الفصل الثالث والعشرون

في اليوم التالي كانت البلدة أهدأ من مدن الكاتدرائيات في صباح يوم الإثنين. دائمًا ما يكون الحال كذلك بعد اندلاع شغب. باستثناء بضعة مساجين، كان كل شخص مشكوك في ضلوعه في الهجوم على النادي لديه حُجة غياب قوية. بدَت حديقة النادي كأنما اندفع فيها قطيع من ثيران البيسون، لكن البيوت لم تُنهب، ولم يكن ثمة إصابات جديدة بين الأوروبيين، باستثناء أنه قد عُثر على السيد لاكرستين بعد انتهاء كل شيء في حالة سكر شديد أسفل طاولة البلياردو؛ حيث أوى مع زجاجة ويسكي. جاء ويستفيلد وفيرال في الصباح الباكر، معهما قاتلا ماكسويل قيد الاعتقال؛ أو بالأحرى معهما شخصان سيُعدمان سريعًا على جريمة قتل ماكسويل. حين سمع ويستفيلد بخبر الشغب، أصابه غمٌّ لكنه سلَّم بالأمر؛ فقد تكرر الأمر، وقع شغب حقيقي، ولم يكن موجودًا ليقمعه! بدا أنه قدرُه ألا يقتل أحدًا أبدًا. شيء محبط للغاية. كان تعليق فيرال الوحيد على الأمر أنها كانت «وقاحة شديدة» من جانب فلوري (وهو مدني) أن يعطي أوامر للشرطة العسكرية.

في الوقت ذاته، كانت الأمطار تنهمر بلا توقف. بمجرد أن استيقظ فلوري وسمع دبدبة المطر على السطح ارتدى ملابسه وهرع إلى الخارج، تتبعُه فلو. وبعيدًا عن مرأى المنازل خلع ملابسه وترك المطر ينضح جسده العاري. فوجئ حين وجد جسده مغطًّى بالكدمات من الليلة الفائتة؛ بيد أن المطر أزال في بحر ثلاث دقائق كلَّ أثر لطفحه الجلدي. إن لماء الأمطار قُوى علاجية رائعة. سار فلوري إلى منزل الدكتور فيراسوامي، يأتي من حذائه صوت طرطشة وتسيل على عنقه من آنٍ لآخر دفقات ماء من حافة قبعته العريضة. كانت السماء رمادية، وراحت عواصف دوَّارة لا حصر لها تطارد كلٌّ منها الأخرى في أنحاء الميدان مثل كتائب الخيالة. مرَّ به بورميُّون يرتدون قبعات خشبية ضخمة لكن رغم ذلك فقد تدفَّق الماء من أجسادهم مثل تماثيل الآلهة البرونزية القائمة في فساقي. وكانت هناك شبكة من الجداول التي راحَت تُجلِّي أحجار الطريق. كان الطبيب قد عاد إلى المنزل لتوِّه حين وصل فلوري، وأخذ ينفض مظلَّته المبتلة من على سور الشرفة. وقد حيا فلوري متحمسًا وقال:

«اصعد يا سيد فلوري، اصعد في الحال! لقد جئت في الوقت المناسب. كنتُ على وشك أن أفتح زجاجة أولد تومي جين. اصعد حتى نشرب نخبك، بصفتك منقذ كياوكتادا!»

استغرقا في حديث طويل معًا. كان الطبيب يُداخله شعور المنتصر؛ فقد اتضح أن ما قد جرى الليلة السابقة قد حل مشكلاته بشبه معجزة. إذ أُحبطت مؤامرات يو بو كين؛ ولم يعُد الطبيب تحت رحمته، بل صار العكس. أخذ الطبيب يشرح لفلوري قائلًا:

«الأمر وما فيه يا صديقي أن هذا الشغب — أو بالأحرى تصرُّفك النبيل للغاية فيه — كان خارج تخطيط يو بو كين. كان قد أثار التمرُّد المزعوم وفاز بمجد الإطاحة به، وظن أن أي تمرد آخر سيُضيف له المزيد من المجد. لقد بلغني أن فرحته حين سمع بمقتل ماكسويل، كانت حقًّا …» — ضم الطبيب سبَّابته وإبهامه معًا — «ما الكلمة التي في بالي؟»

«فاضحة؟»

«نعم؛ فاضحة. يقال إنه كاد يرقص فعلًا — هل تتخيَّل منظرًا مُقزِّزًا كهذا؟ — وهتف: «أقل ما هنالك أنهم الآن سيأخذون التمرُّد الذي دبرتُه على محمل الجد!» ذلك هو اعتباره لحياة البشر. أما الآن فقد انتهى انتصاره. لقد تعثَّر التمرُّد في منتصف الطريق.»

«كيف؟»

«لأن الفضل في فض الشغب يرجع إليك وليس إليه، ألا ترى ذلك! ومن المعروف أنني صديقك؛ ومن ثمَّ فإنني أستظلُّ بظلِّ مَجدك، إذا جاز التعبير. ألست أنت بطل الساعة؟ ألم يستقبلْك أصدقاؤك الأوروبيون بالترحاب حين عدت إلى النادي ليلة أمس؟»

«الحق أنهم فعلوا، وقد كان الأمر جديدًا تمامًا لي. حتى السيدة لاكرستين ظلت تحتضنني، وصارت تناديني: «عزيزي السيد فلوري.» وقد صبَّت جام غضبها على إليس؛ إذ لم تنسَ أنه نعتها بالشمطاء الكريهة، وطلب منها التوقف عن القبع مثل الخنزير.»

«أحيانًا ما يكون السيد إليس بالغ الحسم في تعبيراته. لقد لاحظت ذلك.»

«العيب الوحيد في الأمر أنني طلبت من الشرطة إطلاق النار فوق رءوس الحشود بدلًا من التصويب عليها مباشرةً. ويبدو أن ذلك مخالفٌ لكل لوائح الحكومة. وقد اغتاظ إليس قليلًا من ذلك، وقال: «لماذا لم تُصِب بعضًا من أولئك الأوغاد حين كان لديك فرصة؟» فأشرت إلى أن هذا كان سيُؤدي إلى إصابة الشرطة الذين كانوا في خضمِّ الجمهرة؛ لكن كما قال، ما هم سوى زنوج على أيِّ حال. بيد أنهم غفروا لي كل خطاياي، وأدلى السيد ماكجريجور بشيء باللاتينية، مقتبسًا من هوراس، على ما أعتقد.»

بعد ذلك بنصف ساعة سار فلوري وحيدًا إلى النادي؛ إذ كان قد وعد بمقابلة السيد ماكجريجور وحسم مسألة انتخاب الطبيب. لكن لن يكون في الأمر صعوبة الآن. فسوف يطاوعه الآخرون حتى يُنسى أمر الشغب الغبي؛ وبإمكانه الذهاب وإلقاء خطبة في مدح لينين، وسوف يتقبَّلونها. انهمرت عليه الأمطار الجميلة، فبللته من رأسه إلى أخمص قدمَيه، وملأت أنفه برائحة الأرض، التي طواها النسيان خلال شهور الجفاف المريرة. قطع فلوري الحديقة المدمرة؛ حيث انحنى البستاني وتناثر على ظهره العاري ماء المطر، وجعل يحفر حفرًا من أجل زهور الزينيا. كانت كل الزهور تقريبًا قد دُهسَت حتى الموت. كانت إليزابيث هناك، في الشرفة الجانبية، كأنها كانت تنتظره. خلع هو قبعته، فانسكبت كمية من الماء من حافتها، وانعطف للانضمام إليها.

حياها رافعًا صوته بسبب المطر الذي كان يُحدث ضجيجًا عند سقوطه على السطح المنخفض، وقال: «صباح الخير!»

«صباح الخير! أليست الأمطار غزيرة؟ إنها تنهمِر بشدة!»

«هذه ليست أمطارًا حقيقية. انتظري حتى يوليو. سيفيض خليج البنغال كله علينا، على دفعات.»

بدا أنهما يجب ألا يلتقيا أبدًا دون أن يكون حوارهما عن الطقس. غير أن وجهها وشى بشيء مختلف اختلافًا جذريًّا عن الكلمات التافهة. بل تغيَّر سلوكها تمامًا منذ ليلة أمس، لذلك داخلته الشجاعة.

«كيف حال الموضع الذي أصابه ذلك الحجر؟»

مدَّت إليه ذراعها وتركته يُمسكها. كان سلوكها رقيقًا، بل ووديعًا. هنا أدرك أن مأثرته ليلة أمس قد جعلتْه شبه بطل في عينيها. لم تكن تعلم كم كان الخطر صغيرًا في الحقيقة، وسامحتْه على كل شيء، حتى ما هلا ماي؛ لأنه أظهر شجاعة في اللحظة المناسبة. إنها حادثة الجاموسة والنمر تتكرر مرة أخرى. كان قلبه يدق في صدره، فانزلق بيده على ذراعها وأدخل أصابعه في أصابعها.

«إليزابيث …»

قالت: «سيرانا أحدهم!» وسحبت يدها، لكن غير غاضِبة.

«لديَّ شيء أودُّ أن أقوله لكِ يا إليزابيث. هل تذكرين الخطاب الذي كتبته لكِ من الغابة، بعد ما جرى بيننا منذ عدة أسابيع؟»

«نعم.»

«هل تذكُرين ما قلته فيه؟»

«نعم. آسفة أنني لم أكتب ردًّا. كل ما هنالك …»

«لم يكن لي أن أتوقع منكِ الرد حينذاك. أردت فقط أن أُذكِّرك بما قلته.» بالطبع كان جل ما قاله في الخطاب، على استحياء شديد، أنه يُحبها، وسوف يظلُّ يحبها أبدًا، مهما حدث. كانا واقفَين يُواجه كل منهما الآخر، مقتربين جدًّا. باندفاع أخذها بين ذراعيه وضمَّها إليه، وقد حدث هذا على نحو مفاجئ جدًّا حتى إنه فيما بعد وجد صعوبة في تصديق أنه حدث على الإطلاق. ظلَّت مُستسلِمة للحظة وتركته يرفع وجهها ويُقبلها؛ ثم تراجعت فجأةً وهزَّت رأسها. ربما لأنها خشيت أن يراهما أحد، أو ربما لأن شاربه كان مبتلًّا جدًّا من المطر فحسب. دون أن تقول أي شيء آخر انفصَلت عنه ودخلت النادي مسرعة. كان على وجهها نظرة كدر أو تأنيب ضمير؛ لكنها لم تبدُ غاضبة.

تبعها إلى النادي ببطء أكثر، فقابل السيد ماكجريجور الذي كان في غاية من انشراح النفس. بمجرد أن رأى فلوري قال بصوت مدوٍّ ومزاج مَرِح: «أها! ها هو البطل المغوار!» ثم هنَّأه مجددًا بأسلوب أكثر جدية. انتهز فلوري الفرصة بأن قال عبارات قليلة في حق الطبيب؛ إذ رسم صورة حية لبسالة الطبيب أثناء الشغب «كان واقفًا في خضم الحشد، يقاوم مثل الأسد.» ولم يكن في ذلك الكثير من المبالغة؛ فقد خاطر الطبيب بحياته حقًّا. وقد انبهر السيد ماكجريجور، وكذلك الآخرون حين سمعوا بالأمر. فدائمًا ما تستطيع شهادة أوروبي واحد أن تُفيد رجلًا شرقيًّا أكثر من شهادة ألف من أهل بلدِه؛ وكان رأي فلوري في هذه الآونة له ثقل. هكذا استعاد الطبيب صيته الحسن فعليًّا، وصار من الممكن الاطمئنان لانتخابه عضوًا في النادي.

بيد أنه لم يتأتَّ الاتفاق نهائيًّا على الأمر بعد؛ لأن فلوري كان بصدد العودة إلى المعسكر. وقد مضى في المساء نفسه، مسافرًا ليلًا، ولم يرَ إليزابيث مرة أخرى قبل مغادرته. كان السفر في الغابة آمنًا تمامًا في ذلك الوقت؛ فقد كان من الجلي أن التمرد العقيم قد انتهى. ونادرًا ما يأتي أيُّ أحد على ذكر التمرد بعد بدء الأمطار؛ إذ يكون البورميون منشغلين للغاية بالحرث، كما يتعذَّر خوض مجموعات كبيرة من الناس في الحقول المغمورة بالمياه على أي حال. كان فلوري سيعود إلى كياوكتادا بعد عشرة أيام، عندما تحين زيارة القسِّ التي كان يقوم بها كل ستة أسابيع. الحقيقة أنه لم يرغب أن يكون في كياوكتادا بينما إليزابيث وفيرال هناك. إلا أنه، على ما في ذلك من غرابة، كان قد زال عنه كل الأسى — كل الحسد الفاحش المتغلغل الذي كان يُعذبه من قبل — بعد أن عرف أنها قد صفحَت عنه. كان فيرال فقط الذي يحُول بينهما الآن. باتت حتى صورتها بين أحضان فيرال بالكاد تؤثر فيه؛ لأنه كان يعلم أن العلاقة لا بد أن تنتهي في أسوأ الأحوال. إذ كان من المؤكد تمامًا أن فيرال لن يتزوج أبدًا من إليزابيث؛ فالشبان من عيِّنة فيرال لا يتزوجون من الفتيات المُعدَمات اللواتي يتعرفون عليهن في قواعد هندية مجهولة. فقد كان يسلِّي وقته مع إليزابيث ليس إلا. عما قليل سيهجرها، وستعود هي إليه — إلى فلوري، حسبه ذلك — ذلك أفضل كثيرًا مما كان يرجوه. ثمة مذلة في الحب الحقيقي، مذلة بغيضة بعض الشيء بشكل ما.

كان يو بو كين مُستشيطًا غضبًا؛ فقد باغته الشغب البائس على حين غفلة، إذا كان ثمة ما يمكن أن يباغته على غفلة مطلقًا، وكان بمثابة العقدة في منشار خططه. وهكذا تحتم الشروع مجددًا في عملية تشويه سمعة الطبيب. وقد بدأ بلا شك بفيض غزير من الخطابات المجهولة، حتى إن هلا بي اضطر إلى التغيُّب عن العمل لأسبوعين كاملين — متعلِّلًا بالالتهاب الشعبي هذه المرة — حتى يكتبها. واتُّهم فيها الطبيب بشتى الجرائم من اللواط إلى سرقة طوابع بريد الحكومة. في ذلك الوقت مثل للمحاكمة السجان الذي سمح بهروب نجا شوي أو. وقد أُفرج عنه بانتصار؛ إذ كان يو بو كين قد أنفق حتى مائتي روبية في رشوة الشهود. انهال على السيد ماكجريجور المزيد من الخطابات، تُبرهن بالتفاصيل أن الدكتور فيراسوامي، المدبر الحقيقي للهروب، حاول تحويل اللوم عنه إلى مرءوس بلا حول ولا قوة. بيد أن النتائج كانت مخيبة للآمال؛ فقد فُتح على البخار الخطاب السري الذي كتبه السيد ماكجريجور إلى المفوِّض، وكانت نبرته مقلقة للغاية — إذ تحدث السيد ماكجريجور عن الطبيب قائلًا إنه «تصرَّفَ بمُنتهى الشرف في ليلة الشغب» — حتى إن يو بو كين استدعى مجلسًا حربيًّا.

قال يو بو كين للآخرين: «حان الوقت لاتخاذ خطوة حاسمة.» كانوا جالسين في اجتماع سري في الشرفة الأمامية، قبل الإفطار. كان بينهم ما كين وبا سين وهلا بي، والأخير هو فتًى مشرق الوجه مبشر بالنجاح في الثامنة عشرة، له سلوك شخص سيفلح يقينًا في الحياة.

واصل يو بو كين كلامه فقال: «لقد وصلنا لطريق مسدود؛ وذلك الطريق هو فلوري. من كان يتوقع أن يقف ذلك الجبان التعيس بجانب صاحبه. لكن هذا ما حدث. وما دام هو يدعم فيراسوامي سنظل مغلوبين على أمرنا.»

قال با سين: «لقد تحدَّثتُ إلى ساقي النادي يا سيدي، وقد أخبرني أن السيد إليس والسيد ويستفيلد ما زالا لا يُريدان انتخاب الطبيب عضوًا في النادي. ألا تعتقد أنهما سوف يتشاجران مع فلوري مرة أخرى بعد أن تُنسى مسألة الشغب؟»

«بالطبع سيتشاجران؛ فإنهما دائمًا ما يتشاجران. لكن في الوقت ذاته لقد وقع الضرر. فلنفترض أن ذلك الرجل انتُخب! سوف أموت من الغيظ حقًّا إذا حصل ذلك. كلا، لم يتبقَّ أمامنا سوى حل واحد. سوف نُهاجم فلوري نفسه.»

«فلوري يا سيدي! لكنه رجل أبيض!»

«وهل آبه لذلك؟ لقد دمَّرت رجالًا بيضًا من قبل. متى ألحقت العار بفلوري، ستكون نهاية الطبيب. وسوف يلحقه العار! سوف أفضحه حتى إنه لن يجرؤ على دخول ذلك النادي ثانيةً أبدًا.»

«لكنه رجل أبيض يا سيدي! ما الذي يُمكننا اتهامه به؟ من قد يُصدِّق أي شيء ضد رجل أبيض؟»

«ليس لديك حس التخطيط يا كو با سين. إنك لا تكيل التهم لرجل أبيض؛ وإنما عليك أن تضبطه متلبسًا بالجرم. نفضحه في العلن وهو في حالة تلبس. سأرى كيف سأبدأ الأمر. والآن اصمت بينما أتدبر السبيل لذلك.»

ساد الصمت، ووقف يو بو كين يحدق في المطر عاقدًا يدَيه الصغيرتين وراءه فوق الارتفاع الطبيعي لردفَيه. وظلَّ الثلاثة الآخرون يرمقونه من الطرف الآخر للشرفة، خائفين بعض الشيء مما قاله عن الهجوم على رجل أبيض، ومُنتظِرين ضربة معلم لمواجهة الموقف الذي فاق قدراتهم. كان في المشهد شبهٌ صغير من اللوحة الشهيرة (هل كانت للرسام ميسونيه) لنابليون في موسكو، التي يظهر فيها منكبًّا على خرائطه بينما مارشالاته منتظرون في صمت، بقبَّعاتهم المردودة في أياديهم. لكن بالطبع كان يو بو كين أكثر كفاءةً للموقف من نابليون. فخلال دقيقتين كانت خطته جاهزة. حين استدار كان وجهه المكتنز تغمره فرحة مفرطة. أخطأ الطبيب حين وصف يو بو كين فقال إنه كان يُحاول الرقص؛ فجسم يو بو كين لم يكن ملائمًا للرقص؛ لكنه لو كان ملائمًا لذلك، لكان رقص في هذه اللحظة. وقد أشار إلى با سين وجعل يهمس في أذنه لبضع ثوانٍ.

ختم همسه قائلًا: «أعتقد أن تلك هي الخطوة المناسبة، أليس كذلك؟»

بطيئةً زحفَت على وجه با سين ابتسامة عريضة مُتردِّدة مرتابة.

أردف يو بو كين متهللًا: «خمسون روبية ستغطي كل التكاليف غالبًا.»

كُشف عن الخطة بالتفصيل. وحين استوعبها الآخرون انطلقت منهم ضحكات مدوية لم يملكوا لها كبتًا، كلهم، حتى با سين الذي نادرًا ما يضحك، وحتى ما كين التي استنكرت الأمر من أعماق قلبها. كانت الخطة شديدة الإحكام حقًّا لدرجة يصعب مقاومتها. فقد كانت عبقرية.

استمر هطول الأمطار طوال ذلك الوقت. في اليوم التالي لعودة فلوري إلى المعسكر ظلت تُمطر طوال ثمانٍ وثلاثين ساعة متواصلة، أحيانًا بطيئة الوتيرة مثل الأمطار الإنجليزية، وأحيانًا تنهمر في شلالات حتى يُخيل للمرء أن محيطًا كاملًا قد ارتفع في السحب حتمًا. كان دق المطر على الأسطح يصير مثيرًا للسخط بعد ساعات قليلة. في الفترات بين سقوط الأمطار كانت الشمس تتوهج بشدة كالعادة، ويبدأ الوحل يتشقق ويلتهب، وتنتشر بقع الطفح الجلدي في أنحاء الجسم. وقد خرجت أسراب من الخنافس الطائرة من شرانقها بمجرد بدء الأمطار؛ وتفشت كائنات كريهة معروفة باسم البق المنتن، كانت تغزو المنازل بأعداد مهولة، وتنتشر على موائد الطعام فتجعل الطعام غير قابل للأكل. ظل فيرال وإليزابيث يخرُجان لركوب الخيل في المساء، حين لا تكون الأمطار شديدة جدًّا. كانت كل حالات الطقس سواءً لدى فيرال، لكنه لم يكن يروقه أن يرى أمهاره مغطاة بالوحل. مضى نحو أسبوع، ولم يتغيَّر شيء بينهما؛ فلم يزدادا قربًا أو تباعدًا عما كانا عليه من قبل. وظل عرض الزواج دون أن يُنطق، مع أنه ما زال مُرتقبًا بثقة. ثم وقع أمرٌ أثار الجزع. فقد تسرَّب خبر إلى النادي، عن طريق السيد ماكجريجور، يفيد بأن فيرال سوف يغادر كياوكتادا؛ كانت الشرطة العسكرية ستبقى في كياوكتادا، لكن مع مجيء ضابط آخر مكان فيرال، دون أن يعلم أحد يقينًا متى. صارت إليزابيث في حالة فظيعة من الترقب. لا شك أنه سيقول شيئًا قاطعًا قريبًا ما دام سيرحل؟ لم تكن تستطيع أن تسأله، لم تكن تجرُؤ حتى أن تسأله ما إذا كان سيرحل حقًّا؛ لم يكن بوسعها سوى أن تنتظر أن يتكلم. لكنه لم يقل شيئًا. ثم ذات مساء، من دون إنذار، تخلَّف عن المجيء إلى النادي. ومر يومان كاملان دون أن تراه إليزابيث على الإطلاق.

كان ذلك مروعًا، لكن لم يكن باليد حيلة. ظلَّ فيرال وإليزابيث لأسابيع لا يفترقان، لكنهما كانا نوعًا ما أشبه بالغرباء؛ إذ كان قد نأى بنفسه جدًّا عنهم جميعًا، فهو لم يرَ حتى منزل آل لاكرستين من الداخل قط. ولم تكن معرفتهم به وثيقة لدرجة أن يبحثوا عنه في بيت المسافرين، أو يكتبوا له خطابًا؛ كما أنه لم يُعاود الظهور في الاستعراض الصباحي في الميدان. لم يكن في الإمكان سوى الانتظار حتى يقرر أن يظهر مرة أخرى. وحين يفعل، هل سيطلب منها الزواج؟ قطعًا، سيفعل ذلك بالتأكيد! كان لدى إليزابيث وزوجة عمها اعتقاد راسخ أنه سوف يطلب منها الزواج (لكن لم تُصرِّح أي منهما بالأمر في كلامها). تطلعت إلى لقائهما التالي بأمل كاد أن يكون مؤلمًا. كانت تتضرَّع إلى الله أن يمنحها أسبوعًا على الأقل قبل رحيله! إذا خرجت معه لركوب الخيل أربع مرات أخرى، أو ثلاث مرات، أو حتى مرتين فقط، فقد يئول كل شيء خير مآل. فكانت تدعو الله أن يعود إليها قريبًا! لم تتخيَّل أنه حين يعود سيكون من أجل الوداع فقط! كانت المرأتان تذهبان إلى النادي كل مساء وتمكثان لساعة متأخرة جدًّا، تتسمَّعان وقع خطوات فيرال بالخارج وهما تتظاهران بأنهما لا تفعلان ذلك؛ لكنه لم يظهر قط. أما إليس، الذي كان مدركًا تمامًا للموقف، فظلَّ يراقب إليزابيث باستمتاع حاقد. ما زاد الطين بلة أن السيد لاكرستين صار لا يتورع عن مضايقة إليزابيث. لقد أصبح متهورًا تمامًا، فكان يتربص بها، ويقبض عليها، ويشرع في قرصها وملامستها بأسلوب يُثير بالغ الاشمئزاز، يكاد لا يأبه لوجود الخدم. وكان دفاعها الوحيد أن تُهدِّده بأنها ستخبر زوجته؛ ولحسن الحظ أنه كان شديد الغباء ليدرك أنها لن تجرؤ على ذلك أبدًا.

في الصباح الثالث وصلت إليزابيث وزوجة عمِّها إلى النادي في الوقت المناسب هروبًا من عاصفة ممطرة عاتية. كانتا قد جلستا في قاعة الجلوس بضع دقائق حين سمعتا صوت شخص يدبدب بحذائه لإخراج الماء منه في الممر. اضطرب قلبُ كلٍّ من المرأتين، فهذا قد يكون فيرال. ثم دخل شاب قاعة الجلوس، وهو يفكُّ أزرار معطف مطر طويل. كان شابًّا جسيمًا مرحًا بليد الذهن في الخامسة والعشرين تقريبًا، بوجنتين ممتلئتين نضرتين، وشعر بلون الزبد، وبلا جبهة، وضحكة تصم الآذان كما تكشَّف فيما بعد.

صدر عن السيدة لاكرستين صوت غير واضح، وقد بدَر منها لخيبة أملها. إلا أن الشاب حياهما بألفة وليدة اللحظة، لكونه واحدًا من أولئك الذين يُخاطبون أي شخص بألفة مبتذلة بمجرد أن يلتقوا به.

قال الشاب: «مرحبًا، مرحبًا! ها قد دخل أمير الأحلام! أرجو ألا أكون قد تطفلت أو شيء من هذا القبيل؟ هل اقتحمت اجتماعًا عائليًّا أو ما شابه؟»

قالت السيدة لاكرستين مدهوشة: «لا، على الإطلاق!»

«أقصد أنني … خطر لي أن أزور النادي زيارة خاطفة وأُلقي نظرة، هذا جُلُّ ما في الأمر. من أجل التعود على صنف الويسكي المحلي فحسب. لقد وصلت ليلة أمس فقط.»

قالت السيدة لاكرستين في حيرة؛ إذ لم يكونوا يتوقعون أي وافدين جدد: «هل ستقيم هنا؟»

«نعم، بالضبط. لحُسنِ حظي بالتأكيد.»

«لكننا لم نَسمع … آه، صحيح! أعتقد أنك من قسم الغابات؟ محل السيد ماكسويل المسكين؟»

«ماذا؟ قسم الغابات؟ كلا ألبتة! إنني رجل الشرطة العسكرية الجديد.»

«ماذا؟»

«رجل الشرطة العسكرية الجديد. سأحل مكان العزيز فيرال. فقد تلقَّى الرجل أوامر بالعودة إلى كتيبته. إنه مُغادر في عجلة شديدة. وقد ترك كل شيء في فوضى عارمة للعبد لله.»

مع أن ضابط الشرطة العسكرية كان شابًّا متبلد الإحساس فقد لاحظ أن وجه إليزابيث صار باهتًا فجأةً. وقد وجدت نفسها غير قادرة على الكلام بتاتًا. ومضت بضع ثوان قبل أن تستطيع السيدة لاكرستين أن تهتف قائلة:

«السيد فيرال، يرحل؟ إنه لم يرحل بعدُ قطعًا؟»

«يرحل؟ لقد رحل!»

«رحل؟»

«حسنًا، كنت أقصد أن القطار سيتحرك بعد نحو نصف ساعة. لا بد أن يكون قد وصل إلى المحطة الآن. لقد أرسلت فرقة عساكر لترعى احتياجاته. فلا بد أن يسافر بأمهاره وما إلى ذلك.»

ربما كان هناك المزيد من الشروح، لكن لم تسمع إليزابيث ولا زوجة عمها كلمة منها. على أي حال، خلال خمس عشرة ثانية كانتا الاثنتان بالخارج على السلم الخارجي، دون كلمة وداع حتى لضابط الشرطة العسكرية. نادت السيدة لاكرستين على الساقي بحدة. «أيها الساقي! أرسل عربة الريكشا للواجهة في الحال!» وأردفت حين ظهر سائق الريكشا: «إلى المحطة بسرعة!» وبعد أن استقرت جالسة في العربة، وخَزتْه في ظهره بطرف مظلتها ليبدأ التحرك.

كانت إليزابيث قد ارتدَت معطفها الواقي من المطر وكانت السيدة لاكرستين ترتعد في العربة خلف مظلتها، لكن لم يكن لأيٍّ منهما فائدة كبيرة في مواجهة الأمطار. فقد راحت تهطل عليهم هطولًا، حتى إن فستان إليزابيث ابتلَّ قبل أن يبلغوا البوابة، وكادت العربة تنقلب في الريح. أحنى سائق العربة رأسه وراح يقاومها، متذمرًا. كانت إليزابيث في حال من العذاب. لقد كان خطأً، كان خطأً يقينًا. لقد كتب لها رسالة لكنها ضلت الطريق. كان هذا ما في الأمر، ولا بد أن يكون كذلك! لا يمكن أن يكون قد قصد أن يتركها دون حتى أن يقول لها وداعًا! وحتى إن كان كذلك، لا، إنها لن تيأس حتى في هذه الحالة! حين يراها على رصيف المحطة، للمرة الأخيرة، لن تصل به القسوة أن ينبذها! مع اقترابهم من المحطة تخلَّفت عن العربة وقرصت وجنتيها لتتضرجا حمرةً. مرت بهم فرقة من جنود الشرطة العسكرية بخطوات مُتعجِّلة، وقد ابتلت بذلاتهم الرسمية الخفيفة حتى صارت أسمالًا، يدفعون عربة يد بينهم. لا بد أنهم فرقة العساكر التي كانت مع فيرال. حمدًا لله، كان ما زال هناك ربع ساعة. لم يكن القطار سيُغادر قبل ربع ساعة أخرى. حمدًا لله، على هذه الفرصة الأخيرة لرؤيته على الأقل!

وصلوا الرصيف في الوقت المناسب بالضبط لرؤية القطار وهو يخرج من المحطة وتزداد سرعته بسلسلة من الصيحات تصم الآذان. ناظر المحطة، وهو رجل قصير ممتلئ أسود، كان واقفًا على الخط يتطلَّع إلى القطار بأسف، وقد أمسك قبعة صغيرة مقاومة للماء على رأسه بيد، وباليد الأخرى راح يدرأ رجلَين هنديَّين صاخبين، كانا يتوثبان حوله ويحاولان لفت انتباهه إلى شيء ما. مالت السيدة لاكرستين بجسمها خارج العربة وهتفَت بصوت مرتعش في المطر:

«يا ناظر المحطة!»

«سيدتي!»

«أي قطار هذا؟»

«إنه قطار ماندالاي يا سيدتي.»

«قطار ماندالاي! لا يمكن!»

«أؤكد لكِ ذلك يا سيدتي! إنه قطار ماندالاي لا شك.» تقدم نحوهما، وهو يخلع قبعته.

«لكن السيد فيرال، ضابط الشرطة. إنه ليس على متنه بالتأكيد؟»

«بلى يا سيدتي، لقد رحل.» وأشار بيده ناحية القطار، الذي كان قد راح يبتعد سريعًا في سحابة من الأمطار والبخار.

«لكن ميعاد تحرُّك القطار لم يكن قد حان!»

«لا يا سيدتي. كان أمامه عشر دقائق أخرى.»

«لماذا تحرك إذن؟»

لوح ناظر المحطة بقبعته معتذرًا يمينًا وشمالًا. وقد بدا على وجهه الأسمر المكتنز أسًى بالغ.

«أعلم يا سيدتي، أعلم! إنها أول مرة على الإطلاق! فقد أمرني ضابط الشرطة العسكرية الشاب وشدَّد على أمره أن أبدأ الرحلة! لقد قال إن كل شيء جاهز وإنه لا يريد أن يظل منتظرًا. أشرت إلى أنه شيء مخالف للقواعد. فقال إنه لا يأبه لمخالفة القواعد. اعترضت أنا فأصر. بإيجاز …»

وقام بحركة أخرى قصد بها أن فيرال كان من نوعية الرجال الذين يفرضون إرادتهم، حتى إذا كان في ذلك سفر قطار قبل موعده بعشر دقائق. ساد صمت. وفجأة هرع إليهم الهنديان، مُعتقدَين أنهما وجدا فرصتهما، وأخذا ينوحان، وعرضا على السيدة لاكرستين بعض الدفاتر الحقيرة لتطالعها.

صاحت السيدة لاكرستين بذهن شارد: «ماذا يريد هذان الرجلان؟»

«إنهما بائعا كلأ يا سيدتي. يقولان إن الملازم فيرال قد رحل مَدينًا لهما بمبالغ كبيرة من المال. أحدهما مقابل التبن، والآخر مقابل الذرة. إنه أمر لا يعنيني.»

تصاعدَت ضوضاء عن القطار البعيد، الذي دار عند المنعطف، مثل دودة سوداء من الخلف تنظر من فوق كتفها أثناء سيرها، واختفى. رفرف السروال الأبيض المبتل لناظر المحطة بشكل بائس حول ساقيه. ما إذا كان فيرال قد جعل القطار يتحرك مبكرًا للهروب من إليزابيث، أو للهروب من بائعي الكلأ، كان سؤالًا شائقًا لم تتَّضح إجابته قط.

ذهبوا في طريق العودة، ثم صعدوا بمشقَّةٍ التل في تلك الرياح الشديدة حتى إنهم كانوا أحيانًا يرجعون إلى الوراء عدة خطوات. حين وصلتا إلى الشرفة كانتا تلهثان بشدة. أخذ الخدم معطفَيهما اللذَين تدفَّق منهما الماء، ونفضت إليزابيث بعض الماء عن شعرها. كسرت السيدة لاكرستين صمتها لأول مرة منذ غادرتا المحطة وقالت:

«حسنًا! من بين كل التصرفات الفظة، فهذا هو الأكثر فظاظة، الأشد قبحًا …!»

بدت إليزابيث شاحبة وباهتة، رغم المطر والريح التي ضربت وجهها. لكنها لم تَشِ بشيء.

وإنما قالت بفتور: «أعتقد أنه كان يجدر به أن يُودعنا.»

«صدقيني يا عزيزتي، إنه في صالحكِ أنكِ تخلَّصتِ منه …! كما قلت في البداية، إنه شابٌّ بغيض للغاية!»

بعد ذلك بوقت قصير، بينما كانتا جالستين لتناول الإفطار، بعد أن تحمَّمتا وارتدتا ملابس جافة، وصارتا في حال أفضل، قالت:

«أخبريني، أي الأيام اليوم؟»

«السبت يا عمتي.»

«السبت. إذن هذا المساء سوف يصل القس العزيز. كم سيكون عدد الموجودين في القداس غدًا؟ حسنًا، أعتقد أننا جميعًا سنكون هنا! كم هذا لطيف! سيكون السيد فلوري موجودًا هو الآخر. أعتقد أنه قال إنه سوف يعود من الغابة غدًا.» ثم أضافت بصوت يكاد ينم عن المحبة: «عزيزي السيد فلوري!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤