الفصل الرابع

اضطجع فلوري نائمًا، عاريًا إلا من سروال أسود فضفاض، على فراشه الذي بلَّله العرق. كان قد قضى النهار كله مُتعطِّلًا. إذ كان يقضي نحو ثلاثة أسابيع من كل شهر في المعسكر، ويأتي لكياوكتادا بضعةَ أيام مُتواصِلة، من أجل التعطُّل في المقام الأول، فقد كان لديه القليل جدًّا من الأعمال المكتبية ليقوم بها.

كان مخدع النوم حجرة كبيرة مربَّعة ذات جدران من الجص الأبيض، ومداخل مفتوحة، ومن دون سقف، وإنما عوارض عشَّشت فيها طيور السنونو. ولم يكن بها من أثاث سوى فراش بأربعة أعمدة، بناموسية مطوية مثل فسطاط، ومنضدة من الخوص ومقعد ومرآة صغيرة؛ وكذلك بعض من رفوف الكتب البدائية الصنع، ضمَّت مئات عديدة من الكتب، أصابتها فصول ممطرة عدة بالعفن وغربلتها حشرات السمك الفضِّي. وتشبَّث بالجدار برص، مُستويًا بلا حراك كأنه شعار تنين. وراء حواف الشرفة انهمر الضوء كأنه زيت أبيض رقراق. وفي إحدى أدغال الخيزران ظلَّت بعض الحمامات تطنُّ طنينًا رتيبًا، تماشى على نحو غريب مع الحر صوتٌ يبعث على النوم، لكنه النوم تحت تأثير الكلوروفورم لا بفعل تهويدة.

وعلى بعد مائتي ياردة، في كوخ السيد ماكجريجور، طرق أحد البوابين أربع طرقات على جزء من قضيب حديدي، كأنه ساعة حية. أيقَظَ هذا الصوت، كو سلا، خادم فلوري، فذهب إلى المطبخ الخارجي ونفخ في جذوات الحطب، وغلى البراد من أجل الشاي. ثم وضع عصابة رأسه الوردية وقميصه الموسلين وأحضر صينية الشاي إلى جانب فراش سيده.

كو سلا (اسمه الحقيقي مونج سان هلا؛ كو سلا كان اختصارًا) كان بورميًّا، مربَّع المنكبَين، ريفي المظهر، ذا بشرة داكنة جدًّا وتعبير مُنزعِج. وكان لديه شارب أسود مُلتفٌّ لأسفل حول فمه، لكنه كان بلا لحية مطلقًا مثل أغلب البورميِّين. وقد ظل خادم فلوري منذ يومه الأول في بورما. وكان أحدهما يكبر الآخر بشهر واحد. وقد عاش الاثنان صباهما معًا، وهاما جنبًا إلى جنب بحثًا عن طيور الشنقب والبط، وجلسا معًا في درايا في انتظار نمور لم تأتِ قط، وتقاسَما متاعب ألف مُعسكَر ومسيرة؛ وكان كو سلا يجلب لفلوري البغايا ويقترض له المال من المُرابين الصينيِّين، ويحملُه إلى الفراش وهو ثمل، ويعتني به في نوبات الحُمى. كان كو سلا يرى فلوري ما زال صبيًّا لكونه أعزب؛ أما كو سلا فقد تزوَّج، وأنجب خمسة أطفال، وتزوَّج مرةً أخرى وصار أحد الشهداء المغمورين لتعدُّد الزوجات. وشأن كل خدم العُزَّاب، كان كو سلا كسولًا وقذرًا، لكنه كان مخلصًا لفلوري. فلم يكن ليسمح لأي أحد غيره بخدمة فلوري على المائدة، أو حمل سلاحه، أو إمساك رأس مُهره أثناء امتطائه له. وحين يعترضهما جدول أثناء سيرهما، كان يعبُرُه حاملًا فلوري فوق ظهره. وكان كو سلا ينزع للإشفاق على فلوري؛ لأنه كان يراه طفلًا ويسهل خداعه من ناحية، وبسبب وَحمتِه التي كان يراها شيئًا مريعًا من ناحية أخرى.

وضع كو سلا صينية الشاي على المنضدة بهدوء شديد، ثم دار إلى طرف الفراش ودغدغ أصابع فلوري؛ إذ كان يعلم عن تجربة أنها الطريقة الوحيدة لإيقاظ فلوري دون وضعه في مزاج سيئ. تقلَّب فلوري وسبَّ ثم دسَّ جبهته في الوسادة.

قال كو سلا: «لقد دقت الساعة الرابعة يا سيدي الكريم، وقد أتيتك بفنجانَي شاي لأن المرأة قالت إنها آتية.»

كانت السيدة هي ما هلا ماي، عشيقة فلوري، وكان كو سلا يدعوها المرأة ليُبدي استنكاره. لم يكن يستنكر على فلوري أن لديه عشيقة، وإنما كان غيورًا من نفوذ ما هلا ماي في المنزل.

تساءل كو سلا: «هل سيلعب سيدي الكريم التنس هذا المساء؟»

قال فلوري بالإنجليزية: «لا؛ فالجو حار جدًّا. ولا أريد أن آكل أيَّ شيء. خذ هذا الوسخ بعيدًا وهات بعض الويسكي.»

كان كو سلا يفهم الإنجليزية جيدًا جدًّا، وإن كان لا يستطيع التحدُّث بها. أحضر كو سلا زجاجة ويسكي، وكذلك مضرب تنس فلوري، الذي أسنده إلى الجدار المقابل للفراش بطريقة ذات مغزى. فقد كان التنس حسب اعتقاده طقسًا غامضًا فرضًا على الرجال الإنجليز جمعاء، كما أنه لم يكن يحبُّ أن يرى سيده مُتعطلًا في المساء. دفع فلوري بعيدًا بازدراءٍ الخبز والزبد اللذَين أحضرهما كو سلا، لكنه خلط بعض الويسكي في فنجان الشاي وشعر بتحسن بعد احتسائه. وكان قد خلد إلى النوم منذ الظهر، ويشعر بالألم في رأسه وكل عظامه، وبمذاق مثل الورق المحترق في فمه. لم يستمتِع فلوري بوجبة واحدة منذ سنوات؛ فكل الطعام الأوروبي في بورما مُقزِّز نوعًا ما؛ الخبز عبارة عن شيء إسفنجي يختمر بخمر النخيل ومذاقه مثل خبز رخيص رديء، والزبد يأتي من صفيحة، وكذلك اللَّبن، إلا إذا كان السائل الرمادي الشبيه بالماء الذي لدى اللبان. بينما كان كو سلا يُغادِر الحُجرة، سُمع من الخارج صوت احتكاك خفَّين، وصوت فتاة بورمية عالي النبرة يقول: «هل سيدي مُستيقِظ؟»

قال فلوري بمزاج متعكِّر بعض الشيء: «ادخلي.»

دخلت ما هلا ماي وهي تخلع خفَّيها المدهونَين بورنيش أحمر في المدخل. كان مسموحًا لها أن تأتي للشاي، كامتياز خاص، لكن ليس لوجبات أخرى، ولا أن ترتدي خفَّيها في حضرة سيدها.

كانت ما هلا ماي امرأة عمرها اثنان أو ثلاثة وعشرون، وطولها ربما خمس أقدام. كانت ترتدي إزارًا من ساتان صيني أزرق فاتح مطرَّز وبلوزة من الموسلين الأبيض المنشى تدلَّت عليها عدة دلايات ذهبية. أما شعرُها فقد لُف في كعكة سوداء محكمة مثل الأبنوس، وزُين بزهور الياسمين. كان جسمها الصغير المستقيم النحيل بلا تضاريس مثل نقش بارز على شجرة. كانت مثل الدمية، بوجهها البيضاوي الجامد بلون النحاس الجديد، وعينيها الضيقتين؛ دمية غريبة لكنها جميلة جمالًا مُتنافرًا. دخلت ودخل معها الحجرة رائحة خشب الصندل وزيت جوز الهند. ثم مضت ما هلا ماي إلى الفراش، وجلست على حافته، ووضعت ذراعيها حول فلوري على نحو مُفاجئ بعض الشيء.

وقالت: «لماذا لم يُرسل سيدي في طلبي هذا العصر؟»

«كنت نائمًا. والجو حار جدًّا لمثل ذلك الأمر.»

«هل تُفضِّل إذن النوم بمفردك على النوم مع ما هلا ماي؟ كم تراني قبيحة إذن! هل أنا قبيحة يا سيدي؟»

فقال وهو يدفعها: «ارحلي. لا أريدك في هذا الوقت من اليوم.»

«إذن فلتلمسْني بشفتيك على الأقل (لا يوجد في اللغة البورمية كلمة مقابلة للقُبلة) كل الرجال البيض يفعلون ذلك بنسائهم.»

«ها هي إذن. الآن فلتترُكيني لحالي. هاتي بعض السجائر وأعطِيني واحدة.»

«لماذا لا تُريد مطارحتي الغرام هذه الأيام قط؟ كم كان الأمر مختلفًا منذ سنتين! كنت تُحبُّني في تلك الأيام. كنت تُهاديني بالأساور الذهبية والأزر الحرير من ماندالاي. لكن الآن انظر — مدَّت ما هلا ماي ذراعها الصغيرة المغطَّاة بالموسلين — لا توجد أسورة واحدة. كان لديَّ ثلاثون الشهر الماضي، والآن كلها مرهونة. كيف يُمكنني الذهاب إلى البازار من دون أساوري، مُرتدية نفس الإزار مرةً تلو الأخرى؟ أشعر بالخزي أمام النساء الأخريات.»

«هل هو خطئي أنكِ ترهنين أساوركِ؟»

«كنت ستستردها لي منذ عامَين. آه، إنك لم تعُد تُحب ما هلا ماي!»

أحاطته بذراعَيها ثانيةً وقبَّلته، وهي العادة الأوروبية التي علَّمها إياها. تصاعد منها خليط من روائح خشب الصندل والثوم وزيت جوز الهند والياسمين الذي في شعرها. كانت تلك الرائحة تجعل أسنانه ترتجف. شاردًا بعض الشيء، دفع رأسها إلى الوسادة ونظر إلى وجهها الغض الغريب بوجنتيه المرتفعتين، وجفنيه المشدودين وشفتيه القصيرتين المتناسقتين. كانت أسنانها جميلة نوعًا ما، مثل أسنان هرة صغيرة. كان قد اشتراها من أبوَيها منذ عامين، مقابل ثلاثمائة روبية. بدأ يداعب عنقها البُنِّي، البازغ مثل غصن ناعم رفيع من بلوزتها التي بلا ياقة.

قال لها: «إنني أرُوقكِ فقط لأنني رجل أبيض ولديَّ مال.»

«إنني أُحبكَ يا سيدي. أحبك أكثر من أي شيء في العالم. لماذا تقول ذلك؟ ألم أكن دومًا مخلصة لك؟»

«بل لديكِ حبيب بورمي.»

«أف!» اصطنعَت ما هلا ماي القشعريرة من الفكرة، «لا أتخيل أن تلمسني أياديهم البنية الكريهة! سأموت لو لمسني أحد البورميين!»

«كاذبة.»

وضع يدَه على ثديها. في خبيئة نفسها، لم تكن ما هلا ماي يروقُها هذا، إذ كان يُذكِّرها بوجود ثدييها — كان يُفترَض أن تكون المرأة البورمية المثالية بلا ثديين — استلقَت ما هلا ماي وتركته يفعل بها ما يحلو له، بخضوع تامٍّ لكن بسعادة وابتسامة باهتة، مثل قطة تتيح لشخص أن يُمسِّد على جسمها. لم تكن أحضان فلوري تعني لها شيئًا (كان با بي، الأخ الأصغر لكو سلا، عشيقها سرًّا)، إلا أنها كانت تتألم بشدة حين يتجاهَلُها. في بعض الأحيان كانت تُضطرُّ لوضع أشربة الحب في طعامه. كانت تهوى تلك الحياة الفارغة للمَحظية، وزياراتها لقريتها مرتدية كل زينتها، حيث كانت تستطيع التباهي بوضعها كزوجة رجل أبيض؛ فقد كانت أقنعت الجميع، بما فيهم نفسها، بأنها زوجة فلوري الشرعية.

حين فرَغَ فلوري منها أدبر عنها، مُنهَكًا وخَجِلًا، واستلقى صامتًا تُغطي يده اليُسرى وحمته. كان دائمًا ما يتذكر وحمته حين يُقدم على شيء يخجل منه. دس وجهه باشمئزاز في الوسادة، التي كانت رطبة وتفوح منها رائحة زيت جوز الهند. كان الحر رهيبًا، والحمام بالخارج لا يزال على هديله الرتيب. اضطجعت ما هلا ماي عارية بجانب فلوري، وجعلت تهوي عليه برقَّةٍ بمروحة من الخوص أخذتها من على المنضدة.

ما لبثت أن نهضت وارتدت ملابسها، وأشعلت سيجارة. ثم عادت للفراش وجلست وراحت تُمسِّد كتف فلوري العاري. كان بياض بشرته يبهرها، بسبب غرابته والإحساس بالنفوذ الذي يمنحها إياه. هزَّ فلوري كتفه ليُبعِد يدها؛ إذ كانت في هذه الأوقات تصير مُثيرة للغثيان وكريهة له، فلم يرغب إلا في إبعادها عن ناظريه.

قال لها: «ارحلي.»

أخذت ما هلا ماي السيجارة من فمها وحاولت أن تُناوله إياها، وقالت: «لماذا دائمًا يشتد الغضب بسيدي منِّي بعد أن يُطارحَني الغرام؟»

أعاد قوله: «ارحلي.»

واصلت ما هلا ماي تمسيد كتف فلوري. لم تتعلَّم أبدًا الحكمة في تركه وحيدًا في هذه الأوقات. كانت تعتقد أن الخلاعة نوعٌ من الشعوذة التي تمنح المرأة قُوًى سحرية للسيطرة على الرجل، حتى تستطيع في نهاية الأمر أن توهنه فيصير عبدًا شبه أبله. كل حضن بعد الآخر كان يستنزف إرادة فلوري ويجعل السحر أقوى؛ كان هذا اعتقادها. جعلت تُزعجه ليُعاوِدا الأمر. وضعت سيجارتها وأحاطته بذراعيها، محاولة تحويله ناحيتها وتقبيل وجهه الذي أشاح به عنها، وهي تُوبِّخه على بروده.

قال بسخط: «ارحلي، ارحلي! ابحثي في جيب سروالي القصير. يوجد به نقود. خذي خمس روبيات واذهبي.»

وجدت ما هلا ماي ورقة بخمس روبيات ودستها في صدر بلوزتها، لكنها ظلت دون أن تُغادر. حامت حول الفراش، مسببة الإزعاج لفلوري حتى استبد به الغضب في النهاية ووثب واقفًا.

«اخرجي من هذه الحجرة! قلت لكِ أن تذهبي. لا أريدك هنا بعد أن أنتهي منكِ.»

«يا له من أسلوب لطيف لمُخاطبَتي! إنك تعاملني كما لو كنتُ بغيًّا.»

قال لها وهو يدفع بها من كتفَيها إلى خارج الحجرة: «إنكِ كذلك. لتخرُجي من هنا.» ثم ركل خفَّيها وراءها، وهذه هي الطريقة التي كثيرًا ما كانت تنتهي بها لقاءاتهما.

وقف فلوري في وسط الحجرة وهو يتثاءب. فهل يذهب إلى النادي للعب التنس على أي حال؟ لا، فهذا معناه أن يحلِق، وهو لا يقوى على جهد الحلاقة قبل تجرُّع بضع كئوس من الشراب. تحسَّس ذقنه الخشن وسار متراخيًا إلى المرآة ليتفحَّصه، لكنه تحوَّل عنها بعد ذلك؛ إذ لم يرد أن يطالع الوجه النحيل الأصفر الذي كان سيُبادله النظر. وقف بضع دقائق بأطرافٍ مُرتخية، يُشاهد البرص وهو يتتبَّع عثَّةً فوق أرفُف الكتب. احترقت السيجارة التي رمتها ما هلا ماي برائحة لاذعة، وتحوَّل الورق إلى اللون البُني. تناول فلوري كتابًا من على الرفوف، وفتحه ثم ألقاه في نفور. ليس لدَيه الطاقة حتى للقراءة. يا إلهي، يا إلهي، ماذا يفعل فيما تبقَّى من هذا المساء اللعين؟

دخلت فلو الحُجرة تتهادى وتهزُّ ذيلها طالبة الخروج في نزهة. دخل فلوري الحمام الصغير ذا الأرضية الحجرية المفضي إلى مخدع النوم، ونضح نفسه ببعض الماء الفاتر وارتدى قميصه وسرواله القصير. لا بد أن يمارس بعض النشاط قبل أن تغرب الشمس. في الهند يعدُّ شرًّا نوعًا ما أن تُمضي يومًا من دون أن تتصبب عرقًا ولو مرة واحدة، فإنه شيء يعطي المرء شعورًا بالخطيئة أقوى من ألف فاحشة. وفي المساء المُعتِم، بعد يوم من الخمول التام، يبلغ الملل بالإنسان ذروة من الجزع والرغبة في الانتحار. ملل يصير أمامه العمل والصلاة والكتب والشراب والحديث بلا جدوى؛ ولا يُمكن التخلُّص منه إلا عرقًا من مسامِّ الجلد.

خرج فلوري واتخذ الطريق الصاعد إلى الغابة. كانت في بدايتها غابة من الأشجار الخفيضة، ذات شُجَيرات متقزِّمة كثيفة، والأشجار الوحيدة كانت أشجار مانجو شبه برية، تحمل ثمارًا صغيرة بمذاق التربنتين وفي حجم البرقوق. ثم يتوغَّل الطريق بين أشجار أطول. كانت الغابة جافَّة وبلا حياة في هذا الوقت من العام. تراصفَت الأشجار على الطريق في صفوف مُتلاصِقة مغبرَّة، بأوراق لونها أخضر زيتوني باهت. وخلا المنظر من الطيور سوى بعض مخلوقات بُنية سقيمة مثل طيور سُمنة رثَّة الهيئة، راحت تتقافز طائشة تحت الشجيرات؛ ومن بعيد ندَّت عن طير آخر صيحة «آه ها ها! آه ها ها!» صوت خائر وحيد مثل رجع ضحكة. وانبعثت رائحة سامة شبيهة باللبلاب من أوراق شجر متهشِّمة. كان الجو ما زال حارًّا، مع أن الشمس كانت تفقد وهجها وأصبحت أشعَّتها المائلة صفراء اللون.

وبعد ميلَين انتهى الطريق عند معبر جدولٍ ضحل؛ حيث تزداد الغابة خضرة بسبب الماء، وتزداد الأشجار طولًا. كان عند حافة الجدول شجرة بينكادو ضخمة ميتة زينتها زهور الأوركيد العنكبوتي، وكان كذلك بعض شجيرات ليمون برية بزهور شاحبة بيضاء، ذات عبق حاد مثل البرجموت. كان فلوري يسير سريعًا وقد تخضَّل قميصُه بالعرق وراح يتساقط منه، ويلسع عينيه. كان قد تصبب من العرق ما جعله في حالة مزاجية أفضل. كذلك كان مرأى الجدول دائمًا ما يُبهجه؛ إذ كانت مياهُه صافية تمامًا، وهو منظر نادر جدًّا في بلد مُوحِل. عبر الجدول على أحجار، ووراءه فلو تنثر الماء، وانعطف إلى مسار ضيق كان يعرفه، يمرُّ وسط الشجيرات، كانت الماشية قد صنعتْه عند ورودها الجدول للشرب، ومن سلَكه من البشر كانوا قلَّة قليلة. وكان بعد خمسين ياردة يؤدِّي إلى بُحَيرة في اتجاه منبع الجدول، حيث تنمو شجرة تين مجوسي في هيئة شيء هائل ذي جذور داعمة سُمكه ست أقدام، حُبكَ من عدد لا يحصى من الخيوط الخشبية مثل كابلٍ خشبي حبَكَه مارد. وقد صنعت جذور الشجرة كهفًا طبيعيًّا، يُخرخِر الماء المخضرَّ الصافي تحته. حجبتِ الأوراق الكثيفة الضوء من فوق ومن الجوانب، مما حول المكان إلى كهف جدرانه من أوراق الشجر.

خلع فلوري ملابسه ودلف إلى الماء الذي كان أبرد قليلًا من الهواء، فصعدَ إلى عُنقِه حين جلس. وجاءت أسرابٌ من سمك الماسير الفضي، لا يزيد حجمها عن حجم السردين، وراحت تتحسَّس جسمه وتقرصُه. وكانت فلو قد ارتمَت هي أيضًا في الماء، وأخذت تسبح بهدوء، مثل القضاعة، بقدمَيها المكففتين. كانت تعرف البحيرة خير معرفة؛ إذ كانا كثيرًا ما يأتيانها حين يكون فلوري في كياوكتادا.

كان ثمة حركة أعلى شجرة التين، وصوت بقبقة مثل صوت غليان القدور؛ إذ كان هناك سرب من الحمام الأخضر يأكل التوت. حدَّق فلوري في القبة الخضراء الهائلة للشجرة، محاولًا العثور على الطيور؛ لكنها كانت غير مرئية؛ فقد تطابقت تمامًا مع الأوراق، بيد أنها أضفت حيوية على الشجرة كلها، التي تألقت كأن أشباح طيور كانت تهزها. استندت فلو إلى الجذور وجعلت تُزمجِر على الكائنات الخفية. ثم رفرفت حمامة خضراء واحدة وحطت على فرع منخفض، غير مدركة أن هناك من يُراقبها. كانت عبارة عن شيء رقيق، أصغر حجمًا من الحمامة الأليفة، ذات ظهر أخضر مائل للزرقة في نعومة القطيفة، وعنق وصدر بألوان براقة. أما ساقاها فكانتا مثل الشَّمع الوردي الذي يستخدمه طبيب الأسنان.

تأرجحت الحمامة ذهابًا وإيابًا على الغُصن، وهي تنفخ ريش صدرها وتضع عليه منقارها المرجاني. هنا شمل فلوري ألم مُمض مفاجئ. وحيدًا، وحيدًا، يا لمرارة الوحدة! كثيرًا ما كان يُقابله في الأماكن الخالية من الغابة، شيء يفوق بهاؤه كل الكلمات، سواء طائر أو زهرة أو شجرة، فيتمنى لو كان معه نفس يُشاركها إياه. فالجمال لا معنى له حتى تجد من يُشاركك فيه. ليته كان لديه شخص واحد، واحد فقط، ليُشاطرَه عزلته! وفجأةً رأت الحمامة الرجل والكلبة في الأسفل، فانطلقت في الجو ومرقتُ سريعًا مثل الرصاصة، وجناحاها يرفرفان. ليس من المألوف أن يرى المرء الحمام الأخضر بهذا القرب حيًّا. فهو من الطيور التي تُحلِّق عاليًا، وتعيش على قمم الأشجار، ولا تهبط إلى الأرض، وحين تهبط يكون للشرب فقط. حتى حين يُطلق عليها النار، لا تموت في الحال، وإنما تتشبَّث بفروع الأشجار حتى تلقى حتفها، وتسقط بعد أن يكون الشخص قد يئس من الانتظار وابتعد بوقتٍ طويل.

خرج فلوري من الماء، وارتدى ملابسه وأعاد عبور الجدول. لم يسلك الطريق لمنزله، وإنما اتخذ مسار مشاة متَّجهًا جنوبًا إلى الغابة، ناويًا الالتفاف والمرور من قرية واقعة على حدود الغابة غير بعيدة عن منزله. تقافزت فلو بين الشجيرات، صارخة أحيانًا حين تعلق أذناها الطويلتان في الأشواك. كانت قد عثرت على أرنب بري ذات مرة هناك. سار فلوري على مهل، وقد تصاعَدَ الدخان من غليونه مباشرةً في ألسنة ساكنة. كان هانئًا وشاعرًا بالسلام بعد التمشية والمياه الصافية. وكان الجو قد صار أكثر برودةً حينذاك، ما عدا بعض المواضع التي ظلَّت حارةً أسفل الأشجار الأكثر كثافة، والضوء رقيقًا. فيما ارتفع في سلام من بعيد صرير عجلات عربة يجرُّها ثور.

وما لبثا أن ضلا الطريق في الغابة، وشردا في متاهة من الأشجار الميِّتة والشُّجيرات المتشابكة. ثم بلغا طريقًا مسدودًا حيث اعترضتْهما نباتات كبيرة قبيحة مثل نباتات دريقة متضخِّمة، انتهت أوراقها بسياط طويلة متسلِّحة بأشواك. وتوهَّجت يراعة بلون أخضر أسفل إحدى الشجيرات، فيما كان الشفق يغمر الأماكن الأكثر كثافة. وسريعًا ما اقترب صرير عجلات العربة التي يجرُّها الثور، متَّخذة مسارًا موازيًا.

هتف فلوري، قابضًا على طوق فلو لمنعها من الجري بعيدًا، وقال: «مهلًا، يا سيدي، يا سيدي!»

رد الرجل البورمي صائحًا: «ماذا هناك؟» وتصاعَدَ صوتُ وقع الحوافر وصياح الثيران.

«لتأتِ أرجوك، أيها السيد العلامة المبجَّل! لقد ضلَلنا السبيل. فلتتوقَّف لحظة، يا بناء المعابد العظيم!»

غادر الرجل البورمي عربته وشقَّ طريقه في الغابة، وهو يُمزِّق النباتات المتسلِّقة بسيفه. كان رجلًا مربوعًا في منتصَف العمر بعين واحدة، وقد قاد فلوري عائدًا إلى المسار؛ حيث صعد إلى العربة المسطَّحة غير المريحة التي تجرُّها الثيران. تناول الرجل البورمي الزمام، وصاح في الثيران، ولكز منابت ذيولها بعصاه القصيرة، فانطلقَت العربة مُحدِثة صريرًا بعجلاتها. كان سائقو عربات الثيران البورميُّون نادرًا ما يشحمون محاور عجلاتهم، غالبًا لاعتقادهم أن الصرير يبعد الأرواح الشرِّيرة، مع أنهم عند سؤالهم يقولون إنهم فقراء جدًّا ليشترُوا الشحم.

وقد مروا بمعبدٍ خشبيٍّ مطليٍّ بالجير، لا يعدو طوله قامة إنسان توارى نصفه وراء فروع النباتات المتسلِّقة. ثم دار المسار متجهًا إلى القرية التي احتوت على عشرين كوخًا خشبيًّا متهالكًا معرشًا بالقش، وبئر أسفل بعض نخيل البلح الأجرد. كانت طيور البلشون الجاثمة على النخيل تتقاطَر نحو أعشاشها فوق قمم الأشجار مثل ريش أبيض في سهام. وكان ثمة امرأة صفراء البشرة بدينة إزارها مشدود تحت إبطيها تُطارد كلبًا حول أحد الأكواخ، تضربه بساق خيزران وتضحَك، والكلب أيضًا يضحك بطريقته. كانت تلك القرية تُسمَّى نيانجليبين؛ «شجرات التين المجوسي الأربع»، لكن لم يعد هناك أشجار تين مجوسي الآن، فربما قُطعت ونُسيت منذ قرن مضى. كان أهل القرية قد زرعوا شريطًا ضيقًا من الحقول يقع بين البلدة والغابة، وكانوا أيضًا يصنعون عربات تجرها الثيران يبيعونها في كياوكتادا. لذلك تجد عجلات عربات الثيران متناثرة في كل مكان أسفل المنازل؛ أغراض ضخمة عرضها خمس أقدام، قطعت برامقها بلا دقة لكنها متينة.

نزل فلوري من على العربة ونفَح السائق أربع آنات. هرعت بعض الكلاب الهجينة المخططة من أسفل المنازل لتتشمَّم فلو، وكذلك ظهر جمع من الأطفال العرايا ذوي الكروش بشعور معقوصة فوق رءوسهم، يحدوهم فضول إزاء الرجل الأبيض، لكن مع البقاء مُبتعدين. كذلك خرج من منزله زعيم القرية، الذي كان عجوزًا متغضِّنًا بُنيًّا بلون الورق، وراح يؤدِّي التحية بالجثو على الركبتين عدة مرات. جلس فلوري على سلم منزل الزعيم وأعاد إشعال غليونه. ولما كان عطشان، فقد سأل الزعيم:

«هل المياه التي في بئركم صالحة للشرب يا أيها الزعيم؟»

أخذ الزعيم يفكر وهو يحكُّ ربلة ساقه اليسرى بظفر الإصبع الأكبر في قدمه اليمنى، وقال: «أولئك الذين يشربونها، يشربونها. وأولئك الذين لا يشربونها، لا يشربونها يا سيدي.»

«حسنًا، تلك حكمة.»

جاءت السيدة البدينة التي كانت تُطارد الكلب الضال بإبريق شاي من الفخار المسود ووعاء بلا يد، وأعطت فلوري بعض الشاي الأخضر الباهت، بمذاق دخان الحطب.

«لا بد أن أرحل يا أيها الزعيم. شكرًا على الشاي.»

«ليُصاحبك الرب يا سيدي.»

سلك فلوري لمنزله المسار المُفضي إلى الميدان. كان الظلام قد حل، وكو سلا قد ارتدى قميصًا نظيفًا ولبث منتظرًا في مخدع النوم. وكان قد سخن مياهًا للاستحمام في صفيحتي كيروسين، وأشعل مصابيح الجاز ووضع بذلة وقميصًا نظيفين من أجل فلوري. كان القصد من الملابس النظيفة التلميح لفلوري بضرورة أن يحلق، ويرتدي ملابسه ويذهب إلى النادي بعد العشاء. كان فلوري أحيانًا يُمضي المساء في سروال فضفاض، مُتكاسلًا على أحد المقاعد برفقة كتاب، وهي العادة التي كان كو سلا يستنكرُها. فقد كان يبغض أن يرى سيده يسلك سلوكًا مختلفًا عن سائر الرجال البيض. ولم يكن رأي كو سلا يُغيِّره أن فلوري كثيرًا ما كان يرجع ثملًا من النادي، بينما يظلُّ مفيقًا عند بقائه في المنزل؛ لأن السُّكر كان أمرًا عاديًّا ومغفورًا في الرجل الأبيض.

قال كو سلا مخبرًا في سعادة، كما كان شأنه دائمًا حين تغادر ما هلا ماي المنزل: «لقد ذهبت المرأة إلى البازار. وقد ذهب با بي بمصباح ليُراقبها حين تعود.»

قال فلوري: «حسنًا.»

لقد ذهبت لإنفاق الروبيات الخمس، في المُقامَرة بلا شك. «حمام مولاي جاهز.»

قال فلوري: «انتظر، لا بد أن نُولي الكلبة اهتمامنا أولًا. هات المشط.»

جلس الرجلان القرفصاء على الأرض معًا وراحا يُمشِّطان فراء فلو الأملس ويتحسَّسان بين أصابعها، ليلتقطا القراد. كان لا بد من فعل هذا كل مساء؛ إذ كانت تلتقِط أعدادًا هائلة من القراد أثناء النهار، أشياء رمادية فظيعة تكون في حجم رءوس الدبابيس حين تحطُّ عليها، ثم تُتخم حتى تصير في حجم حبات البازلاء. ومع التقاط كل قرادة كان كو سلا يضعُها على الأرض ويدهسها بحرص بإصبع قدمه الكبير.

حلق فلوري وتحمَّم وارتدى ملابسه، ثم جلس لتناول العشاء، حيث وقف كو سلا وراء مقعده، يناوله الصحون ويُهوِّي له بالمروحة الخوص، وكان قد أعد وعاءً بزهور الخطمي القرمزية في وسط المائدة الصغيرة. كانت الوجبة مبهرجة وقَذِرة. فقد كان الطهاة الماج المهَرة، المُنحدِرُون من خدمٍ درَّبهم فرنسيُّون في الهند منذ قرون مضت، يستطيعون أن يفعلوا بالطعام أيَّ شيء ما عدا أن يجعلوه قابلًا للأكل. بعد العشاء سار فلوري إلى النادي، ليلعب البريدج ويثمل دون إفراط، كما كان دأبه في أغلب أمسياته في كياوكتادا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤