الفصل الثامن

في ذلك المساء طلب فلوري من كو سلا استدعاء الحلاق؛ كان الحلاق الوحيد في البلدة وكان هنديًّا ويكسب رِزقَه من الحلاقة للعُمال الهنود حلاقة جافَّة يومًا بعد يوم مقابل ثماني آنات في الشهر. وكان الأوروبيون يتردَّدون عليه لعدم وجود أي حلاق آخر. ظل الحلاق منتظرًا في الشرفة حتى عاد فلوري من التنس، فعقم المقص بالمياه المَغلية ومطهِّر كونديز فلويد ثم قصَّ شعره.

قال فلوري لكو سلا: «ضع أفضلَ بذلاتي الخفيفة وقميصًا حريريًّا وحذائي المصنوع من جلد السامبار. وكذلك ربطة العنق الجديدة التي وصلَت من رانجون الأسبوع الماضي.»

قال كو سلا قاصدًا أنه سوف يفعل ذلك: «لقد فعلت ذلك يا سيدي.» حين دخل فلوري المخدع وجد كو سلا مُنتظِرًا بجانب الملابس التي بسطها، باديًا عليه تجهُّم طفيف. اتضح في الحال أن كو سلا على علم بسبب تأنُّق فلوري (ألا وهو الأمل في لقاء إليزابيث) وأنه كان يستنكره.

سأله فلوري: «ماذا تنتظر؟»

«لأساعدك في ارتداء ملابسك.»

«سأرتدي ملابسي بنفسي هذا المساء. يُمكنك الذهاب.»

كان سيحلق — للمرة الثانية ذلك اليوم — ولم يرد أن يراه كو سلا وهو يأخذ أدوات الحلاقة للحمام. فقد مرَّت عدة سنوات منذ حلق مرتين في نفس اليوم. وقد قال في نفسه يا له من حظ سعيد الذي جعله يرسل في طلب ربطة العنق الجديدة تلك الأسبوع الماضي. ارتدى فلوري ملابسه بعناية شديدة، وأمضى نحو ربْع ساعة في تصفيف شعره، الذي ظلَّ واقفًا يأبى أن ينام بعد قصِّه.

في الدقيقة التالية تقريبًا، كما بدا الأمر، كان يسير مع إليزابيث في طريق البازار؛ إذ كان قد وجدها بمُفردِها في «مكتبة» النادي، فواتتْه شجاعة مباغتة وسألها أن تخرج معه؛ وقد ذهبت معه بيُسرٍ فاجَأَه؛ دون حتى أن تتوقَّف لتقول أيَّ شيء لعمِّها وزوجته. لكنه كان قد عاش في بورما زمنًا طويلًا جدًّا حتى إنه نَسي العادات الإنجليزية. كان الظلام حالكًا تحت أشجار التين المجوسي القائمة على طريق البازار، وقد أخفَتْ أوراقُها القمر الذي كان في أحد أطواره، لكن تألقت النجوم بيضاء ودانية هنا وهناك، كأنها مصابيح تدلَّت بخيوط غير مرئية. وتدفَّقت موجاتٌ مُتتالية من الروائح، في البداية رائحة الياسمين الهندي الحُلوة لدرجة مُزعِجة، ثم زخمة باردة صادرة عن روَثٍ أو تحلُّل آتية من الأكواخ المقابلة لبيت الدكتور فيراسوامي. وتصاعد قرع طبول من على بُعدِ مسافة قصيرة.

حين سمع فلوري الطبول تذكَّر أنهم يُقيمون مهرجان بوي على مسافة غير بعيدة على الطريق، أمام منزل يو بو كين؛ في الواقع كان يو بو كين هو الذي أعدَّ العُدَّة للمهرجان، وإن كان شخص آخر هو الذي تكفَّل بنفقاته. هنا خطر لفلوري فكرة جريئة، أن يصطحب إليزابيث إلى المهرجان! فسوف تُحبُّه، لا بد أن تحبه؛ فلا يُمكن لشخص له عينان أن يقاوم رقص مهرجان بوي. قد تقع فضيحة حين يعودان إلى النادي معًا بعد غياب طويل؛ لكن تبًّا! ما أهمية ذلك؟ فهي مختلفة عن ذلك القطيع من الحَمقى الذين في النادي. وسيكون الذهاب معًا إلى المهرجان ممتعًا للغاية! في هذه اللحظة انفجرت الموسيقى في جلبة مخيفة؛ صرير حاد من المزامير، وجلجلة مثل جلجلة الصناجات، وقرع خشن على الطبول، علا فوقَها صوتُ رجل كان يزعق بحدة.

توقفت إليزابيث وقالت: «ما هذه الضجة؟ يبدو مثل صوت فرقة جاز!»

«إنها الموسيقى المحلية؛ فإنهم يُقيمون مهرجان بوي، إنها مسرحية بورمية نوعًا ما؛ مزيج ما بين مسرحية تاريخية وإسكتشات رقْص وغناء، إذا استطعتِ تخيل ذلك. أعتقد أنك ستجدينها مسلية. إنها عند مُنعطَف الطريق بالضبط.»

قالت بشيء من الشك: «أوه.»

دارا مع المُنعطَف فوصلا إلى وهج من الضوء. كان الطريق طيلة ثلاثين ياردة يسده جمهور يُشاهِدون المهرجان. كان في الخلفية مسرحٌ مُرتفع أسفل مصابيح كيروسين لها أزيز، وأمامه الفرقة الموسيقية وقد علا صوتُها صياحًا وقرعًا؛ على المسرح كان رجلان بملابس ذكَّرت إليزابيث بالمعابد الصينية يؤديان حركات تمثيلية بسيوف معقوفة في أياديهما. على طول طريق السير كان بحر من ظهور نساء تسرْبَلن بموسلين أبيض، بشالات وردية مُرسَلة حول مناكبهن وشعور سوداء ملفوفة في كعكات. وتمدَّد القليلون على حصائرهم، وراحوا في سبات عميق. وجعل صيني عجوز بصينية فول سوداني يسلك طريقه وسط الحشد، وهو يترنَّم حزينًا: «مايابي! مايابي!» [فول سوداني باللغة البورمية].

قال فلوري: «سنتوقف ونُشاهد لبضع دقائق إذا أردتِ.»

كاد وهج المصابيح والضجيج المروع للفرقة الموسيقية أن يُصيب إليزابيث بذهول، لكن أكثر ما جعلها تجفل كان منظر هذا الحشد من الناس وهم جالسون على قارعة الطريق كما لو كانت صالة مسرح.

قالت إليزابيث: «هل دائمًا ما يُؤدُّون مسرحياتهم في وسط الطريق؟»

«دائمًا؛ فهم يقيمون شيئًا شبيهًا بخشبة مسرح ويفككونها في الصباح. ويستمر العرض طوال الليل.»

«لكن هل يُسمح لهم بأن يسدُّوا الطريق كله؟»

«أجل. لا يوجد هنا أنظمة مرور. إذ لا يوجد مرور ليُنظَّم.»

بدا لها الأمر شاذًّا جدًّا عن الطبيعي. في هذا الوقت كان كل الجمهور تقريبًا قد استداروا على حصائرهم ليُبحلِقوا في السيدة الإنجليزية. كان يوجد في منتصف الحشد بضعة مقاعد، جلس عليها بعض الكتبة والمسئولين. كان بينهم يو بو كين، الذي بذل جهدًا ليستدير بجسده الشبيه بجسد الفيل ويُحيِّي الأوروبيين. حين توقفت الموسيقى جاء با تايك المجدور مسرعًا وسط الحشد وهبط إلى الأرض محيِّيًا فلوري، بأسلوبه الوجل.

وقال: «سيدي المعظم، يو بو كين، يسألك إذا ما كنت تود أن تأتي أنت والسيدة الشابة البيضاء وتُشاهِدا عرضنا بضع دقائق. فلديه مقاعد جاهزة لكما.»

قال فلوري لإليزابيث: «إنهما يسألاننا الذهاب والجلوس. هل تودين ذلك؟ العرض ممتع إلى حدٍّ ما. سينصرِف هذان الرجلان عما قليل وستُقدَّم بعض الرقصات. هلا لبثنا بضع دقائق إذا كنتِ لا تجدين الأمر مملًّا؟»

ساور إليزابيث شك كبير. فعلى نحوٍ ما لم يبدُ من الصحيح ولا حتى الآمن أن تخوض بين ذلك الحشد الكريه الرائحة من أهل البلد. إلا أنها كانت تثِق في فلوري، الذي كان من المفترض أنه على علم بما يصح، وسمحت له بأن يتقدَّمها إلى المقاعد. أفسح البورميون الطريق على حصائرهم، وهم يُحدِّقون إليها ويُثرثِرون؛ احتكَّت قصبتا ساقيها بأجساد دافئة متلفِّعة بالموسلين، وفاحت زهمة عرق همجية. مال يو بو كين ناحيتها، مُنحنيًا بقدر ما استطاع وقال بصوت به غنة:

«تفضلي بالجلوس يا سيدتي! يشرفني أيما شرف التعرف عليكِ. مساء الخير. صباح الخير يا سيدي، السيد فلوري! يا لها من مفاجأة سارة. لو كنا نعلم أننا سنتشرَّف بصحبتك لكنا وفَّرنا الويسكي وسائر المرطبات الأوروبية. ها ها!»

ضحك فالتمعت في ضوء المصابيح أسنانه التي حمَّرها نبات التانبول مثل ورق قصدير أحمر. كان في غاية الجسامة وفي غاية البشاعة حتى إن إليزابيث لم تملك ألا تنكمِش منه. في نفس الوقت كان شابًّا نحيفًا يرتدي إزارًا أرجوانيًّا ينحني أمامها مادًّا صينية عليها قدحا شربات أصفر، مثلج. صفق يو بو كين كفَّيه بعنف ونادى على صبي بجواره قائلًا: «يا أيها الصبي!» أعطاه بعض التعليمات باللغة البورمية، فشقَّ الصبي طريقه إلى حافة المسرح.

قال فلوري: «إنه يطلب منهم أن يأتوا بأفضل راقصة لديهم على شرفنا. انظري، ها قد أتت.»

تقدم إلى ضوء المصابيح فتاة كانت جالسة القرفصاء تُدخِّن في مؤخِّرة خشبة المسرح. كانت صغيرة السن جدًّا، نحيلة المنكبين، غائرة الصدر، ترتدي إزارًا أزرق فاتحًا من الساتان أخفى قدميها. كانت حواشي بلوزتها مقوَّسة للخارج في أطواق صغيرة فوق ردفيها، على غرار الموضة البورمية القديمة، فبدَت مثل بتلات زهرة متَّجهة إلى أسفل. ألقت الراقصة بالسيجار بفتور إلى أحد الرجال في الفرقة الموسيقية، ثم بسطت إحدى ذراعَيها النحيلتين ولوتها كأنها تريد إرخاء عضلاتها.

انطلقت الفرقة الموسيقية في ضجيج عالٍ مفاجئ. كان هناك مزامير مثل آلة مزامير القربة، وآلة غريبة مكوَّنة من ألواح من البامبو، راح رجل يضربها بمطرقة صغيرة، وفي الوسط كان رجل أحاطت به اثنتا عشرة طبلة طويلة مختلفة الأحجام. وكان ينتقل من واحدة إلى أخرى سريعًا، ببطن يده. وخلال لحظة بدأت الفتاة ترقص. لكنه لم يكن رقصًا في البداية، وإنما كان حركات متناغمة من هز الرأس، واتخاذ وضعيات ولوي المرفقَين، شبيهة بانثناءات واحدة من تلك الدمى الخشبية فوق إحدى الأرجوحات الدوارة القديمة. كان عنقها ومرفقاها في دروانها تمامًا مثل دُمية، لكنها أُفعوانية إلى حدٍّ مُدهِش. كانت يداها، اللتان تلوَّتا مضمومتي الأصابع مثل رأسَي حيَّتين، تستطيعان أن تمتدا للوراء حتى تكادا تصيران مُحاذيتين لساعديها. ثم تسارعت حركاتها تدريجيًّا، وراحت تقفز من ناحية إلى أخرى، وهي تهبط بجسمها فيما يُشبه الانحناء للتحية وتنهض مرة أخرى برشاقة غير عادية، رغم الإزار الطويل الذي حبَسَ قدمَيها. ثم رقصت في وضعية غريبة كأنها جالسة، وقد ثنَت ركبتيها ومالت بجسدها إلى الأمام ومدت ذراعيها تلويهما، ورأسها أيضًا يتحرَّك على إيقاع الطبول. تسارعت وتيرة الموسيقى حتى بلغت الذروة، فقامت الفتاة منتصبة وراحت تدور سريعًا مثل البلبل الدوَّار، وطوق بلوزتها يرفرف حولها مثل بتلات زهرة اللبن الثلجية. ثم توقفت الموسيقى بغتةً كما بدأت، وهبطت الفتاة مرةً أخرى منحنية تحيةً، وسط صياح هادر من الجمهور.

شاهدت إليزابيث الرقصة بمزيج من الذهول والملل وشيء يُشارف الرعب. كانت قد احتست شرابها ووجدت مذاقه مثل زيت الشعر، فيما راح في سُبات عميق على حصيرة قريبة من قدميها ثلاثُ فتيات بورميات واضعات رءوسهن على الوسادة ذاتها، وقد بدت وجوههن البيضاوية الصغيرة المتراصة مثل وجوه هُرَيرات. في ظلِّ الموسيقى كان فلوري يتحدث بصوت خفيض في أذن إليزابيث معلقًا على الرقصة.

«عرفتُ أن هذا سيُثير اهتمامك؛ لذلك أحضرتكِ إلى هنا. فقد قرأتِ كتبًا وذهبتِ إلى أماكن ذات حضارة، ولستِ مثل بقيتنا نحن الهمج البؤساء هنا. ألا تعتقدين أن هذا يستحق المشاهدة، بأسلوبه الغريب؟ فلتنظري فحسب إلى حركات تلك الفتاة، انظري إليها في ذلك الوضع الراكع الغريب كأنَّها دمية ماريونيت، والطريقة التي تتلوَّى بها ذراعاها من المرفقين كأنها كوبرا ترتفع لتنقض. إنه شيء غريب، بل إنه قبيح، نوع من القبح المتعمَّد. كما يشوبه شيء شرير أيضًا. فكل المغوليين بهم مسٌّ شيطاني، لكن حين تُمعنين النظر، فأيُّ فن، وأيُّ قرون من الثقافة تجدينها خلفَه! كل حركة تؤديها تلك الفتاة جرت دراستها وتناقلها على مر أجيال لا تُحصى. متى أمعنتِ النظر في فنون هذه الشعوب الشرقية، رأيتِ ذلك؛ حضارة تعود إلى الماضي السحيق، تقريبًا في نفس الزمان الذي كنا نكتسي فيه بدهان أجسادنا بصبغة نبات الوسمة. بطريقة لا أستطيع وصفها لكِ، تتلخَّص حياة بورما بأكملها وروحها في الطريقة التي تلوي بها تلك الفتاة ذراعيها. وأنتِ تشاهدينها تستطيعين أن تري حقول الأرز، والقرى الواقعة أسفل أشجار الساج، والمعابد، والقساوسة في أرديتهم الصفراء، والجاموس وهي تسبح في الأنهار في الصباح الباكر، وقصر ثيبو …»

توقف صوته فجأةً مع توقف الموسيقى. كان ثمة أمور معينة، منها رقصة البوي، حثته على الحديث باستطراد وبلا حذر؛ لكنه أدرك الآن أنه إنما كان يتحدث مثل شخصية في رواية، بيد أنها ليست برواية جيدة، فأشاح ببصره بعيدًا. كانت إليزابيث قد أصغت له بفتور لشعورها بالضيق. كان أول ما طرأ على بالها التساؤل: ما الذي كان هذا الرجل يتحدث عنه؟ كما أنها التقطت كلمة فن التي تبغضها أكثر من مرة. ولأول مرة تذكرت أن فلوري غريب عنها تمامًا وأنه لم يكن من الحكمة أن تخرج معه بمفردها. نظرت حولها إلى بحر الوجوه داكنة البشرة والوهج الصارخ للمَصابيح؛ كادت غرابة المشهد أن توقع فيها الرعب. ما الذي كانت تفعله في هذا المكان؟ من المؤكد أنه لم يكن من الصواب أن تجلس بين الناس السود هكذا، تكاد تلامسهم، تغمرها رائحة ثومهم وعرقهم. لماذا لم تعُد أدراجها إلى النادي لتكون مع سائر الناس البيض؟ لماذا أتى بها إلى هنا، وسط هذا الحشد من السكان الأصليِّين، لتُشاهِد هذا العرض البشع والهمجي؟

انطلقت الموسيقى، وبدأت فتاة المهرجان ترقص مرة أخرى. كان وجهها مغطًّى بطبقة كثيفة من البودرة حتى إنه لاح في ضوء المصابيح كأنه قناع من الطبشور خلفه عينان حيَّتان. كانت مسخًا بذلك الوجه البيضاوي الأبيض كبشرة الموتى وتلك الحركات المتيبسة كالخشب، كأنها شيطان. غيرت الموسيقى سرعة إيقاعها، وشرعت الفتاة تُغنِّي بصوتٍ عالٍ مُزعِج. كانت أغنية ذات إيقاع سريع، مَرِح لكن شديد. واشترك الحشد في الغناء، فراح مائة صوت يُردِّد المقاطع المزعجة في انسجام. وظلَّت الفتاة وهي في وضع الانحناء الغريب تدور وترقص وقد برَز ردفاها تجاه الجمهور، بينما لمع إزارها الحريري مثل المعدن. وراحت تهز عجيزتها ذات اليمين وذات اليسار وما زالت يداها ومرفقاها يدوران. ثم راحت تلوي ردفَيها مُنفصلَين على إيقاع الموسيقى، بمهارة مدهشة، بانت جلية من خلال الإزار.

تصاعدت صيحة استحسان من الجمهور. واستيقظت الفتيات الثلاث النائمات على البساط في نفس اللحظة وجعلن يصفقن بحماس. وهتف واحد من الكتبة بصوت أخنف: «أحسنتِ! أحسنتِ!» باللغة الإنجليزية من أجل الأوروبيِّين. لكن يو بو كين عبس ولوَّح بيده، إذ كان يفهم النساء الأوروبيات جيدًا. إلا أن إليزابيث كانت قد هبَّت واقفة بالفعل.

وقالت بفظاظة: «سأرحل. حان الوقت لنعود.» رغم أنها كانت قد تولت بوجهها عنه، فقد استطاع فلوري أن يرى أن وجهها كان متوردًا.

وقف بجانبها منزعجًا وقال: «لكن مهلًا! ألا يُمكنكِ البقاء بضع دقائق أخرى؟ أعلم أن الوقت متأخر، لكن … لقد أدخلوا هذه الفتاة قبل موعدِها بساعتين إكرامًا لنا. لنبقَ بضع دقائق فقط؟»

«لا أستطيع الصبر، كان يجدر بي العودة منذ زمن طويل جدًّا. لا أعلم ماذا سيجول بخاطر عمي وزوجته.»

بدأت في الحال تلتمِس طريقها بحذر وسط الحشود، وذهَبَ هو في إثرها، دون حتى أن يُتاح له الوقت ليشكر القائمين على المهرجان على جهدهم. أفسح البورميون الطريق عابسين. كم هو تصرف مألوف من الإنجليز، يقلبون حال كل شيء باستدعاء أفضل راقصة ثم يرحلون قبل أن توشك على البدء! وقد قام شجار مخيف بمجرَّد ذهاب فلوري وإليزابيث، لرفض فتاة المهرجان مواصلة رقصتها ومطالبة الجمهور أن تستمر. بيد أن السلام عاد حين هُرع اثنان من المهرجين إلى خشبة المسرح وشرعا يُطلقان الألعاب النارية والنكات البذيئة.

تبع فلوري الفتاة على الطريق خانعًا. كانت تسير سريعًا، وقد أعرضت عنه، وظلت بعض الوقت دون أن تنطق. يا له من موقف بعد أن كانا في انسجام شديد معًا! ظلَّ فلوري يحاول الاعتذار.

«إنني في غاية الأسف! لم يدُر بخلدي أنه سوف يُزعجكِ …»

«لا بأس. ما الذي يدعو للاعتذار؟ قلت فقط إن الوقت حان للعودة، هذا جُل ما في الأمر.»

«كان يجب أن أمعن التفكير. لا يلحظ المرء مثل تلك الأشياء في هذا البلد. فحسُّ اللياقة لدى هؤلاء الناس ليس مثلنا؛ إنه أشد نوعًا ما، لكن …»

فهتفت في غضب شديد: «ليس هذا ما في الأمر! ليس هذا ما في الأمر!»

رأى أنه إنما كان يزيد الطين بلة. فسارا في صمت، يتبعها هو. كان بائسًا. فكم كان أحمق وأي حماقة! إلا أنه طوال هذا الوقت لم يكن لديه أدنى فكرة عن السبب الحقيقي لغضبها منه. لم يكن تصرف فتاة المهرجان، في حدِّ ذاته، ما أثار استياءها؛ وإنما ذكرها بأشياء. لكن الرحلة بأسرها — الرغبة في الاحتكاك بكل أولئك الناس الكريهي الرائحة من أهل البلد في حد ذاتها — تركت لديها انطباعًا سيئًا. كانت على يقين تام أن تلك لم تكن الطريقة التي يجدر أن يتصرف بها الرجال البيض. وتلك الخطبة المتشعِّبة العجيبة التي كان قد بدأها، بكل تلك الكلمات الطويلة — حتى كادت تظن مستاءةً أنه كان يقتبس شعرًا — كانت تلك هي الطريقة التي كان يتحدَّث بها أولئك الفنَّانون البشعون الذين تلقاهم أحيانًا في باريس. كانت تظنه رجلًا متمتعًا بصفات الرجولة حتى هذا المساء. ثم عادت بها الذاكرة لمغامرة الصباح، وكيف واجه الجاموسة وهو أعزل، فتبخر بعض من غضبها. مع بلوغهما بوابة النادي شعرت بنفسها تنازعها لمسامحته. وكان فلوري في ذاك الوقت قد استجمع شجاعته للتحدث ثانيةً. فتوقف، وتوقفت هي أيضًا، في رقعة تسلل فيها ضوء النجوم من بين فروع الأشجار فاستطاع أن يرى وجهها رؤية غير واضحة.

«حسنًا. حسنًا، أرجو حقًّا ألا تكوني غاضبةً فعلًا بشأن هذا الأمر؟»

«لا، بالطبع لستُ كذلك. لقد أخبرتك أنني لست كذلك.»

«ما كان يجدر بي أن آخذكِ هناك. أرجو أن تُسامحيني. في الحقيقة، لا أعتقد أنني سوف أخبر الآخرين أين كنتِ. ربما من الأفضل أن نقول إنكِ خرجتِ للتمشية، في الحديقة؛ شيء من هذا القبيل. فقد يعتقدون أنه من الغريب أن تذهب فتاة بيضاء إلى مهرجان. ولا أعتقد أنني سأُخبرهم.»

أجابته بودٍّ فاجَأَه: «لن أُخبرهم بالطبع!» عرف بعد ذلك أنه قد سُومح. لكنَّه لم يكن قد أدرك بعدُ ما الذي سُومح عليه.

دخلا النادي كلٌّ على حِدة، في اتفاق ضمني. كانت الرحلة الاستكشافية فاشلة دون شك. أحاطت أجواءٌ احتفالية قاعة الجلوس في النادي تلك الليلة؛ إذ كان المُجتمَع الأوروبي بأسرِه في انتظار الترحيب بإليزابيث، واصطفَّ الساقي والغِلمان الستة على جانبَي الباب، في أفضل بذلاتهم البيضاء المنشاة، مبتسمين يؤدون التحية. بعد أن انتهى الأوروبيون من عبارات الترحيب، تقدَّم الساقي بعقد ضخم من الزهور كان الخدم قد أعدُّوه من أجل «الآنسة الأوروبية». ألقى السيد ماكجريجور خطبة ترحيب فكاهية جدًّا، قدَّم فيها كل الأشخاص؛ إذ قدَّم ماكسويل بصفته «اختصاصي الأشجار المحلي لدينا»، وويستفليد بصفته «حامي القانون والنظام و… آه … مصدر رعب اللصوص في البلد»، وهكذا دواليك. تعالت الضحكات؛ إذ كانت رؤية وجه فتاة جميلة قد جعلت الجميع في مزاج مرحٍ جدًّا حتى إنهم استمتعوا بخطبة السيد ماكجريجور، التي قضى أغلب المساء في إعدادها في الواقع.

أول ما سنحَت الفرصة، أخذ إليس كلًّا من فلوري وويستفيلد من ذراعَيهما، خلسةً، وابتعد بهما إلى حجرة لعب الأوراق. كان في حالة مزاجية أفضل كثيرًا عن المعتاد. حتى إنه قرص ذراع فلوري بأصابعه الصغيرة القاسية قرصة مؤلِمة لكن بود.

«حسنًا يا صديقي، كان الكل يبحثون عنك. فأين كنت طوال هذا الوقت؟»

«كنتُ أتمشى فحسب.»

«تتمشَّى! مع من؟»

«مع الآنسة لاكرستين.»

«كنتُ أعلم ذلك! إذن أنت الأحمق الذي وقَع في الفخ، أليس كذلك؟ لقد ابتلعت الطعم قبل حتى أن يراه أحد آخر. حقًّا أقسم أنني كنتُ أظن أنك قد كبرت جدًّا على ذلك.»

«ماذا تقصد؟»

«أقصد! انظر إليه وهو يتظاهر بأنه لا يعلم ما أقصد! أقصد أن السيدة لاكرستين قد وجدت فيك صهرها المحبوب بالطبع. هذا ما سيحدث إن لم تتوخَّ أشد الحذر. صحيح يا ويستفيلد؟»

«صحيح تمامًا يا صديقي. شابٌّ عازب مُناسب. قيد الزواج وما إلى ذلك. لقد وضعوك هدفًا لهم.»

«لا أعلم من أين جئتما بهذا الاعتقاد. فلم تمضِ أربع وعشرون ساعة على وجود الفتاة هنا.»

«لكنها كانت فترة كافية لتصحبها في ممشى الحديقة على أيِّ حال. فلتحترِس لخطواتك. قد يكون توم لاكرستين سكيرًا لا يفيق، لكنه ليس شديد الحماقة ليُريد أن تظلَّ ابنة أخيه معلَّقة برقبته لبقية حياته. وهي بالتأكيد تعلم من أين تؤكل الكتف. لذا احترس ولا تضع الحبل حول رأسك.»

«تبًّا، لا يحقُّ لك الحديث عن الناس هكذا. على كل حال، الفتاة ليست سوى طفلة …»

«يا عزيزي الغبي …» أمسك إليس بتلابيب فلوري، بشيء من العطف وقد صار لديه الآن موضوع جديد لفضيحة، وقال: «يا عزيزي، يا عزيزي الأبله، لا تتسرَّع في ملء رأسك بهذا اللغو. إنك تظن أن تلك الفتاة بريئة، لكنَّها ليست كذلك. كل أولئك الفتيات المتغرِّبات على شاكلة واحدة؛ «ارضَي بأي رجل لكن لا تُضاجعيه قبل الزواج!» هذا هو شعارهُنَّ، كلهنَّ بلا استثناء. لماذا جاءت الفتاة إلى هنا في ظنِّك؟»

«لماذا؟ لا أعلم. لأنها أرادَت ذلك على ما أعتقد.»

«يا لك من أحمق طيب! لقد جاءت لتنقضَّ على زوج بالطبع. كأن ذلك ليس معروفًا! حين تفشل مساعي الفتاة في كل الأماكن تُجرِّب حظَّها في الهند؛ حيث يهفو كل رجل إلى رؤية امرأة بيضاء. هذا ما يسمونه سوق الزواج الهندي. يجدر بهم أن يُسمُّوه سوق اللحم. كل عام تأتي حمولات ملء السفن منهنَّ مثل جثث الخراف المجمَّدة، ليقلب فيها العزاب كبار السن المُقرفون أمثالك. تخزين بارد. قطع لحم ليِّنة من الثلج مباشَرة.»

«إنك تنطِق بأشياء شنيعة.»

قال إليس وقد بدا عليه السرور: «أُفضِّل لُحوم المراعي الإنجليزية. شحنات طازجة. حالة مضمونة من الجودة.»

وراح يُمثِّل أنه يتفحَّص قطعة لحْم، ويتشمَّمها بصوتٍ كصوت الماعز. كان الاحتمال أن يستمرَّ إليس في هذه النكتة وقتًا طويلًا؛ فهذا ما يحدث دائمًا؛ ولم يكن ثمة شيء يمنحه المُتعة البالغة مثل أن يُلطِّخ اسم امرأة بالوحل.

لم يرَ فلوري إليزابيث كثيرًا ذلك المساء. كان الكلُّ معًا في قاعة الجلوس، وتصاعدَت ثرثرة صاخبة حول لا شيء كما جرَت العادة في هذه المُناسَبات. لم يكن فلوري يستطيع مجاراة ذلك النوع من الحديث طويلًا. أما إليزابيث، فقد كان في جو التحضُّر في النادي، بالوجوه البيضاء التي أحاطت بها والشكل المألوف للصُّحف المصوَّرة وصور الجرو «بونزو»، ما منحها شعورًا بالطمأنينة بعد ذلك الفاصل المريب في مهرجان البيو.

حين غادر آل لاكرستين النادي في الساعة التاسعة، كان السيد ماكجريجور لا فلوري هو من سار معهم إلى المنزل، بخطوات مُتمهِّلة بجانب إليزابيث كأنه سحلية عملاقة أليفة، بين الظلال المعوجَّة الباهتة لفروع أشجار البوانسيانا الملَكية. وهكذا وجدت حكاية بروم، والعديد غيرها، أذنًا جديدة. كان أي وافد جديد إلى كياوكتادا عرضة لأن يُصيبه جزء كبير بعض الشيء من حديث السيد ماكجريجور، إذا كان الآخرون يعتبرونه مملًّا مللًا منقطع النظير، وكان من العادات المتَّبعة في النادي مقاطعة حكاياته. إلا أن إليزابيث كانت بطبعها تُجيد الإنصات. وقد خطر للسيد ماكجريجور أنه قلَّما الْتقى بفتاة بذلك الذكاء.

مكث فلوري وقتًا أطول قليلًا في النادي، يحتسي الشراب مع الآخرين، حيث جرى الكثير من الأحاديث البذيئة عن إليزابيث. وهكذا أُجِّل الخلاف بشأن اختيار الدكتور فيراسوامي مؤقتًا. كذلك نُزع الإعلان الذي كان إليس قد وضعه في المساء السابق. إذ كان السيد ماكجريجور قد رآه هذا الصباح في زيارته للنادي وأصرَّ على نزعِه في الحال بأسلوبه المُعتدل. وبهذا صار الإعلان في طيِّ الكتمان؛ لكن ليس قبل أن يُحقِّق هدفه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤