التجديد في العصر العباسي

كان من أهم الأشياء التي أعانت على التجديد في الشعر العربي في القرن الأول للإسلام ما أدخله الأجانب الذين نُقِلوا إلى الحجاز، من الآثار … ما أدخلوه من الغناء الذي نقلوه من لغتهم ومن بلادهم إلى اللغة العربية وإلى البلاد العربية، فلم يَكَدِ العرب يستمعون لهذا الغناء حتى شُغِفُوا به وأقبلوا عليه إقبالًا شديدًا، ثم أثاروا ذلك في شعرهم نفسه، فجعلوا ينشئون الشعر الغنائي، ينشئونه ليتغنَّوْا به، ثم جعلوا يلائمون بين شعرهم هذا القديم الموروث وبين هذه الأنواع الجديدة من الموسيقى التي لا عهد لهم بها، فأخضعوا شعرهم لهذه الموسيقى وخففوا أوزانهم القديمة ويسَّروها وجعلوها ملائمة أشد الملاءمة لهذه الأنغام التي جاءتهم من بلاد الفُرس ومن بلاد الروم.

وكانت هذه الأنغام تتصل بمعاني الشعر، فكان الشعر يُنشَد في هذا الغزَل أو في هذه المعاني التي يحتملها الغناء، كما أنهم بسَّطوا الشعر ويسَّروه في أوزانه نفسها؛ فعدلوا في كثير من الأحيان عن الأوزان القديمة الطويلة، وابتكروا أو حوَّلوا تلك الأوزان الطويلة إلى أوزان قصيرة سهلة يمكن أن تتلاءم مع هذا العزْف على أنواع الموسيقى المختلفة.

وكذلك كان في الشعر العربي وفي نفوس الشعراء الذين أنشئوا هذا الشعر من المرونة والسهولة والاستعداد لتطويع شعرهم ولغتهم البدوية للحياة الجديدة، ما أتاح لهم أن يلائموا بين شعرهم العربي الموروث وبين الموسيقى الجديدة التي جاءتهم من الخارج، لا يجدون في ذلك مشقة، ولا يشعرون بعناء أو جهد … فأين نحن الآن من هذا كله عندما نفكر في هذه الموسيقى الأجنبية التي تُحمل إلينا في كل يوم، والتي نسمعها مصبحين ومُمْسِين، والتي نسمعها في أكثر أوقاتنا ثم لا تتأثر بها نفوسنا فضلًا عن أن تبلغ أعماق هذه النفوس، وفضلًا عن أن تؤثر في شعرنا أو في أدبنا، أو أن تحملنا إلى أن نميل إليها أو نأخذ منها أخذًا معقولًا صريحًا.

مهما يكن من شيء، فقد كان الغناء من أهم الأشياء التي حملت العرب على أن يجددوا شعرهم مع أن عهدهم بالبداوة كان قريبًا أشد القرب، ومع أن كثيرًا منهم كانوا يعيشون في عيشة لم تكن حضرية خالصة، وإنما كانت فيها عناصر كثيرة من حياة البداوة.

على رغم هذا كله استطاعوا أن يجددوا في أدبهم، وأن يملئوا شعرهم بهذا الإنتاج الكثير الذي نقرؤه الآن فنُعجب به، ونَعجب لإسراع العرب في إنشائه والتفوق فيه.

ثم انتقل الأدب الغنائي من الحجاز إلى العراق عندما أُديل من بني أُمية وقامت الدولة العباسية الجديدة وظهر تأثير العناصر الأجنبية في هذه الدولة الجديدة، انتقل الأدب إذن إلى العراق، وفي العراق تطور الأدب العربي القديم تطورًا خطيرًا فنشأت فيه أشياء لم يكن العرب يعرفونها من قبل، وتحوَّل الشعر فيه عن أساليبه القديمة إلى أساليب جديدة كل الجِدَّة: أولًا في الموضوعات، وثانيًا في تيسير الأوزان وتيسير القوافي في بعض الأحيان أيضًا، وثالثًا في تغيير ما كان العرب قد ألفوه من الفنون التقليدية الموروثة نفسها، ثم في المعاني التي كان الشعراء يقولون فيها الشعر … غيروا هذه المعاني تغييرًا خطيرًا بحكم ما كان من دخول الحضارات الأجنبية والثقافات الأجنبية في العقول العربية وفي العقول الإسلامية بوجه عامٍّ.

والشيء الغريب هو أننا عندما نوازن بين ما كان من تطور الشعر في ذلك العصر — في القرن الثاني من الهجرة — وبين الحياة الأدبية التي نحياها الآن، نلاحظ ما لاحظناه منذ حين من الفرق العظيم بين قوم يُقْدِمون على التطور ويسرعون إليه ويستجيبون له في يسر وفي غير مشقة ولا جهد، وقوم آخرين يمتنعون على هذا التطور امتناعًا، وإذا حاولوه لم يوفقوا منه إلَّا إلى أيسره وأقله، فأولئك الشعراء الذين عاشوا في القرن الثاني للهجرة استطاعوا أولًا أن يجددوا شعرهم في ألفاظه ومعانيه وأساليبه، ويجددوا شعرهم أيضًا في أوزانه وقوافيه، ثم استطاعوا أن يطرقوا فنونًا لم يكن الشعراء القدماء يعرفونها، كل هذا في غير مشقَّة ولا جهد وفي غير تكلُّف ولا عناء.

ونحن إلى الآن ومنذ اتصلنا بالحضارة الأوروبية نجدِّد ولكن في بطء وفي تعثُّر شديد، وتجديدنا يظهر فيه التكلف وتظهر فيه الغرابة … والذين يحاولون أن يكونوا مجددين صريحين يجدون المشقة كل المشقة فيما يحاولون من هذا التجديد.

ثم لم يقف الأمر عند الشعر وإنما تجاوزه إلى غيره من فنون الأدب نفسها، فنشأ النثر الذي لا يُقصد إلى مجرد تأدية المعاني إلى القراء، وإنما يُقصد به إلى أكثر من تأدية المعاني، يُقصد به إلى الإمتاع الفني وإلى إثارة اللذة الخالصة التي تتصل بالذوق في نفوس القراء عندما يقرءون هذا الكلام المنثور الذي أخذ العرب والمسلمون يكتبونه في أواخر القرن الأول وفي أثناء القرن الثاني وما بعده.

فهم إذن قد جددوا أدبهم تجديدًا تامًّا، وهم قد استطاعوا أن يصيبوا إصابات بعيدة المدى بالقياس إلى ما كانوا عليه عندما ظهر الإسلام وعندما أخذ العرب ينتشرون في أقطار الأرض بحكم الفتوح، وكذلك نستطيع أن نلاحظ هذا التيسير الذي ألفه المسلمون والعرب منهم خاصة في التجديد، سواء كان تجديدًا في الشعر أو تجديدًا في النثر، نستطيع أن نلاحظ هذا، وأن نلاحظ خصبه وكثرته وسهولته ويُسره.

ثم لم يكتفِ العرب أو المسلمون بهذا، وإنما أضافوا إليه شيئًا آخر لعله كان هو السببَ في كل ما أتيح لهم من تجديد الأدب، وتمكينه من أن يكون خصبًا منتصرًا على جميع المشكلات والعقبات التي كانت خليقة أن تتطرق إلى الجمود، ففي هذا العصر الثاني من العصر الإسلامي لم نكن نعرف شاعرًا يعيش كما كان يعيش الشعراء القدماء على التراث العربي القديم وحده، وإنما كل الشعراء أخذوا يتثقفون بالثقافات الجديدة التي اتصل بها المسلمون وعرفوها من ثقافات الأمم الأجنبية، فلم يكن هناك شاعر يعيش كما كان يعيش جرير والفرزدق والأخطل، مثلًا، على ما ورثوا عن شعراء الجاهلية، وما عرفوا من أمور الدين الجديد، ولكنهم جميعًا كانوا يتصلون بالفُرس ويعرفون ما عندهم، وكانوا يتصلون بالثقافة اليونانية ويعرفون منها الشيء الكثير، وكان هذا الاتصال وهذا التثقف بالثقافات الأجنبية، كان هذا كله من الأشياء التي دعتهم وأتاحت لهم أن يجددوا وأن يحسنوا في هذا التجديد، وألَّا يظهر عليهم فيه تكلُّف أو تصنُّع أو احتمال مشقة أو عناء.

فإذا وازنَّا بين ما صنع أولئك وما صنعنا نحن في هذه الأيام فسنرى الفرق عظيمًا، فعندنا الإقبال على التثقف بالثقافات الأجنبية والإقبال على الاطِّلاع على ما كان عند الأجانب وعلى ما يُنقل إلينا من آثارهم الأدبية والعلمية، ولكن التجديد الذي أُتيح إلينا قليل بالقياس لما كان أولئك يصنعون من تجديد عقولهم وقلوبهم وأذواقهم … يكفي أن نلاحظ الفرق بين شاعر كبشَّار أو أبي نُوَاس، وبين شاعر من الشعراء القدماء كالفرزدق وجرير لنرى أن شاعر العصر العباسي كان رجلًا مثقفًا بأوسع معاني هذه الكلمة، وأن الآخر كان رجلًا محدود الثقافة كأنه انحدر إلى البادية وكأنه يعيش غريبًا في العصر الذي كان يعيش فيه.

فليس غريبًا إذن أن تكون هذه الثقافة دافعًا لأولئك الشعراء على أن يجددوا ويحسنوا التجديد، وأن يكون إبطاؤنا في التزود من الثقافة والأخذ بحقوقنا منها — من الثقافة الجديدة من جهة ومن الثقافة القديمة من جهة أخرى — ليس غريبًا أن يكون هذا الإبطاء حائلًا بيننا وبين ما ننتظر وما نريد لأدبنا من التجديد والتطور وملاءمة الحياة الحديثة، وإذا رأينا شاعرًا من شعرائنا الآن يُنشد شعره وكأنه يعيش في القرون الوسطى فلا غرابة في ذلك، وإنما السبب فيه هو أن ثقافته العربية القديمة نفسها محدودة جدًّا، وعلمه بالثقافات الحديثة التي يعيش في وقتها والتي تُحمل إليه في كل يوم ومن كل جهة محدودٌ أيضًا، ولا سبيل إلى أن يتجدد أدبنا تجديدًا خصبًا حقًّا إلَّا إذا استزاد أدباؤنا وشعراؤنا من التعليم ومن الثقافة بالقديم وبالجديد في وقت واحد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤