تصدير

تأمُّلات في «تأمُّلات» الإمبراطور الرُّواقي

بقلم د. أحمد عتمان

يَحفِل التاريخ الروماني بأحداثٍ وشخصياتٍ عجيبةٍ لا مثيل لها، مما يجعل هذا التاريخ سِفرًا شائقًا إذا شَرَعتَ في تصفُّحه فليس بوسعك أن تتركه دون أن تُكمِله، بل وتَطلُب المزيد والمزيد من المعرفة به ومُلابَساته وتطوُّراته منذ أن كانت روما حِصنًا صغيرًا على نهر التيبر، ثم صارت عاصمة لإمبراطوريةٍ ضخمةٍ لا سابق لها في التاريخ؛ فهي تُغطِّي كل العالم المعروف آنذاك من حدود الهند وأواسط آسيا شرقًا إلى الجزر البريطانية غربًا.

ومن أعجب الشخصيات التي تُزيِّن سماء ذلك التاريخ الرائع هو مُؤلِّف هذا النص الذي نُقدِّم لترجمته بهذه السُّطور البسيطة.

وتُعَد فترة حكم «الأباطرة الخيِّرِين» أسعد فترةٍ في تاريخ الإمبراطورية الرومانية ويُطلَق عليها «العصر الأنطونيني». كانت حياة أنطونينوس Anotoninus Pius (١٣٨–١٦١م)، كلها طاهرةً ونقيةً قضاها في الكفاح من أجل إسعاد رعاياه، فسَاد النظامُ والهدوء. كان رجلًا واضحًا خيِّرًا مرحًا، هادئًا وبريئًا، استطاع أن يُقدِّم صورةً مثاليةً للوثنية في أزهى عصورها. ويأتي عهده هكذا على النقيض من حكم الطغيان الفاسد والمُستبِد الذي تلا عصر أوغسطس وكذا الفترة الكئيبة والفوضى التي ستسود القرن الثالث الميلادي.
وبناءً على رغبة هادريانوس كان أنطونينوس قد تَبنَّى ابن عمه وصهره ماركوس أوريليوس أنطونينوس (الفيلسوف) Marcus Aurelius Antoninus الذي امتد حكمه من ١٦١م إلى ١٨٠م، وكان رجلًا فاضلًا بمعنى الكلمة، كرَّس حياته كلها للأدب والفلسفة ولا سيما المدرسة الرُّواقية، ووصلنا كتابه «تأمُّلات» Meditationes أو باليونانية Ta eis heauton أي إلى نفسه) الذي يُسجِّل فيه بالإغريقية أفكاره وأحاسيسه عن المسائل الأخلاقية والدينية. وفي عهده بَدأَت الأمم على حدود الإمبراطورية الشمالية تُثير القلاقل وقامت حروب بين الماركومانيِّين Marcomanni (في بلاد تقع الآن على أرض بوهيميا وبافاريا الحديثة) وقبائلَ جرمانيةٍ أخرى وبين الرومان. ومات ماركوس أوريليوس في مارس ١٨٠م.

ولعله من المفيد أن نُلقي نظرةً سريعةً على نشأة الفلسفة الرُّواقية لكي نفهم الأفكار المطروحة في «التأمُّلات».

عاش زينون Zeno في كيتيون (٣٣٥–٢٦٣ق.م) كان أبوه تاجرًا ويُدعى مناسياس Mnaseas وعمل زينون نَفسُه في بداية حياته بالتجارة. وفي سن الثلاثين تحوَّل إلى الفلسفة. وهناك رواية تقول إنه كان في سفينةٍ تحمل بِضاعةً من أرجوان فينيقيا فتَوجَّه بها إلى أثينا فغَرِقَت على مقربةٍ من بيريه. ونجا زينون واستقر في أثينا وكان الأثينيون يُلقِّبونه بالفينيقي. وهو الذي أَسَّس المدرسة الرُّواقية في أثينا حوالي ٣٠١ق.م. لقد بدأ بدراسة فلسفة سقراط عن طريق كتابات كسينوفون ثم انتقل إلى أنتيسثنيس الشكَّاك (الكلبي) فدرس هذه الفلسفة مع الميجاريَّين ديودوروس وكراتيس، وكان للأخير التأثير الأكبر على حياته. بعد ذلك تتَلمذَ زينون على بوليمون Polemon في الأكاديمية، وتأثَّر بكلٍّ من ستيلبو Stilpo وكسينوكراتيس Xenokrates.

كان زينون طويل القامة نحيف الجسم شديد سواد الجِلد، رأسه مائل على كتفه. وكان يرتدي الأقمشة البسيطة الرخيصة، ويقنع في مأكله بالقليل من الخبز والتين والعسل والقليل من النبيذ. وكان سلوكه سلوك الرجل الوَقور، وتبدو على هيئته سمات الجِد والانقباض، ولكنه لم يكن يأنف أن يغشى أحيانًا مجالس الأُنس والمرح، فإذا سُئل في ذلك أجاب بأن طبيعة الترمس المرارة، فإذا نُقع بالماء مدة طاب مساغًا. وكان زينون يُؤثِر الصمت على الثرثرة في حين كان الأثينيون يميلون إلى كثرة الكلام. يَرْوون أن زينون قال في ذلك: «إن لنا لسانًا واحدًا وأُذنَين؛ لنعلم أننا ينبغي أن نُنصِت أكثر مما نتكلم.» وكان زينون مُوجَز العبارة، لم يُعنَ في كتابته بفصاحة ولا أسلوب. كان بنشأته يميل إلى السليقة ويحتقر التصنُّع أو التكلُّف على أن خشونة الطبع وغِلظة القول، وسط قومٍ مُغرَمِين بالرشاقة والجمال، لم يكونا ليحُولا بين زينون وبين التأثير في مستمعيه أبلغ تأثير. أجمع القدماء على أن زينون كان على خُلقٍ عظيم، وأن حياته على بساطتها كانت دائمًا قدوةً طيبةً ومثالًا أخلاقيًّا عاليًا. بلغ هذا الحكيم من قوة الإرادة وطول الصبر وضبط النَّفْس والعفة والسيطرة على الهوى، مَبلغًا أدهش مُعاصرِيه؛ فكان الأثينيون يضربون به المثل قائلِين «أَضبَطُ لِنفسِه من زينون!»

عاش زينون حتى بلغ من العمر ٩٨ سنة. ولمَّا مات رثاه الأثينيون رثاءً رسميًّا، وأصدر أُولو الأمر قرارًا أعلنوا فيه أنه استحق تقدير الوطن لخدماته وحَثِّه الشبيبةَ على الفضيلة والحكمة؛ ولذلك منحوه تاجًا من ذهب وقبرًا من مَدافن العُظماء.

وفي سنٍّ صغيرةٍ كتب «جمهورية الحكماء» Politeia ton spoudaion والتي من بعض الجوانب قدَّمَت التبرير الفكري لفتوحات الإسكندر الأكبر وحُلمِه؛ أي الحكومة العالمية والإخاء بين البشر. وبذلك قدَّم زينون النموذج الذي احتذاه الرومان وغيرهم من مؤسِّسي الإمبراطوريات فيما بعدُ. كانت جمهورية زينون الرُّواقية يوتوبيا أفلاطونية النزعة والنكهة، وإن كان بها ما يتناقض مع أفلاطون ومبادئه فهي تُركِّز على المبادئ الكلبية والأفكار الأقدم عن «الحياة وفق الطبيعة» التي يحياها الحكيم الرُّواقي، وهو ما صار يُعرَف فيما بعدُ في روما ad naturam vivere. كانت الآلهة عند زينون كائناتٍ كونيةً وليست أنثروبومورفية هومرية. إنها الشمس والقمر والنجوم، إنها آلهة تعيش في عالمٍ واحدٍ مع البشر Cosmopolis حيث تُشاركهم كل شيء. وهنا نُلاحظ تأثير الفلك البابيلوني على زينون. وهذه المبادئ الرُّواقية تُجسِّد القانون الطبيعي الإلهي والعدالة الكونية، التي جاءت استجابةً أخلاقيةً للفرد اليائس والمُغترِب بعد فقدان نظام دولة المدينة Polis وطغيان القوى الكبرى والضاغطة على الكيانات الصغرى وفي مقدمتها الفرد. في تلك الظروف لم يعُد من هادٍ للبشرية في هذه المتاهة الحديثة سوى اللجوء للمنطق، الحب، الحرية، الوئام وما شابه ذلك. وجمهورية زينون يحكمها الحكماء الممتازون Spoudaioi ويتبعهم الباقون ويعتمدون عليهم. كان بوُسع أي واحدٍ من هؤلاء الأفراد العاديِّين أن يصعد إلى قمة الحكمة مثل هؤلاء الحكماء بالتدريب والتمرين والمثابرة وبممارسة الفضيلة أيضًا؛ فالسعي في حد ذاته إلى الفضيلة فضيلة.

ولقد ضرب زينون نفسه القدوة التي تُحتذى؛ لأنه عاش زاهدًا يواصل الليل بالنهار في دراساته وتأمُّلاته التي اعتبرها رسالةً سماويةً كُلِّف بأدائها. ولقد ورد عند ديوجينيس لائيرتيوس هذه الأبيات في وصف زينون:

لَا بَرْدُ الشِّتَاءِ الْقَارِس وَلَا وَابِلُ السَّيْلِ الْمُنْهَمِر عَلَى الدَّوَام،
وَلَا شُعْلَةُ الشَّمْسِ القَائِظَة وَلَا الْمَرَضُ الْعُضَال،
لَا شَيْءَ يَقْهَرُهُ أَوْ يَنَالُ مِنْ قُوَاه،
بَلْ إِنَّ جَمْهَرَةَ النَّاسِ بِلَا عَدَدٍ وَدُونَ أَنْ يَنْفَدَ لَهَا دَأَب،
تَزْحَفُ إِلَيْهِ وَتَلْتَفُّ حَوْلَ دَرْسِهِ لَيْلَ نَهَار.
ومن بين أتباع زينون لا مفر من الإشارة إلى برسيوس Perseus، من كيتيون؛ فهو من أفضل تلاميذه، وكان قد أرسله إلى أنتيجونوس جوناتاس Antigonos Gonatas (٣٢٠–٢٣٩ق.م) ملك مقدونيا لكي يقوم على تعليم ابنه وتثقيف شعبه. هذا في قبرص أمَّا خارجها فكان أتباع الرُّواقية من الكثرة بحيث لا يمكن حصرهم. ونشير فقط إلى بعضهم هنا. وكان ديموناكس Demonax (القرن الثاني الميلادي) من أشهر القبارصة الرُّواقيِّين وكان صديقًا لإبكتيتوس Epictetus (٥٠–١٣٨م). وكان ألمعيًّا وساخرًا، كان فيلسوفًا كلبيًّا بالأساس وكتب لوكيانوس سيرته. ومع أنه كان من أُسرةٍ ثريةٍ إلا أنه فضَّل العيش في زهد. هذا مع أنه تجنَّبَ مغالاة بعض الرُّواقيِّين إلا أنه صام وامتنع عن الطعام حتى الموت وهو في سن المائة تقريبًا. أمَّا عبارته «محظوظٌ ذلك الذي لا يخاف ولا يأمل»، فلربما كانت مصدر النقش الموجود على قبر كازانتزاكيس الروائي والشاعر اليوناني الحديث في هيراكليون بكريت «لا أخاف شيئًا لا آمُل في شيءٍ إني حر.» ومن أتباع الرُّواقية كذلك فيلولاوس Philolaus من كيتيون (القرن الأول الميلادي)، وأريستوديموس Aristodemos القبرصي كذلك (القرن الأول-الثاني الميلاديَّين).
أما سينيكا الفيلسوف الشاعر الروماني (٤ق.م–٦٥م)، فهو الشخصية الثانية من حيث الأهمية بعد زينون في سِجِل المدرسة الرُّواقية، ويقول عن مُؤسِّسها القبرصي:

نحن بالفعل الذين نقول إن كلًّا من زينون وخريسيبوس حقَّقا إنجازاتٍ أكبر مما لو كانا قد قادا الجيوش أو تقلَّدا المناصب أو سنَّا التشريعات؛ لأن السُّنة التي سنَّاها لم تكُ لدولةٍ ما بعينها، وإنما للبشرية أجمعِين؛ ولذا فلماذا لا يكون وقتُ الفراغ مُلائمًا للرجل الفاضل، في خلاله يستطيع أن يهيمن على الأجيال القادمة ويُوجِّهها ويخاطب ليس فقط القلة المحدودة حوله، بل أيضًا كل البشر في سائر الأمم الموجودة الآن والتي ستأتي من بعدُ؟ باختصارٍ شديدٍ أسألك: هل عاش كلٌّ من كليانثيس وخريسيبوس وزينون وَفْق التعاليم التي نادَوا بها؟ وبدون شكٍّ ستجيب أنهم بالفعل عاشوا على النهج الذي قالوا إنه من الواجب اتِّباعُه في الحياة.

وورد عن سينيكا أيضًا ما يلي:

من الشائع أن هوميروس لم يمتلك سوى عبدٍ واحدٍ، وكان لأفلاطون ثلاثة، أمَّا زينون مؤسس المدرسة الرُّواقية الصارمة والرجولية فلم يكن لديه ولا عبدٌ واحد.

ويُركِّز الدكتور عثمان أمين على تأثير زينون في الفلاسفة العرب والمُسلمِين ويشير إلى ما حفظه الشهرستاني من حِكمٍ وأمثالٍ كثيرةٍ منسوبةٍ لزينون؛ فقد ذكر الشهرستاني حِكمًا كثيرةً أُثِرَت عن زينون وهي تلائم ما نعرفه من أخلاقه … ونورد هنا بعضها: رأى زينون فتًى على شاطئ البحر محزونًا يتلهَّف على الدنيا، فقال له: «يا فتي، ما يلهفك على الدنيا؟ لو كُنتَ في غاية الغنى، وأنت راكبٌ في لُجَّة البحر، قد انكَسَرَت السفينة وأَشرَفَت على الغرق، وكانت غاية مطلوبك النجاة ويفوت كل ما في يدك؟» قال: «نعم.» قال: «لو كنت ملكًا على الدنيا، وأحاط بك من يريد قتلك، كان مرادك النجاة من يده؟» قال: «نعم.» قال: «فأنت الغني وأنت المالك الآن.» وقيل لزينون: «أيُّ الملوك أفضل: ملك اليونانيِّين أم الفرس؟» قال: «من مَلَك شَهوتَه وغَضبَه.» ونُعي إليه ابنُه فقال: «ما ذهب ذلك عليَّ، إنما ولَدتُ ولدًا يموت وما ولَدتُ ولدًا لا يموت!» وقيل له، وقد كان لا يقتني إلا قوت يومه: «إن المَلِك يُبغضك.» فقال: «وكيف يحب المَلِك من هو أغنى منه؟»

وفي مقامنا هذا لا نملك إلا أن نسلط الضوء في عُجالةٍ على بعض مبادئ الرُّواقية الرئيسة. وأَوَّل هذه المبادئ الذي يُعَد مِفتاحًا لكل الفلسفة الرُّواقية هو مبدأ «العيش وفق الطبيعة»:

  • ad naturam vivere.
  • to kata physin zein.
وكلمة الطبيعة natura, physis تعني هنا طبيعة الإنسان نفسه والطبيعة الكونية؛ ففي إطار الفلسفة الرُّواقية لا فرق بينهما، وهما متداخلان ومتفاعلان ويُشكِّلان معًا كِيانًا عضويًّا؛ فالعيش وَفقَ الطبيعة إذن يعني الانسجام والوئام بين الإنسان والبيئة من حوله. وأدعو القارئ الحصيف أن يتأمل الآن فيما يجري في دنيانا الراهنة من تغيُّرٍ مناخيٍّ وتلوُّث البيئة والكوارث الطبيعية المتتالية …

أفليس هذا كله نذيرًا لنا بأننا لا نعيش وفق الطبيعة؟

النار هي خالقة الأشياء، وهي أسمى عناصر الكون. أمَّا النفس الإنسانية فهي من هواءٍ ساخنٍ؛ فهي متصلةٌ بأسمى العناصر وخالقِ الأشياء أي النار. وأيُّ خللٍ يُصِيب النظام الكوني من الطبيعي أن يصيب النفس الإنسانية، التي هي أيضًا إذا تَعرَّضَت للخلل أصابت النظام الكوني بالخلل. ويتمثل الخلل الذي يُصيب النفس الإنسانية في هزيمة العقل أمام العاطفة والأهواء. هذه الهزيمة المُنكَرة تتجسَّد شرًّا مستطيرًا في تراجيديات سينيكا؛ فعلى سبيل المثال تعشق فايدرا في المسرحية التي تحمل اسمها (أو اسم هيبوليتوس) عنوانًا؛ ابنَ زوجِها الشاب العفيف هيبوليتوس، وعندما يصدُّها وقبل أن تموت تترك رسالة تتهمه لدى أبيه بأنه اغتصبها. عاطفةٌ مستعرةٌ وشَرٌّ مُستطيرٌ حطَّم الأسرة جميعًا والمدينة بأكملها، ثم امتد الشر إلى الطبيعة نفسها حيث خرج من البحر وحشٌ أُسطوريٌّ لا مثيل له أصاب خيول عربة هيبوليتوس بالجنون، فمَزَّقَت الخيول صاحبها إربًا إربًا … كوارثُ طبيعيةٌّ تُصيب النظام الكوني بالخَلل؛ لأن العقل داخل النفس الإنسانية تَلقَّى هزيمةً فادحةً على يد جحافل العاطفة والأهواء الفتَّاكة.

على أن النار خالقة الأشياء وحارسة النظام الكوني تحرق الأشياء جميعًا في حريقٍ كونيٍّ هائلٍ ekpyrosis. هذا الحريق الكوني يحدث على فتراتٍ متباعدةٍ جدًّا بهدف تطهير الكون من أكوام الدنس المتراكمة عبر العصور.

إنها إذن النار الإلهية الخلَّاقة التي تُدمِّر الكون لتخلقه من جديد. هذه النار الإلهية لا يمكن مقارنتها بالنار البشرية التي نستخدمها كل يوم؛ فهي نارٌ مدمرةٌ تحرق الأشياء ولا تُعيد خلقها. ومن هنا كان حرق الموتى — ولا سيما حرق الأباطرة بعد موتهم — جزءًا من طقوس تأليههم؛ إذ يُخلِّصهم الحرق من أدران الجسد، ويطير بروحهم إلى السماء لتتحد مع النجوم التي هي إحدى التجلِّيات للنار الإلهية الخلَّاقة.

الحكيم الرُّواقي sapiens stoicus هو الحُرُّ الوحيد، وهو السعيد الوحيد، وهو الملك بحق، وهو المنتصر الأوحد. لماذا؟ لأنه أولًا وأخيرًا قهر نفسه، ومَن قَهَر نفسه فقد قَهَر العالم. إنه قَهَر في نفسه الطمع في أي شيء؛ ولذا فهو حُرٌّ وسعيد، وقهر في نفسه الخوف من الموت. هو قاهر الموت فماذا يخشى بعد ذلك؟ يُقسِّم الرُّواقيون الأشياء إلى:
  • أشياء مهمة وضرورية فهي خير.

  • أشياء غير مهمة وغير ضرورية فهي شر.

  • أشياء وسط media أو لا هي خير ولا شر؛ أي كما يُترجِمها المُترجِم لنص أوريليوس «لا فارقة» idifferentia إنها أشياء يمكن أن تكون خيرًا ويمكن أن تكون شرًّا. المهم أن نعرف ما هي هذه الأشياء الوسط بالنسبة للرواقيِّين هي: الفقر والغنى، المرض والصحة، الحكم والملك … إلخ.
وأهم شيءٍ في هذه الأشياء الوسط الموت؛ فالموت بالنسبة للرواقيِّين هو كأي شيءٍ في حياتنا لا هو خيرٌ في حد ذاته ولا هو شرٌّ في حد ذاته، بل إن الموت أحيانًا يكون بابًا للحرية والخلاص والسعادة الأبدية، فلماذا نخاف الموت؟ جبانٌ ذلك الذي يقبل الحياة بأيِّ ثمن، وحكيم رواقي بحق من يُقدِم على الموت، بل يطلبه إذا سُدَّت كل السبل أمامه ولم يَعُد هناك من وسيلةٍ ليحفظ كرامته وحريته ومبادئه. إذن لا استسلام وإنما إقدام على الموت. ويأخذ البعض على الرُّواقيِّين هذه الدعوة إلى الانتحار، وهذا سوءُ فهمٍ وسوءُ تفسير؛ فهم أي الرُّواقيون لا يُحبِّذون الانتحار لأسبابٍ تافهة ex frivolis causis وإنما الانتحار هو الحل الأخير لحفظ كرامة الحكيم الرُّواقي ومبادئه. إنه بهذا الانتحار يقهر قاهره وينتصر عليه؛ فالموت في مثل هذه الحالة هو النصر المبين. ويقول سينيكا في ذلك: «ليس شقيًّا قَطُّ من تيسَّرت له سُبل الموت.» ويقول أيضًا إن الطبيعة نفسها تعلمنا. لقد جئنا جميعًا للحياة من طريقٍ واحدٍ هو رحم الأم، أمَّا الخروج من الحياة فله آلاف الطُّرق.

ومن اللافت للنظر في «تأمُّلات» ماركوس أوريليوس أنها أشبه ما تكون بمُفكِّرةٍ دوَّن فيها هذه التأمُّلات، ربما وهو في خِضَم المعارك وفوق الجبال أو في أعماق الغابات، وربما كان أحيانًا في قصره المُنيف. المهم أنها تأمُّلاتٌ مكتوبةٌ بعيدًا عن قصدية الدرس المتعمق أو الخطاب المُنمَّق وما شابه. ومع ذلك فالمرء يُدهَش من كثرة الإشارات لعيون الكتب والمُؤلَّفات في الأدب الإغريقي واللاتيني؛ فليس الأمر قاصرًا على الرُّواقيِّين السابقِين، بل يشمل كل المدارس الفلسفية والمذاهب الأدبية عند الإغريق والرومان. هذه التعدُّدية في مصادر أوريليوس تَدُل دلالةً واضحةً على عُمق ثقافته وغزارة اطِّلاعه.

أمَّا الترجمة التي نُقدِّم لها فتنِمُّ عن دارسٍ مجتهدٍ للفلسفة وذوَّاقة للأدب. إنه مترجمٌ يحب المادة التي يُترجمها ويعيش المبادئ التي يشرحها؛ لذلك كان أسلوبه في الترجمة مستساغًا، ومع أنه يترجم النص الإغريقي عن الإنجليزية فإنه لم يفقد الكثير من روح النص الإغريقي الأصلي الذي وَضَعتُه أمامي وأنا أُراجع الترجمة.

لقد نجح المُترجِم في أن يصل إلى صيغةٍ شائقةٍ لأفكار الفيلسوف الرُّواقي. وأنا على يقينٍ تامٍّ من أن القارئ العربي سيجد متعةً فائقةً، وفائدةً ملموسةً في قراءة هذا النص الذي يمكن أن نجد فيه العزاء الوافي عما نُقاسِيه في أيامنا هذه.

والله ولي التوفيق.

الجيزة، فبراير ٢٠١٠

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤