البارودي

كان الثلث الثالث من القرن الماضي عصر النهضة الأدبية بمعناها الصحيح الدقيق؛ فقد نشأت فيه طائفة من الأدباء والشعراء والكُتاب والمفكرين، وكان له أبعد الأثر في الحياة المصرية وما زالت آثاره باقية حية مأثورة في توجيه الشباب إلى الآن.

في هذا العصر ظهر الشعراء الذين ردوا إلى الشعر العربي حياته الأولى، وأجرَوْا فيه ذلك الروح الذي كان قد خمد عندما غلبت العناصر الأجنبية، والعناصر التركية خاصة، على الحياة العربية، وفي هذا العصر نشأ الكُتاب ونشأ المفكرون الذين حاولوا أن يجددوا في العقل المصري، وأن ينشروا في جوِّ مصر حياة جديدة قِوامها الحرية، سواء أكانت الحرية التي تتصل بشخصية الفرد أم الحرية التي تتصل بالحياة المصرية العامة.

في هذا العصر ظهر شِعْر كان له أبعد الأثر في تجديد الشعر العربي في مصر وهو شعر محمود سامي البارودي، ومحمود سامي البارودي لم يولد في هذا العصر، وإنما وُلد في أيام محمد علي — في أواخر أيام محمد علي سنة ١٨٣٨ — ونشأ نشأة مألوفة في تلك الأوقات فتخرَّج في مدرسة الحربية، وفُرضت عليه البطالة وقتًا ما، وسافر إلى القسطنطينية وتعلَّم هناك اللغة التركية أو تقوَّى في اللغة التركية، وتعلم اللغة الفارسية، واتصل ببعض البيئات الأجنبية، وعاد فاتصل بالقصر وتأثر بحياته، ثم اشترك في بعض الحروب التي اشتركت فيها مصر في تلك الأوقات معونةً لدولة العثمانيين التي كانت مسيطرة إذ ذاك.

وهو بهذه الحياة التي أوجزْتُها إيجازًا شديدًا جدًّا قد تكونت له شخصية فيها شيء من التعقيد، فهو بحكم جنسيته، وأريد بجنسيته جنسية المولد، ينحدر من المماليك، من أُسرة من أُسر المماليك، فهو فيه العنصر الشركسي غالب عليه، ولكن البيئة المصرية كانت أقوى وأشد من هذا العنصر، فكانت لغته هي اللغة العربية، وكان ميله إلى قراءة الشعر شديدًا جدًّا، فقرأ وأكثرَ من قراءة الشعراء القدماء حتى تأثر بهم طبعه؛ وحتى أصبح هذا الطبع يوشك أن يكون طبعًا عربيًّا قديمًا، وقد أضاف إلى هذا العنصر العربي ما تعلَّمه من الأدب الفارسي ومن الأدب التركي؛ فأضاف هذا كله إلى تكوينه الفني شيئًا جديدًا جعله أشبه بالشعراء الذين عاشوا في العصر العباسي؛ إذ شارك في الثقافة العربية من جهة، وألمَّ بألوان من الثقافة الأجنبية التي عُرفت في تلك الأوقات من جهة أخرى، ثم دعته ظروف الحياة إلى أن يسافر إلى أوروبا، إلى باريس وإلى انجلترا، فرأى الحياة الأوروبية عن قرب، وتأثر بها إلى حدٍّ ما.

ولكن كل هذا لم يؤثر في فنه الشعري أثرًا عميقًا، وإنما الذي أثَّر في فنه الشعري عميقَ الأثر وأقواه قراءتُه في هذه الكُتب العربية التي أخذ في إحيائها منذ استقرت المطبعة في مصر، وقد اتخذ الشعراء العرب القدماء — على اختلاف عصورهم — نموذجًا، وجعل يحاكيهم ويقلدهم حتى أتقن هذه المحاكاة، وحتى برع في هذا التقليد، ثم جعل يمرن نفسه على معارضتهم؛ فإذا رأى قصيدة رائعة لشاعر عربي قديم، إسلامي أو جاهلي أو عباسي، حاول أن يعارض هذه القصيدة، أو أن يَنظِم قصيدة على منوالها.

وقد أتيح له التفوق في هذه المعارضة حتى أصبح فذًّا في ذلك العصر، أصبح فذًّا من حيث إنه استطاع أن يَرُدَّ إلى الشعر العربي من القوة وجزالة اللفظ ورصانة الأسلوب ودقة المعنى ما كان قد بَعُد به العهد وطالت عليه القرون، وربما كان من الحق أن يقال إنه أعطى الشعر المصري من الروعة وجزالة اللفظ والأسلوب ورصانته، أعطاه من هذا كله شيئًا لم يألفه حتى في العصور المصرية القديمة.

فمصر لم تُعْرف في العصور الإسلامية على اختلافها بتفوقها في الشعر، وإنما كان التفوق في الشعر من حظ بلاد عربية أخرى … فقد تفوَّق الحجاز ونجْد في الجاهلية والإسلام، وتفوَّق العراق في العصر الإسلامي تفوقًا ملحوظًا، وتفوقت الشام والعراق في العصر العباسي تفوقًا رائعًا، وتفوَّق الأندلس كذلك تفوقًا رائعًا حقًّا … ولكن مصر ظلت متواضعة في الشعر، يصل الشعر إليها واردًا من هذه البلاد العربية المختلفة، وإذا ظهر في مصر شاعر مصري فهو شاعر لا يرقى إلى أن يكون من الطبقة الأولى، وإنما هو شاعر متواضع الشعر يَجري في شعره هذا الروح المصري الوديع المرِح في وقت واحد، ولكنه لا يفرض نفسه على الشعر العربي فرضًا كما كانت الحال بالقياس إلى البلاد العربية الأخرى … بالقياس إلى الفرزدق وجرير والأخطل في القرن الأول، وبالقياس إلى بشار ومسلم في القرن الثاني، وبالقياس إلى أبي تمام والبحتري في القرن الثالث، وإلى المتنبي والشريف الرضي في القرن الرابع، وفي مصر كانت الحال على غير هذا، وكان الشعر المصري يأتي في الطبقة الثانية أو الطبقة الثالثة.

ولأول مرة في تاريخ الأدب العربي ظهر شاعر مصري مُبَرِّز متفوق لا يكاد يجاريه شاعر آخر في قُطر من الأقطار العربية في أواخر القرن الماضي، وهذا الشاعر هو البارودي، فهو من هذه الجهة قد أتاح لمصر أن تأخذ مكانة ممتازة في الشعر العربي، وكان الغريب من أمره أنه أتاح لمصر هذه المكانة الممتازة في الشعر العربي بعد أن مرت عليها قرون طوال لم تتفوق في الشعر تفوقًا ملحوظًا.

وهو في الوقت نفسه لم يكن مقلدًا بالمعنى الواضح المألوف لكلمة التقليد، كان مقلدًا في رصانة الأسلوب وجزالته، وكان مقلدًا في القصيدة على نسقها المعروف، كان في هذا كله مقلدًا، ولكنه كان ذا شخصية قوية بارزة، فكان شعره يصور نفسه، وكان شعره كذلك يصور وطنه وبيئته، وكان يصور الأحداث الخطيرة السياسية التي خضع لها وطنه في تلك الأوقات.

فهو كان من المطالبين بالتحرير، وكان من المشاركين في الثورة العرابية، وكان من الذين اصطلَوْا نارها بعد أن أدركها الإخفاق، فنُفي واصطلى نار النفي وعذابه سبعة عشر عامًا، وهو بعد هذا كله قد كان شاعرًا خاضعًا لتجارب كثيرة خطيرة أثَّرت في نفسه وأثرت في شعره وجعلته عندما يَنظِم الشعر لا يتكلفه تكلفًا ولا يخترع الموضوعات اختراعًا، وإنما يتحدث عن ذات نفسه حقًّا، ويصور نفسه ويصور قومه ويصور البيئة التي عاش فيها وتأثر بأحداثها وبخطوبها.

لهذا كله كان البارودي هو أولَ المجددين في الشعر المصري الحديث، وكان في الوقت نفسه هو الشاعر الذي أتاح لمصر أن تأخذ بنصيبها من المشاركة في قوة الشعر العربي ورصانته وتفوقه … أتاح لها التفوق ولكنه تفوُّق متأخر، فلم تتفوق مصر في الشعر إلا في آخر القرن الماضي عندما ظهر البارودي وعندما ظهر بعده شعراء آخرون كان أعظمهم خطرًا — من غير شك — شاعر مثل شوقي وحافظ ومطران على ما كان بينهم من تفاوت أرجو أن أتناوله في الأحاديث المقبلة إن شاء الله، وسأبدأ بالحديث عن شوقي وربما كان الحديث عن شوقي محتاجًا إلى شيء من التفصيل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤