الفصل العاشر

لكن في الواقع كان انزعاج كو سلا سابقًا لأوانه. إذ بعد عشرة أيام من التعارُف، بالكاد صار فلوري أكثر قربًا من إليزابيث، عن أول يوم التقَى بها فيه.

فقد شاءت الظروف أن ينفرِد بها خلال هذه الأيام العشرة، لوجود أغلب الأوروبيِّين في الغابة. فلوري نفسه لم يكن من حقِّه أن يقبع في المقر؛ إذ كانت أعمال جلب الأخشاب تجري على قدم وساق في هذا الوقت من العام، وفي غيابه انهار كل شيء تحت إمرة المراقب الأوراسي غير الكفء. لكنه كان قد مكث — بحُجة إصابته بحمى خفيفة — بينما راحت تأتيه من المشرف خطابات يائسة كل يوم تقريبًا، تحكي عن كوارث. إذ مرض أحد الأفيال، وتعطَّل مُحرِّك القطار المستخدم في نقل جذوع الساج إلى النهر، ورحل خمسة عشر فردًا من العمال. لكن ظل فلوري باقيًا، غير قادر على انتزاع نفسه من كياوكتادا بينما إليزابيث ما زالت هناك، ساعيًا باستمرار — من دون فائدة كبيرة حتى الآن — أن يستعيد تلك الصداقة السلسة والممتعة التي كانت في لقائهما الأول.

كانا يلتقيان كل يوم، صباحًا ومساءً، هذا صحيح. كانا يلعبان مباراة تنس فردية في النادي كل مساء — إذ كانت السيدة لاكرستين في حالة بالغة من الارتخاء وكان السيد لاكرستين معتل المزاج بشدة بما لا يسمح بلعب التنس في هذا الوقت من العام — وكانوا بعد ذلك يجلسون في قاعة الجلوس، الأربعة معًا، يلعبون البريدج ويتحدَّثون. لكن رغم أن فلوري أمضى ساعات في صحبة إليزابيث، وكثيرًا ما كانا معًا بمفردهما، فهو لم يشعر للحظة بأنه على راحته معها قط. كانا يتحدَّثان — ما داما يتحدَّثان في أمور تافهة — بأقصى درجة من الحرية، لكنهما كانا مُتنائيين مثل اثنين من الغرباء. كان يُساوره شعور بالانقباض في وجودها؛ إذ لم يستطع أن ينسى وحمته؛ كان ذقنه يؤلمه من حلاقته مرتين يوميًّا، وجسده يتعذَّب من لهفته على الويسكي والتبغ — فقد كان يُحاول التقليل من الشرب والتدخين وهو معها. وبعد عشرة أيام، بدا أنهما لم يقتربا أكثر من العلاقة التي أرادها.

إذ إنه بطريقة ما، لم يستطِع قطُّ أن يتحدث معها كما كان يتُوق أن يتحدث. أن يتحدث، يتحدَّث فحسب! يبدو الأمر بسيطًا جدًّا، لكن كم هو عظيم! حين تظلُّ حتى يُوشك عمرك أن ينتصِف تعيش في وحدة مؤلمة، بين ناس يرون رأيك الحقيقي في كل موضوع على وجه البسيطة تجديفًا، تكون الحاجة للحديث هي الأعظم بين كل حاجاتك. بيد أن الحديث الجاد مع إليزابيث بدا شيئًا مُستحيلًا. كانا كمن سُحر لهما أن يتمخَّض كل حديث بينهما عن أمر تافه؛ تسجيلات الجرامافون، الكلاب، مضارب التنس؛ كل تلك الثرثرة التي تجري بها الألسنة في النادي لتخلق فيه شعورًا بالوحدة. بدا أنها لا تريد الكلام عن أي شيء سوى ذلك. كان لا يكاد يقترب من موضوع ذي أي أهمية ملموسة حتى يسمعَ صوتها تغشاه نبرة تهرب، كأنها تقول «لن ألعب». كما صدمه ذوقها في الكتب حين اكتشَفَه. لكنه ذكر نفسه بأنها صغيرة، وأنها احتست النبيذ الأبيض وتحدَّثت عن مارسيل بروست تحت أشجار الدلب في باريس، أليس كذلك؟ سوف تفهمه فيما بعد لا شك وتعطيه الصحبة التي يحتاجها. ربما ليس السبب سوى أنه لم يفز بثقتِها بعد.

وكان هو بعيدًا كل البعد عن الكياسة معها. إذ كان شأنه شأن كل الرجال الذين عاشوا كثيرًا بمُفردهم، يُكيِّف نفسه مع الأفكار لا مع الناس. ومن ثم، مع أن كلَّ حديثهما كان سطحيًّا، فقد بدأت تنزعِج منه أحيانًا؛ ليس مما يقوله وإنما مما كان يُوحي به. نشأ بينهما حرج، غير واضح معالمُه لكنه كثيرًا ما كان يوشك على شجار. حين تجمع الظروف بين شخصين، أحدهما عاش في البلد طويلًا والآخر وافد جديد، يتحتَّم على الأول أن يتصرف بصفته مُرشدًا سياحيًّا للثاني. وكانت إليزابيث، خلال هذه الأيام، تتعرَّف لأول مرة على بورما؛ فكان فلوري بطبيعة الحال من يقوم بدور المُترجم لها، ليفسر هذا ويُعلِّق على ذلك. وكانت الأشياء التي يقولها، أو طريقته في قولها، تُثير فيها اعتراضًا مبهمًا لكن عميقًا. فقد لاحظت أن فلوري، حين يتحدَّث عن «أهل البلد»، يكاد يتحدث دائمًا في صالحهم. كان دومًا يمدح العادات البورمية والشخصية البورمية؛ بل بلَغَ به الأمر أيضًا أن ينحاز لهم عند مقارنتهم بالإنجليز. كان هذا مما أزعَجَها. فمهما يكن من أمر، أهل البلد هم أهل البلد؛ مُثيرون للاهتمام، بلا شك، لكنهم في النهاية مجرد شعب «تابع»، شعب وضيع بوجوه سوداء. وقد كان سلوكه وتوجهه مفرطًا في التسامح بعض الشيء. كما أنه لم يكن قد أدرك بعدُ كيف كان يستثير عداءها. إذ أراد بشدة أن تحب بورما، كما أحبها، لا أن تنظر إليها بعينَين كليلتين غافلتين شأن أي سيدة أوروبية في الهند! كان قد نسي أن أغلب الناس لا يشعرون بالراحة في بلد أجنبي إلا وهم يزدرُون السكان.

كان مُتحمسًا في محاولاته لإثارة اهتمامها بالأشياء الشرقية. فحاول على سبيل المثال تشجيعها على تعلُّم اللغة البورمية، لكن لم يُثمر هذا شيئًا. (إذ كانت زوجة عمها قد أوضحت لها أن المبشِّرات وحدهنَّ يتحدَّثْن البورمية؛ النساء الرقيقات يجدْن أقصى غايتهن في مفردات المطبخ الأردية.) نشأت بينهما خلافات صغيرة لا تُحصى على غرار ذلك. راحت تدرك على نحو مبهَم، أن وجهات نظره لا يجوز أن تكون لدى رجلٍ إنجليزي. وأدركت بوضوح أكثر أنه يطلب منها أن تحبَّ البورميِّين، بل وأن تحترمهم؛ تحترم ناسًا بوجوه سوداء، يكادون يكونون وحوشًا، ما زال مظهرهم يبعث فيها القشعريرة.

وقد طرأ الأمر بمائة طريقة. مثل أن يمرَّ بهم زمرة من البورميِّين على الطريق، فكانت تُحدِّق فيهم، بعينَين ما زالتا لم تألفا المنظر بعد، بفضول من ناحية ونفور من ناحية أخرى؛ وكانت عندئذٍ تقول لفلوري، كما قد تقول لأيِّ شخص:

«كم يبدو هؤلاء الناس دميمين إلى درجة مقزِّزة، أليس كذلك؟»

«حقًّا؟ طالما اعتقدت أنهم بالأحرى يتمتَّعون بمظهر جذاب، هؤلاء البورميُّون. فلديهم أبدان غاية في الروعة! انظري إلى منكبي ذلك الشخص … كأنه تِمثال برونزي! فقط تخيَّلي المناظر التي قد ترينَها في إنجلترا لو أن الناس سارُوا نصف عرايا كما يفعلون هنا!»

«لكن رءوسهم تبدو بَشِعة للغاية! جماجمهم ترتفع من الخلف نوعًا ما مثل رءوس القطط الذكور. كذلك الطريقة التي تميل بها جباههم للوراء، تجعلهم يبدون أشرارًا جدًّا. أتذكَّر أنني قرأت في مجلة شيئًا عن أشكال الرءوس؛ قيل إن الشخص ذا الجبهة المائلة من النمط المُجرم.»

«مهلًا، في ذلك بعض التعميم! نحو نصف الناس في العالم لديهم ذلك الشكل من الجبهة.»

«حسنًا، إذا حسبت الناس الملونين، بالطبع!»

أو قد تمرُّ مجموعة من النساء، ذاهبات إلى البئر؛ فتيات فلاحات، مَتينات البُنيان، نحاسيات البشرة، مُستقيمات، انتصبَت قاماتهنَّ أسفل جرات الماء وبرزت أكفالهن القوية الشبيهة بأكفال الفرس. كانت النساء البورميات يُثِرن نفور إليزابيث أكثر من الرجال؛ لشعورها بانتسابها لنفس الجنس، وكراهة أن تنتسِب إلى كائنات بوجوهٍ سوداء.

«ألسن حقًّا شديدات البشاعة؟ مَظهرهنَّ في غاية الغلظة؛ وكأنهن نوع من الحيوانات. هل تعتقد أنه يُمكن لأي شخص أن يجد أولئك النساء جذابات؟»

«رجالهن يجدونهنَّ كذلك، على ما أعتقد.»

«أعتقد ذلك. لكن ذلك الجلد الأسود … لا أعلم كيف يستطيع أي شخص تحمله!»

«أظنُّ أن المرء يعتاد على الجلد الأسمر مع الوقت. إذ يُقال — وأظنه حقيقة — إنه بعد بضع سنوات في هذه البلاد يألف المرء الجلد الأسمر أكثر من الأبيض؛ فهو المألوف أكثر على كل حال. إذا نظرتِ للعالم ككُل، وجدتِ الأبيض حالة شاذَّة.»

«لديك حقًّا بعض الأفكار الغريبة!»

وهكذا دواليك. ظلَّت تستشعِر طوال الوقت شيئًا غير مُرضٍ ولا سليم في الأشياء التي يقولها. حدث ذلك بوجه خاص في ذلك المساء حين سمحَ فلوري للسيد فرانسيس والسيد صامويل، الأوروبيين الآسيويين المنبوذين، بتوريطِه في محادثة عند بوابة النادي.

تصادف أن إليزابيث كانت قد وصلَت النادي قبل فلوري ببضع دقائق، وحين سمعَت صوته لدى البوابة دارت حول شبكة التنس لملاقاته. كان الأوروبيان الآسيويان قد انسلَّا نحو فلوري وحاصراه مثل زوج من الكلاب يُريد اللهو. تولى فرانسيس أغلب الحديث. كان رجلًا نحيلًا، سريع الانفعال، وفي سمرةِ ورق السيجار، لكونه ابن امرأة من جنوب الهند؛ أما صامويل الذي كانت أمه من عرقِ الكارين، فكانت بشرته صفراء شاحبة وشعره أحمر باهتًا. كان الاثنان يرتديان بذلتين رثَّتين من قماش الدريل القطني، وقبَّعتين كبيرتين بدا جسداهما النحيلان أسفلهما مثل عيدان الفطر.

أخيرًا قطعت إليزابيث الممشى فسمعت مُقتطفات من سيرة ذاتية هائلة ومعقَّدة. إذ كان فرانسيس يجد في الحديث مع الرجال البيض — الحديث الذي يفضل أن يدور حوله هو نفسه — مصدر سعادة كبرى في حياته. وحين كان يجد، كل بضعة أشهر، واحدًا من الأوروبيِّين ليستمع إليه، كان تاريخ حياته ينهمر منه في سيول من حمم لا تنطفئ. هكذا راح يتحدَّث بصوت أخنف رتيب النبرة مدهش السرعة، قائلًا:

«أتذكَّر القليل عن أبي يا سيدي، لكنه كان رجلًا غضوبًا جدًّا وكان كثيرًا ما ينهال ضربًا بخيزرانة كبيرة مليئة بالنتوءات علينا جميعًا أنا وأخي الصغير غير الشقيق وأمي وأمه. أتذكر أيضًا كيف كنت أنا وأخي الصغير غير الشقيق عند زيارة الأسقف نشدُّ علينا الأزر ونُرسَل للوقوف بين الأطفال البورميِّين لنظلَّ متخفيين. لم يرُق أبي منصب أسقف قطُّ يا سيدي. فقد جعل أربعة أشخاص فقط يعتنقون المسيحية خلال ثمانية وعشرين عامًا، كما أن ولعه الشديد بخمر الأرز الصيني كان له صدًى غاضب جدًّا بالخارج وأفسد مبيعات كتيب أبي الذي كان بعنوان «بلاء الكحول»، الذي نشرته دار رانجون بابتيست بريس، مقابل رُوبية وثماني آنات. أما أخي الصغير غير الشقيق فمات من الجو الحار، بعد أن ظلَّ يسعل، ويسعل … إلخ».

لاحظ الرجلان الأوروبيان الآسيويان وجود إليزابيث، فخلعا قبعتيهما مُنحنِيين وكاشفَين عن أسنانهم اللامعة. ربما مرَّت سنوات عدة منذ تسنَّى لأيٍّ منهما فرصة الحديث مع امرأة إنجليزية. انطلق فرانسيس في الحديث بإفراط أكثر من ذي قبل. فجعل يُثرثِر في خوفٍ واضح من أن يُقاطعَه أحد وتنتهي المحادثة.

«مساء الخير عليكِ يا سيدتي، مساء الخير، مساء الخير! تشرَّفتُ جدًّا بمعرفتِك يا سيدتي! الجو شديد القيظ هذه الأيام، أليس كذلك. لكنه ملائم لطقس شهر أبريل. أرجو ألا يكون قد أصابكَ طفحٌ جلدي من الحرارة. دهنُ المنطقة المصابة بمعجون التمر هندي دواءٌ ناجع. أنا نفسي أُكابد منه آلامًا كل ليلة. إنه مرض شديد الانتشار بيننا نحن الأوروبيِّين.»

نطقَ «الأوروبيِّين»، مثل السيد شالوب في رواية «مارتين شازلويت». لم تحر إليزابيث جوابًا، وراحت تنظر إلى الأوروبيَّين الآسيويَّين بشيء من البرود. لم يكن لديها فكرة واضحة من هما أو ماذا، وبدا لها من الصفاقة أن يتحدَّثا إليها.

قال فلوري: «شكرًا، سوف أتذكر التمر هندي.»

«إنها وصفة طبيب صيني مشهور يا سيدي. كذلك، هل تسمحان لي يا سيدي وسيدتي أن أُسدي إليكما النصح، فارتداء القبَّعة الصغيرة وحدها ليس تصرفًا حكيمًا في أبريل يا سيدي. هو مُناسِب تمامًا لأهل البلد، فلديهم جماجم صلبة. أما نحن فضربات الشمس تُهدِّدنا دائمًا. الشمس شديدة الخطورة على الجمجمة الأوروبية. هل عطلتك يا سيدتي؟»

قيل هذا بنبرة إحباط. إذ كانت إليزابيث في الواقع قد قررت ازدراء الرجلين الأوروبيين الأسيويين. لم تدرِ لماذا سمح فلوري لهما بتعطيله بمحادثة. وحين استدارت عنهما لتسير عائدة لملعب التنس، لوحت بمضربها في الهواء، لتذكر فلوري أن ميعاد المباراة قد أزف. وقد رآها وتبعها، على مضض بعض الشيء، إذ لم يكن يحب معاملة فرانسيس المسكين بازدراء، مع أنه كان مملًّا جدًّا.

قال فلوري: «لا بد أن أمضي. طاب مساؤك يا فرانسيس. طاب مساؤك يا صامويل.»

«طاب مساؤك يا سيدي! طاب مَساؤكِ يا سيدتي! طاب مساؤكما، طاب مساؤكما!» تراجَعا بمزيد من التلويح بقبعتيهما.

قالت إليزابيث لما جاءها فلوري: «مَن ذانك الاثنان؟ يا لهما من كائنَين عجيبَين! كانا في الكنيسة يوم الأحد. أحدهما يكاد يكون أبيض. إنه ليس رجلًا إنجليزيًّا بالطبع، أليس كذلك؟»

«لا، إنهما من الأوروبيِّين الآسيويِّين؛ أبناء لآباء بيض وأمهات من أهل البلد. نُطلق عليهما اسم الأصفرَين على سبيل المداعبة.»

«لكن ماذا يفعلان هنا؟ وأين يقيمان؟ وهل لديهما أي عمل؟»

«إنهما يعيشان بطريقة أو بأخرى في البازار. وأعتقد أن فرانسيس يعمل كاتبًا لدى مرابٍ هندي، وصامويل لدى بعض المحامين. لكنَّهما قد يتضوَّران جوعًا أحيانًا لولا كرم أهل البلد.»

«أهل البلد! هل تقصد أن تقول إنهما يتسوَّلان من أهل البلد؟»

«أعتقد هذا. إنه أمر سهل للغاية لمن يُريد. فالبورميون لا يتركون أحدًا يتضور جوعًا.»

لم تكن إليزابيث قد سمعت بشيء من هذا القبيل من قبل قط. صدَمَها صدمة شديدة أن يكون هناك رجال بيض ولو جزئيًّا يعيشون في فقر بين «أهل البلد» حتى إنها توقَّفَت فجأة في الممشى وتأجَّلت مباراة التنس بضع دقائق.

«لكن كم هذا فظيع! أعني أنه نموذج سيئ! تكاد تكون مثل أن يعيش واحد منَّا هكذا. ألا يُمكن فعل شيء لذينِك الاثنين؟ نجمع لهما تبرعات ونُرسلهما بعيدًا عن هنا، أو شيء من هذا القبيل؟»

«أخشى أن هذا لن يُجدي كثيرًا. أينما ذهبا سيكونان في نفس الوضع.»

«لكن ألا يُمكنهما الحصول على عمل مُناسِب؟»

«أشك في ذلك؛ فالأوروبيُّون الآسيويُّون من ذلك النوع — الرجال الذين يترعرعون في البازار ولا يتلقون تعليمًا — يقضى عليهم منذ البداية؛ فالأوروبيون يرفضون أدنى تعامل معهم، كما يُمنعون من دخول أدنى المصالح الحكومية. ليس بوسعهما سوى أن يتسوَّلا، إلا إذا أقلَعا عن أيِّ ادِّعاء بأنهم أوروبيون. والواقع أن ذلك ليس مما قد يفعله أولئك المساكين. فإن نقطة الدم الأبيض هي الميزة الوحيدة لديهم. فرانسيس المسكين، لم ألقَه قطُّ دون أن يشرع في إخباري بشأن إصابته بطفحٍ جلدي؛ حيث إن السكان الأصليِّين ليس من المفترض أن يعانوا من الطفح الجلدي. هراء بالطبع، لكن الناس تُصدقه. وهكذا ضربة الشمس. إنهما يرتديان هاتين القبعتين الضخمتين ليُذكِّرُونا بأن لديهما جمجمتين أوروبيتين. وكأنه شعار نبالة أو شيء من هذا القبيل. شعار الدولة إذا جاز التعبير.»

لم يرُق هذا إليزابيث؛ إذ شعرت أن فلوري كان، كدأبه، يُكنُّ شفقةً خفيةً نحو الأوروبيِّين الآسيويِّين. كما أثار مظهر الرجلَين بداخلها شعورًا عجيبًا بالكره. هنا كانت قد حدَّدت نوعهما؛ فقد بدوا مثل الداجوز. مثل أولئك المكسيكيين والإيطاليين وغيرهم من الداجوز الذين يلعبون دَور الشر في العديد من الأفلام.

«لقد بدوا من الأشخاص شديدي الانحطاط، أليس كذلك؟ في غاية النحافة والهُزال والتذلل؛ ولا يبدو على وجهَيهما أيٌّ من سمات الأمانة؟ أظنُّ أن هذَين الرجلَين الأوروبيين الآسيويين في غاية الانحطاط. فقد سمعتُ أن المولدين دائمًا ما يرثون الأسوأ في العرقَين. هل ذلك صحيح؟»

«لا أعلم إذا كان ذلك صحيحًا. أغلب الأوروبيين الآسيويِّين ليسوا أشخاصًا صالحين، ومن الصعب معرفة كيف كانوا سيصيرون صالحين في ظلِّ الطريقة التي نشئوا بها. لكن سلوكنا تجاههم بغيض نوعًا ما. فنحن دائمًا ما نتحدث عنهم كأن الأرض انشقَّت عنهم فجأة مثل الفطر، وكأن هذه العيوب طبيعة فيهم وقد جُبلُوا عليها. لكننا في النهاية مسئولون عن وجودهم.»

«مسئولون عن وجودهم؟»

«حسنًا، أقصد أن كلهم لديهم آباء.»

«أوه … بالطبع يُوجد ذلك اﻟ… لكن مهما يكن من أمر، أنت لست مسئولًا. أقصد وحده نوع وضيع جدًّا من الرجال قد … آه … تجمعُه علاقة بنساء البلد، أليس كذلك؟»

«أوه، بالتأكيد. لكن والدا ذينِك الرجلين كانا رجلَي دين في رتب كهنوتية، على ما أعتقد.»

تذكَّر روزا ماكفي، الفتاة الأوروبية الآسيوية التي غرَّر بها في ماندالاي عام ١٩١٣، وكيف كان يتسلَّل إلى المنزل في عربة يجرُّها الخيل مُغلقة الدرف؛ وخصلات شعر روزا المعقوصة؛ وأمها البورمية العجوز الذابلة، وهي تُقدِّم له الشاي في حجرة معيشة مُعتِمة بها أصص سراخس وأريكة من الخُوص. ثم ما كان، حين جافى روزا، وتلك الخطابات المتوسِّلة المريعة، المكتوبة على ورق رسائل مُعطَّر، التي امتنع عن فتحها في النهاية.

عادت إليزابيث إلى موضوع فرانسيس وصامويل بعد مباراة التنس.

«هذان الأوروبيان الآسيويان … هل لأي أحد هنا أي علاقة بهما؟ مثل أن يدعوهما إلى منازلهم أو ما إلى ذلك؟»

«يا إلهي، لا. فهما منبوذان تمامًا. في الواقع ليس من المقبول تمامًا التحدُّث إليهما. فأغلبنا نقول لهما صباح الخير فحسب. إليس لا يفعل ذلك حتى.»

«لكنَّك تحدَّثت معهما.»

«حسنًا، إنني أخرق القواعد من حين لآخر. أَقصدُ أنكِ ربما لن ترَي سيدًا أوروبيًّا يتحدَّث معهما. لكنني في الحقيقة، أُحاول — أحيانًا فقط، حين تواتيني الشجاعة — ألا أتصرَّف مثل مجتمع البوكا صاحب.»

كانت ملحوظة طائشة؛ إذ كانت تعلم جيدًا في هذا الوقت معنى عبارة «بوكا صاحب»، وما يُمثلُه. وقد جعلت ملحوظته الفرق بين وجهتي نظرهما أوضح قليلًا. كانت النظرة التي رمقته بها شبه مُعادية، وقاسية قسوة غريبة؛ إذ كان وجهها يستطيع أن يبدو قاسيًا أحيانًا، رغم نضارته وبشرته الرقيقة كأوراق الزهور. كانت النظارة العصرية المصنوعة من صدفة السلحفاة تلك تعطيها مظهرًا رزينًا جدًّا. غريبة النظارات في قدرتها على التعبير؛ إذ تكاد تكون معبرة أكثر من العينين حقًّا.

لم يتأتَّ له حتى هذا الوقت فهْمُهما ولا كسب ثقتها تمامًا. لكن لم تسؤ الأمور بينهما، ظاهريًّا على الأقل. كان يُثير حنقها أحيانًا، لكن لم يكن الانطباع الحسن الذي تركه في ذلك الصباح حين الْتقيا أول مرة قد انمحَى بعد. لكن كان ثمَّة حقيقة غريبة ألا وهي أنها كانت بالكاد تُلاحِظ وحمته في هذا الوقت. وكانت تستمتع بالاستماع إليه وهو يتحدَّث في بعض الموضوعات. الرماية، على سبيل المثال؛ فقد بدت مُتحمِّسة للرماية وهو ما كان شيئًا غير مألوف في الفتيات. وكذلك الخيل؛ لكنه كان أقلَّ معرفة بالخيل. وكان قد استعدَّ لاصطحابها في يوم للرماية، لاحقًا، حين يستطيع التحضير لذلك. كان كلاهما يتطلَّعان لهذه الرحلة الاستكشافية بحَماس بعض الشيء، وإن لم يكن لنفس الأسباب بالضبط.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤