الفصل الحادي عشر

سار فلوري وإليزابيث في طريق البازار. كان الوقت صباحًا، لكن الهواء شديد الحرارة حتى إن السير فيه كان مثل الخوض في بحر متَّقد. مرَّ بهما، صفوف من البورميِّين، قادمين من البازار، مُنتعِلين صنادل تحكُّ في الأرض، ومجموعات من أربع وخمس فتيات يحثثْن السير متقاربات، بخطوات قصيرة سريعة، يُثرثرن وشعورهن البراقة تلمع. على جانب الطريق، قبل أن تصل إلى السجن مباشرةً، تناثَرت أجزاء من معبد حجري، بعد أن حطمتها الجذور القوية لإحدى أشجار التين المجوسي وأسقطتها. وعلى مقربة التفَّت شجرة تين مجوسي أخرى حول نخلة، فاقتلعتْها وثنتها للوراء في صراع استمرَّ طوال عقد.

سار الاثنان ووصلا عند السجن، الذي كان مبنًى ضخمًا مربعًا، يمتدُّ كل جانب منه مائتي يارْدة، بجدران خرسانية بيضاء اللون ترتفع عشرين قدمًا. راح يتبختر على السور طاووس، كان هو الحيوان الأليف للسجن، وقد التفَّت أصابع قدمَيه للداخل. وجاء ستة مُدانين، مُطأطئو الرءوس، يجرُّون عربيتين ثقيلتين مُكدستين بالتراب، تحت حراسة سجانين هنود. كانوا رجالًا محكومًا عليهم بعقوبات طويلة، أطرافهم ثقيلة، يرتدون ملابس موحدة من قماش أبيض خشن بأغطية رأس مخروطية الشكل وقفت مُنتصبة على رءوسهم الحليقة. أما وجوههم فقد مالت إلى اللون الرمادي، وبدَت خانعة ومفلطحة بشكل غريب. وقد راح الحديد الذي يطوق سيقانهم يجلجل بصدًى واضح. ومرَّت امرأة تحمل على رأسها سلَّة سمك جعل غرابان يحومان حولها وينقضان عليها، والسيدة تُلوِّح بيد واحدة في غير اكتراث لإبعادهما.

تصاعدت ضجة أصوات على مسافة قريبة. قال فلوري: «اقتربنا جدًّا من البازار. أعتقد أن السوق تنصب هذا الصباح. في مشاهدتها بعض المتعة.»

طلب منها أن تأتي معه إلى البازار، قائلًا إنها ستجد مُتعة في مشاهدته. ثم انعطفا مع الطريق. كان البازار عبارة عن مكان مُسيَّج مثل حظيرة كبيرة جدًّا للماشية، أحاط بحدوده أكشاك خفيضة، أغلبها مسقفة بجريد النخل. وراء السياج، ماج حشد من الناس، يتدافعون ويتصايحون؛ وقد بدَت ملابسهم متعدِّدة الألوان في اختلاطها كأنها مجموعة من قطع السكاكر الدقيقة الملوَّنة انسكبت من مرطبان. ولاح للعيان من وراء البازار النهر المترامي الموحل، الذي كانت تتسابق فيه فروع الأشجار وسلاسل طويلة من الغُثاء بسرعة سبعة أميال في الساعة. وعند ضفَّة النهر لدى أنابيب الرسو، راح يهتزُّ أسطول من الزوارق، بمجاديف حادة مثل مناقير الطير رُسمَ عليها عيون.

ظل فلوري وإليزابيث لحظةً يُشاهدان. مرت صفوف من النساء حملن على رءوسهنَّ سلال الخضر، وأطفال اتسعت عيونهم وهم يحملقون في الأوروبيين. وعدا عجوز صيني يرتدي بدلة عمل حال لونها إلى الأزرق السماوي، يحمِل برفق جزءًا مجهولًا ملطَّخًا بالدماء من أمعاء خنزير.

قال فلوري: «هلا ذهبنًا وتفقدنا الأكشاك قليلًا؟»

«هل من الملائم الذهاب وسط الزحام؟ فكلُّ شيء قَذِر بشكل بشع.»

«لا بأس، سوف يفسحون لنا الطريق. سيُثير الأمر اهتمامك.»

اتبعته إليزابيث مرتابة، بل ومرغمة. لماذا دائمًا ما يأتي بها إلى هذه الأماكن؟ لماذا يدفعها دومًا وسط «أهل البلد»، محاولًا أن يجعلها تنشغِل بهم وتُشاهد عاداتهم القذرة المُقزِّزة؟ كان هذا خطأ تمامًا، لسبب ما. لكنَّها اتبعته، لعدم شعورها بالقدرة على تبرير إحجامها. في الحال استقبلتْهما موجة من الهواء الخانق؛ فقد فاحَت رائحة ثوم وسمك مجفَّف وعرق وغبار ويانسون وقرنفل وكركم. وتدافع الجمهور حولهم، حشود من فلاحين قصار القامة مُمتلئي الأجسام بوجوه في سمرة السيجار، وشيوخ ذابلين بشعور رمادية عقصت للخلف في كعكات، وأمهات شابات يحملن أطفالًا عرايا مُنفرِجي الساقين فوق خُصورهن. وقد داست الأقدام فلو فجعلت تنبح. واصطدمت بإليزابيث مناكب مُنخفِضة قوية؛ إذ انهمك الفلاحون في الفصال لدرجة الانشغال عن التحديق في امرأة بيضاء، وهما يشقَّان طريقهما بصعوبة حول الأكشاك.

«انظري!» كان فلوري يُشير بعَصاه إلى كشك، ويقول شيئًا، لكن طغى على صوته صيحات اثنتين من النساء كانت تلوِّح كل منهما للأخرى بقبضتها فوق سلَّة أناناس. كانت إليزابيث قد جفلت من الرائحة الكريهة والضجيج، لكنه لم يلحظ ذلك، وتوغَّل بها أكثر في الزحام، مشيرًا إلى الأكشاك المختلفة. بدت البضائع غريبة الشكل وعجيبة ورديئة. كان هناك ثمرات بوملي [نوع من الحمضيات] ضخمة مُتدلية من حبال كأنها أقمار خضراء، وموز أحمر، وسلال قريدس قرمزي في حجم الكركند، وحزم من سمك مجفَّف هش، وفلفل حار قرمزي، وبط مشقوق ومعالج مثل لحم الخنزير المقدد، وجوز هند أخضر، وقطع من قصب السكَّر، وسكاكين، وصنادل مطلية، وأزر حرير بنقوش مربَّعة، ومُقويَّات جنسية في شكل أقراص كبيرة مثل الصابون، وجرات من الفخار المطليِّ طولها أربع أقدام، وسكاكر صينية مصنوعة من الثوم والسكر، وسيجار أخضر وأبيض، وباذنجان أورجواني، وقلادات من بذور البرسيمون، ودجاج يُسقسِق في أقفاص من الخوص، وتماثيل من النحاس لبوذا، وأوراق من شجر التين المجوسي على شكل قلب، وزجاجات ملح إنجليزي، ووصلات شعر مُستعار، وأواني طهي من الفخار الأحمر، وحدوات صلبٍ للثيران، وعرائس ماريونيت من الورق المَعجون، وقطع ذات خواص سحرية من جلود التماسيح. كانت رأس إليزابيث بدأت تدُور. في الطرف الآخر من البازار، سطعت الشمس من خلال مظلَّة حمراء كالدم لأحد القساوسة، كأنها تسطع من خلال أذن عملاق. كان أربع من النساء الدرافيديات يطحن الكركم بعصي ثقيلة في هاون من الخشب أمام أحد الأكشاك. طار المسحوق الأصفر حادُّ الرائحة، وداعب منخري إليزابيث فجعَلها تسعل. شعرت أنها لا تستطيع الصبر لحظة أخرى في هذا المكان، فلمست ذراع فلوري.

«هذا الزحام … الحر فظيع. هل تعتقد أن باستطاعتنا أن نحتمي بالظل؟»

هنا استدار فلوري، الذي كان في الحقيقة منهمكًا جدًّا في الكلام — كلام أغلبه غير مسموع في الجلبة — حتى إنه لم يلحظ كيف كان تأثير الحر والرائحة عليها.

«أوه، إنني آسف. هيا نَخرج من هنا في الحال. لديَّ فكرة، سنذهب إلى متجر لي ييك العجوز؛ إنه بقَّال صيني، وسوف يأتي إلينا بأي شراب. فالجو هنا خانق بعض الشيء.»

«كل هذه التوابل … كأنها تحبِس الأنفاس. وما تلك الرائحة المريعة الشبيهة بالسمك؟»

«إنه نوع من الصلصة يعدُّونه من القريدس. فهم يدفنونه ثم يستخرجونه بعدها بعدة أسابيع.»

«يا له من شيء في غاية الفظاعة!»

«بل مفيد للغاية على ما أعتقد.» ثم أردف قائلًا لفلو، التي دسَّت أنفها في سلَّة بها سمك صغير شبيه بالقوبيون لديه حسك في خياشيمه: «ابتعدي عن ذلك!»

كان متجر لي ييك يواجه نهاية السوق. ما أرادته إليزابيث حقًّا هو العودة إلى النادي، لكن المظهر الأوروبي لواجهة متجر لي ييك — التي كانت مكدَّسة بقُمصان قطنية صُنعت في لانكاشاير وساعات ألمانية رخيصة لدرجة لا يُصدِّقها عقل — بثَّت فيها بعضًا من الطمأنينة بعد الهمجية التي كانت في البازار. كانا على وشك ارتقاء السلَّم حين انفصل عن الزحام وتبعهما شاب نحيل في العشرين شنيع الملبس ارتدى إزارًا وسترة رياضية زرقاء وحذاءً أصفر زاهيًا، وفرق شعره ودهنه «على الموضة الإنجاليكية.» وقد حيا فلوري بحركة صغيرة مُرتبِكة كأنه كان يُحاول أن يمنع نفسه من الانحناء.

قال فلوري: «ما الأمر؟»

أخرج ظرفًا متَّسخًا وقال: «خطاب يا سيدي.»

قال فلوري لإليزابيث، وهو يفتح الظرف: «هلا سمحتِ لي؟» كان خطابًا من ما هلا ماي — أو بالأحرى، كُتب لها ووقَّعته بصليب — وكان يطالب بخمسين روبية، بأسلوب تهديد مُستتِر.

جذب فلوري الشاب بعيدًا، وقال: «هل تتحدَّث الإنجليزية؟ أخبر ما هلا ماي أنني سأَنظُر هذا الأمر لاحِقًا. وأخبرها أنها إذا حاولت ابتزازي لن تحصُل منِّي على بيسة أخرى. هل فهمت؟»

«نعم يا سيدي.»

«والآن ارحل بعيدًا. ولا تتبعني وإلا ستقع في مشكلة.»

«حسنًا يا سيدي.»

قال فلوري لإليزابيث وهما يصعدان السلم، مفسرًا: «إنه كاتب يريد وظيفة. إنهم يأتون لإزعاجنا طوال الوقت.» رأى أن نبرة الخطاب كانت غريبة، إذ لم يتوقَّع أن تبدأ ما هلا ماي ابتزازه بهذه السرعة؛ بيد أنه لم يكن لديه وقتٌ عندئذٍ ليتساءل عما قد يعنيه الأمر.

دخلا المتجر الذي بدا مُظلمًا بعد الأجواء الخارجية؛ حيث جلس لي ييك يُدخِّن بين سلال بضائعه — لم يكن هناك طاولة بيع — وتقدم وهو يعرج مُتحمِّسًا حين رأى من دخل، فقد كان فلوري صديقًا له. كان لي ييك رجلًا عجوزًا منحني الركبتين بزيٍّ أزرق، وشعر جُمع في ضفيرة، ووجه أصفر بلا ذقن، نُتئت عظام وجنتيه مثل جمجمة لكن أليفة. وقد حيا فلوري بأصوات عالية أنفية أراد بها أن يتحدَّث البورمية، وفي الحال عرَّج إلى مؤخِّرة المتجر لطلب المرطبات. عبق المكان برائحة أفيون هادئة حلوة. ولُصق على الجدران شرائط طويلة من الورق الأحمر عليها حروف سوداء، وقام في أحد الجوانب مذبح صغير به صورة لشخصَين ضخمَين في ردائَين مطرَّزَين، بدت عليهما السكينة، فيما احترق أمامه عودان من البخور. وجلس على البساط امرأتان صينيتان، إحداهما عجوز والأخرى فتاة، تلفَّان سجائر بقشِّ ذرة وتبغٍ يبدوان مثل قصاقيص شعر حصان. وكانتا ترتديان سروالين أسودَين من الحرير، وقد حُشرَت أقدامهما التي انتفخَت أمشاطها وتورَّمت في أخفافٍ خشبية ذات كُعوب حمراء لا يزيد حجمها عن حجم خف دمية. وجعل طفل عارٍ يزحف بطيئًا على الأرض مثل ضفدعة صفراء ضخمة.

همست إليزابيث بمجرَّد أن أدار لي ييك ظهره: «انظر إلى قدمَي تينك المرأتين! أليس هذا غاية في الفظاعة! كيف يجعلْن أقدامهنَّ هكذا؟ إنه ليس أمرًا طبيعيًّا بالتأكيد؟»

«لا، إنهنَّ يُشوهنها عمدًا. إنها عادة في طريقها للزوال في الصين، لكن الناس هنا متخلفون عن الحاضر. ضفيرة لي ييكي العجوز أيضًا عفى عليها الدهر. تلك الأقدام الصغيرة تعد جميلة وفقًا لآراء صينية.»

«جميلة! إنها في غاية البشاعة حتى إنَّني لا أقوى على النظر إليها. من المؤكَّد أن هؤلاء الناس همجيون تمامًا.»

«كلا! إنهم مُتحضِّرون للغاية؛ في رأيي أكثر تحضرًا منَّا. فالجمال إنما هو مسألة أذواق. يوجد في هذا البلد جماعة تُدعى البالونج يُحبُّون في النساء العنق الطويل. لذلك ترتدي الفتيات حلقات نحاسية لإطالة أعناقهن، ويرتدين المزيد والمزيد منها حتى تصير أعناقهن مثل أعناق الزراف في النهاية. وهذا ليس أغرب شأنًا من الأرداف المستعارة أو التنورات المنتفخة.»

في هذه اللحظة عاد لي ييك بفتاتين بورميتين سمينتين بوجهين مُستديرَين، شقيقتان على ما يبدو، تضحكان وتحملان مقعدين وإبريق شاي صينيًّا أزرق سعة نصف جالون. الفتاتان هما جاريتان لدى لي ييك أو كانتا كذلك. أخرج الرجل العجوز علبة شوكولاتة من الصفيح ونزع الغطاء هو يبتسِم ابتسامة أبوية كاشفًا عن ثلاث أسنان طوال سوَّدها التبغ. جلست إليزابيث بحالة مزاجية مُرتبِكة بشدَّة. كانت واثقة تمامًا أن قبول كرم ضيافة هؤلاء الناس لا يُمكن أن يكون شيئًا صحيحًا. في الحال ذهبت إحدى الفتاتين البورميتين خلف المقعدَين وشرعت تهوي على فلوري وإليزابيث، بينما جثَت الأخرى عند أقدامهما وصبَّت فناجين الشاي. شعرت إليزابيث بحرج بالغ والفتاة تُهوِّي على قفاها والرجل الصيني يبتسِم قبالتها. بدا أن فلوري دائمًا ما يضعها في هذه المواقف الحرجة. أخذت قطعة شوكولاتة من العلبة التي قدَّمها لها لي ييك، لكن لم تطاوعها نفسها على أن تقول «شكرًا».

ثم همست لفلوري: «هل هذا يصح؟»

«يصح؟»

«أقصد هل يجوز لنا الجلوس في منزل هؤلاء الناس؟ أليس هذا نوعًا … نوعًا من النزول من قدرنا؟»

«لا بأس بهذا مع الصينيِّين. فإنهم من الأعراق المفضَّلة في هذا البلد. وإنهم مُتواضعون جدًّا في أفكارهم. فالأفضل أن تعامليهم كأنهم نوعًا ما أنداد.»

«هذا الشاي يبدو في غاية البشاعة. إنه أخضر تمامًا. أعتقد أنه لا بد أن يكون لديهم تمييز ويُضيفوا له حليبًا، أليس كذلك؟»

«إنه ليس سيئًا. فهو نوع خاص من الشاي يأتي به لي ييك العجوز من الصين. أعتقد أن به أزهار برتقال.»

قالت بعد أن تذوقته: «أف! مذاقُه مثل التراب تمامًا.»

وقف لي ييك ممسكًا بغليونه، الذي كان طوله قدمين بوعاء معدني في حجم جوزة البلوط، وهو يُشاهد الأوروبيَّين ليرى ما إذا كانا استمتعا بشايه. قالت الفتاة الواقفة خلف المقعد شيئًا بالبورمية، فانفجرت كلتاهما ضحكًا عليه مرةً أخرى. رفعت الفتاة الجاثية على الأرض ناظريها إلى إليزابيث وحدَّقَت فيها ببلاهة وإعجاب. ثم التفتت إلى فلوري وسألته ما إذا كانت السيدة الإنجليزية ترتدي مشدًّا وقد أخطأت في نطق الكلمة الإنجليزية.

قال لي ييك مصدومًا: «صه!» وهو يهزُّ الفتاة بإصبع قدمه ليُسكتها.

قال فلوري: «هذا أمر لا يعنيني البتة لأسألها عنه.»

«فلتسألها أرجوك يا سيدي! إننا في غاية اللهفة لنعرف!»

وثار جدل، ونسيت الفتاة الواقفة خلف المقعد أمر التهوية وشاركت في الجدل. بدا أن كلتيهما ظلَّتا زمنًا طويلًا تتوقان لرؤية مشدٍّ أصليٍّ. فقد سمعتا العديد والعديد من الحكايات عنه؛ إنه يُصنَع من الصلب على نسقِ صديري ضيق، ويُشدُّ على المرأة بشدة حتى تبدو بلا صدر، بلا صدر على الإطلاق! ضغطت الفتاتان بأيديهما على ضلوعِهما السمينة لتوضيح الأمر. وتساءلتا ما إذا كان فلوري سيتكرَّم بسؤال السيدة الإنجليزية. كان ثمَّة غرفة خلف المتجر حيث يمكنها الذهاب معهما لخلع ملابسها. كانتا تأمُلان بشدة أن ترَيا مشدًّا.

ثم توقَّف الحديث بغتةً. كانت إليزابيث تجلس مُتسمِّرة، حاملة فنجان الشاي الصغير، الذي لم تستطِع إجبار نفسها على تذوُّقِه مرةً أخرى، وهي تبتسِم ابتسامة مُصطَنعة تمامًا. غشي الشرقيِّين فتور؛ إذ أدركوا أن الفتاة الإنجليزية، التي لم تستطِع المشاركة في حديثِهم، لم تكن تشعر بارتياح. وبدأت أناقتها وجمالها الأجنبي، اللذَين سحراهم قبل لحظة، يُثيران فيهم الرَّوع. وحتى فلوري كان مدركًا للشعور نفسه. ثم جاءت واحدة من تلك اللحظات البغيضة التي تمرُّ على المرء مع الشرقيين، حين يتحاشى كل فردٍ عَيني فرد آخر، محاولًا التفكير دون جدوى في شيء ليقوله. ثم جاء الطفل العاري، الذي كان يستكشِف بعض السلال في خلفية المتجَر، زاحفًا إلى حيث كان الأوروبيان جالسَين. وراح يتفحَّص أحذيتهما وجواربهما بفضولٍ هائل، ثم رفع بصره فرأى وجهَيهما الأبيضَين فاستولى عليه الفزع. وندَّ عنه عويل مُستوحِش، وبدأ يبول على الأرض.

رفعت السيدة الصينية العجوز ناظرَيها وطرقعَت بلسانها واستأنفَت لفَّ السجائر. لم يُعِر أحدٌ آخرَ الأمر أدنى اهتمامه. بدأت بِركة تتكوَّن على الأرض، فانتاب إليزابيث هلع بالغ حتى إنها وضعت فنجانها على عجل، وسكبَت الشاي، ثم تشبَّثَت بذِراعِ فلوري.

«ذلك الطفل! انظر ماذا يفعل! حقًّا ألا يستطيع أحد … يا لَلفظاعة!» ظلَّ الكل يُحملِق مُندهشًا، ثم أدركوا جميعًا ما الأمر. ثار صخبٌ وسرَتْ طرقعةٌ بالألسنة. لم يكن أحد قد أعار الطفل أيَّ اهتمام؛ فقد كان الحدث عاديًّا ليسترعي الانتباه، لكنَّهم صاروا جميعًا الآن يشعُرون بخزيٍ شديد. وطفقَ الكل ينحُون باللائمة على الطفل. وسارت صيحات: «يا له من طفلٍ مُخزٍ! يا له من طفل مُقزِّز!» حملت العجوز الصينية الطفل، وهو ما زال يعوي، إلى الباب، ورفعته للخارج على السلَّم كأنها تعتصِر إسفنجة استحمام. في اللحظة نفسها، كما بدا، كان فلوري وإليزابيث خارج المتجر؛ حيث كان يتبعها عائدَين إلى الطريق بينما تابعَهما لي ييك والآخرون في جزع.

هتفت إليزابيث قائلة: «إذا كان ذلك ما تدعونه شعبًا متحضِّرًا …»

قال لها بوهن: «إنني آسف، لم أتوقَّع قطُّ …»

«يا لهم من ناس مُقرِفين غاية القرف!»

كانت غاضبةً بشدَّة. وقد امتُقعَ وجهها بلونٍ زهري رقيق عجيب، مثل برعمِ شقائق نعمان تفتح قبل أوانه بيوم. كان هذا أغمق لون في إمكانه الاستِحالة له. مشى فلوري في أثرها مُتجاوزَين البازار وعائدين للطريق الرئيسي، وقد مضيا خمسين ياردة قبل أن يُقدِم على الكلام مرةً أخرى.

«يُؤسفني بشدة ما قد جرى! لكن لي ييك رجل مُحترَم للغاية. وسيسوءُه أن يشعر بأنه قد تسبَّب في مُضايقتكِ. كان من الأفضل حقًّا أن نمكث بضع دقائق. فقط لنشكره على الشاي.»

«نشكره! بعد ذلك!»

«الصراحة أنكِ ما كان ينبغي أن تُبالي بشيء كهذا. ليس في هذا البلد. فالنظرة العامة لهؤلاء الناس تختلف بشدة عن نظرتنا. لا بد للمرء أن يتأقلَم. افترضي مثلًا أنكِ كنتِ في العصور الوسطى …»

«أعتقد أنني أفضِّل ألا أناقش الأمر أكثر من ذلك.»

كانت هذه المرة الأولى التي تشاجَرا فيها يقينًا. وكان هو بائسًا للغاية حتى ليسأل نفسه كيف ضايقها. لم يُدرك أن هذه المحاولة الدائمة لإثارة اهتمامها بالأشياء الشرقية بدت لها تصرفًا فاسدًا لا يليق برجل مهذَّب، وسعيًا حثيثًا وراء ما هو حقير و«كريه». لم يكن قد تفهَّم حتى اليوم بأي عينَين كانت ترى «أهل البلد». عرف فقط أنها مع كل محاولة لجعلها تُشاركه حياته وأفكاره وإحساسه بالجمال، كانت تجفل مثل فرس مذعور.

سار الاثنان على الطريق، هو على يسارها متخلفًا عنها بقليل. ظلَّ يُراقب وجنتها المعرضة، والشُّعَيرات الذهبية على قفاها تحت حافَّة قبَّعتها. لشد ما أحبَّها، لشد ما أحبها! كما لو كان لم يحبَّها بحق قط حتى هذه اللحظة، وهو يسير خلفها في خِزي، لا يجرؤ حتى على أن يطلَّ بوجهه المشوَّه. أوشك أن يتكلَّم عدة مرات، لكنه منع نفسه. لم يكن صوته مُستعدًّا تمامًا، ولم يدرِ ما الذي يسعُه قوله من دون أن يُجازِف بمضايقتها بطريقة ما. وفي النهاية قال بفتور، بتظاهُر كليلٍ بأن ليس ثمة شيء:

«الحر صار فظيعًا، أليس كذلك؟»

لم تكن ملحوظة ذكية ودرجة الحرارة تسعون في الظل. لكنَّها فاجَأتْه وأقبلَت عليه بنوع من الحماس؛ إذ حوَّلت وجهها إليه، وابتسمت له مرَّةً أخرى.

«إنه مُلتهِب للغاية!»

بذلك صارا في سلام. فقد أتت الملحوظة التافهة السخيفة معها بأجواء دردشة النادي المطمئنة، فهدأت من رُوعها كأنها سحر. جاءت فلو، التي كانت متخلِّفة عنهما، وهي تلهث ويسيل لعابها؛ وسريعًا ما راحا يتحدثان، كدأبهما تمامًا، عن الكلاب. ظلا يتحدَّثان عن الكلاب طوال ما تبقَّى من الطريق إلى المنزل، دون توقُّف تقريبًا. فالكلاب موضوع لا ينفد. الكلاب، الكلاب! هذا ما خطر لفلوري وهما يتسلَّقان جانب التلِّ الحار، والشمس الصاعدة تلفح أكتافهما من خلال ملابسهما الخفيفة، مثل لفح النار. ألن يتحدَّثا قط عن أي شيء غير الكلاب؟ أو عيوب الكلاب أو الأسطوانات أو مَضارب التنس؟ لكن كم كان حديثُهما يسيرًا، وكم كانا يستطيعان الحديث بودٍّ حين يبقيان على مثل هذه التَّفاهات!

مرا بجدار الجبانة الأبيض اللامع وجاءا إلى بوابة منزل آل لاكرستين، الذي نمت حوله أشجار بوانسيانا عجوزة، ومجموعة من نباتات الخَطمي بلَغَ طولها ثماني أقدام، بزهور حمراء مُستديرة مثل فتيات بوجوه مُتورِّدة. خلع فلوري قبَّعته وهوى على وجهِه.

«حسنًا، لقد عُدنا قبل أن يبلغ الحر أشدَّه. يُؤسفني أن رحلتنا إلى البازار لم تكن موفَّقة بالمرة.»

«لا مُطلقًا! لقد استمتعتُ بها، استمتعت حقًّا.»

«كلا، لا أعلم، دائمًا ما يقع شيء سيئ على ما يبدو. آه، صحيح! لا تنسَي أننا ذاهبان للرماية بعد غد. أرجو أن يمرَّ ذلك اليوم على هواكِ.»

«نعم وسوف يُعيرني عمي سلاحَه. يا لها من مُتعة بالغة! سيكون عليك أن تُعلِّمني كل ما يتعلَّق بالرماية. إنني أتطلَّع بشدة إلى الأمر.»

«وأنا كذلك. إنه وقتٌ سيِّئ للرماية، لكنَّنا سنبذُل قصارى جهدنا. أما الآن فإلى اللقاء.»

«إلى اللقاء يا سيد فلوري.»

كانت ما زالت تُناديه سيد فلوري مع أنه كان يُناديها إليزابيث. افترقا وذهَب كلٌّ في سبيله، يُفكِّر في رحلة الرماية، التي شعر كلاهما أنها ستضع الأمور في نصابها بينهما.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤