الفصل التاسع عشر

كان الحر يزداد سوءًا. كاد أبريل أن ينتهي، لكن لم يكن ثمَّة أمل في سقوط الأمطار لثلاثة أسابيع أخرى، أو ربما خمسة. حتى الفجر الجميل العابر صار يُفسده التفكير في الساعات الطويلة المقبلة التي تسطع فيها الشمس حتى تُعمي البصر؛ حيث يشعر المرء بالألم في رأسه ويخترق الوهج أي غطاء ويجعل الجُفون تلتصِق في نومٍ خالٍ من الراحة. لم يكن أحد، سواء شرقي أو أوروبي، يستطيع أن يبقى مستيقظًا في حر النهار دون معاناة؛ وفي الليل، على النقيض، مع عواء الكلاب وفيضان العرق الذي كان يتجمَّع ويجعل الطفح الجلدي مؤلمًا، لم يكن أحد يستطيع النوم. وكان الناموس في النادي مزعجًا بشدة حتى إنه كان لا بد من حرق عيدان البخور في كل الزاويا، وكان النساء يجلسن واضعات سيقانهن في أكياس وسائد. وحدهما فيرال وإليزابيث لم يأبها للحر. فقد كانا شبابًا ودماؤهما متجددة، وكان فيرال أكثر لامبالاة وكانت إليزابيث أكثر سعادة من الاكتراث للطقس على الإطلاق.

جرى الكثير من المشاحنات وتناقل النميمة في النادي تلك الأيام. كان فيرال قد أثار حفيظة الكل. فقد اعتاد المجيء إلى النادي ليمكث ساعة أو ساعتين في المساء، لكنه كان يتجاهل الأعضاء الآخرين، ويرفض المشروبات التي يعرضونها عليه، ويرد على محاولات إجراء حوار معه بكلمات قصيرة فظَّة. وكان يجلس تحت المروحة على المقعد الذي كان قبل ذلك مكرَّسًا للسيدة لاكرستين، يقرأ ما يرُوق له من الصحف، حتى تأتي إليزابيث، فيرقص معها ويتحدث لساعة أو ساعتين ثم يفرُّ دون حتى أن يُلقي التحية على أي حد. في الوقت ذاته كان السيد لاكرستين بمفرده في المعسكر، وكان، حسب الشائعات التي كانت ترتد إلى كياوكتادا، يستعين على وحدته بطائفة شديدة التنوع من النساء البورميات.

كان إليزابيث وفيرال يخرجان لركوب الخيل معًا كل مساء تقريبًا. كان فيرال يكرس الفترات الصباحية، بعد استعراض الجنود، للعب البولو، لكنه كان قد قرر أن يخصص الأمسيات لإليزابيث. وأَلِفت هي ركوب الخيل، تمامًا كما اعتادت على الرماية؛ بل كان لديها من الثقة ما جعلها تُخبر فيرال أنها قد «مارست الصيد كثيرًا جدًّا» في الوطن. لكنه عرف من لمحة أنها كانت تكذب، لكنها على الأقل لم تكن سيئة إلى درجة أن تكون مُزعجة له.

اعتاد الاثنان أن يصعدا بالخيل الطريق الأحمر المتجه إلى الغابة، ويعبرا الجدول القريب من شجرة البينكادو الكبيرة المغطَّاة بزهور الأوركيد، ثم يتبعان مسار العربات الضيق؛ حيث كان التراب ناعمًا وكان باستطاعة الخيل أن ترمح. كان الحَر خانقًا في الغابة المغبرة، وظلت تتردَّد دمدمات رعد بعيد بلا مطر. ورفرفت طيور خطاف صغيرة حول الخيل، تُسايرها السرعة، لاصطياد الذباب الذي كانت حوافرها تكشف عنه. كانت إليزابيث تمتطي المُهر الأكمت، ويمتطي فيرال المهر الأبيض. وكانا في طريق العودة يسيران بمُهرَيهما اللذَين حلَك لونهما من العرق مُتقاربَين، متقاربين بشدة حتى إن ركبته كانت تحتك بركبتها أحيانًا، وكانا يتحدثان. كان باستطاعة فيرال أن يترك سلوكه العدائي ويتحدث بود شديد حين يختار ذلك، وقد اختار ذلك بالفعل مع إليزابيث.

يا لَلسعادة التي كانت تكتنف جولاتهما معًا! سعادة أن تكون على صهوة جواد وفي عالم الخيل، عالم الصيد والسباق، البولو وصيد الخنازير البرية! إذا لم تكن إليزابيث تحب فيرال لأي شيء آخر؛ فقد كانت ستُحبُّه لأنه أدخل الخيل في حياتها. كانت تلح عليه ليتحدَّث عن الخيل كما كانت تلح على فلوري من قبل ليتحدث عن الرماية. لم يكن فيرال ثرثارًا، هذا صحيح. كان أفضل ما في إمكانه قوله هو بضع جمل غليظة سخيفة عن البولو وصيد الخنازير البرية، وقائمة بقواعدَ هندية وأسماء كتائب. ورغم ذلك فقد استطاع أن يُثير حماس إليزابيث كما لم يستطع كل حديث فلوري أن يفعل قط. كان مجرد رؤيتِه على صهوة الفرس أكثر استثارة للمَشاعر من أي كلمات. فقد كانت تُحيط به هالة من الفروسية والجندية. وكانت إليزابيث ترى في وجهه المسمرِّ وجسده القوي المستقيم كل الرومانسية، روعة حياة الخيَّالة وأبَّهتها. رأت الحدود الشمالية الغربية ونادي الفرسان، رأت ملاعب البولو وساحات الثكنات الحارَّة الجافة، والفصائل البُنية للخيالة وهم يرمحون ورمحاهم الطويلة متزنة وأذيال عمامتهم متطايرة؛ وسمعت نداء البوق وجلجلة المهاميز، والفرق الموسيقية العسكرية وهي تعزف خارج قاعات الطعام والضبَّاط جالسين يتناولون العشاء في زيهم الرسمي المهندم الرائع. كم هو بديع، عالم الفروسية ذلك، كم هو بديع! وكان هو عالمها، فقد انتمت إليه، وولدت من رحمه. كانت في تلك الأيام تعيش بالخيل وتفكر فيها وتحلم بها، تكاد تكون مثل فيرال نفسه. وجاء عليها وقتٌ حيث صارت لا تكذب كذبتها الصغيرة فحسب بشأن «ممارسة الصيد كثيرًا جدًّا»، بل أوشكت أن تُصدقها.

انسجم الاثنان كثيرًا بكل السبل الممكنة. ولم يُثر ضجرها ولا جزعها قط كما فعل فلوري. (بل إنها في الواقع كادَت تنسى فلوري؛ وحين كان يخطر على بالها، كانت وحمته هي ما تتذكَّره لسببٍ ما.) كان الرابط الذي قرب بينهما أن فيرال كان يزدري أي شيء يمت لﻟ «ثقافة الرفيعة» بصلة أكثر منها حتى. وقد أخبرها ذات مرة أنه لم يقرأ كتابًا منذ كان في سن الثمانية عشرة، وأنه «مقت» الكتب مقتًا شديدًا؛ «باستثناء أعمال جوروكس وما إلى ذلك بالطبع.» (جوروكس هو شخصية كوميدية تهوى سباق الخيل والصيد، ظهرت في بعض الروايات والمجلات الفكاهية). في مساء جولتِهما الثالثة أو الرابعة لركوب الخيل ذهب ليودعها عند بوابة منزل آل لاكرستين. كان فيرال قد استطاع مقاومة كل دعوات السيدة لاكرستين لتناول الطعام؛ فلم يكن حتى ذاك الوقت قد وطأ بقدمه منزل آل لاكرستين، ولم يكن ينوي ذلك. بينما كان السائس يأخذ مهر إليزابيث، قال فيرال:

«سأُخبرك بشيء. حين نَخرُج المرة القادمة سوف تركبين بليندا، وسأركب أنا المهر الكستنائي. أعتقد أنكِ صرتِ ماهرةً في الركوب بما يكفي لتُحسني ركوب بليندا.»

بليندا كانت الفرس العربية التي اقتناها فيرال منذ عامين، ولم يسمح قط لأي أحد حتى هذه اللحظة بامتِطائها، ولا حتى السائس. كان هذا أكبر فضل يُمكنه تصوُّره. وقد قدرت إليزابيث وجهة نظر فيرال تمام التقدير وأدركت عظمة ذلك الفضل، وكانت مُمتنَّة له.

في المساء التالي، وهما عائدان جنبًا إلى جنبٍ على صهوة الخيل، أحاط فيرال ذراعه بمنكب إليزابيث، ورفعها عن السرج وجذبها إليها، فقد كان شديدًا جدًّا. ألقى اللجام، وبيده الخاوية رفع وجهها ليقابل وجهه؛ والتقت شفتاهما. ظل يضمها بشدة للحظة، ثم أنزلها إلى الأرض ونزَل عن فرسه. وقفا متعانقَين، وقد تضامَّ قميصاهما الخفيفان المبتلان عرقًا، قابضًا على اللجامين في ثنية ذراعه.

في الوقت نفسه تقريبًا قرَّر فلوري، الذي كان على بُعد عشرين ميلًا، أن يعود إلى كياوكتادا. كان واقفًا على حافة الغابة عند ضفة جدول ناضِب، بعد أن سار ليُصيب نفسه بالإنهاك، وأخذ يُشاهد بضع عصافير صغيرة مجهولة الاسم تأكل بذور الحشائش الطويلة. كانت الذكور صفراء فاقِعة اللون، والإناث مثل إناث طيور السنونو. ولأنَّ حجمها كان في غاية الضآلة فلا يسمح لها بثنْي العيدان، فقد كانت تقترب منها وهي تهتز، وتتشبَّث بها أثناء طيرانها وتنزلها إلى الأرض بثقلها. ظلَّ فلوري يُشاهد الطيور بلا مبالاة، يكاد أن يبغضها لأنَّها لم تستطع أن تثير فيه أي اهتمام. في غمرة خموله ألقى عليها سيفه لتجفل. ليتها كانت هنا، ليتها كانت هنا! كل شيء — الطيور والأشجار والزهور، كل شيء — كان ميتًا وبلا معنى؛ لأنها لم تكن هنا. مع مرور الأيام تيقن أكثر من فقدانها وصار أمرًا واقعًا حتى بات يُسمِّم كل لحظة.

تسكع قليلًا في الغابة، وهو يضرب النباتات المتسلِّقة بسيفه. كان يشعر بأطرافه مرتخية وثقيلة. ثم انتبه إلى نبتة فانيليا برية تدلَّت على إحدى الشجيرات، فانحنى ليتشمَّم قرونها الرفيعة الزكية الرائحة. لكن أثار فيه العبق شعورًا بالذبول والضجر القاتل. وحيدًا، وحيدًا، معزولًا في بحر الحياة! بلَغَ به الألم أشُدَّه حتى إنه ضرب الشجرة بقبضتِه، فارتعدت ذراعُه وتشقَّق اثنان من مفاصل أصابعه. لا بد أن يذهب إلى كياوكتادا. كان في ذلك حماقة، فبالكاد مضى أسبوعان منذ الموقف الذي جرى بينهما، وكانت فرصته الوحيدة أن يعطيها بعض الوقت لتنسى الأمر. لكن لا بد أن يرجع رغم ذلك. فلم يعُد يقوى على البقاء في هذا المكان الرتيب، وحدَه مع أفكاره بين عدد لا حصر له من أوراق الأشجار الغافلة.

ثم خطرت له فكرة سارة. يُمكنه أن يأخذ لإليزابيث جلد النمر الذي كان في السجن لدبغه. سيكون عذرًا ليراها، وفي عموم الأحوال حين يأتي شخص محمَّلًا بالهدايا فالناس تُصغي إليه. لن يدَعَها تقاطعه قبل أن يشرع في الكلام. سوف يشرح، ويلطف الأمر، يجعلها تُدرك أنها كانت ظالِمة له. لم يكن من الصحيح أن تُدينه من أجل ما هلا ماي، التي طردَها من منزله من أجل إليزابيث. قطعًا لا بد أنها ستُسامحه حين تسمع حقيقة القصة. ويجب أن تسمعها هذه المرة؛ سوف يُجبرها أن تُصغي له حتى إذا اضطرَّ لأن يقبض على ذراعَيها وهو يتكلم.

وقد عاد في نفس المساء. كانت الرحلة تستغرق عشرين ميلًا، في مسارات للعربات مليئة بالأخاديد، لكن قرَّر فلوري السير ليلًا، مُتعلِّلًا بأن الجو يكون أبرد. كاد الخدم أن يتمردوا على فكرة السير ليلًا، وانهار سامي العجوز في اللحظة الأخيرة في نوبة شبه حقيقية وكان لا بدَّ من إغداق الجين عليه حتى يقوى على السفر. كانت الليلة خالية من القمر، فالتمسوا طريقهم على ضوء المصابيح، الذي برقَت فيه عينا فلو مثل الزمرد ولمعت فيه عينا الثور مثل حجر القمر. حين بزغَت الشمس توقف الخدم ليجمعوا الحطب ويطهوا الإفطار، لكن فلوري كان مُتلهِّفًا ليكون في كياوكتادا، فسبقهم متعجلًا. لم يشعر بأي تعب، فقد أفعمته فكرة جلد النمر بآمال مُبالَغ فيها. هكذا عبر النهر المترقرق في زورق واتجه مباشرةً إلى كوخ الدكتور فيراسوامي، فوصل إلى هناك في حوالي العاشرة.

دعاه الطبيب للإفطار، وأخذه إلى حمَّامِه حتى يتمكَّن من الاغتسال والحلاقة، بعد أن هشَّ النساء إلى مكانٍ مُناسِب للاختباء. أثناء الإفطار كان الطبيب الشديد الانفعال وكثير الاتهامات ﻟﻟ «تمساح»؛ فقد اتَّضح أن التمرد المزيف كان على وشك الاندلاع آنذاك. لم تتسنَّ الفرصة لفلوري ليذكر مسألة جلد النمر إلا بعد الإفطار.

«بالمناسبة يا دكتور، ماذا عن ذلك الجلد الذي أرسلته إلى السجن ليُدبغ؟ هل فُرغ منه؟»

قال الطبيب بقليل من الارتباك وهو يحكُّ أنفه: «آه.» دخَل المنزل — كانا يتناولان الإفطار في الشرفة؛ إذ كانت زوجة الطبيب قد اعترضَت بعنفٍ على إحضار فلوري للداخل — وعاد سريعًا بجلد ملفوف.

شرع يقول وهو يُفرده: «في الواقع …»

«ويحي يا دكتور!»

كان الجلد تالفًا تمامًا. فقد كان جامدًا مثل الورق المقوَّى، مع تشقُّق الجلد المدبوغ وتغير لون الفراء بل وتآكلت أجزاء منه. كما كانت رائحته كريهة ببشاعة. كان كأنه حُوِّل إلى قطعة من النفايات بدلًا من دبغه.

«مهلًا يا دكتور! أي عبث هذا الذي فعلوه به! كيف حدث هذا بحق الشيطان؟»

«آسف جدًّا يا صديقي! كنت على وشك الاعتذار. كان هذا أفضل ما في وسعنا. لا يوجد في السجن الآن من يعرف كيفية دبغ الجلود.»

«سحقًا، كان هناك ذلك السجين الذي اعتاد دبغ الجلود دبغًا جميلًا!»

«أجل. لكنه رحل عنا منذ ثلاثة أسابيع، للأسف.»

«رحل؟ كنت أعتقد أنه سيقضي سبع سنوات؟»

«ماذا؟ ألم تسمع يا صديقي؟ كنت أعتقد أنك تعلم من الذي كان يدبغ الجلود. إنه نجا شوي أو.»

«نجا شوي أو؟»

«المُجرم الذي هرَبَ بمساعدة يو بو كين.»

«سحقًا!»

ارتاع فلوري من الحظ العاثِر بشدة. لكنه في عصر اليوم، بعد أن تحمَّم وارتدى بذلة نظيفة، ذهب إلى منزل آل لاكرستين، نحو الساعة الرابعة. كان الوقت مبكرًا جدًّا على الزيارات، لكنه أراد أن يضمن اللحاق بإليزابيث قبل أن تذهب إلى النادي. وقد استقبلتْه السيدة لاكرستين، التي كانت نائمة وغير مستعدَّة لاستقبال زائرين، بقلة ذوق، دون أن تطلب منه الجلوس حتى.

«أخشى أن إليزابيث لم تنزل بعد. إنها ترتدي ملابسها للخروج لركوب الخيل. ألن يكون من الأفضل أن تترك رسالة؟»

«أفضل أن أراها، إذا لم يكن لديكِ مانع. لقد أتيت لها بجلد النمر الذي اصطدناه معًا.»

تركته السيدة لاكرستين واقفًا في حجرة الاستقبال يعتريه شعور ببلادة وثقل غير عادي كما يحدث للمرء في مثل هذه الأوقات. إلا أنها جاءَت بها، وانتهزَت الفرصة لتهمس لها خارج الباب قائلة: «تخلَّصي من ذلك الرجل الكريه بأسرع ما يُمكن يا عزيزتي. فإنني لا أطيق وجوده في المنزل في هذا الوقت من اليوم.»

حين دخلت إليزابيث الحُجرة راح قلب فلوري يخفق بعنفٍ حتى جاشت مشاعره. كانت ترتدي قميصًا حريريًّا وسروالًا لركوب الخيل، وبشرتها مسفوعة قليلًا. لم تبدُ قط بهذا الجمال حتى في ذكرياته. هنا خارت قواه، وضاع في الحال؛ فقد هربت كل ذرة من شجاعته المُضطربة. وبدلًا من التقدم لملاقاتها تراجع للوراء فعليًّا. جاء من خلفه صوت ارتطام مخيف؛ فقد قلب إحدى الطاولات الصغيرة فوقع وعاء زهور الزينيا الذي كان عليها واندفَع على الأرض.

هتف مذعورًا وقال: «آسف جدًّا!»

«لا بأس! لا تُعِر الأمر أيَّ اهتمام!»

ساعدته على رفع الطاولة، وهي تُثرثر أثناء ذلك بابتهاج وسلاسة كأن لم يحدث شيء: «لقد غبت طويلًا يا سيد فلوري! تبدو كأنك جديد تمامًا! لقد افتقدناك بشدة في النادي … إلخ.» كانت تُشدد على كل كلمة، بذلك الألق المُبهرج الصارخ الذي تلجأ إليه المرأة حين تتهرَّب من واجب أخلاقي. كان مرعوبًا منها، حتى إنه لم يقوَ على النظر إلى وجهها. تناولت هي صندوق سجائر وعرضَت عليه واحدة، لكنه رفضها. فقد كانت يده ترتجف بشدة ليستطيع أن يمدَّها ويأخذها.

قال بصوت رتيب: «لقد أحضرت لكِ ذلك الجلد.»

فرَده على الطاولة التي كانا قد رفعاها للتو. بدا الجلد رثًّا ورديئًا للغاية حتى إنه تمنى لو أنه لم يُحضره قط. دنت منه لتتفحَّص الجلد، اقتربت جدًّا حتى صارت المسافة بين وجنتِها الشبيهة بالزهر ووجنته أقل من قدم، واستطاع أن يشعر بدفء جسدها. لكن خوفه منها كان بالغًا حتى إنه ابتعَدَ مسرعًا. في نفس اللحظة تراجعت هي أيضًا، مُنقبِضة باشمئزاز بعد أن التقطت رائحة الجلد النَّتِنة. اعتراه خزي رهيب، كما لو كانت الرائحة النتنة رائحته هو وليس الجلد.

ابتعدت ياردة أخرى عن رقعة الجلد وقالت: «أشكرك شكرًا جزيلًا يا سيد فلوري! يا لها من رقعة جلد كبيرة وجميلة، أليس كذلك؟»

«كانت كذلك، لكنَّهم أفسدوها، على ما أخشى.»

«لا! سيسرُّني الاحتفاظ بها! هل ستبقى طويلًا في كياوكتادا؟ لا بدَّ أن الحر كان فظيعًا في المعسكر!»

«نعم؛ كان الجو حارًّا جدًّا.»

المدهش أنهما ظلا يتكلَّمان عن الجو طيلة ثلاث دقائق. فقد كان مغلوبًا على أمره. وكل ما وعد نفسه بقوله، كل حُججه ودفاعاته، احتبست في حنجرته. قال لنفسه: «أيها الأحمق، ماذا تفعل يا أيها الأحمق؟ هل قطعت عشرين ميلًا من أجل هذا؟ هيا، فلتقل ما جئت لقوله! أمسكها بين ذراعَيك؛ اجعلها تصغي إليك، فلتركلها، فلتضربها، أي شيء أفضل من أن تتركها تخرسك بهذا اللغو!» لكن بلا جدوى، بلا جدوى! لم يستطع لسانه أن ينبس سوى بتفاهات عقيمة. كيف يستطيع أن يدافع أو يحتجَّ وأسلوبها المبتهج المسترسل، الذي كان يهوي بكل كلمة لمستوى دردشة النادي كان يسكته قبل أن يتكلَّم؟ أين يتلقَّينه، ذلك الابتهاج البغيض المصحوب بالقهقهة؟ في مدارس الفتيات المعاصرات متَّقدات الذهن، لا شك. زادت قطعة الجيفة التي على الطاولة من شعوره بالخزي مع كل لحظة. ظلَّ واقفًا هناك شبه أبكم، يبدو قبيحًا قبحًا أخرق بوجهه الشاحب المتغضِّن بعد قضاء ليلة بلا نوم، وبدَت وحمته كأنها لطعة من الوحل.

تخلَّصت هي منه بعد دقائق قليلة جدًّا بأن قالت: «حسنًا يا سيد فلوري، أستميحك عذرًا، فإنني يجب حقًّا أن …»

أفصح أو بالأحرى تمتم قائلًا: «ألن تخرُجي بصُحبتي مرة أخرى يومًا ما؟ للسير، الرماية … أو أي شيء؟»

«لم يعُد لديَّ أي متَّسع من الوقت هذه الأيام! أكاد أكون مشغولة في كل الأمسيات. هذا المساء سأخرج لركوب الخيل.» ثم أضافت قائلة: «مع السيد فيرال.»

ربما أضافت ذلك لتجرحه. كانت هذه هي المرة الأولى التي يسمع فيها بصداقتها مع فيرال. ولم يستطع أن يتخلَّص من نبرة الحسد الرتيبة الجزعة من صوته وهو يقول:

«هل تخرُجين مع فيرال لركوب الخيل كثيرًا؟»

«كل مساءٍ تقريبًا. كم هو فارس رائع! ولديه مجموعة مُمتازة من أمهار البولو!»

«آه. وأنا بالطبع ليس لديَّ أمهار تلعب البولو.»

كان هذا أول شيء يقوله ويقترب من الجدية، وقد جرحها بحق. إلا أنها أجابته بنفس الأسلوب المُبتهج السلس الذي كانت تتحدَّث به، ثم اصطحبته إلى الباب. عادت السيدة لاكرستين إلى حجرة الاستقبال، وشمَّت رائحتها، فأمرت الخدم في الحال بإخراج جلد النمر النَّتِن وحرقه.

لبث فلوري عند بوابة حديقته مُتظاهرًا بإطعام الحمام. لم يستطع أن يحرم نفسه من ألم رؤية إليزابيث وفيرال وهما يبدآن جولتهما بالخيل. كم عاملته بجفاء، كم عاملته بقسوة! إنها لبشاعة ألا يتحلَّى الناس باللياقة حتى للتشاجُر. بعد قليل ارتقى فيرال الطريق إلى منزل آل لاكرستين مُمتطيًا المهر الأبيض، والسائس يمتطي المهر الكستنائي، ثم لبثَ مهلة، وظهرا بعدها معًا، فيرال على صهوة المهر الكستنائي، وإليزابيث على الأبيض، وهرولا سريعًا صاعدَين التل. كانا يُثرثران ويضحكان، وقد اقترب منكبها في القميص الحرير من منكبه بشدة. ولم يلتفِت أيٌّ منهما إلى فلوري.

حين اختفيا في الغابة، كان فلوري ما زال يتسكَّع في الحديقة. كان الوهج قد كمد واستحال أصفر. وكان البستاني منهمكًا في انتزاع الزهور الإنجليزية، وقد ذوى أغلبها، بعد أن قضَت عليها أشعة الشمس الشديدة، ويزرع زهور البلسم ونبات عرف الديك والمزيد من الزينيا. مرَّت ساعة، ثم تقدم على الطريق هائمًا رجل هندي حزين بشرته بلون التربة، يرتدي مئزرًا للخصر وعمامة لونها برتقالي وردي حمل عليها سلَّة غسيل.

وقد أنزل السلة وحيَّا فلوري مُنحنيًا.

«من أنت؟»

«تاجر كتب يا سيدي.»

كان تاجر الكتب هو بائع متجوِّل للكتب يهيم من قاعدة لأخرى في أنحاء بورما العليا. وكان نظام التبادُل لديه هو أن تُعطيه مقابل أي كتاب في مجموعته أربع آنات، وأي كتاب آخر. لكن ليس أي كتاب تمامًا؛ إذ إن تاجر الكتب رغم أنه أمي فقد تعلَّم كيف يتعرَّف على كتاب الإنجيل ويرفضه.

فكان يقول آسفًا: «لا يا سيدي، لا. (وهو يُقلبه في يدَيه البُنِّيتين المفلطحتين باستنكار) لا يُمكنني أن آخذ هذا الكتاب ذا الغلاف الأسود والحروف المذهبة. لا أعلم السبب، لكن كل السادة البيض يعرضون عليَّ هذا الكتاب، ولا يقبل أحد منهم أن يأخذه. ما الذي قد يكون في هذا الكتاب الأسود؟ لا بدَّ أنه شيء خبيث.»

قال فلوري: «اخرج نفاياتك.»

بحث بين الكتب عن رواية مُثيرة؛ إدجار آلان والاس أو أجاثا كريستي أو شيء من هذا القبيل؛ أي شيء ليسكن الاضطراب الرهيب الذي كان في قلبه. بينما هو مُنحنٍ على الكتب رأى الرجلَين الهنديَّين يهتفان ويشيران في اتجاه حافة الغابة.

قال البستاني بصوته الشبيه بمن امتلأ فمه بالطعام: «انظر!»

كان المهران خارجين من الغابة؛ لكن من دون راكبين. هبط الاثنان التل آتيين خببًا تتدلَّى الرِّكاب وتتخبَّط أسفل بطنَيهما، وقد بدا عليهما خجل ساذج كالذي يبدو على الحصان الذي هرب من سيده.

ظلَّ فلوري ضامًّا أحد الكتب إلى صدره غافلًا. لقد ترجَّل فيرال وإليزابيث. لم تكن حادثة؛ فلا يُمكن لأحد أن يتخيَّل أن يسقط فيرال عن حصانه مهما شطح بخياله. لقد نزلا عن الخيل، والمُهران هرَبا.

لقد نزلا. لأي سبب؟ لكنَّه كان يعلم السبب! لم تكن مسألة شك: فقد كان مُتيقنًا. أمكنه أن يرى الأمر برمَّته وهو يحدث، في واحدة من تلك الهلوسات الشديدة الدقة في تفاصيلها والقذارة في فحشها حتى ليستحيل تحملها. وهنا رمَى الكتاب بعنف واتجه إلى المنزل، تاركًا تاجر الكتب خائب الأمل. سمعه الخدم وهو يتحرَّك داخل المنزل، ثم يطلب زجاجة ويسكي. احتسى شرابًا لكنه لم يُجدِه نفعًا، ثم ملأ ثلثَي قدح، وأضاف إليه كمية مناسبة من المياه ليجعله مُستساغًا، وابتلعَه. لم تلبث الجرعة الملوَّثة الباعثة على الغثيان أن تنزل جوفه حتى كررها. كان قد أقدم على نفس الشيء في المعسكر ذات مرة، منذ سنوات، حين أوجَعَه ألمُ الأسنان وجعًا شديدًا وكان على بعد ثلاثمائة ميل من طبيب الأسنان. حين دقَّت الساعة السابعة دخل عليه كو سلا كالعادة ليقول إنَّ مياه الحمام صارت ساخنة. كان فلوري مستلقيًا على أحد المقاعد الطويلة، وقد خلع معطفه وتقطع قميصه عند العنق.

قال كو سلا: «حمامك يا سيدي.»

لم يُجب فلوري، فلمس كو سلا ذراعه، ظانًّا أنه نائم. كان فلوري ثملًا جدًّا حتى إنه لم يقوَ على الحركة. وكانت الزجاجة الفارغة قد تدحرجت على الأرض، تاركة خطًّا من قطرات الويسكي خلفها. نادى كو سلا على با بي والتقط الزجاجة وهو يطرقع بلسانه.

«انظر! لقد شرب أكثر من ثلاثة أرباع الزجاجة!»

«مرةً أخرى؟ كنت أعتقد أنه قد أقلع عن الشراب؟»

«إنها تلك المرأة الملعونة، على ما أظن. الآن لا بدَّ أن نَحمله برفق. أمسك أنت كعبَيه، وأنا سأحمل رأسه. هكذا. هيا ارفعه!»

حمَلا فلوري إلى الحجرة الأخرى ووضعاه برفق في الفراش.

تساءل با بي قائلًا: «هل سيتزوَّج حقًّا هذه المرأة الإنجليزية؟»

«الرب يعلم. إنها عشيقة ضابط الشرطة الشاب الآن، حسب ما سمعت. إن عاداتهم مختلفة عن عاداتنا. أعتقد أنني أعلم ما الذي سيحتاجه الليلة.» أضاف هذا وهو يفك حمالات فلوري؛ فقد كان كو سلا مُتمرِّسًا في الفن الضروري جدًّا لدى خادم العزاب، وهو فنُّ خلع ملابس سيِّده من دون أن يوقظه.

كان الخدم بالأحرى مسرورين برؤية هذه العودة لعادات العزوبية. استيقظ فلوري قرب منتصف الليل، عاريًا في بركة من العرق. شعر كأن جسمًا معدنيًّا كبيرًا حادَّ الزوايا يتخبط داخل رأسه. كانت الناموسية مرفوعة، وثمة شابة جالسة بجانب الفراش تُهوِّي له بمروحة خوص. كان وجهُها زنجيَّ الملامح مليحًا، بدا في ضوء الشموع ذهبي اللون مائلًا للبرونزي. أوضحت له أنها بغي، وأن كو سلا استأجرها على مسئوليته مقابل عشر روبيات.

كان رأس فلوري يؤلمه ألمًا مبرحًا، فقال بوهن للمرأة: «أعطيني شيئًا لأشربه بالله عليكِ.» أتتْه ببعض المياه الغازية التي كان كو سلا قد تأهَّب بتبريدِها ونقع منشفَة ووضع كمادة حول جبهته. كانت المرأة كائنًا بدينًا لطيف الطبع. أخبرته أن اسمها ما سين جالاي، وأنها بجانب مُمارسة مهنتها الأخرى كانت تبيع سلال الأرز في البازار القريب من متجر لي ييك. تحسن حال رأس فلوري بعد قليل، وطلب منها سيجارة؛ وعندئذٍ قالت ما سين جالاي بسذاجة، بعد أن أتت بالسيجارة: «هل أخلع ملابسي الآن يا سيدي؟»

قال فلوري بفتور لنفسه: لمَ لا؟ أَفسحَ لها مكانًا على الفراش. لكن حين شم الرائحة المألوفة للثوم وزيت جوز الهند، شعر بألمٍ ما بداخله، وبكى بالفعل متوسِّدًا برأسه كتف ما سين جالاي السمين، وهو ما لم يفعله منذ كان في الخامسة عشرة من عمره.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤