، ففتحت خوخته وأطل رأس الشيخ قد تدلى سالفاه على خديه وقال: «مَن الطارق؟»

فتقدم جوهر وقال: «الطبيب سمعان، افتح.»

قال: «وماذا يريد الطبيب منا؟ ليس عندنا أحد مريض.»

قال: «لم يأتِ للتطبيب لكنه يريد المبيت هنا، وهو من أهل القاهرة، وقد جاء للسفر في النيل فوجد السفينة التي يريد السفر عليها قد أقلعت، فأراد المبيت في الفسطاط إلى الصباح حتى يبكر إلى الشاطئ ويركب سواها. افتح يا عماه.»

قال: «لماذا لم يذهب إلى الخان، إنه قريب من هذا المكان.»

قال: «لا يريد المبيت في الخان، وهو لم يتعوَّد ذلك، وأنا أتيت به إلى هنا خدمة لك.» وهمس في أذنه قائلًا: «يظهر أنك لم تعرفني يا معلم حاييم.»

فتفرس فيه الشيخ وقال: «عرفتك يا جوهر، عفوًا إذ لم أعرفك من قبل.»

قال: «لا بأس، وأنا جئت بهذا الطبيب ليبيت هنا، وهو كريم الخلق كثير المال لا يبالي كم تأخذون منه. الأحسن أن تخلو له البيت برمته واطلبوا عن كل حجرة منه دينارًا، وإذا قال لكم إنه يحتاج إلى حجرة واحدة فقط، قل له إنك لا ترضى إلا بتأجير البيت برمته.» ففرح حاييم بهذا الرأي، ولم يكن في بيته كله ما يساوي إلا دينارين من الأثاث. فلما قال له جوهر ذلك رفع صوته وقال: «لا نقدر أن ندخل رجلًا غريبًا يبيت معنا، فإذا شاء الطبيب أن نؤجره البيت من بابه فعلنا.»

فقال جوهر: «أجرته؟» قال: «إن فيه خمس غرف، وأجرته خمسة دنانير.»

فتظاهر جوهر أنه يخادع قراقوش بالمساومة وقال: «إن خمسة دنانير كثيرة يا معلم حاييم. ألا تكفي أربعة؟» وضغط على إصبعه ألا يقبل.

فأجاب: «كلا، إذا لم يعجبكم فهذا الخان قريب من هنا.»

فأظهر أنه رضي وقال: «لا بأس، إن مولانا الطبيب كريم. وأنتم أين تنامون؟»

قال: «ليس عندي إلا امرأتي العجوز، فنبيت عند صهرنا وهو قريب من هنا.»

فتحوَّل جوهر إلى قراقوش وقبض منه الدنانير ودفعها إلى الشيخ وهو يقول له همسًا: «هذه هي الدنانير، لكن ينبغي أن تختصني منها بدينار تدفعه إليَّ غدًا صباحًا، فهمت؟»

قال: «حسنًا.» وكان ينوي ألا يدفع إليه شيئًا، بل اعتزم أن ينتحل حجة في الصباح يقبض بها دينارًا سادسًا فيدعي أنهم أضاعوا شيئًا من الأثاث أو نحو ذلك.

ثم تحوَّل الشيخ إلى الداخل وعاد بعد قليل والمصباح بيده ومعه امرأته وهي تقول: «يظهر أن هذا الضيف عزيز عليك حتى أخرجتني من البيت لأجله.»

فقال: «كيف لا؟» وأشار إلى بهاء الدين أن يتفضل. فتحول بهاء الدين عن بغلته فأدخلها جوهر تحت قنطرة بجوار المنزل شدها إلى حلقة دُقت هناك لمثل هذه الغاية. ودخل ودفع حاييم المصباح إلى جوهر وانصرف وهو يوصيه بالبيت خيرًا.

•••

دخل قراقوش البيت مع جوهر غير مبالٍ بما يتصاعد من ممراته من الروائح القذرة، ثم أقفلا الباب وأوصداه، ومشى جوهر بالمصباح بين يدي قراقوش وهما يسترقان الخطى لئلا يُسمع لهما صوت. ولم يمشيا طويلًا حتى سمعا ضوضاء عميقة فقال جوهر: «نحن بجانب مجلس القوم ليس بننا وبينهم إلا الحائط. اصبر قليلًا.»

وكان قراقوش منذ خروجه من منزله يتحفز للدفاع عن نفسه ويده على خنجره ليغمده في صدر جوهر إذا آنس منه خيانة، فلم يلحظ منه شيئًا، فلما استهله وقف وهو يحدق فيه فإذا هو يشير إليه أن يصعد على سلم ضيق يؤدي إلى سقيفة أعلى الغرفة. فصعد معه، ومن هناك اتصلا إلى السطح من باب ضيق. ورأيا السماء فوق رأسيهما ونظر بهاء الدين إلى ما يحيط بهما فإذا هما والأسطح حولهما. فقال جوهر بصوت ضعيف: «لنترك المصباح على السقيفة ونمشي في الظلام لئلا يفتضح أمرنا.»

فأطاعه ومشى والضوضاء تزداد وضوحًا حتى انتهى به إلى حائط فقال: «هذا حائط آخر من حوائط قاعة الاجتماع.»

فرأى بهاء الدين في أعلى الحائط كوة قد انبثق النور منها، فتقدم نحوها فسبقه جوهر وقال: «انظر هنا.»

فنظر فرأى قاعة غاصة بالناس قعودًا على وسائد مصفوفة في الغرفة فوق بساط. وقد علت الضوضاء ووقف بالباب رجل أسنده بظهره كأنه يمنع من شاء الدخول، فهمس في أذن بهاء الدين قائلًا: «هل ترى جيدًا؟» قال: «نعم، لكنني لم أعرف أحدًا منهم غير أبي الحسن، مَن هذا الجالس إلى جانبه؟» قال: «إن الذي تراه إلى يمينه عمارة بن أبي الحسن الشاعر اليمني، وإلى يساره القاضي العويرس، وبعده داعي الدعاة، وإلى الجانب الآخر عبد الصمد الكاتب وآخرون. وكلهم من الشيعة كما تعلم. انظر في وسط الغرفة ماذا ترى؟»

قال: «أرى سيفًا ومصحفًا، أظنهم يحلفون عليهما.» قال: «نعم.»

وأخذ قراقوش يتفرس في الحضور ليعرفهم عند الحاجة. وإذا هو بأبي الحسن أشار بيده يطلب الإصغاء فأنصتوا فقال: «أبشركم أيها الأمراء أن أعمالنا تكللت بالنجاح، وجاء وفد الإفرنج في هذا الصباح يحمل الهدايا إلى ذلك الكردي، وقد فرح بالهدية وفاته ما وراءها، وجاءتنا كتب أصحابنا في ساحل الشام بأنهم على أهبة الرحيل عند أول إشارة، فأبشروا بنيل المراد.»

فتصدى عمارة اليمني وهو شاعر مشهور ووجَّه نظره إلى القاضي العويرس وداعي الدعاة وهما من أصحاب المناصب الرفيعة في الدولة وقال: «إن مولانا الشريف أبا الحسن أهل لما بايعناه من الخلافة لنسبه الشريف؛ ولأن مولانا الإمام المرحوم قد أوصى له بولاية العهد كما سمعتم ذلك من الجليس الشريف قبل الآن. فيجب أن نخلص له الطاعة لنعيد بناء هذه الدولة ورونقها، وكانت قد فسدت بمن دخل في أمورها من الأعاجم بسوء رأي المحيطين بالخليفة السابق، وهم الذين أشاروا عليه باستنجاد نور الدين صاحب الشام، فكان ذلك سببًا في صيرورة الأمر إلى يوسف هذا (صلاح الدين)، ولكننا متى تم لنا ما دبَّرناه وقبضنا على أَزِمَّة الأمور صرنا نتجنب هذا الخطأ في المستقبل. ولا نولي المناصب إلا الذين نثق بإخلاصهم وتفانيهم في الدعوة العلوية من العرب، إننا عرب والقرآن عربي، فلا ينبغي أن نشرك في أمرنا غير العرب كما فعل غيرنا.»

فقال عبد الصمد الكاتب: «بارك الله فيك يا أخا اليمن، قد مضى زمن الضعف والحمد لله. إن خليفتنا هذا (وأشار إلى أبي الحسن) جمع بين الحزم والدهاء، ووزيرنا هذا (وأشار إلى العويرس) لا مثيل له في أصالة الرأي و…»

فقطع كلامه رجل كان جالسًا منذ ساعة لا يتكلم كأنه يفكر في أمر مهم لا يلتفت إلى ما يدور بينهم، فلما سمع كلام عبد الصمد بشأن الوزارة رفع رأسه وقال: «إن الوزارة لم يتم الاتفاق عليها بعد. وأنا مع احترامي للقاضي الأجل لا أرى له حقًّا في الوزارة، وإنما هي لسلالة الوزراء آل رزيك، فإنهم تولوها في عهد الأئمة السالفين ولهم عليها فضل، فلا يليق نقلها إلى سواهم.»

فتصدى رجل آخر كان نهض في أثناء ذلك وأخذ يهمس في أذن أبي الحسن وأبو الحسن يهز رأسه له هزة الرضا والاستحسان، فقطع كلام الرجل قائلًا: «مهلًا لا تتنازعوا على منصب هو حق لنا وكان في قبضتنا بالأمس.»

فضحك صاحب وزارة بني رزيك وقال: «تريد أن تُرجِع الوزارة لبني شاور؟ ألم تكن هذه المصائب كلها من وزارته؟ ألم يكن هو الذي أحرق هذه المدينة بسوء تدبيره؟ إن الوزارة لا تكون لغير آل رزيك ونحن أصحابها الأولون.»

فتكلم أبو الحسن وهو يبش ويتلطف وقال: «خففوا من غضبكم وارجعوا إلى صوابكم، لسنا الآن في معرض التنازع على المناصب، إنما نحن في الاتحاد على إخراج هذا العدو من بلادنا، ومتى أخرجناه نعمل ما يتفق عليه الرأي.»

فقال صاحب وزارة آل رزيك: «طبعًا إن أبا الحسن لا يهمه البحث في المناصب الآن؛ لأنه ضمن لنفسه الخلافة بسبب نسبه في العبيديين … ولم ينازعه أحد في صحة نسبه لأن الجليس الشريف شَدَه بصحته بناء على ما سمعه من الإمام المرحوم.» وضحك ضحكة استخفاف.

•••

وكان قراقوش مصغيًا لما دار وقد شاهد كل حركة، وجوهر واقف بين يديه يتطاول ليرى ما يراه، فاكتفى قراقوش بما سمعه وشاهده والتفت إلى جوهر وقال بالإشارة: «أين المصباح؟ إليَّ به.»

فنزل جوهر على السقيفة وأتى بالمصباح، فتناوله قراقوش وصعد إلى مرتفع وأداره بيده بحركة رحوية كما اتفق مع رجال الفرقة. ثم نزل وأخفى المصباح وعاد إلى الكوة والقوم يتحاجون ويناقشون. وإذا بالضوضاء قد تعاظمت ولم تمضِ دقائق قليلة حتى صار رجال قراقوش داخل القاعة وأخذوا في القبض على مَن فيها. وليس فيهم مَن يستطيع دفاعًا؛ لأنهم لم يكونوا قد أعدوا من وسائل الدفاع غير ألسنتهم وأصواتهم.

ووجَّه قراقوش التفاتة خصوصًا إلى أبي الحسن فلم يجده بين المقبوض عليهم، فظنَّهم أخرجوه إلى خارج القاعة. ولما أيقن بفوز رجاله بالقبض على المتآمرين أشار إلى جوهر بالنزول للرجوع إلى القاهرة. فنزل بين يديه بالمصباح وقراقوش يتبعه ولم تطأ رجله السقيفة حتى سمع وقع أقدام مسرعة في أرض البيت فأجفل، وتفرس قراقوش على النور الضعيف فرأى شبحًا بالعمامة والجبة فلم يعرفه، فقال له جوهر همسًا: «هذا أبو الحسن هلم إليه.» فبادر إلى إطفاء المصباح حتى لا يعرف مكانه وأسرع في النزول ليقبض على أبي الحسن وهو يحسبه دخل هذا المنزل بتواطؤ سابق مع صاحبه لمثل هذه الساعة على أن يبيت ليلته ثم يفر في الصباح.

نزلا إلى أرض البيت وجوهر يقود قراقوش؛ لأنه يعرف مداخل المكان وأصاخا فلم يسمعا خطوًا ولا صوتًا كأن ذلك الشبح كان ظلًّا وزال، فأراد قراقوش أن ينير المصباح، فأشار إلى جوهر أن يفعل واستل خنجره وتهيأ للهجوم على مَن يظهر أمامه. ولم يكد جوهر يبدأ بالإشعال حتى سمعا باب الدار فركضا إليه فوجدا الباب مفتوحًا وليس هناك أحد، فأضاء المصباح وأخذا في البحث عن أبي الحسن في كل مكان فلم يجداه، فتأكدا أنه نجا، وقال قراقوش: «هل أنت متأكد يا جوهر أنه أبو الحسن؟» قال: «يغلب على ظني يا سيدي أنه هو، ومع ذلك فقد يكون سواه، هلم بنا للبحث عنه في الأماكن المجاورة، فإذا لم نجده فلعله في جملة المقبوض عليهم، وإلا فإنه قد نجا، قبحه الله.»

فخرجا وركب قراقوش بغلته وأخذا في البحث عنه في تلك الدار وما يجاورها فلم يقفا له على أثر، فذهبا إلى القاهرة وبهاء الدين يخاف أن يكون أبو الحسن قد نجا وكان خوفه في محله.

أما سائر المقبوض عليهم من المتآمرين فحُكم عليهم بالصلب وفي مقدمتهم عمارة اليمني المتقدم ذكره، فصلبوه في ٢ رمضان سنة ٥٦٩ﻫ، وارتاح بال صلاح الدين من هؤلاء، لكنه ما زال يفكر في أبي الحسن سبب تلك الدسائس.

أما سيدة الملك فإنها في اليوم التالي للقبض على المتآمرين كلفت ياقوتة بالبحث عما تم. فلما أنبأتها بالقبض عليهم فرحت، لكن ساءها فرار أبي الحسن وهو مصدر متاعبها. وتعلم أنه لا يبالي ماذا يفعل في سبيل غرضه، لا يرعى ذمة ولا يتجنب حرامًا، فنظرت إلى ياقوتة قائلة: «إن صلاح الدين قد فاز بما يريد.»

فقالت ياقوتة: «إن نجاة ذلك الخائن كدرتني كثيرًا، ولكن ما العمل؟ لا بد أن يرجع كيده في نحره لأن الله غريمه، ولم يعد يهمنا أمره ونحن في حياطة صلاح الدين. والآن جئتك بشيء يعزيك على هذه المصيبة.»

فبغتت سيدة الملك وقد أصبحت تبغت كل جديد تتوقعه لفرط قلقها على عماد الدين فقالت: «ما وراءك؟» فضحكت وقالت: «إني عاتبة عليك بالنيابة عن عماد الدين، كيف تعلمين بمجيء رسول من عنده رآه قبل سفره وخاطبه وعلمنا من كتابه أنه سجين ولا تسألين عن ذلك الرسول لكي تستزيديه إيضاحًا أو تحمليه رسالة؟» فتنهدت سيدة الملك وقالت: «آه يا ياقوتة، قد أقلقتك بكثرة الأسئلة، هل تتوهمين أني غفلت عن هذا الفكر؟ إن رسول عماد الدين يؤنسني إذا رأيته، وكنت عازمة على استدعائه أين هو؟» قالت: «أخبرني بهاء الدين الآن أن ذلك الرسول يطلب أن يراك وأن عماد الدين كلفه بذلك.»

فتوردت وجنتاها وقد أخذها الفرح ولم تتمالك أن صاحت: «عماد الدين كلفه أن يراني؟! الحمد لله إنه يفكر فيَّ، هو إذن يحبني!»

ثم تراجعت وقد ندمت على تلك اللهفة وخجلت وأدارت وجهها إلى حائط عليه ستارة موشاة بالألوان الجميلة تشاغلت بالنظر إليها.

فقالت ياقوتة بصوت ضعيف: «يا لله من الحب! كيف يجعل سيدة الملك سلالة الخلفاء ونزيلة السلاطين يستخفها الفرج إذا سأل عنها شاب من …»

فقطعت سيدة الملك كلامها قائلة: «لا تقولي شيئًا عن عماد الدين، إنه عندي فوق الخلفاء والسلاطين، صدقت إن الحب يفعل كثيرًا … والآن أين ذلك الرسول؟ دعيه يدخل.»

فخرجت ياقوتة وعادت بعد قليل ومعها شاب في زي أهل بيت المقدس الذي يلبسونه في الأسفار، حول رأسه الكوفية كالخمار وقد ارتدى السروال القصير وحول خصره منطقة عريضة من الجلد غرس في مقدمتها خنجرًا صغيرًا، ولفَّ حول ساقيه لفافة من النسيج تسهِّل عليه المشي السريع.

فلما دخل وقف متهيبًا متأدبًا، فأرسلت سيدة الملك خمارها ورحَّبت به قائلة: «ما اسمك يا غلام؟» قال: «اسمي جرجس.» قالت: «أنت مسيحي إذن؟» قال: «نعم يا سيدتي.» قالت: «من أين أنت آتٍ؟» قال: «جئت من بيت المقدس برسالة إلى السلطان صلاح الدين وقد أديتها بالأمس، ولكن صاحب تلك الرسالة أسرَّ إليَّ أمرًا خاصًّا كلفني به يتعلق بسيدة الملك.»

قالت: «وما هو ذلك الأمر؟ أنت بين يدي سيدة الملك الآن؟»

فأطرق احترامًا وقال: «أيتكما هي؟»

فتقدمت ياقوتة وقالت وهي تشير إلى سيدتها: «هذه مولاتنا سيدة الملك، قل ما عندك. وأرجو أن تكون صادقًا فيما تقول.»

قال: «وما الذي يحملني على الوقوف بين يديها إن لم أكن صادقًا في مهمتي، خصوصًا أن الأمر الذي جئت به سرٌّ لم يطلع عليه أحد سواي.»

قالت ياقوتة: «صدقت يا شاب، بارك الله فيك.» ورأت أن تتولَّى هي السؤال عن عماد الدين فقالت: «كيف فارقت عماد الدين؟» قال: «لم يبقَ اسمه عماد الدين يا سيدتي، بل هو يُسمى عبد الجبار.» قالت: «ونعم الاسم. كيف عرفته؟ ومَن عهد إليك في هذه المهمة؟»

قال: «عرفته في أحرج المواقف، وما لبثت أن تعشقت أخلاقه وصرت أفديه بروحي، إنه شاب نادر المثال بالمروءة والحمية.»

ولما سمعت سيدة الملك إطراءه أشرق وجهها وخفق قلبها وتطاولت لتسمع بقية الحديث. أما ياقوتة فأجابته وهي تظهر السذاجة قائلة: «أمر غريب يظهر أنك عاشق له، قل كيف وقع ذلك، وما هي المهمة التي جئت بها؟» فقال: «كان عماد الدين مارًّا ببيت المقدس في طريقه إلى نواحي حلب في أمر لا أعلمه، فقبض عليه الإفرنج خداعًا وسجنوه. وكنت أنا مسجونًا مثله فتعارفنا في السجن، فرأيت فيه أخلاق الملوك، وتجاذب قلبانا فأحببته وأخلص لي وتكاشفنا في أمور كثيرة، فلم يذكر لي شيئًا يتعلق بسيدة الملك، ثم أُتيح لي الخروج من السجن وتقربت من صاحب بيت المقدس الإفرنجي، وأصبح همي إنقاذ صديقي من السجن، فلم يسعدني الحظ بعدُ. لكنني كنت أتردد عليه دائمًا وأتفقده بما يخفف عنه. وسمعنا في أثناء ذلك بما حدث هنا من موت الإمام — رحمه الله — وتغيير الأحوال وإنزال أهل الخليفة في هذا القصر بالإكرام، وكنت أقص عليه كل ما أعلمه وفي جملة ذلك المؤامرة التي تعلمينها، وقد بعثني صاحب بيت المقدس دليلًا للوفد الذي جاء لتقديم الهدايا، وجئت لوداع صديقي فكلفني بإيصال كتاب إلى السلطان صلاح الدين. ثم أسرَّ إليَّ أن أبحث عن سيدة الملك وأطمئنه على حالها، وها إني بين يديها.»

فقالت ياقوتة: «وما الذي أطلعك عليه من علاقته بها؟»

قال: «لم يذكر لي تفصيلًا كثيرًا؛ لأن الوقت لم يأذن بالتطويل. ولكنني فهمت من غرض الحديث أنه يجل سيدة الملك كثيرًا. وقد خطر له أنكم لا تصدقون قولي فدفع إليَّ هذه الجوهرة على سبيل الأمارة.»

ومدَّ يده إلى جيب في منطقته واستخرج جوهرة دفعها إلى ياقوتة فتفرست فيها واقتربت من سيدة الملك، فحالما رأتها قالت همسًا: «هي إحدى جواهر العقد الذي أعطيناه إياه تلك الليلة.» والتفتت إلى الشاب وقالت: «صدقت، قد تأكدنا الآن أنك رسول منه. كيف هو ومتى يخرج من السجن؟ وإذا خرج ألا يأتي إلى هنا؟» قال: «سيخرج قريبًا إن شاء الله وهو في خير، وإذا خرج فلا أظنه يأتي توًّا إلى هنا؛ لأن لديه مهمة لا أعرفها. وقد كلفني أن أقول لك إنه سيعود إلى هنا متى فرغ منها.»

فانقبضت نفسها وأطرقت ثم رفعت بصرها إليه وقالت: «إذن هو في خير وهذا يكفي. وإذا دفعنا إليك أمانة هل توصلها إليه؟»

فوضع يده على رأسه وقال: «كيف لا يا سيدتي! إني أتمنى أي خدمة أؤديها له.»

فأشارت إلى ياقوتة فدنت منها فأمرتها أن تستخرج بعض الجواهر تبعث بها إليه، وأن تكتب إليه كتابًا تؤكد له فيه بقاءها على حبه، وأنها تتوقع رجوعه بفارغ الصبر.

ففعلت ووضعت الجواهر والكتاب في كيس خاطته ودفعته إلى الرسول، ودفعت إليه صرة فيها خمسون دينارًا وقالت: «هذه أجر الطريق»، فأخذها وشكر وانصرف، وظلت سيدة الملك برهة بعد ذهابه وهي تخاطب ياقوتة في شأن عماد الدين وياقوتة تصبرها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤