مدخل الكتاب

المؤلِّفُ وتأليفُه

اكتفى من ترجموا لمؤلِّف سيرة ابن طولون بذكر اسمه وأسماء أجداده واسمِ قبيلته، وأشاروا إلى ما غلَب عليه من أصناف العلم وإلى بعض تآليفه، وإلى مذهبه وما طُعِن عليه فيه. نظر أكثرهم إليه من ناحية دينه خاصَّة وأغفلوا نواحيَ مفيدةً من دنياه، كفعل معظَم كُتَّاب السِّيَر لا يَحفِلون البحث بأوَّليَّة الرجل ودراساته ومشيخته وبيئته، وما إلى ذلك من العوامل التي لها الأثَر الأوَّل في سِر نشأته وحصائل قريحته.

وغايةُ ما عَرفنا من نسَب البَلَوي وعِلمه ومذهبه أنه أبو محمد عبد الله بن محمد بن عمير بن محفوظ المديني البَلَوي، من قبيلة بَلي كعلي ورضِي، وهي فرعٌ من قُضاعة ينتهي نسبُها إلى قحطان. وكانت بَلي بالشام فنادى رجلٌ منها: يا لَقُضاعة! فبلغ ذلك أميرَ المؤمنين عمرَ بن الخطاب، فكتب إلى عامل الشام أن يُسيِّر ثُلُث قُضاعة إلى مصر، فتفرَّقَت بَلي بأرضها. ومنازل بَلي اليوم في أرجاء الوجه من بلاد الحجاز، وقد كان لهم يدٌ بيضاءُ في فتوح مصر والشام، وجاء منهم على الدهر الصحابة والتابعون والعلماء والفصحاء، ومنهم عبد الله هذا، والأرجح أنه كان من بَلي الحجاز، بدليل اقتران لفظ المديني باسمِ بيته، نزل أجدادُه وادي النيل فنشأ مصريًّا يتناغى بحب مصر.

عرَّفه ابن النديم في الفهرست بأنه ممن ألَّف الكُتب للإسماعيلية، فعَرفْنا أنه من أعلام الإسماعيلية؛ أي السبعية، ووصَفَه بأنه كان واعظًا فقيهًا عالمًا، وأن له من الكُتب كتاب الأبواب [وفي رواية: كتاب الأنوار] وكتاب المعرفة، وكتاب الدين وفرائضه، وهذا كُل ما ذكَره له من التآليف. وما زاد الطوسي في فِهرِسته على عبارة ابن النديم شيئًا، ونقَص منها لفظ «عالم»، وفي تنقيح المقال: «ولولا تضعيف النجاشي لاندَرَج في الحسان؛ لعدم الشبهة في كونه إماميًّا، وكونِ ما في الفهرست مدحًا معتدًّا به له، ولكن كلام النجاشي أسقطَه بالكلية.» والنجاشي هو صاحبُ كتاب الرجال عند الإمامية وهو ثقتُهم وعمدتُهم. ولم ينُصَّ الطوسي على تعديل البَلوي ولا على جرحه. وغلا الغضائري فقال فيه إنه كذَّاب وضَّاع للحديث لا يُلْتفت إلى حديثه ولا يُعبأ به.

ولعل السبب في حملِ بعض الإمامية على البَلوي وعدِّه في الضعفاء واتهامِه بالكذب والوضع ناشئٌ عن إيراده أحاديثَ لتأييد الدعوة الإسماعيلية؛ فوصَموه بما وصَموه على العادة في تطاعُن الفِرَق في الإسلام والنصرانية. والإمامية والإسماعيلية يختلفون في الإمامة، فيوافق الإسماعيليةُ الإماميةَ في سَوْقِ الإمامة من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إلى جعفر الصادق، ثم يَعدِلون بها عن موسى الكاظم الذي هو الإمام عند الإمامية إلى إسماعيل أكبر أولاد جعفر الصادق.

وعَرَض ابن حجر في لسان الميزان لذكر البَلوي ونقل عن الدارقطني أنه يضع الحديث، وأنه روى عنه أبو عَوانة في صحيحه في الاستسقاء خبرًا موضوعًا، قال وهو صاحب رحلة الشافعي طوَّلها ونمَّقها، وغالبُ ما أوردَه فيها مختلَق، وذكره الذهبي في ميزان الاعتدال في نقد الرجال بمثل ذلك، وروى عبارة الدارقطني فيه.

وغاية ما أُحصيَ للمؤلف في كتابه هذا، وهو مما تجلَّى به مذهبه الديني أيضًا، أنه لم يترضَّ في المقدمة عن الصحابة على عادة أهل السنة والجماعة، واكتفى بالترضِّي عن آل البيت الطاهرين، وكان إذا ذكَر عمر بن الخطاب ترحَّم عليه، وإذا عَرَض لآل الرسول صلَّى وسلَّم عليهم أجمعين، وصيغةُ صلاته وسلامه على النبي الصيغة التي ألِفَ استعمالَها أهلُ السنة، وأكثر ما رواه من هذا القبيل منقول عن غيره لم يُعدِّل فيه شيئًا، وقد غمَز الخوارج مرةً لمَّا أشار إلى صِدقِ أحد رجالهم. وفي الجملة ما خالَف أهل السنة في شيءٍ مما قال وروَى، فكان من هذا النظر إسماعيليًّا لا يبعُد كثيرًا عن هَدْي الجماعة، ومسافة الخُلْف بين فِرَق الشيعة والسنة لم تكن في عصره منفرجةً انفراجها في العصور الأخيرة.

ليس لدينا نصٌّ يُعتمد عليه في السبب الذي حمل البَلوي على وضع هذا التأليف، وقد قال في مقدمته أنه طُلِب منه أن يكتب في سيرة آل طولون كتابًا «يكون أكبر شرحًا وأكمل وصفًا» من كتاب أحمد بن يوسف المعروف بابن الداية، وأن الطالب قال له في كتاب ابن الداية في السيرة الطولونية: «ما هكذا أرَّخ الناسُ الأخبار، ولا عليه نظَمَ العلماءُ الآثار.» وليس قوله هذا فيما نرى السبب المهم في وضع كتابه.

قد يرِد على الخاطر أن المؤلِّف شاهد تبدُّلًا في حال مصر بعد ابن طولون؛ فحدَّثَته نفسه أن يضع تأليفًا يخلِّد فيه مآثره؛ ليجعل من سيرته مهمازًا لمن يأتي بعده من الولاة والأمراء، وليتفطَّنوا لسعة فضلِ ذاك الآخذ بمُخنَّق الممالك، والدرَّاكة بترويض الناس على الطاعة. وربما يخطُر على البال من جملة التعليلات أن ابن طولون كان يَعطِف على الإسماعيلية أو يَستظهِر بهم للانتفاع بقُوَّتهم شأنَ كثيرٍ من رجال السياسة يحاولون استخدام كل قوة، ويُوهِمون من يخالفونهم أنهم منهم، إلا أنهم يكتمون إيمانهم ويتَّقون لحكمة لا يذكُرونها، فعطَف البَلوي على ابن طولون لعطفِ هذا على أهل مذهبه، في زمنٍ قُتِل فيه الحلاج شر قِتلة في بغداد، وهو صِنوُه وقريعُه في مذهبه، وفي عصرٍ كانت جمعيات الإسماعيلية منتشرةً في هذه الأقطار يتحفَّز دُعاتُها لإنشاء دولةٍ إسماعيلية، وكان قيام بني عُبيدٍ الفاطميين في إفريقية ثم في مصر آخرَ تلك الجهود.

لم تُعْرَف السنة التي وَضَع فيها البَلوي كتابه في آل طولون، والثابتُ أنه ألَّفه بعد موت أحمد بن طولون [٢٧٠ﻫ] وبعد انقراض الدولة الطولونية [٢٩٢ﻫ] وبعد سنة ٣١٢ﻫ وفيها وافى مصر الوزيرُ علي بن عيسى بن الجراح، وقد جرى له ذِكرٌ في هذا الكتاب كما ذُكر فيه الخليفة المقتدر، والمقتدر قُتِل في سنة عشرين وثلاثمائة.

واستنتَجنا من رواية المؤلف عن أناسٍ روَوْا عن ابن الداية أن البَلوي ألَّف كتابه في الثلث الثاني من القرن الرابع في أرجَح الظن؛ لأن ابن الداية هلك، على أقرب الروايات إلى الصحة، بعد نيِّف وثلاثين وثلاثمائة، فالكتاب أُلِّف إذن بعد أكثر من ستين سنةً مضَت على وفاة ابن طولون.

إن ابن الداية روى عن سعد الفرغاني وابن عبد كان ونسيم الخادم وطاهر الكبير الخادم وأبي جعفر المروزي وموسى بن طولون ونَعْت أم ولد أحمد بن طولون وشعيب بن صالح وبرَّاقة الحاسب وهارون بن مَلُّول وأحمد بن أبي أوفى وأحمد بن أعْيَن وأحمد بن محمد الواسطي وأحمد بن خاقان وأحمد بن دعيم وإبراهيم بن كامل وأحمد بن القاسم وعلي بن مهاجر والفارسي والحسن بن واقع ويعقوب بن صالح ومحمد بن عبيد الله الخراساني وعن عمه إسحاق بن إبراهيم وغيرهم، وكلُّهم من قوَّاد ابن طولون ومن غلمانه؛ أي من رجاله.

وابن الداية أيضًا كتب لآل طولون وعُدَّ من غلمانهم، وكانت له بهم خلطةٌ وأنسة، وكان لأصالة بيته ونُبل مَحْتِده تُفتَح له أبوابُ القصور فيطَّلع على سِر القوم وجهرهم، وعلى عُجَرهم وبُجَرهم.

فتاريخ ابن الداية بهذا الاعتبار، لو ظَفِر الباحثون بالأصل السليم منه، أمتَعُ من تاريخ البَلوي؛ لأنه كُتب عن عِيان ومشاهدة ونُقل عن ثقاتٍ عارفين، وتأليفُه نسج يده وزُبْدة تحقيقه. ووَضْعُ تاريخ البلوي في عهدٍ خلا فيه من المؤثِّرات السياسية في الجملة بتغيُّر الزمان وانقراض الدولة وانتفاء ما يُخشى على المؤرِّخ فيه من مصانعة مَنْ يعاصره أقربُ إلى السَّداد والسلامة. وكتابة البلوي سيرةَ ابن طولون بهذا التطويل المفيد أدنى إلى الإحاطة بحال مترجَمه، والدولة الطولونية مُنقطِعة، وصِلة الكاتب بها معدومة، ومذهب المؤرِّخ غيرُ مذهب مَنْ أرَّخ له. وللمذاهب تأثيرٌ غير قليلٍ في معظم ما كُتب من التواريخ في تلك الأيام.

أكثر البلوي الاعتذار عن ابن طولون في كل ما صدر عنه من شدة، وما استطاع في بعضِ الأخبار النابية عن حد العقل أن يُذيِّلها برأيه فسارع في روايتها، لئلا يسألَه سائلٌ عن رأيه فيها، كقصة الجماعة الذين ذكروا ابن طولون في دعوةٍ لهم بما يسوءُه؛ فألقاهم كلَّهم في اليمِّ، في الليلة التي أخذ فيها رقعتَين بما قالوه فيه، واستولى على نعمتِهم ونقَض الدار التي اجتمعوا فيها من أساسها، وما طلع النهار إلا وهي رحْبةٌ مكنوسة مرشوشة! وكقصة ابن عمار أتى به من سجنه، فنصَح له أنفعَ نصيحة في بقاء سلطانه، فردَّه إلى السجن وقال إنه نصَحَه في دنياه وغشَّه في دينه، وإنه يخاف دهاءَه وعقلَه إذا هو أطلَق سبيله، فمات من غمِّه في السجن. وما نَقَدَ البَلوي ابنَ طولون حتى في تسرُّعه بإهلاك الناس، يقتل من يقتل بوشاية يرفعها إليه أحد أصحاب أخباره، فيُغرِق في النيل من يغضب عليهم، أو يلقيهم في حفرة يطمسُها عليهم وهم أحياء، يَعجَل أبدًا في إنفاذ عقوبته، لا يرجئها إلى غد يومه، لينظر إن كان ما اتُّهِم به المتهمون ليس فيه شيءٌ من الأسباب المخفِّفة فيحقن الدماء.

ولم يقل لنا البلوي رأيه في حَنَق ابن طولون على بكار بن قتيبة، قاضي مصر ومن أكبر فقهاء عصره ومحدِّثيه، يوم امتنَع عن القول بخلع الموفَّق وخالف القضاة في فتواهم، وابن طولون يحاول أن يُفتيَه قاضيه بما يُرضيه ويُرضي سياسته، فلمَّا توقَّف بكار عن متابعة القضاة في فتواهم سجنَه مدةً طويلة وعامله أسوأ معاملة، أهانَه وسلَّط عليه الرِّعاع، ونَسِي أو تناسى أنه شيخٌ كبير وإمامٌ جليل، لا ذنب له إلا أنه لم يقُل بما قال به قُضاتُه الرسميون، ومِن هؤلاء مَنْ لا يتوقَّف عن إغضاب الحق لإرضاء أرباب الدولة.

وما ذَكَر لنا المؤلِّف قسوةَ ابن طولون على طبيبَيه، وادعائه عليهما أنهما قصَّرا في علاجه، فطاف بالأول على جمل ناسبًا إليه الخيانة، وضَربَه مقارعَ أوردَتْه حتفَه، وهدَّد الثاني تهديدًا أتى على نفسه بعد يوم. وربما يقول البلوي: هذا صدَر عنه وهو في حالةٍ غير متزنة، كان مريضًا وليس على المريض حرج. فيُقال له عندئذٍ: إن كان ابن طولون متديِّنًا تدينًا باطنُه كظاهرِه فسبيلُه غير هذا، والدينيون يعتقدون أن الموت والحياة بيد الله لا بيد الطبيب، ولا يُعقل أن يقصِّر طبيباه في طبِّه، والذنب ذنبُه لأنه أبى أن يخضع لِما أشارا عليه به من التراتيب.

طريقة البَلوي في تاريخه إيراد الحوادث، وقد يحلِّلها ويعلِّلها أو يصرِّح برأيه وشعوره أحيانًا، ويروي الأخبار بأسانيدها على النحو الذي كان يَعمِد إليه الرواة وأرباب السِّيَر في القرون الأولى. والبَلوي بليغٌ يُحسن الوصف، ويؤثِر السلاسة، ويكتب بلا تعمُّل، وعبارتُه خالية من السجع في الجملة، وفيها ازدواجٌ ولها رنَّة. وكان إذا أراد أَخْذَ بعضِ ما ورَدَ في كتابٍ مُطوَّل طَرحَ الأسجاع أولًا، ثم أتى على المكرَّرات حتى يأتي تأليفُه نسقًا واحدًا، لا يبدو فرقٌ كبير بين ما يكتبه ويكتبه غيره.

اقتبَس البَلوي نحو خمسين قصةً من قصص ابن طولون عن ابن الداية، ذكرها هذا في كتابَيه؛ سيرة ابن طولون والمكافأة، وزاد من عنده نحو أربعين قصةً أخرى. وما ندري إن كانت زياداتُه هذه نُقِلَت أيضًا في المطوَّل من كتاب ابن الداية، أو تلقَّطها البلوي من أماكنَ أخرى، ويترجَّح من نسقها وعبارتها الطليَّة أنها من بضاعة ابن الداية، ومعظم الحكايات عن ابن طولون تشهدُها في رواية البلوي مفصَّلةً مزيدةً زياداتٍ مهمة، وينقل أول الحكاية من كلام ابن الداية باللفظ والمعنى. وضَم المؤلِّف إلى كتابه رسائلَ ووثائقَ عديدةً لا أثَر لها عند ابن الداية، وعُني بالتوسُّع في الحكاية فأَوْلى سِفْره إمتاعًا وإبداعًا. وقد وردَت في كتاب البَلوي تفاصيلُ نشأة ابن طولون، وأخبار حروبه في الثغور، وأخبار ابنه العباس وغلامه لؤلؤ، وأخبار مرضه وخلعه الموفَّق على صورةٍ أجمَع وأبرَع، ومنها ما خلا منه كتابُ ابن الداية كأخبار مرضه ووفاته وجنازته ووصيته وثَروته وغير ذلك.

وصدَق البَلوي فيما ادَّعاه من محاولتِه وضْعَ تأليفٍ مُطوَّل، وحقَّق أمنيةَ من طلب إليه كتابًا أوسَع من كتاب ابن الداية، وساعَدَه على الذهاب بهذا الفضل تأخُّره في العصر وانتفاعُه بكُتب مَنْ تقدَّمه، وزاد أنه تفوَّق بتنسيقه وترتيبه، وامتاز ببسطِه وشرحِه.

ولعل للبَلوي عُذرًا على سلخِ أخبار ابن الداية بمعناها ومبناها، وزيادته عليها زياداتٍ حبَّبَتها إلى من ينظُر فيها، وتبدَّت مهارتُه في التأليف حتى ليخالُها قارئها أنها نسجُ يدٍ واحدة؛ فالواقع أن تلك الحكايات كانت من البَلوي على طَرف الثُّمام، ولم يَرَ موجِبًا لنسجِها نسجًا ثانيًا، وحَوْكُ ابن الداية من أجمل ما حاك بُلغاء العربية؛ هذا وأمثاله مما يُعذَر عليه، ولكن من الصعب أن يُلْتَمسَ له عُذرٌ في نقلِه ما ينقلُ دون أن يصرِّح بابن الداية، فيقول قال ابن الداية وأخذتُ عن ابن الداية، وهذا ما كان يُرجى من عالمٍ فقيه واعظ من عياره. ولو فعل لأتى بما يزيد تاريخه وثوقًا، ولصيَّر لكلامه موقعًا أحسن من نفوس العارفين بنسبته الفضلَ لصاحبه، ومن بركة الكلام أن يُعزى لقائله.

وعجيبٌ أن تُجازي الطبيعة من يستحقُّ جزاءها إذا خرج على قانونها؛ فقد رأينا البَلوي في القرن الرابع استحلَّ نقل أخبارٍ برمَّتها عن ابن الداية، سيد كُتَّاب مصر في الدهر الغابر، دون أن يشير إلى أبي عُذرها، فاقتصَّت الطبيعة لابن الداية منه بعد أربعة قرون، سلَّطَت على البلوي المقريزي؛ فغَزاه في خطَطه وسلَخ من كلامه صفحاتٍ طويلة في سيرة ابن طولون وما أقامه من أعمال العمران، فكانت واحدة بواحدة؛ غزا البلويُّ ابن الداية، فسطا المقريزيُّ على البَلوي، وسُلِّط على مَنْ جوَّز سرقة مَنْ تقدَّمه مَنْ يسرقُه بعد زمن ولا يرحمه.

أصل المخطوط

أصلُ هذا الكتاب من مخطوطات دار الكتب الظاهرية بدمشق، مُسجَّل في قسم التاريخ تحت رقم ٢٤٢، وكان مدشوتًا فجُمِعَ وجُلِّد في أوائل هذا القرن. وهو مما وقَفَه محمد بن علي بن أحمد بن طولون الصالحي الدمشقي المؤرِّخ المُتوفَّى سنة ثلاث وخمسين وتسعمائة على خزانة المدرسة العمرية بصالحية دمشق، وكتَب عليه بخطه أنه ابتاعَه بتسعة قروش.

ورَد اسم الكتاب في أول صفحة هكذا: «كتاب سيرة آل طولون»، وجاء الكتاب في سيرة أحمد بن طولون فقط، وكُتِب في آخره بخَطٍّ يخالف خطَّ ناسخه: «تمت سيرة أحمد بن طولون». والغالب أن الكتاب كان في سيرة آل طولون فضاعت كراريسُ من آخره، أو أن المؤلف لم يُكمِل كتابه كما وعد في المقدمة عند إشارته إلى تفضيل كتابه على كتاب ابن الداية، فقال إن هذا «لم يأتِ بجميع أخباره ولا أخبار أبي الجيش ابنه، وما كان من جميل أفعاله وحسن آثاره، ولا أخبار سائر إخوانه بعده.» وكتابُ البَلوي لم يَستَوفِ هذه الأخبار كلَّها، وكان كلامُه مقصورًا على سيرة أحمد بن طولون، وما جاء من أخبار أولاده جاء بالعَرَض، ولأمورٍ كان لها علاقةٌ بأبيهم لا بهم.

figure
راموز طُرَّة الأصل المخطوط.

وقع هذا المخطوط في ٢٥٣ صفحةً منصفة القطْع، وكُتِب على ورقٍ غليظ بخط أهل القرن الرابع عاريًا من النَّقْط ومن تاريخ النَّسْخ، وقد يغلطُ ناسخُه في النحو التصريف والإملاء، وينقلُ ما لا يفهم ويكرِّر كلمةً سبق له كتابتُها فيُعيدُ رسمَها في الجملة الواحدة. وقد أصاب المخطوطةَ بللٌ طُمِسَت به بعضُ الكلمات في أول الكتاب ووسطه وآخره، وأكلَت الأرَضَة رءوسَ بعض الصفحات الأخيرة، ولمَّا رُفِع ما أُلصِق عليها من ورقٍ ورُدَّ بعض المطموس إلى الصحة ورُجِع في تقويم بعضها إلى أصولٍ نَقَل عنها المؤلف أو نَقَل غيره عنها. ومنها ما وُضِعَت له كلماتٌ يقتضيها السياق، وذلك بشيء من الظَّن والفَرض، وجُعلَت الزيادات بين قوَسين في السطور الممحُوَّة، فإذا كان المطموس نحو كلمتَين جُعِلَ بدلهما نقطتان، وإذا كان ثلاثًا وُضِعَت ثلاث وهكذا، أما الشِّعر فقد هزَّعه الناسخ كثيرًا فما أمكن ردُّه كله إلى الصحة، خصوصًا ما قيل منه في حادثةٍ خاصة محلية، وتيسَّر إرجاع الشِّعر المعروفة دواوينُه إلى نِصابه من الصحة.

figure
راموز الصفحة الأخيرة.

ولم نَرَ مندوحةً من التعليق على الكتاب، إلا أننا أقلَلْنا منه ما أمكن مجتزئين بما لا غُنْية عنه، وصحَّحنا الأغلاط النحوية وغيرها دون أن نشير إلى كل غلطةٍ وقعَت، وإذا كان هناك نصٌّ نَقَل عنه المؤلف نُصلِح به ما تيسَّر إصلاحُه من نَصِّ مؤلِّفنا، وقد لا نشير إلى ذلك، وحلَّلْنا بعض الألفاظ اللغوية والأعلام الجغرافية، وأضفنا إلى التعاليقِ ما ظَفِرنا به مفرَّقًا في الكتب مما تتم به ترجمةُ أحمد بن طولون، وكان مما فات المؤلِّف التعرُّض له.

وقد اغتبطنا، وحالة مخطوط البَلوي على ما ذكرنا، أن حسبنا ما سطَت عليه الأيام من كلامه جزءًا ضئيلًا، لا يحول دون الانتفاع بتأليفه الذي ظل يتنقَّل في الخزائن ألفَ سنة، حتى كُتب لابن هذا الجيل أن يُخرِجه للناس مطبوعًا، وقد أشرف على البِلى، فحَيِيَ بذلك اسمُ مؤلِّفه وكاد يُنسَى لذَهاب بقية تآليفه.

لا جَرَمَ أن في نشر كتاب البَلوي إحياءَ مادةٍ جديدةٍ من تاريخ مصر والشام ولونًا طريفًا من أدب عصره الجميل، فيه حلاوة وطلاوة، وألفاظًا فصيحة ومعرَّبة في شئون الحياة كانت مألوفة في زمن المؤلِّف ونحن في حاجةٍ إليها اليوم. دع ما هناك من قصصٍ واقعية على مثال قصص الصولي والقاضي التنوخي، تدُل على كياسة ابن طولون وسياسته، وتُفيد القارئ من حكمته وحنكته، فيها متعةٌ للنفس وسلوى وصورةٌ صادقة من صور ذاك المجتمع.

وقد حافَظْنا على متن الكتاب، وترجَمْنا في الهامش لكل فصل ولكل قصة، وختمناه بفهرس للأعلام والبلدان، وبجريدة بأسماء المصادر التي رجعنا إليها في التصحيح، وقد راعينا فيها الأمانة ما وسِعَتْنا المراعاة.

وحاولنا العثور على نسخةٍ ثانية من هذا التأليف لنُعارِض عليها هذه النسخة الوحيدة، وسألنا بعض أصحابنا المُستعرِبين من علماء المشرقيات في الشرق والغرب، فكتب إلينا صديقُنا العلامة كرنكو Krenkow يقول: إنه لم يعرف في الدنيا نسخةً ثانية له ولا شيئًا من أخباره سوى ما في الكُتب التي ذكرناها له، وهذا عُذرُنا في إبقاء بعض ما توقَّفنا فيه من عبارات المؤلِّف بحاله من السقم والنقص، وعسى أن ينكشف للباحثين وجهُ الصواب فيما لم يظهر لنا بعد بذل الجهد.

أحمد بن طولون بتصوير البَلوي

صوَّر البَلوي أحمد بن طولون صورةً جميلة، وخلَع عليه من الثناء ثوبًا فَضفاضًا، صوَّر ذكاءه وقوة ملاحظته، ورسَم فراسته وسياسته، وعدله ورحمته، وصدقاته ومكارمه، مُعجبًا بكل ما أتاه، عاذرًا له على ما قدَّمت يداه، لم ينقُده في شيءٍ مما قصَّ من أخباره، ونسَب كل ما وقع له من موت عدُو وتبديل في مجرى أحوال الدولة أو غير ذلك من المصادفات إلى الإقبال الذي عُرف به طالعُه، والحظ الذي «حسَّن قبيحه، وأصلح رديئه» والبَلوي يعتقد بالإقبال كثيرًا، يُقيم للطالع والنجوم والمنامات والكرامات وزنًا على ما كان أهل عصره.

والمعقول أنْ ليس هناك إقبال ولا بخت، والعامل في توفيق ابن طولون تربيةٌ صالحة كانت من أرقى ما عُرِف في دهره، وذكاءٌ نادر تفرَّد به دون أبناء جنسه، نشأ في أشرف عصور بغداد جنديًّا مطبوعًا على أجمل صفات الجندي الشريف، ولُقِّن في بيته وهو طفلٌ أمورًا أفادته في حياته، وحفِظ القرآن وجوَّده وفصُح بالعربية فعُدَّ من فُصحاء رجال السياسة بلسانه وقلمه، وأخذ عن المحدِّثين قطعةً صالحة من العلم، ورُزِق صوتًا جميلًا وأتقن الموسيقى ونَظَم الشعر بالتركية لغة أبيه وأمه.

وتأفَّف في عُنفُوان شبابه من الظلم الذي يأتيه الأتراك في عاصمة الخلافة، فآثر الهجرة إلى طرسوس من مدن الثغور، وكانت يومئذٍ مَقيل القُراء والعُلماء والزهاد، فتخرَّج بهم وتأدَّب بآدابهم وانصَرفَ إلى العبادة حتى كان يخشى ألا تُصادِف أعمالُ السلطان موقعًا من قلبه لانصرافه إلى أمور الدين، ولمَّا عُهِد إليه منصبُ الولاية في مصر نيابةً عن باكباك من وزراء العباسيين تجلَّى نُبوغُه بأجلى مظاهره، وثبَت غَرامُه بحسن التدبير والنظام، واستبان طُموحُه وثِقتُه بنفسه، ومن حُسن حظِّه أن كانت ولايتُه على مصر، ومصرُ من طبيعتها أن تُغرِي مَنْ يَنْزلها بالتوطُّن فيها، وأن تُدمِج فيها غيرها ولا تندمج هي في غيرها، ومن العسير على بغداد أن تحكُم مصر مباشرةً للبُعد الباعد بينهما، ومصر وسط رمالها يتعذَّر الوصولُ إليها من البَر ومن البحر، وطبيعة القُطرين متخالفة وبلاد الرافدَين يومئذٍ مشغولة بفتنةٍ عظيمة كادت تُودي ببني العباس، وهي فتنة الزنج في البصرة.

ومما ساعد ابنَ طولون على التوفيق في حُكم مصر أنْ كان في طباع أهلها من الانقياد لمن يعتقدون فيه الإخلاصَ لهم، والحرصَ على إسعادهم، ما ظهَر أثَره في الدول السالفة والخالفة. وفي هواء مصر وتُربتها خصائصُ نُطلِق عليها اليوم اسم «الإقليمية والقبلية». ومصر إلى هذا تعتقد بالأمر الواقع إذا كانت حسناتُ راعيها أكثَر من سيئاته ارتضَته وتَبنَّته وسايرَتْه في السبيل التي يُزْجيها فيها.

أول ما فكَّر فيه أحمد بن طولون لمَّا هبط مصر أن يُبعِد الفوضى عن أحكامها وتراتيبها؛ فوضع لها قواعد فرَضَ عليها العمل بها، فأفلَح في ولايته، وارتاحت رعيَّته، نظر إلى خِصْب تربتها، وسهولة العيش فيها، وإلى تدنِّي خراجها، بعد أن كان بوَفْرته مَضرِبَ الأمثال عند العرب، فأصلَح، برأيه المُسدَّد، الريَّ والصرفَ والجسورَ والطرقَ والتُّرع، وأسقط ضريبة المعاون وغيرها من الضرائب، واكتفى بالخَراج والمُكُوس، فبلغَت عبرة خراجها أربعة آلاف دينار وثلاثمائة ألف دينار، عدا المُكُوس التي تُجبى في المواني والحدود، ذلك بعد أن انحطَّ خراجها إلى ثمانمائة ألف دينار، وما كانت تُجبى إلا بشيءٍ من العَسْف.

هذا هو سِرُّ نجاح ابن طولون في حُكم مصر، لم يَعرِض له البَلوي وأشار إليه المؤرِّخون، وهناك سِرٌّ آخر له صِلةٌ بهذا وهو عنايتُه بتحسين حال الفلَّاح، ونشرُ العدل بين الرعية، لا فرق بين مسلم وقبطي ورومي ويهودي.

قام في نفس ابن طولون أن يُنشِئ في مصر دولة، فأَمَر بإنشاء القطائع، وبنى قصره «الميدان» على مثال قصور الخلفاء في الجلَالة، وعمَر رجالُه وغلمانُه الدُّور والقُصور، وتبنَّكوا في النعيم. وما خلت بلادُ الأقاليم أيضًا من استيفاء حظِّها من العمران، فآضَت عاصمةُ الديار المصرية في أعوامٍ قليلة كأعظمِ مدينةٍ من مدن الشام. زعموا أن ابن طولون عثَر على كنوز عمَّر منها جامعَه العظيم ومستشفاه والعَين والحِصن، والحقيقة أنه كانت تُفتح له كلَّ عام كنوزٌ من أرض مصر وثروتها الطبيعية.

صَرفَ جهودًا عظيمة لتثبيت قدَمه بالديار المصرية كما يَصرِف في العادة كُل من يفتح فتحًا جديدًا، ويحاول أن يصفو له إلى الأبد. وجَرُؤ على نزعِ يده من قيود بني العباس، وكان من اشتغالهم بأنفسهم أن سار حُرًّا طليقًا لا يخضَع لسَفسافِ سلطانٍ لا يُرضيه شيء، ولا لخليفةٍ يُملي كلَّ يومٍ إرادتَه عليه، وحركتُه لم تخْفَ على أهل البصَر من أصحاب الدولة ومن يهمُّهم بقاؤها عباسية.

عَرفَ ابن طولون من أين تُؤكَل الكتف، فاختار من المصريين ومن غيرهم طبقةً من الوكلاء والسماسرة والزبانية والمدَّاحين، وأغدَق عليهم إدْراراته، فهَيَّئوا له الطريق إلى المجد واستماتوا في حُبه، وأخلَصوا له القصد في الخدمة. وهو بما فُطر عليه من بَسْطة اليد كان يُرضي الخليفة بما كان يُرسِله إليه مُسانَهةً من المال، ويُرضي وليَّ العهد، وإن كانا في الظاهر متشاكسَين، ويُرضي خزانةَ الدولة وخزانتَه الخاصة، ويُرضي أصحابَ السلطان وطبقاتِ العلماء والقُراء والفقراء في بغداد، ويُرضي أهلَ الثغورِ والعواصمِ والحرمَين بما كان يحملُ إليهم من المؤن والمُعدَّات والثياب والأموال، ويُرضي أهل الشام والجزيرة وبَرْقَة بما كان يُوليهِم من عَطفه ولُطفه، ويُرضي كل مَنْ تُحدِّثه نفسُه أن يخلُفه في تقلُّد عمل مصر، ويُرضي قُوَّاده وكُتَّابه وغلمانه وجميعَ من يمتُّ إليه بصِلَة. ويعيش مع هذا هو وآلُه عَيشَ الملوك لا عَيشَ أبناء الأجناد من الولاة والمُتصرِّفين، وخلَّف في خزائنه من الناضِّ ما لم يخلِّف مِثلَه قبله أحدٌ من الولاة، خلَّف على ما قيل عشرةَ آلاف ألف دينار أو خمسة ملايين جنيه ذهبي، عدا عشراتِ الألوف من العبيد والمماليك والجواري والخيول والبغال والعُدد والآلات، وعشراتٍ من أسفاط الجواهر والحُلي، وبلَغ ريعُ إقطاعاته خمسين ومائتي ألف دينار في السنة، وأقام في مصر من المصانعِ ما كانت حَضْرة بني العباس عاجزةً عن محاكاته.

كان لِشدة انتباهِه إذا رأى منفذًا يتسرَّب إليه منه ضررٌ يسعى إلى رَدْمه، وإذا شاهَد خمشًا يخاف أن يستحيل جرحًا نغَّارًا يُبادِر إلى معالجته لساعته بضروبٍ من الوقاية، وكان يتفنَّن في أخذ الأخبار إلى ما لم تصِل إلى أكثر منه أعظمُ الدول مهارةً في الجاسوسية اليوم، وإلى ما لم يتسامَ إليه رجلٌ من عظماء التاريخ في الدول الإسلامية. ولو تَساهَل في هذه السبيل ما صفا له مُلك مصر والشام وما إليهما هذه الحِقبة. ووُفِّق لأن يشهَد مَصرعَ أعدائه واحدًا بعد واحد، ونال من بعض مَنْ عاونوه على قيام دولته، لمَّا اعتقَد أنهم مُخالِفوه في بعض الطرق، لم تأخُذْه بهم شفقة، ولا شفعَت بهم لديه سابقةٌ من خدمة، أو يدٌ سلفَت من إخلاص، فصفا له بذلك جوُّ مصر وجوُّ بغداد.

كان ابن طولون عَجبًا في سيرته، إن احتملَت نفسُه كل مُخالِف فلا تحتمل من يُنابِذه في رأيه، ويعترض على عمله ولو في سِرِّه، يتطالُّ إلى توحيد كلمة الناس في التغَني بحمده، ومن خرج في نظره عن الحدود المرسومة عُوقب بالقتل. منَح الناسَ حُرياتهم في النطاق الذي ارتآه، فإذا اصطدَم بما يريدهم عليه، وأدركَ من طَرْفٍ خفيٍّ أنهم من المعارضين، أو ممن يُفاوِضون أعداءه أو يفاوضُهم أعداؤه على غير علمٍ منه، فهناك الإفراطُ في تطبيق مفاصلِ قانونه، لا يسمع حوارًا ولا مناقشة، ولا يسير إلا مع حَظِّ نفسِه ينتقم لها.

وقد يُهلِك رجلًا لا يستحقُّ جُرمُه أكثر من مؤاخذة، أو يكفي في تعزيره حبسُه أو تشريدُه، وقد يُغْضِي عن كبير الجُرم لأنه رَقَّ له، أو كانت له به صِلة، أو جاءه في حالة سرور كما فعل مع ابنه العباس عصى عليه فضربه مقارعَ يسيرةً واعتقلَه، وقضى، على أفظع صورةٍ من التمثيل، على مَنْ رافقوه إلى بَرقة وطرابلس.

ما عرف ابن طولون الوفاء ولا الولاء؛ كان إذا غضِب أساء إلى أقرب الناس إليه، ولا يزال يُسيء الظن بالمخلِص له إساءتَه بالخائن، لا يثق حتى بمن صدَقوه، وكانوا من أكبر العوامل في إنشاء دولته، مثل أحمد بن محمد الواسطي الذي رافقه منذ ظهوره في واسط إلى آخر أيامه، وما كان يهدأُ له بالُ إلا إذا اطلع على ما تنطوي عليه قُلوب عُماله؛ ولهذا كان يُغْني مَن يقلِّده أمر البريد، وإلى البريد يومئذٍ تُردُّ مراقبة العُمال وغيرهم، ويُغْني مَنْ ندَبَهم لموافاته بالأخبار في بلاده وخارجها.

كان يُدرُّ الرواتب على عمال وقواده وغلمانه وجنوده يقبضونها مُشاهَرات، ويُجزِل لهم الهِبات والصِّلات؛ ليبتعدوا عن ظلم الناس آمنين على رزقهم ورزق عيالهم، ويُجري على المستورين والمستورات، ويُحسن إلى الفقراء بإطعامهم وكِسوتِهم، ويحمل من تُرضيه سيرتُهم على دَوابِّه، ويُجري الجرايات على المحاويج والمُعوِزين وجريدةُ صدقاتِه طويلة، ومنْ قُدِّر له الوصول إليه ساعةَ رضاه يسعد، وكان يُفْضِل على النُّسَّاك والقُراء والفُقهاء والمحدِّثين والمتطبِّبين والمهندسين يُجري عليهم ما يكفيهم، ولا يُعنى كثيرًا بالمنجِّمين والشُّعراء على ما يظهر؛ لبُعدِه عن الاعتقاد بتأثيرات النجوم على أهل الأرض، ولا تهمُّه كثيرًا مصانعات الشعراء، وقد مدَحه البحتري ثم هجاه، وتوفَّر محمد بن داود على هَجْوه عند كل سانحة.

ظهَر أن ابن طولون كان من المحافظين المأخوذين بعاداتٍ لهم موروثة، يُحافِظ على صَلواته، ولا يخلو يومًا من التوسل والتضرع والسجود في الملأ، وظهر أنه كان معتدلًا في عِشْرَة النساء، لا يُفْرِط في التسري واقتناء الجواري، وهمُّه أبدًا حفظُ نعمته وصيانةُ دولته، عَهِدناه يُحب المنادمةَ والطرب ويعقدُ مجالس الأنس أحيانًا، ويتناوَل ما استحل تناوله من الشراب، وكان حتى في مجالسه الخاصة يُؤثِر الوقار ويصطنع التقوى، وهو يُحسِن الجمع بين اللذات المحلَّلة، ويمتنع، على ما يظهَر، عن المحرَّمات؛ فهو ذو شخصيةٍ خاضت كل عُباب، وطرقَت كل باب.

أحسَن ابن طولون الاضطلاعَ بأعباء الحكم وتمرَّس بالسياسة وقدَّر التبعات التي أُلقيت على عاتقه؛ فكان يهونُ عليه إتعاب نفسه لتستريح رعيتُه ويسهَر عليهم ليناموا مطمئنين، وبفضل يقظته ما نجم ناجمٌ يُجاذِبه حبلَ السلطة إلا قضى عليه، ولا قاومه عاملٌ أراد خدمة بغداد على حسابه إلا قهَره، ومعظم أهل هذه الطبقة قضَوا في سجنه، أو تحت سياط جلَّاديه، وجُرُّوا بأرجُلهِم جرًّا من حضرته، على مكانتهم في أنفسهم.

حسِبَ ابن طولون حساب كل طارئ، وما كان يدور في خَلَده أن يفترصَ ابنُه البكر المسمَّى بالعباس فُرصةَ تغيُّب والدِه عن مصر فيجيِّش وهو نائبُه عليها جيشًا، ويستتبع أُناسًا من رجال أبيه، ويحمل أموالًا وآلاتٍ كثيرةً ويرحل إلى بَرقة يرفع لواء العصيان على أبيه فيُمرِضه ويُؤلِمه. وكان من لؤلؤ، وهو غُلامُه وغَذِيُّ نعمته، أن ثار عليه في آخر عهده، وفي أحرج أوقات حكمه، فأخذ أموال الجباية من الشام والجزيرة، ولحِق بالموفَّق عدُو ابن طولون اللدود في دار السلام، فباع ابن طولون حَرمَه ووَلدَه في سوق الرقيق.

كان ابن طولون في الظاهر ليِّنَ الملمس لمن في بغداد، وهو في باطنه شديدُ الوطأة عليهم، لا ينزلُ لهم عن أقلِّ حقِّ من حقوقه، هو يتَّقيهِم لإيقانه أنهم لا يُرضيهم سَيرُه بحال، وكيف يرضَون عنه وهم يتوجَّسون خيفةً من انبساط ظِل حكمه؟ ولا يفتَئون يذكُرون ويذكِّرهم الذاكرون أنهم دونه علمًا وعقلًا وعدلًا، وأنه يُخشى أن يكيد بعد حينٍ لبني العباس.

وكان من جملة وصاياه لقُوَّاده ولأبي الجيش ابنِه وخليفتِه ألا يغترُّوا بمخاريق أهل العراق، وألا ينسَوا ما في نفوسهم عليهم، وأن يذكُروا أبدًا أن مَنْ في مصر شجًا في حُلوق مَنْ في بغداد، وتقدَّم إليهم ألا يضَعوا أيديَهُم في أيديهِم، وقال لهم إني أعرف ذنبي لهم. وكل هذا يدعو إلى التفكير في إخلاصه للعباسيين، ويُلقي الشك في تزيُّده بإظهار إخلاصه لهم، وأن دَعْواه أنه لا أرَبَ له في نشوزه على ولي العهد إلا دفعُ عُدوانه على أخيه مسألةٌ فيها نظَر، وهو يعلم علم اليقين بأن الموفَّق يعمل ليلَه ونهارَه في دفع صائل الأعداء عن دولتهم، وأن المعتمد لا يستجيب لغير صوت شهواته، ويَلمَحُ من يقرأ ما في القلوب أن الحرص على الاحتفاظ بحقوق المعتمد ليس كلُّه من أجلِ بيعةٍ له في عنقه كما يزعم، ولا كان انتصارُه له بعاملٍ دينيٍّ قويٍّ في نفسه، بل كان هناك أمور يُكِنُّها صدْرُه، ولا يعرف غيرُه سِرَّها، ربما كانت تظهر لو لم تُعاجِلْه المنيَّة.

ولولا حربُ علَويِّ البصرة ما تيسَّر لابن طولون أن يحكُم هذه الأعوامَ الطويلةَ في وادي النيل، ولولا أنه أصهَر إلى يارجوخ من قُوَّاد الترك في بغداد ما صارت إليه مصرُ مرةً ثانيةً نيابةً عن حَمِيه أيضًا، كما كانت له على عهد باكباك، ولولا أنْ ملأ قلوب رجال الدولة وصُدورَهم بهداياه ورشاواه لتقدَّم بعض الأقوياء من أصحاب السلطان فاستولى على مصر قبل أن ترسَخَ قدَمُه فيها. وما كان بُعد ولايته عن الحَضْرة، ولا صعوبةُ الوصول إليها، ولا المائة ألف عنانٍ من جيشه لتَنفعَه لولا أن جاء في غفلة الدهر، وبنو العباس محكومون فعلًا للأتراك لا يعملون إلا ما يُرضيهم، ومن عادة العباسيين إذا استَبسلوا افتَرسوا وإذا ضعُفوا استكانوا وذلُّوا.

وأيًّا كان فأحمد بن طولون وحيدُ عصره في إدارة الملك، رُزِق صفاتٍ تعذَّر اجتماع مثلِها فيمن عاصروه، وحسناتُه على التحقيق أَوفرُ من سيئاته. ومهما قيل في مؤاخذتِه فهو إلى الاعتدالِ أقرب من معظم أمراء تلك الأيام. رأيناه لمَّا حاول الموفَّق أن يُقصِيَه عن ولاية مصر كيف يَعمِد إلى استدعاء الخليفة المعتمد إلى مصر ليُقِيم فيها الخلافة العباسية، فلمَّا تعذَّر نفوذُ الخليفة إليه قام يخلع الموفَّق في مدينة دمشق، ذاكرًا في وثيقة خلعه أسبابًا معقولة تنمُّ عن جَرْبَزة ودَهاء، على حين رأينا الموفَّق يتقوَّل عليه، ويشتمُه على منابر بلاده، ويرميه بالمروق من الدين، ويتهمُه بإخراب ثغور المسلمين وبقتال المجاهدين بأهل الفِسق المُلحِدين، وباستباحة الحريم وسفك الدماء، وكل هذا لم يحصُل منه شيء، وكانت سياسة ابن طولون عكسَ ذلك، كان يغضُّ عن مساوئ أصحاب الثغور، يموِّنهم ويقوِّيهم ليكونوا في حِرزٍ حريزٍ من مطامع الروم. وعَهِد السلطان إلى غير واحد أن يَحْموا حِمى الثغور فأخفَقوا، وما أُمِن عليها إلا لما عُهِدَت حمايتُها إلى كفاءة ابن طولون.

وبعدُ، فإنْ أنكَر مُنكِرٌ شيئًا على ابن طولون فأكثرُ ما يُنكِر عليه إسرافُه في سفك الدماء، قَتَل فيما قيل في سجنه ثمانيةَ عشَر ألف إنسان، والمُنكِر اليوم يتكلَّم بعقلية ابن هذا القرن الناشئ على حُب الحرية، المتشبِّع بحقوق الإنسانية، ولا مِرْية بأن الدماء كانت رخيصةً في الأزمان الماضية، وكان ابن طولون يُحاوِل مع هذا أن يظهَر بمظهَر الشفَقة، وما ندري هل كان ذلك منه عن تديُّن ورحمة؟ إن معظم رجال السياسة كرجال المال قساةُ القلوب غلاظُ شداد، لا يحنُّون ولا يَعطِفون، وهم، وإن حاولوا الظهور بما يقضي به الدين، أشدُّ الخَلْق تحلُّلًا من جوهره في باطنهم.

إن ست عشرة سنةً قضاها ابن طولون في تأسيس دولته قد يقضي الطغاةُ في الحُكم مثلَها وضعفَها ولا يقوم لهم عمل، ولا يتمُّ لهم مشروع، أما هو فقضَى في آخر العَقْد الخامس من عُمره محقِّقًا الآمال بإصلاحاتٍ كثيرة ابتدَعها فعُدَّت من بنات أفكاره، كعنايته بوضع الأضابير والجُزازات والتقاييد، فكان حيث انقلَب يَصحبُه كاتب يدوِّن كل ما يقولُه وما يُقال في حَضْرته، فإذا كان الليل خلا بكاتبه وأصلَح له ما كتَب، ليحفظَ ما دار من الكلام على حقيقته ويرجعَ إليه عند الاقتضاء.

كان الراضون عن حُكم ابن طولون المغتبطون بأيامه أكثر من الناقمين، استراح الناس إلى أحكامه على أنه صورةٌ من رجل الاستبداد يُخالِط سِيرتَه تديُّن وتصَوُّن، في عصرٍ فسَد بعضُ أوضاعه، وفي دولةٍ قامت باسم الدين وهدفُها الدنيا، يسترخصُ الصالحُ والطالحُ من أصحاب ولاياتها إهراقَ الدماء، وهل كان ابن طولون إلا واحدًا منهم؟ تثقَّف في تلك المدرسة، وجرى على تلك الطريقة، استحلَّ احتجانَ الأموال كما كانوا يحتَجِنون، وجارَ على من لا تُسمع أصواتهم، وهو إلى هذا يُطعِم الفقراء، ويصطَنع الرحمة، ويجود على مَنْ ينفعه أو يتوقَّع نفعَه، ويُقيم الشعائر الدينية، ولا يعمل إلا ما فيه فتنة العامة، بيد أنه كان ممن يأخذ ويُعطي، ويخزنُ ويُنفِق، ويَعدِل ويَظلِم، ويجمع بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة. يعرف ما يريد وما يُراد وما يجب وما لا يجب وهدفُه الأسمى استقلالُه بالديار المصرية، وتركُها إرثًا شرعيًّا لأولاده من بعده، سعى لذلك ضُروبَ السعي، وما تعفَّف لبلوغِ غرضِه عن ارتكاب كل عظيمة.

لأحمد بن طولون مشابهٌ من الحجاج بن يوسف الثقفي، يتشابهان في إحسان السياسة، والتجديد في طرق العمل، وبقوة العزيمة وشدة البطش، الحجاج مثال العربي الحازم في القرن الأول، وابن طولون مثال التركي الحازم في القرن الثالث، جاهد الحجَّاج لتكون كلمةُ دولته هي العليا، وجاهد ابن طولون فكان جهادُه لنفسه ولبيته. ذاك لم يخلِّف من حُطام الدنيا شيئًا يُعتدُّ به، وهذا خلَّف من الخزائن والكنوز ما يُخلِّف أعظمُ أمراء تلك العصور مثلَه.

محمد كرد علي

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤