الفصل الثاني والعشرون

أثار موت ماكسويل صدمة بالغة في كياوكتادا. وسوف يُثير صدمة في جميع أرجاء بورما، وسيظل الناس يتحدثون عن القضية — قضية كياوكتادا، هل تتذكَّرونها؟ — لسنوات بعد نسيان اسم الشاب المسكين. إلا أنه لم يأسَ عليه أحد بشكل شخصي بحت. فقد كان ماكسويل شخصًا بلا أهمية — مجرَّد «رفيق طيب» مثل أي واحد من سائر عشرة آلاف من الرِّفاق الطيبين بحكم لونهم في بورما — من دون أصدقاء مقرَّبين. لكن هذا لا يعني أنهم لم يكونوا غاضبين. بل على النقيض، فقد كادت تثور ثائرتهم في ذلك الوقت. فقد وقع ما لا يُغتفر؛ لقد قُتل رجل أبيض. وحين يحصل هذا، تسري رجفة في أبدان الإنجليز في الشرق. قد يُقتل ثمانمائة شخص سنويًّا في بورما؛ هم بلا أهمية؛ أما مقتل رجل أبيض فهو فعل بَشِع وانتهاك للمقدسات. سوف يُؤخذ بثأر ماكسويل المسكين، كان هذا يقينًا. لكن لم يذرف الدمع لوفاته سوى خادم أو اثنان، وحارس الغابة الذي أحضَر جثَّته والذي كان مُحبًّا له.

من ناحية أخرى، كان من العجيب أن هناك من سرَّه الأمر، ولم يكن هذا سوى يو بو كين.

قال يو بو كين لما كين: «إنها هِبَة حقيقية من السماء! أنا نفسي ما كنت لآتي ترتيبًا أفضل من ذلك. ما كنت أحتاجه حتى يأخذوا التمرُّد الذي خطَّطت له على محمل الجد هو القليل من إراقة الدماء. وها قد حصَل! الحقيقة يا ما كين أنَّني كل يوم أزداد يقينًا أن ثمة قوة عليا تعمل لصالحي.»

«إنك مجرَّدٌ من الحياء حقًّا يا كو بو كين! لا أدري كيف تجرؤ على التفوه بمثل تلك الأشياء. ألا ترتعِب من أن تحمل ذنب مقتل شخص؟»

«ماذا! أنا؟ ذنب مقتل شخص؟ ما الذي تتحدثين عنه؟ إنني لم أقتل حتى دجاجة طيلة حياتي.»

«لكنَّك المستفيد من مقتل هذا الفتى التعيس.»

«أستفيد منه! سأستفيد منه بالتأكيد! قطعًا، ولما لا؟ هل أنا المسئول ما دام شخص آخر اختار أن يرتكِب جريمة قتل؟ إن الصياد يصطاد السمك، فيحكم عليه باللعنة على فعلته. لكن هل يحكم علينا نحن باللعنة لتناول السمك؟ بالتأكيد لا. لماذا لا نأكل السمك ما دام ميتًا؟ لا بد أن تدرُسي الأسفار بإمعان أكثر يا عزيزتي كين كين.»

أقيمت الجنازة في الصباح التالي، قبل الإفطار. كان الأوروبيون جميعًا حاضرين، ما عدا فيرال، الذي كان يعدُو في الميدان كدأبِه تمامًا، في الجهة المقابلة تقريبًا للجبانة. تلا السيد ماكجريجور مراسيم الجنازة، ووقفَت جماعة الرجال الإنجليز الصغيرة حول القبر، قبَّعاتهم في أياديهم، يتصبَّبون عرقًا في بذلاتهم السوداء التي استخرجوها من أعماق صناديقهم. راحت أشعة الصباح القاسية تضرب وجوههم من دون رحمة، وقد بدَت أكثر اصفرارًا من ذي قبل على الملابس الرثَّة القبيحة. بدت كل الوجوه متغضِّنة ما عدا وجه إليزابيث، وكان الدكتور فيراسوامي الطيب ونفرٌ من الشرقيين حاضرين، لكنهم نأوا بأنفسهم تأدبًا في الخلفية. كان في الجبانة الصغيرة ستة عشر شاهدَ قبر؛ لموظَّفي شركات أخشاب، ومسئولين، وجنود قُتلوا في اشتباكات منسية.

«تخليدًا لذكرى جون هنري سباجنال، الذي كان يعمل في شرطة الهند الإمبراطورية، والذي مات بالكوليرا أثناء عمله الدءوب من أجل … إلخ.»

كانت ذكريات فلوري عن سباجنال باهتة؛ إذ كان قد مات على نحو مُفاجئ جدًّا بعد إصابته بالهذيان الارتعاشي للمرة الثانية. في إحدى الزوايا كانت قبور الأوروبيِّين الآسيوين، بصلبانها الخشبية. كسَا كلَّ شيء في الجبانة نباتُ الياسمين المتسلِّق، بزهوره الصغيرة ذات القلب البرتقالي. وبين الياسمين انتشرت جحور كبيرة للجرذان مؤدية إلى القبور.

اختتم السيد ماكجريجور مراسيم الجنازة بصوت عميق وقور، وتقدَّم الآخرين في الخروج من الجبانة، حاملًا قبالة بطنِه خوذته الرمادية، المقابل الشرقي للقبَّعة العالية الخاصة بالمناسبات الرسمية. تلكَّأ فلوري عند البوابة، آملًا أن تتحدَّث إليزابيث إليه، لكنها مرت به دون أن تنظر إليه. لقد نبذَه الجميع ذلك الصباح. كان في موقف مُخزٍ؛ فحادثة القتل جعلت ما ارتكبَه من خيانة الليلة الماضية يبدو بَشِعًا بشكل ما. قبض إليس على ذراع ويستفيلد، وتوقفا بجوار المقبرة، حيث أخرجا علبتَي سجائرهما. وقد استطاع فلوري أن يسمع صوتيهما السوقيين عبر القبر المفتوح.

«يا إلهي يا ويستفيلد، يا إلهي، كلما خطَرَ لي ذلك اﻟ… الصغير المسكين وهو راقد ميتًا. يا إلهي! كم يغلي دمي! لم أَستطِع النوم طوال الليل، كنت مُغتاظًا للغاية.»

«أتفق معك أنه أمر شنيع للغاية. لكن لا تقلق، أعدك أن يُعدَم اثنان لقاء ما حدث. قتيلان مقابل قتيل، سنفعل ما بوسعنا.»

«اثنان! لا بد أن يكونوا خمسين! لا بد أن نُقيم الأرض ونُقعدها حتى يُعدم هؤلاء الرجال. هل عرفتُم أسماءهم؟»

«نعم، بالطبع! المنطقة اللعينة بأسرها تعرف من الجاني. إننا دائمًا ما نعرف الجناة في هذه القضايا. المشكلة الوحيدة هي حمل أهل القرية الملاعين على الكلام.»

«حسنًا، فلتحمِلهم على الكلام هذه المرة بحق الرب. ولا تأبَه للقانون اللعين. أَوسِعهم ضربًا حتى يعترفوا، عذِّبهم، افعل أي شيء. إذا احتجت إلى رشوة أي شهود، فإنني على استعداد لإعطائك بعض المال.»

تنهَّد ويستفيلد وقال: «أخشى أننا لا نستطيع فعل مثل تلك الأشياء. ليتنا نستطيع. يعرف رجالي كيف يُرهِبون الشاهد متى أمرتهم بذلك. بربطهم بكثيب للنمل. بالفلفل الأحمر. لكن هذا لن ينفع الآن. لا بد أن نلتزم بقوانيننا الغبية الملعونة. لكن لا تقلق، سوف يُشنق أولئك الرجال بلا شك. فلدينا كل الأدلة التي نحتاج إليها.»

«حسن! إذا لم تستطِع إدانتهم، عند إلقاء القبض عليهم، أطلق عليهم النار، أطلق عليهم النار حقًّا! ادعُ أنهم كانوا سيفرُّون أو شيء من هذا القبيل. إن أي شيء أفضل من ترك أولئك الأوغاد طلقاء.»

«لا تخَف، لن يصيروا طلقاء. سوف نَقبض عليهم. سنقبض على شخصٍ ما، على أي حال. أن تعدم الشخص الخطأ أفضل كثيرًا من ألا تعدم أحدًا.» أردف قوله هذا، في اقتباس غير واعٍ.

قال إليس وهما يبتعدان عن القبر: «أحسنت قولًا! لن أنام مستريح البال ثانيةً حتى أراهم معلَّقين في المشنقة. رباه! هيا نبتعد عن هذه الشمس! أكاد أموت من الظمأ.»

كان الكل يتعذب من العطش، نوعًا ما، لكن لم يكن من تمام اللياقة أن يذهبوا إلى النادي لاحتساء الشراب بعد الجنازة مُباشرةً. هكذا افترق الأوروبيون إلى منازلهم، بينما راح عمال النظافة الأربعة بفئوسهم يُلقون بالتراب الرمادي الشبيه بالأسمنت في القبر مرة أخرى، وشكَّلوه في ركام غير مُستوٍ.

بعد الإفطار، سار إليس إلى مكتبه، حاملًا في يده خيزرانة، وقد اشتدَّ وهج الحر لدرجة تُعمي العيون. كان إليس قد تحمَّم وغير ملابسه فارتدى قميصًا وسروالًا قصيرًا، فقد عاد إليه الطفح الجلدي بأبشع صوره لارتدائه بذلة ثقيلة مع أنه كان لساعة فقط. أما ويستفيلد فكان قد خرج، في زورقه البخاري، مع مفتِّش ونفر من الرجال، للقبض على القتلة. وكان قد أمر فيرال بمصاحبته، ليس لأن وجود فيرال كان ضروريًّا، لكن لأنه يحسن بذلك الوضيع الصغير أن يؤدي القليل من العمل، كما قال ويستفيلد.

أخذ إليس يلوي كتفيه؛ فقد كاد الطفح الجلدي لديه يفوق قدرته على الاحتمال. وكان الغضب يفور بداخله كأنه شراب الحنظل. كان قد ظلَّ طوال الليل يتفكر فيما حدث. لقد قتلوا رجلًا أبيض، قتلوا رجلًا أبيض، الأراذل الملاعين، الخنازير السَّفلة الجبناء! الخنازير، الخنازير، كم لا بدَّ أن يُعانوا على ما اقترفُوه! لماذا وضعوا هذه القوانين المتساهلة اللعينة؟ لماذا نَرضخ لأي شيء؟ ماذا لو كان هذا قد حدث في مستعمرة ألمانية، قبل الحرب! الألمان الرجال الأشداء! كانوا يعرفون كيف يُعاملون الزنوج. بالهجمات الانتقامية! وسياط من جلود الخرتيت! كانوا يُغيرون على قراهم، ويقتُلون مواشيهم، ويحرقون محاصيلهم، ويُبيدونهم، ويقذفونهم من المدافع.

نظر إليس محدقًا في شلالات الضوء الرهيبة المتدفِّقة من خلال الفجوات في الأشجار. كانت عيناه الضاربتان للون الأخضر متسعتين ويملؤهما الحزن. مرَّ به رجل بورمي هادئ المحيا في منتصَف العمر، حاملًا خيزرانة ضخمة، كان ينقلُها من كتف إلى الآخر في امتعاض أثناء مروره بإليس. هنا أحكم إليس قبضته على عصاه. ليت ذلك الخنزير يعتدي عليك، أو حتى يسبك، أي شيء، حتى يكون لك الحق أن تضربه! ليت هؤلاء الأوغاد الرعاديد يُبدون استعدادًا للقتال بأي طريقة ممكنة ولو مرة! بدلًا من التسلُّل خلفَك، ملتزمين بالقانون حتى لا تتسنَّى لك الفرصة للانتقام منهم مطلقًا. ليت تمرُّدًا حقيقيًّا يقوم، فتعلن الأحكام العرفية من دون رحمة! جرت في ذهنه صور دموية جميلة؛ أهل البلد وهم مكوَّمون في تلال يصرخون ألمًا، والجنود يذبحونهم، ويطلقون عليهم النيران، ويطئونهم بالخيل، فتدهس حوافرها أمعاءهم حتى تخرج من أجسادهم، ويُمزِّعون وجوههم إربًا بالسياط!

جاء على الطريق خمسة طلاب في المدرسة الثانوية يسيرون جنبًا إلى جنب. رآهم إليس قادمين، صفٌّ من الوجوه الصفراء الحاقدة، وجوه مخنَّثة، ناعمة نعومة كريهة ونضرة، تبتسم له ابتسامة عريضة بصفاقة متعمَّدة. أرادوا في قرارة أنفسهم أن يستفزُّوه، لكونه رجلًا أبيض. من المرجَّح أن يكونوا قد سمعوا بحادثة القتل، واعتبروها انتصارًا، لكونهم وطنيين، مثل كل طلبة المدارس. افترَّت ثغورهم عن ابتسامات عريضة في وجه إليس أثناء مرورهم به. كانوا يحاولون إثارة غيظه صراحةً، مُدرِكين أن القانون في صفهم. شعر إليس بصدره يعلو، فقد كان منظر وجوههم وهي تسخر منه مثل صف من الصور الصفراء يثير الحنق، فتوقَّفَ عن السير فجأة.

«مهلًا! علام تضحكون يا أيها الرعاع الصغار؟»

التفت الصبية.

«قلت علامَ تضحكون بحق الجحيم؟»

رد أحد الصبية بوقاحة، لكن ربما جعلتْه لغته الإنجليزية الركيكة يبدو أكثر وقاحة مما قصد.

«ليس من شأنك.»

مرَّت لحظة لم يدرِ إليس خلالها ما الذي كان يفعله. في تلك اللحظة شن هجومًا عنيفًا بكل ما أوتي من قوة، فهوَت العصا، طاخ، على عينَي الصبي مباشرةً. ارتدَّ الصبي صارخًا، وفي نفس الآونة ألقى الأربعة الآخرون بأنفسهم على إليس. لكنه كان أشد من أن يقدرُوا عليه؛ إذ أبعدهم عنه ووثب متراجعًا، وهو يضرب بعصاه بعنف شديد حتى إنه لم يجرؤ أحد منهم على الاقتراب.

«الزمُوا أماكنكم أيها اﻟ…! ابتعدوا وإلا أقسم بالله أن أصيب واحدًا آخر منكم!» رغم أنهم كانوا أربعة فقد كان هو مهيبًا للغاية حتى إنهم تدافعوا متراجعين في ذعر. أما الصبي الذي أُصيب فقد خر على ركبتيه مغطيًا وجهه بذراعيه، وهو يصرخ: «لقد عميت! لقد عميت!» استدار الأربعة الآخرون بغتةً وانطلقوا نحو كومة من اللاتريت المستخدم في إصلاح الطرق، كانت على بعد عشرين ياردة. ظهر أحد كتبة إليس في شرفة المكتب وراح يتوثَّب في توتُّر.

«اصعد يا سيدي، اصعد في الحال. سوف يقتُلونك!»

مع أن إليس كان يحتقر الفرار، فقد اتجه نحو سلَّم الشرفة. طارت في الهواء كتلة من اللاتريت وتحطَّمت على العمود، فهرع الكاتب إلى الداخل. أما إليس فظهر في الشرفة ليُواجه الصبية، الذين كانوا في الأسفل، يحمل كل منهم ملء يده لاتريت، وهو يقهقه من السعادة.

جعل يصيح فيهم من أعلى: «أيها الزنوج الصغار الأقذار الملاعين! لقد تفاجأتم هذه المرة، أليس كذلك؟ اصعدوا هذه الشرفة وتعاركوا معي، أنتم الأربعة! لا تجرءون. أربعة أمام واحد لكنَّكم لا تجرءون على المواجهة! هل تحسبون أنفسكم رجالًا؟ أيها الجرذان الصغار الوضعاء الحقراء!»

ثم تحوَّل إلى اللغة البورمية ناعتًا إياهم بأبناء الخنازير المسافِحين. كانوا طوال ذلك الوقت يقذفونه بكتل من اللاتريت، بيد أن أذرعَهم كانت كليلة فلا يرمون بمهارة. وكان هو يتفادى الحجارة، وكلما أخطأته واحدة قهقه انتصارًا. بعد قليل تصاعدت صيحات آتية من أول الطريق؛ إذ كان الصوت قد سُمع في قسم الشرطة، فخرج بعض الكونستابلات ليروا ما الأمر، وهنا ولَّى الصبية الفرار منطلقين، تاركين إليس منتصرًا تمامًا.

كان إليس قد استمتعَ بالعراك من كل قلبه، لكنه استشاط غضبًا بمجرد انتهائه، وكتب رسالة شديدة اللهجة إلى السيد ماكجريجور، أخبره فيها أنه قد اعتُدي عليه اعتداءً همجيًّا وأنه يُريد القصاص. وأرسل معها إلى مكتب السيد ماكجريجور اثنين من الكتبة شهدا الواقعة، وساعيًا، ليُؤكِّدوا صحة القصة. وقد كذبوا في انسجام تام. «هاجم الصبية السيد إليس من دون أي استثارة على الإطلاق، وقد دافع عن نفسه … إلخ.» لكن حتى لا نَظلم إليس، لا بدَّ من القول بأنه ربما صدق أن هذه هي الرواية الصحيحة للقصة. انزعج السيد ماكجريجور إلى حدٍّ ما، وأمر الشرطة بالعثور على التلاميذ الأربعة واستجوابهم. إلا أنَّ الصبية كانوا متوقعين أن يقع شيء من هذا القبيل، فاحتجبوا بعيدًا عن الأنظار؛ وقد ظلت الشرطة تفتش البازار طوال اليوم دون أن تعثر عليهم. في المساء أُخذ الصبي المصاب إلى طبيب بورمي استطاع أن يُعميه بأن دهن عينه اليسرى بخليط سام من الأوراق المسحوقة.

التقى الأوروبيون في النادي كالمعتاد ذلك المساء، ما عدا ويستفيلد وفيرال، اللذين لم يعودا بعد. كان الكل مُتكدِّر المزاج. كان وقوع الهجوم غير المبرر على إليس (فقد كان ذلك هو الوصف المقبول له)، بعد حادثة القتل مباشرة، مما أثار فزعَهم بقدر ما أغضبهم. وجعلت السيدة لاكرستين تُردِّد نغمة: «سوف نُقتل ونحن نائمون.» لكي يُهدئ السيد ماكجريجور من رَوعها أخبرها أن في حالات اندلاع التمرد دائمًا ما تُحبَس السيدات الأوروبيات داخل السجن حتى ينتهي كل شيء؛ غير أنه لم يبدُ أنها أطمأنَّت كثيرًا لذلك. تعامل إليس مع فلوري بجفاء، وكادت إليزابيث أن تتجاهَله تمام التجاهل. كان قد جاء إلى النادي ولديه أمل مجنون أن يُنهي خلافهما، لكن سلوكها جعله في غاية من الحزن حتى إنه ظل أغلب المساء مُتواريًا في المكتبة. ظل الحال هكذا حتى الساعة الثامنة حين تناول كل منهم عددًا من المشروبات فصار الجو أكثر ألفة بعض الشيء، وقال إليس:

«ما رأيكم لو أرسلنا بعض الغلمان إلى منازلنا حتى تُرسَل لنا وجبات العشاء هنا؟ يُمكننا أيضًا أن نلعب بعض أدوار البريدج. أفضل من الخمول في المنزل.»

السيدة لاكرستين التي كانت خائفة من العودة إلى المنزل، تلقَّفت الاقتراح. كان الأوروبيُّون أحيانًا ما يتناولون العشاء في النادي حين يُريدون السهر. استُدعي اثنان من الغلمان، وحين أُخبرا بما كان مطلوبًا منهما، انفجَرا في البكاء في الحال. بدا أنه كان لديهما يقين أنهما إذا صعدا طريق التلِّ سيُقابلان شبح ماكسويل. هكذا أُرسل البستاني بدلًا منهما. حين مضى الرجل لاحظَ فلوري أن القمر كان بدرًا مرة أخرى؛ مضت أربعة أسابيع بالتمام منذ ذلك المساء، الذي صار الآن بعيدًا بُعدًا تعجز الكلمات عن وصفه، حين قَبَّل إليزابيث تحت شجرة الياسمين الهندي.

كانوا قد جلسوا للتوِّ إلى طاولة البريدج، وكانت السيدة لاكرستين قد انسحبت لتوِّها من اللعب بسبب التوتُّر الشديد، حين أتاهم صوت ارتطام قوي فوق السقف. فزع الكل ونظروا إلى الأعلى.

قال السيد ماكجريجور: «سقطت ثمرة جوز هند!»

قال إليس: «لا يوجد أيُّ شجر جوز هند هنا.»

في اللحظة التالية وقعت أشياء متعددة في نفس الوقت. دوى صوت انفجار آخر أعلى كثيرًا من الأول؛ إذ سقط أحد المصابيح الجاز عن خُطَّافه، وتحطم على الأرض، قاب قوسين أو أدنى من السيد لاكرستين، الذي قفز متحاشيًا إياه وهو يصيح، فيما راحت السيدة لاكرستين تصرخ، وهرع الساقي إلى الحُجرة، عاري الرأس، وقد امتُقعَ وجهُه فصار بلون القهوة الرديئة.

«سيدي، سيدي! جاء رجال أشرار! أتوا ليقتُلونا جميعًا يا سيدي!»

«ماذا؟ رجال أشرار؟ ماذا تقصد؟»

«كل أهل القرية بالخارج يا سيدي! في أياديهم عصيٌّ كبيرة وسيوف، وكلهم مُهتاجون! سيذبحون رقاب السادة يا سيدي!»

تراجعت السيدة لاكرستين مرتمية على كرسيها، وظلَّت تُطلِق صرخات عالية حتى إنها غطت على صوت الساقي.

قال إليس بحدة، مُلتفتًا إليها: «فلتلزمي الصمت! أنصتُوا جميعًا! أنصتوا لذلك الصوت!»

تصاعد من الخارج صوت همهمات عميق خطير، مثل دمدمة عملاق غاضب. حين سمعه السيد ماكجريجور، الذي كان قد وقَف، تسمَّر وثبَّت نظارته على أنفه كمن يتأهب للعراك.

«هذا نوع من الشغب! التقِط المصباح أيها الساقي. انتبهي إلى زوجة عمكِ يا آنسة لاكرستين. تأكدي إذا كانت قد أُصيبت. وليأتِ بقيتُكم معي!»

توجهوا جميعًا إلى الباب الأمامي، الذي كان قد أغلقه أحد الأشخاص، غالبًا الساقي. كان وابلٌ من الحصى الصغير يقع عليه مُحدِثًا ضجة مثل سقوط البرد. وقد ثبط الصوت السيد لاكرستين عن عزمِه فتراجع وراء الآخرين.

وقال: «اللعنة، فليُتربِس أحدكم الباب اللعين!»

قال السيد ماكجريجور: «لا، لا! لا بدَّ أن نخرج. من المهلك ألا نُواجهَهم!»

فتح الباب وقدَّم نفسه لهم بجسارة من أعلى السلم. كان في الممشى نحو عشرين بورميًّا، في أياديهم إما سيوف وإما عِصي. وخارج السور، على امتداد الطريق في الجهتين وحتى الميدان كان حشدٌ ضخم من الناس. كان كأنه بحر من الناس، ألفان على الأقل، جعله ضوء القمر يبدو أبيض في أسود، وقد لمعت في مواضع شتى منه سيوف معقوفة. وقف إليس بهدوء بجانب السيد ماكجريجور، واضعًا يديه في جيوبه. أما السيد لاكرستين فقد اختفى.

رفع السيد ماكجريجور يده إيذانًا بالصمت. ثم صاح بصرامة وقال: «ما الهدف من هذا؟»

تصاعدت صيحات، وطارت من على الطريق كُتل من اللاتريت بحجم كرات الكريكيت، لكنها لم تُصب أحدًا لحسن الحظ. استدار أحد الرجال الذين على الطريق ولوَّح بذراعه للآخرين، هاتفًا ألا يبدءوا القذف بعد. ثم تقدَّم لمخاطبة الأوروبيين. كان رجلًا متينَ البُنيان طلق المحيا في نحو الثلاثين من العمر، ذا شارب مقوس لأسفل، يرتدي قميصًا تحتانيًّا، وإزارًا مثنيًّا حتى ركبتيه.

قال السيد ماكجريجور مرةً أخرى: «ما القصد من هذا؟»

تحدث الرجل بابتسامة مبشرة، وأسلوب ليس بالغ الوقاحة.

«لم نأتِ لنتشاجر معك يا سيدي. لقد جئنا من أجل تاجر الأخشاب، إليس.» (نطقه إليت) «فالصبي الذي ضربه هذا الصباح فقَد بصَرَه. لا بدَّ أن ترسل إلينا إليت، حتى نستطيع أن نُعاقبه. أما بقيتكم فلن يمسَّكم أذى.»

قال إليس من فوق كتفه لفلوري: «فلتتذكر وجه ذلك الشخص. سنحبسُه سبع سنوات على ذلك لاحقًا.»

امتُقع السيد ماكجريجور فصار قرمزيًّا تمامًا لبرهة من الوقت؛ كان سخطه بالغًا حتى كاد يختنِق به. ظلَّ بضع لحظات لا يقوى على الكلام، وحين تكلَّم تكلم بالإنجليزية.

«من تظنُّ نفسك مخاطبًا؟ لم أسمع طوال عشرين عامًا وقاحةً هكذا! اذهبوا في الحال وإلا استدعيت الشرطة العسكرية!»

«من الأفضل أن تُسرع أيها السيد. نعلم أنه لا يوجد عدالة لنا في محاكمكم، لذلك لا بد أن نُعاقِب إليت بأنفسنا. أرسله إلينا هنا. وإلا جعلناكم جميعًا تبكون على ذلك.»

قام السيد ماكجريجور بحركة عصبية بقبضته، كأنه يدق مسمار، وهتف، متلفظًا بأول سباب له منذ عدة سنوات: «اذهب يا ابن الكلب!»

تعالى هديرٌ مُدوٍّ من الطريق، وانهمرت الحجارة بغزارة، حتى أصابت الكل، وفيهم البورميُّون الواقفون في الممشى. أصابت إحدى الأحجار السيد ماكجريجور مباشرة، حتى إنها كادت تُوقعه. فرَّ الأوروبيون إلى الداخل سريعًا وأوصدوا الباب. تهشمت نظارة السيد ماكجريجور وتدفَّق الدم من أنفه. حين عادوا إلى قاعة الجلوس وجدوا السيدة لاكرستين متشنِّجة على إحدى الأرائك مثل حية في حالة هيستيرية، والسيد لاكرستين واقفًا في حيرة في وسط الحجرة، حاملًا زجاجة فارغة، والساقي جاثيًا في الزاوية، يؤدي علامة الصليب (فقد كان روميًّا كاثوليكيًّا)، والغلمان يبكون، وإليزابيث وحدها هادئة، مع أنها كانت شاحبة جدًّا.

هتفت حين رأتهم قائلة: «ماذا حدث؟»

فقال إليس بغضب، وهو يتحسَّس قفاه حيث أصابه أحد الأحجار: «إننا في مأزق، هذا ما حدث! البورميُّون يحيطون بنا من كل ناحية، يقذفوننا بالصخور. لكن الزَمُوا الهدوء! فليس لديهم الشجاعة لاختراق الأبواب.»

قال السيد ماكجريجور بألفاظ غير واضحة؛ لأنه كان يوقف نزيف أنفه بمنديله: «استدعِ الشرطة في الحال!»

قال إليس: «غير ممكن! لقد نظرت في الأنحاء حين كنت تتحدث إليهم. لقد حاصَرُونا، محَقَ الله أرواحهم اللعينة! لا يمكن لأحد أن يصل إلى صفوف الشرطة على الإطلاق. مقرُّ فيراسوامي مليء بالرجال.»

«لا بد أن ننتظر إذَن. يُمكننا أن نأمُل أن يُدبِروا من تلقاء أنفسهم. فلتهدئي يا عزيزتي السيدة لاكرستين. أرجوكي أن تتمالكي أعصابكِ! الخطر هين جدًّا.»

لم يبدُ الخطر هينًا، فلم يعُد الضجيج يتوقف، وبدا أن البورميين كانوا يتوافدون على المجمع بالمئات. وعلا الصخب بغتةً حتى لم يعد من الممكن سماع صوت أحد إلا بالصياح. أُغلقت كل النوافذ التي في قاعة الجلوس، ووضُعت بعض المصاريع الزنك الداخلية ذات الثقوب، التي كانت تُستخدم أحيانًا لإبعاد الحشرات، وأُوصدت. توالت سلسلة من أصوات التكسير؛ إذ تحطمت النوافذ، ثم انهالت الحجارة بلا توقف من جميع النواحي، فرجَّت الجدران الخشبية الرفيعة وبدا من المرجَّح أن تكون قد تصدعت. فتح إليس أحد المصاريع ورمى زجاجة بعنف على الحشد، لكن اندفَع ساعتها عشرة أحجار فاضُطرَّ أن يغلق المصراع سريعًا. بدا أن البورميين لم يكن لديهم خطة سوى رمي الحجارة والهتاف والطرق على الجدران، لكن حجم الضوضاء وحده كان مُثيرًا للأعصاب. وقد أصاب الأوروبيين شيء من الذهول في البداية. لكن لم يفكر أي منهم في إلقاء اللوم على إليس، المسئول الوحيد عن هذا الأمر؛ فقد بدا بالطبع أن الخطر الذي تهددهم جميعًا قد قارب بينهم لبعض الوقت. وقف في وسط الحجرة السيد ماكجريجور، الذي كان في عمًى جزئي من دون نظارته، في حيرة من أمرِه، تاركًا يده اليمنى للسيدة لاكرستين، التي أخذت تُمسِّدها، بينما تشبث أحد الغلمان باكيًا بساقه اليسرى. أما السيد لاكرستين فقد اختفى مرةً أخرى. وراح إليس يذرع الحجرة جيئةً وذهابًا وهو يُدبدب بقدميه، ثم لوَّح بقبضته في اتجاه صفوف الشرطة.

وصاح غير آبهٍ لوجود نساء: «أين الشرطة، أولئك الأراذل الجبناء الملعونون؟ لماذا لم يظهروا؟ يا إلهي، لن تواتينا فرصة أخرى كهذه ولو بعد مائة عام! لو كان لدينا عشر بنادق فقط هنا، لكنا استطعنا أن نفتك بأولئك الأوغاد!»

أجابه السيد ماكجريجور هاتفًا: «سيأتون في الحال! اختراق ذلك الحشد سيستغرق بضع دقائق.»

«لماذا لا يستخدمون بنادقهم مع أولئك الأوغاد الوضعاء؟ فبإمكانهم إرداؤهم في أكوام من الجثث إذا فتحوا عليهم النار فحسب. يا إلهي، كيف يضيعون فرصة كهذه!»

اخترقت كتلة من الصخور أحد المصاريع الزنك، وتبعتْها أخرى من خلال الثقب الذي أحدثته، وحطَّمت إحدى صور «الجرو بونزو»، وارتدَّت، فجرحت مرفق إليزابيث، ثم سقطت أخيرًا على الطاولة. تعالت صيحة انتصار من الخارج، ثم تلتْها سلسلة خبطات شديدة على السطح؛ إذ كان بعض الأطفال قد تسلَّقوا الأشجار وأخذوا يلهون بالتزحلق على السطح على مؤخِّراتهم. وعندئذٍ تفوقت السيدة لاكرستين على نفسها بأن أتت صرخة طغَت على الجلَبة التي بالخارج بمنتهى البساطة.

صاح إليس: «فليكتم أحدُكم صوت تلك الشمطاء الكريهة! يظن السامع أن ثمة خنزير يُقتل. لا بد أن نفعل شيئًا. تعال يا فلوري أنت وماكجريجور. فليفكر أحد في مخرج من هذا المأزق!»

على حين غرة خارت أعصاب إليزابيث وأجهشت بالبكاء؛ إذ كانت قد جُرحت حين أصابها الحجر. وقد دُهش فلوري حين وجدها وقد تشبَّثت بذراعه بشدة، وهو ما جعل قلبه يتوثب حتى في تلك اللحظة. كان قد ظلَّ يشاهد الموقف بشبه لا مبالاة، مرتبكًا من الجلبة دون شك، لكن من دون خوف بالغ؛ إذ طالما وجد صعوبة في الاعتقاد بأن الشرقيين قد يكونون مُؤذين بحق. ولم يُدرك خطورة الموقف إلا حين شعر بيد إليزابيث على ذراعه.

«أرجوك يا سيد فلوري، فلتُفكِّر في شيء أرجوك! فإنك تستطيع، إنك تستطيع! افعل أي شيء قبل أن يتمكَّن أولئك الرجال المريعون من الدخول إلى هنا!»

قال السيد ماكجريجور بامتعاض: «ليت بإمكان واحد منا الوصول إلى صفوف الشرطة! ضابط بريطاني ليقتادهم بعيدًا! لا بد أن أحاول وأذهب بنفسي في أسوأ الأحوال.»

صاح إليس: «لا تكن مغفلًا! لن ينوبك سوى الذبح! سوف أذهب إذا أوشكوا على الاقتحام بحق. آه من أن يقتُلَني خنزير مثل أولئك! كم يثير ذلك حنقي! كم يثير حنقي أنه كان بإمكاننا قتل الحشد اللعين بأسره لو كان باستطاعتنا أن نأتي بالشرطة هنا!»

صاح فلوري يائسًا: «ألا يستطيع أحد السير بمحاذاة ضفة النهر؟»

«لا جدوى! المئات منهم يجوسون الأنحاء. لقد تقطَّعت بنا السبل؛ البورميون من ثلاث جهات والنهر من جهة!»

«النهر!»

انبثقت في ذهن فلوري واحدة من تلك الأفكار المدهشة التي يتجاهلها المرء فقط لكونها بديهية جدًّا.

«النهر! بالطبع! يُمكننا أن نصل إلى صفوف الشرطة بمنتهى السهولة. هل تعلمون ذلك؟»

«كيف؟»

«عن طريق النهر، في الماء! بالسباحة!»

هتف إليس: «أحسنت يا رجل!» وخبَطَه على كتفه. واعتصرت إليزابيث ذراعه وكادت ترقص تهللًا. صاح إليس: «سأذهب إذا أردت!» لكن فلوري هزَّ رأسه، وكان قد شرع يخلع حذاءه. كان جليًّا أنه لم يعُد هناك وقت ليُضيِّعوه؛ فقد ظل البورميون يتصرَّفون مثل الحمقى حتى ذلك الوقت، لكن لا أحد يعلم ماذا قد يحدث إذا تمكَّنُوا من اقتحام النادي. استعدَّ الساقي الذي كان قد تغلب على ذعره الأول، وفتح النافذة المؤدية إلى الحديقة، وألقى نظرة سريعة في الخارج وقد تنحَّى جانبًا. كان عدد البورميين في الحديقة بالكاد عشرين. فقد تركوا خلفية النادي دون حراسة، مُفترضين أن النهر سيقطع خط الرجعة.

صاح إليس في أذن فلوري: «انطلق في الحديقة بأسرع ما يُمكن! سوف يتفرقون بلا شك حين يرونك.»

وصاح السيد ماكجريجور من الناحية الأخرى: «مُر الشرطة بأن تفتح النيران في الحال! لديك تفويض مني بذلك.»

«واطلب منهم أن يُصوِّبوا على أهداف منخفضة! لا أن يطلقوا النار في الهواء. وإنما يُصيبون ليقتُلوا. في الأمعاء مثلًا.»

قفَزَ فلوري من الشرفة، فتألمت قدماه من الأرض الصلبة، وبعد ست خطوات كان لدى ضفة النهر. وقد حدث ما قاله إليس له؛ إذ تراجع البورميون عند رؤيته وهو يهبط قافزًا. تبعته عدة أحجار، لكن لم يذهب في أثره أحد، لا ريب أنهم اعتقدوا أنه كان يحاول الفرار فقط، كما أنهم استطاعوا أن يروا في ضوء القمر الساطع أنه ليس إليس. خلال لحظة أخرى كان قد شق طريقه خلال الشجيرات وصار في الماء.

غاص فلوري عميقًا فتلقَّفه القاع المخيف للنهر، وابتلعه حتى ركبتيه حتى إنه لم يستطع أن يحرر نفسه قبل عدة ثوانٍ. حين عاد إلى السطح تجمَّع حول شفتيه زبَد فاتر، مثل الرغوة التي تتجمع على الجعة، ودخل حلقه شيء إسفنجي وراح يخنقُه. كان ذلك عود أحد نباتات زنبق الماء. استطاع أن يبصقه، ثم وجد أن التيار السريع كان قد جرفه عشرين ياردة بالفعل. كان البورميون يجرُون بلا هدف نوعًا ما في أنحاء الضفة، وهم يتصايحون. لم يستطِع فلوري، وعيناه في مستوى الماء، أن يرى الحشد وهم يُحاصرون النادي لكنه استطاع أن يسمع هديرهم العميق الخبيث، الذي بدا أعلى حتى مما كان على الشاطئ. بحلول الوقت الذي صار فيه أمام خطوط الشرطة العسكرية بدَت الضفة شبه خاوية من الرجال. تمكن من انتزاع نفسه بمشقة من التيار والخوض مُتعثِّرًا في الوحل الذي ابتلع جوربه الأيسر. على بُعد مسافة قصيرة من الشاطئ كان ثمة رجلان عجوزان جالسان بجانب سور، يشحذان أعمدته، كأن ليس هناك شغب على بُعد مائة ميل منهما. زحف فلوري إلى البر، وتسلَّق السور وركض متثاقلًا عبر ساحة العروض العسكرية البيضاء بلون القمر، وقد تهدل سروالُه المُبتل. بقدر ما أتاحت له الضوضاء أدرك أن الصفوف كانت خاوية تمامًا. كانت خيول فيرال تتقافَز في ذُعر في بعض المرابط على اليمين. فخرج فلوري إلى الطريق ركضًا، ورأى ما حدث.

كان جهاز الشرطة بأَسرِه، العسكرية والمدنية، نحو مائة وخمسين رجلًا في المُجمَل، قد هاجم الحشد من الوراء، متسلِّحين بالعصيِّ فقط. كانوا محاصَرين تمامًا. فقد كان الحشد كثيفًا للغاية حتى إنه بدا مثل سربٍ هائل من النحل يمور ويدور. كان يبدو للعيان في كل مكان رجال الشرطة وهم محشورون بلا حول ولا قوة بين جحافل البورميِّين، يقاومون بحدة لكن بلا جدوى، وقد ضاق عليهم الخناق ضيقًا حتى استعصى عليهم استخدام عصيهم. تشابكت جماعات كاملة من الرجال مثلَ تمثال لاوكون وأبنائه بالعمامات المفكوكة. تعالت أصوات السباب بثلاث أو أربع لغات، وسُحُب من الغبار، وروائح العرق وزهور القطيفة الخانقة، لكن بدا أنه لم يُصَب أحد إصابة بالغة. لم يستخدم البورميون سيوفهم خوفًا من استفزاز الإنجليز لإطلاق النار من بنادقِهم. شق فلوري طريقه في الزحام فابتلعه في الحال مثل الآخرين. اكتنفه بحر من الأجساد وراح يتقاذفه من ناحية لأخرى، وهو يخبط ضلوعه ويخنقه برائحته الحيوانية. ظل يقاوم حتى يتقدم يُساوره شعور يشبه الحلم؛ إذ كان الموقف في غاية من الغرابة والخيال. كان الشغب بأسره سخيفًا من البداية، والأسخف أن البورميين، الذين قد يقتلونه، لم يعلموا ماذا يفعلون به الآن وهو بينهم. هتف بعضهم بالسباب في وجهه، ودفعه البعض الآخر وداسُوا على قدمَيه، بل وحاول البعض أن يفسح له الطريق، لكونه رجلًا أبيض. ظلَّ وقتًا طويلًا جدًّا عالقًا في الزحام، عاجزًا، وقد التصق ذراعاه بجانبَيه، حتى وجد نفسه يصارع رجلًا بورميًّا قصيرًا وبدينًا أشد منه بأسًا بكثير، ثم اصطدم به عشرة رجال مثل الموجة وتوغلوا به أكثر في قلب الجموع. شعر فجأة بألم مُمض في إصبع قدمه اليُمنى الكبير؛ إذ كان قد وطئه شخص يرتدي حذاءً برقبة. كان ضابطًا هنديًّا في الشرطة العسكرية، من الأمراء، بدين جدًّا، بشارب، وبلا عمامة. كان قابضًا على عنق أحد البورميِّين ويُحاول ضرب وجهه، فيما انهمر العرق من رأسه العاري الحليق. ألقى فلوري بذراعه حول عنق الضابط الهندي واستطاع أن ينتزعه من خصمه وصاح في أذنه، لكن تاهَت منه اللغة الأردية، فصاح بالبورمية وقال:

«لماذا لم تُطلِقُوا النار؟»

ظل وقتًا طويلًا غير قادر على سماع رد الرجل. ثم سمعه:

«لم أتلقَّ أوامر بذلك!»

«أحمق!»

في هذه اللحظة اصطدم بهما جمع آخر من الرجال، وظلا للحظة أو لحظتين مُتسمِّرَين في مكانيهما وغير قادرين على الحركة مطلقًا. أدرك فلوري أن الضابط كان لديه صفارة في جيبه وكان يُحاول الوصول إليها. وأخيرًا انتزعها وأطلق بها عدة صفارات حادة، لكن لم يكن ثمة أمل في حشد أيِّ رجال حتى يستطيعوا الوصول إلى مكانٍ خال. كان الخروج من التجمهر عملًا مخيفًا، أشبه بالخوض حتى عنقك في بحر دبق. في بعض الأحيان كان يسيطر الإنهاك على أطراف فلوري حتى إنه كان يقف بلا حراك، تاركًا الجموع توقفه بل وتدفعه إلى الوراء. أخيرًا وجد نفسه وقد اندفع خارج الحشد، بفعل التدافُع العادي للناس أكثر من جهده هو. كان الضابط قد خرج هو الآخر، وعشرة أو خمسة عشر جنديًّا، ومفتش شرطة بورمي. جلس أغلب الجنود مُقرفصين يكادون يسقطون من التعب، وقد صاروا يعرجون بعد أن وُطئت أقدامهم.

«هيا، انهضوا! اركضوا بأسرع ما يمكن إلى موقعكم! وليأتِ كل منكم ببعض البنادق ومشط ذخيرة.»

كان أكثر إرهاقًا من أن يتحدث بالبورمية، لكن فهمه الرجال وعرجوا بخطوات ثقيلة في اتجاه موقع الشرطة. وتبعهم فلوري، ليبتعد عن الحشود قبل أن يُهاجموه مرة أخرى. حين وصل إلى البوابة كان الجنود قد رجعوا ببنادقهم ويتأهبون بالفعل لإطلاق النار.

قال الضابط الهندي وهو يلهث: «سيُعطينا السيد الأمر!»

هتف فلوري بالمفتش قائلًا: «أنت! هل تتحدَّث الهندوستانية؟»

«أجل يا سيدي.»

«فلتُخبرهم إذن أن يُطلقوا النار عاليًا، فوق رءوس الناس مباشرةً. والأهم من ذلك أن يُطلقوا النار جميعًا معًا. اجعلهم يفهمون ذلك.»

تولَّى المفتش البدين الذي كانت لغته الهندوستانية أسوأ حتى من فلوري، شرْحَ المطلوب، شرحًا أغلبه قفز وإيماءات. رفع الجنود بنادقهم، ثم دوى هدير، تردَّد صداه على جانب التل. اعتقد فلوري من أول وهلة أن أمره قد أُغفِل؛ إذ سقط القسم الأقرب إليهم من الحشد بالكامل مثل كوم من القش. إلا أنهم كانوا هم مَن طرحوا أنفسهم أرضًا مذعورين. أطلق الجنود وابلًا ثانيًا من الرصاص، لكن لم يكن ثمة حاجة إليه. فقد كان الحشد قد شرع يتدفَّق بعيدًا عن النادي مثل نهر يُغيِّر مساره. تدافع الناس على الطريق، حيث وجدوا الرجال المسلحين معترضين سبيلهم، فحاولوا التراجع، وهنا نشأت معركة جديدة بين من في المقدمة ومن في الخلف؛ في النهاية نفر الحشد بأكمله إلى الخارج وجعلوا يتدفَّقون على مهل في الميدان. تحرك فلوري والجنود بتمهُّل في اتجاه النادي في أثر الحشد المتراجع. تخلف رجال الشرطة، الذين كانوا محاصرين، فرادى وأزواجًا. كانت عمائمهم قد اختفت وقلاشينهم مجرجرة ورائهم على بعد ياردات، لكن لم يصبهم أذى أخطر من الرضوض. وراح رجال الشرطة المدنية يسحبون عددًا قليلًا جدًّا من المسجونين. حين وصلوا إلى مجمع النادي كان البورميون لا يزالون يتدفقون منه، طابور لا ينتهي من الرجال يقفزون برشاقة من خلال فجوة في السور مثل موكب من الغزلان. بدا لفلوري أن الظلام اشتدت حلكته. خلَّص شخص ضئيل في لباس أبيض نفسه من ذيل الحشد وسقط منهكًا بين ذراعي فلوري. كان ذلك هو الدكتور فيراسوامي، وقد تمزقت رابطة عنقه مع أن نظارته ظلت سليمة بمعجزة.

«دكتور!»

«آه يا صديقي! آه، كم أنا منهك!»

«ماذا تفعل هنا؟ هل كنت في قلب ذلك الحشد؟»

«كنت أحاول ردعهم يا صديقي. لكن كان دون جدوى حتى جئت أنت. لكن على الأقل هناك من الرجال من يحمل أثر هذه على ما أعتقد.»

ومد قبضته الصغيرة لفلوري ليرى مفاصل أصابعه وقد أصيبت. لكن الظلام كان دامسًا بالطبع. في نفس الآونة سمع فلوري صوتًا أخنف وراءه.

«حسنًا يا سيد فلوري، لقد انتهى الأمر تمامًا الآن! مجرد زوبعة في فنجان كالعادة. أنا وأنت معًا تكاثرنا عليهم. ها، ها!»

كان هذا يو بو كين. ذهب نحوهما وقد بدَت عليه أمارات المحارب، حاملًا هراوة ضخمة، وواضعًا مسدَّسًا في حزامه. كان يرتدي لباسًا منزليًّا عن عمد — قميص داخلي وسروال فضفاض — ليُعطي الانطباع أنه كان قد هُرع من منزله بأقصى سرعة. وهو الذي ظل مختبئًا حتى زال الخطر، ثم تقدم مسرعًا لاغتنام أي نصيب ممكن من الفضل.

قال متحمِّسًا: «يا له من عمل رائع يا سيدي! انظر كيف يصعدون جانب التل هاربين! لقد دحَرناهم على أكمل وجه.»

نهج الطبيب وهو يقول ساخطًا: «دحرناهم!»

«مهلًا عزيزي الدكتور! لم ألحظ أنك كنت هنا. أمن المعقول أنك كنت موجودًا أثناء الشجار أيضًا؟ أنت تُخاطر بحياتك الغالية جدًّا! من كان يُصدِّق شيئًا كهذا؟»

قال فلوري بغضب: «أنت نفسك جئت متأخرًا!»

«حسنًا، حسنًا يا سيدي، يكفي أننا فرقناهم، وإن كانوا …» أردف بقليل من التشفي؛ إذ كان قد لاحظ نبرة فلوري «متَّجهين صوب منازل الأوروبيين، كما ستلاحظ. أعتقد أنه قد يخطر لهم أن يقوموا بالقليل من أعمال النهب في طريقهم.»

إن الرجل لَوقح وقاحةً جديرة بالإعجاب. دسَّ يو بو كين هراوته الكبيرة أسفل ذراعه وسار بجانب فلوري بأسلوب شبه مُتعالٍ، بينما تخلف عنهما الطبيب، وقد تملَّكه الحرج على رغمه. توقف الرجال الثلاثة عند بوابة النادي. كان الظلام آنذاك حالكًا فوق العادة، والقمر مُختفيًا. على ارتفاع مُنخفِض انسابت غيوم سوداء، بالكاد مرئية، في اتجاه الشرق مثل قطيع من كلاب الصيد. وهبَّت ريح، تكاد تكون باردة، على جانب التل وكسحت سحابة من الغبار وبخار الماء الخفيف أمامها. وفجأة فاحت رائحة رطوبة قوية للغاية. تسارعت الريح، واهتزَّت الأشجار، ثم بدأ بعضها يصطدم ببعضٍ بشدة، وأطلقت شجرة الياسمين الهندي سحابة من البراعم بالكاد مرئية. استدار الرجال الثلاثة وهُرعوا بحثًا عن ملجأ، فذهب الشرقيان إلى منزليهما، وذهب فلوري إلى النادي. إذ كانت السماء قد بدأت تمطر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤