الكتاب العاشر

(١٠-١) أيتها النفس، أمَا آن لكِ أن تكوني صالحةً، بسيطةً، واحدةً، متجردةً، أوضح وأجلى من الجسد الذي يُغلِّفك؟ أمَا آن لكِ أن تذوقي حلاوة النزوع إلى الحب والعطف؟ أما آن لكِ أن تُصبِحي كاملةً خليةً من الحاجة لا تَفتقِدِين أي شيءٍ ولا ترغبِين في أي شيءٍ، حيٍّ أو غير حي، تلتمسِين فيه اللذَّة، ولا تَرغبِين في مهلةٍ لمزيدٍ من المُتعة، أو لين المكان والمناخ، أو الصحبة الهانئة؟ أما آن لكِ أن تَقنَعي بحالكِ الراهن وتَجدِي متعةً فيما هو الآن بين يديك؟ ألن تقتنعي بأن لديك كلَّ شيء، وأن كلَّ ما يأتي فهو من الآلهة، وكله خيرٌ لكِ وسيكونُ خيرًا لكِ أيُّ شيءٍ يُرضيهم وأي شيءٍ سوف يمنحونه لحفظ الوجود الحي الكامل، الخيِّر والعادل والجميل، الذي يُولِّد ويحفظ معًا كل الأشياء، ويحتوي ويضمُّ كل الأشياء بينما تَندثِر لِتُنتِج أشياءَ أخرى مماثلة؟ أما آن لكِ أن تصبحي جديرةً بالمُقام مع الآلهة والبشر من دون أي انتقادٍ لهم أو إدانةٍ منهم؟

(١٠-٢) لاحِظْ ما تَتطلَّبه طبيعتُك الماديَّة ككائنٍ خاضعٍ لشرط الحياة المحضة، ثُمَّ افعَلْه واقبَلْه ما دامت طبيعتُك ككائنٍ حيٍّ لن تُضارَّ به في شيء، ثُمَّ لاحظ ما تتطلبه طبيعتك ككائنٍ حي، واقبل كل ذلك لنفسك ما دامت طبيعتُك ككائنٍ عاقلٍ لن تُضارَّ به في شيء. على أن «الكائن العاقل» يتضمن مباشرةً «الكائن الاجتماعي». اتبِع هذه القواعد ولا تكرثْ نفسك بأي شيءٍ آخر.

(١٠-٣) أيُّما شيءٍ يحدث فهو إمَّا يحدث بطريقةٍ من شأن طبيعتك أن تتحمَّلها، وإمَّا بطريقةٍ لم تُفطَر بالطبيعة على تحمُّلها. فإذا كان الحدث من الصنف الأول فلا تبتئس منه، بل تحمله كما أهَّلَتكَ الطبيعة لذلك. أمَّا إذا كان من الصنف الثاني فلا تبتئسْ أيضًا؛ فلسوف يأتي عليك قبل أن يترك لك مجالًا للابتئاس. تَذكَّر رغم ذلك أنك خُلِقتَ بالطبيعة لكي تَتحمَّل كل ما تراه ملَكةُ الرأي عندك محتملًا إذا ما وَعيتَه كشيءٍ من مصلحتِك، أو من واجبِك، أن تأتيه.١

(١٠-٤) إذا كان على خطأٍ فعَلِّمْه برفقٍ وبيِّن له خطأه. فإذا كنتَ لا تستطيعُ ذلك فلتُوجِّه اللَّوم لنفسك، أو لا تَلُم حتى نفسَك.

(١٠-٥) أيُّما شيءٍ يحدث لك فقد كان يُعَدُّ لك منذ الأزل، وكان مقتضى الأسباب يَغزِل لك منذ الأزل خيطَ وُجودِك وخيطَ هذا الحدثِ المُحدَّد.

(١٠-٦) سواءٌ أكان الأمرُ ذراتٍ عشوائية أم نظامًا طبيعيًّا، فينبغي أن تكون المُقدِّمة الأولى أنني جزءٌ من «الكل» المحكوم بالطبيعة، والثانية أن لي صِلةً وثيقةً بالأجزاء الأخرى التي هي من نوعي. من هاتَين المُقدِّمتَين أخلص إلى أنني بصفتي جزءًا لن أستاء لأيِّ شيء يُقيِّضه لي «الكل»؛ فلا شيء مفيدًا للكل يمكن أن يَضُر بالجزء، ولا «الكل» يتضمن شيئًا لا يفيده. لجميع الطبائع العضوية هذه الصِّفةُ المشتركة، غير أن طبيعة العالم تتسم بصفةٍ إضافيةٍ هي أنه لا يمكن لأي سببٍ خارجيٍّ أن يقهرها على أن تخلُق أي شيءٍ ضارٍّ بها.

إذن بِتذكُّر أنني جزءٌ من «كل» سأكون راضيًا بكل ما يحدث لي. وبقَدْر ما لي من صلة قرابةٍ بالأجزاء الأخرى فلن أفعل أي شيءٍ غيرِ اجتماعي، بل سأضَعُ نُصب عيني خَيرَ عشيرتي وأُوجِّه كل سعيي للصالح العالم وأَصرِفه عما دون ذلك. إذا ما تَمَّ ذلك فإن الحياة سوف تسير سيرًا حسنًا، مثلما ترى أن حياة مواطنٍ ما تسير سيرًا حسنًا عندما يُواصل سعيًا فيه مصلحةٌ لرفاقه من المواطنِين ويرضى بكلِّ ما تُخصِّصه له مدينته.

(١٠-٧) أجزاء «الكل» — كل ما يُكوِّن الطاقم الطبيعي للعالم — يتعيَّن بالضرورة أن تهلك. و«تهلك» يجب أن تُؤخَذ هنا بمعنى «تتغير». والآن إذا كانت الطبيعة قد جَعلَت هذا «الهلاك» للأجزاء مُتلِفًا لها وضروريًّا أيضًا فلن يَتسنَّى البقاء للكل ما دامت أجزاؤه دائمًا على شفا التغيُّر ومُؤهَّلةً خصيصًا للهلاك، فهل تعمَّدت الطبيعة أن تُتلِف أجزاءها وتجعلها عُرضةً للأذى وصائرةً إليه بالضرورة؟ أو حدثت مثل هذه النتائج دون علمها؟ الحقُّ أن كلا الافتراضَين بعيدٌ عن التصديق.

ولكن إذا رفض أحدٌ مفهوم الطبيعة وفسر هذه الأشياء على أنها «هكذا هي لا أكثر ولا أقل.» فليس له أن يعجب أو يستاء من القول بأن أجزاء الكل عرضةٌ بطبيعتها للتغيُّر كما لو كان هذا التغيُّر شيئًا مضادًّا للطبيعة؛ خاصةً أن تحلُّل كل شيءٍ هو إلى العناصر التي يتكون منها؛ فالتحلُّل هو إمَّا تشتُّت العناصر المُكوِّنة أو تحوُّل الصُّلب إلى ترابٍ والروح إلى هواء؛ بحيث ينضوي هذان في عقل «الكل»، سواءٌ أكان الكل يتحول دوريًّا إلى نارٍ أم يُجدِّد نفسه من خلال التحوُّلات الأبدية.

ولا يَتصورَنَّ أحدٌ أن هذا الصلب وهذه الروح هما نفس الشيء الذي كاناه في الأصل عند الولادة؛ فكل هذا لم يجتمع إلا أمسِ أو أمسِ الأول من تدفُّق الغذاء المُستهلَكِ والهواء الذي شُهق؛ فالذي يتغير هو التدفُّق المجتمع وليس الشيء الذي وَلدَته أمك. افترض الآن أن هذا التدفُّق مُتضمَّنٌ في صميم نفسِك الفردية، فما أرى أن ذلك يُؤثِّر في الحُجة.٢
(١٠-٨) إذا ما اكتَسبتَ النعوت: «صالح»، «متواضع»، «صادق»، «عقلاني»، «متزن»، «شهم»؛ فاحرص على ألَّا تتنازل عنها، وإذا خَسِرتَها فعجِّل بالعودة إليها. تَذكَّر أيضًا أن لفظة «عقلاني» قد قُصِد منها أن تدُلَّ على الانتباه المميِّز لكل التفاصيل والفكر النشيط، وأن «الاتزان» هو القَبول الطَّوعي لما قَسمَته لك طبيعة العالم، وأن «الشهامة» هي عُلُو التفكير فوق مُؤثِّرات الجسد السارة أو المؤلمة، وفوق المجد الفارغِ أو الموتِ أو أي شيءٍ آخرَ غيرِ فارق indifferent. فإذا بقيتَ مخلصًا لهذه النعوت، لا عن مجرد رغبةٍ في أن يُناديك بها الآخرون، فسوف تكون إنسانًا جديدًا وتَدخلُ حياةً جديدة.
أمَّا أن تظل نفسَ الإنسانِ الذي كُنتَه حتى الآن، أن تتمزقَ وتتشوَّه في هذه الحياة التي تحياها، فهو مجرد حرصٍ بليدٍ على الحياة، أَشبَه بحال المُجالدِين gladiators الذين أَكلَت الوحوش نصف أبدانهم وهَرسَتهم وسَربلَتهم بالدم، ولا يزالون يَتوسَّلون للإبقاء على حياتهم إلى اليوم التالي رغم أنهم في اليوم التالي سيتعرضون في نفس الحالة إلى نفس المخالب والأنياب.
تَشَبَّثْ إذن بهذه النعوت. وإذا أمكَنكَ البقاءُ فيها فابقَ كما لو أنك نُقلتَ إلى فردوسٍ ما؛ «جزر السعداء».٣ أمَّا إذا أَحسَستَ أنك تسقُط وتَفقِد اتزانك فالجأ بنفسٍ راضيةٍ إلى ركنٍ ما حيث تستعيد توازُنك. وإلَّا فاجعل لك مخرجًا عاجلًا من الحياة، لا بانفعالٍ بل ببساطةٍ وحريةٍ وتواضُع، جاعلًا هذا الرحيل إنجازًا واحدًا مُشرِّفًا في حياتك على أقل تقدير.٤

وسوف يعينك كثيرًا على تَذكُّر هذه النعوت أن تتذكر الآلهة، وتتذكر أنها لا تريد منا التملُّق الذليل بل تريد لكل الكائنات العاقلة أن تصبح على صورتها الخاصة؛ تريد لشجرة التين أن تؤدي عمل شجرة تين، وتريد للكلب عمل كلب، وللنحلة عمل نحلة؛ وتريد من الإنسان أن يُؤدِّي العمل الصحيح لإنسان.

(١٠-٩) الفارس (الهَزْل) farce، والحرب، والسُّعار، والبلادة، والعبودية!٥ ستمسح يومًا بعد يوم مبادئك المقدسة، كلما تَصوَّرتَها وسلَّمتَ بها دون أن تُخضعها لاختبار الفلسفة الطبيعية، ولكن واجبك أن تجمع بين النظر والعمل، فتكونَ لديك القدرة على التعامُل مع الظروف بما تقتضيه، وأن تُمارِس التأمُّل النظري، فتحتفظ بالثقة التي تأتي من الإحاطة بكل شيءٍ خاص، دون أن تُظهِرها ودون أن تُخفيها.

فمتى سوف تتمتع بالبساطة؟ ومتى ستتمتع بالرصانة؟ ومتى ستتمتع بمعرفة كل شيءٍ مُفرَد؛ ما هي طبيعته الجوهرية، ومكانه في العالم، والعمر الطبيعي لوجوده، وما هي مُكوِّناته، ولمن يمكن أن ينتمي، ومَن القادر على منحِه وعلى منعه؟

(١٠-١٠) العنكبوتُ فخورةٌ حين تصطاد ذبابة. والإنسان فخورٌ بصيده؛ أرنبٍ مسكين، سمكةٍ صغيرة في شبكة، خنازير، دِببة، أَسرَى من الصرامطة.٦ والجميع من حيث الدافع لصوص.

(١٠-١١) اتخِذ طريقةً منهجيةً لِترَى كيف تتحولُ الأشياءُ جميعًا الواحد منها إلى الآخر. أَولِ انتباهًا دائمًا لهذا الجانب من الطبيعة ودَرِّب نفسك عليه؛ فلا شيء أقدرُ منه على السمو بالعقل. يسمو من يتدرب عليه كأنما نضا عنه جسَدَه، فيتبين أنه، بأسرع مما يتصور أحد، لا بُدَّ تاركٌ كل هذا وراءه وراحلٌ من عالم البشر. ويُكرِّس نفسه تمامًا للعَدلِ في أفعاله، ويُذعِن لطبيعة العالم في كل شيءٍ يحدث. ولا يُفكِّر أدنى تفكيرٍ فيما عسى أن يقوله الآخرون عنه أو يفترضوه فيه أو يُدبِّروه ضده، بل يكتفي بهذين الشيئَين؛ أن يتحرَّى العدل في كل ما يفعله الآن، وأن يتقبل بسرورٍ رزقه الآني. لقد صَرفَ عنه كلَّ المشاغل والأطماع، ولم يعُد يرغب إلا في أن يسير على الطريق المستقيم وَفقًا للقانون، وفي سيره المستقيم يتبع طريقَ الرَّب.

(١٠-١٢) فيم التوجُّس والشَّك إذا كان بِوُسعِك أن تبحث وتُدرِك ما ينبغي فعله، وبِوُسعِك أن ترى طريقك وتمضي فيه راضيًا ولا تَتلفَّت وراءك. إذا كُنتَ لا تتبيَّن الطريق فتوقَّف وخُذْ مشورةَ أفضلِ ناصحِيك. فإذا حالت حوائلُ أخرى دون النصيحة فامضِ وَفقَ قُدراتِك الحالية ولكن بِتَرَوٍّ واجب، ملتزمًا دائمًا بما يبدو لك عدلًا؛ فالعدل هو أفضل ما تتغيَّاه، والعدل هو الشيء الذي يحق أن يُقال إننا نفتقده، وإذا أَخفَقنا أن يكون إخفاقُنا هو في السعي إليه.

من يتبع العقل في كل شيءٍ فإنه يجمع في نفسه بين السكينة والإقدام، وبين الحماسة والاتِّزان.

(١٠-١٣) سائل نفسك فور يقَظتِك من النوم: «هل ثَمَّةَ من فارقٍ بالنسبة لك إذا ما انتقد الآخرون ما هو في الحقيقة عدلٌ وصدق؟» كلا … لا فارق. ولعلك لم تَنسَ قَط ماذا يكون هؤلاء الذين يَصهلُون في مدح الآخرِين ولَومِهم، وما شأنهم في الحل والتَّرحال، وماذا يفعلون وماذا يَتجنَّبون أو يطلبون، وكيف يغُشُّون وكيف يسرقون، لا بالأيدي والأقدام بل بأعز جزءٍ من أنفسهم؛ الجزء الذي به، إذا شاء المرء، تتأتى الأمانةُ والتواضُع والصدق والقانون وروح السعادة.

(١٠-١٤) الطبيعة تُعطي كل شيءٍ وتسترد كل شيءٍ مرةً ثانية. يقول لها من تعلم وتواضع: «هبي ما شِئتِ واستردِّي لك ما شئت.» يقولها لا بروح التحدي، بل ببساطةٍ كأحد رعاياها المُخلصِين.

(١٠-١٥) قصيرٌ هو ما تبقَّى لك من العمر، عِشْه كما لو كنت فوق جبل؛ هنا أو هناك لا فرق، ما دُمتَ حيثما عَشتَ تتخذ العالم كوطنٍ لك، فليَشهَدكَ الناس، وليعرفوا رجلًا يعيش وفقًا للطبيعة. فإذا لم يُطيقوه فليَقتُلوه؛ فلَهذا أفضل من أن يعيش حياةً كحياتهم.

(١٠-١٦) بحسبك من كلامٍ عما ينبغي أن يكون عليه الرجل الصالح؛ كُن رجلًا صالحًا.

(١٠-١٧) تأمَّل دومًا الزمان كله والوجود كله، تجد كل شيءٍ مفردٍ بمقياس الوجود مجرد بَذرة تينة، دورة مِخرَز.

(١٠-١٨) انظر إلى أي شيءٍ موجودٍ ولاحظ أنه منذ الآن في عملية فناءٍ وتغيُّر، يتجدد، بمعنًى ما، من خلال الفساد أو التبدُّد، وبعبارة أخرى؛ انظر إلى أي ضربٍ من «الموت» يُولَد كل شيء.

(١٠-١٩) أي صنفٍ من الناس هم حين يأكلون ويرقدون ويُضاجِعون ويقضون حاجتهم … إلخ؟ ثم أي صنفٍ من الناس هم حين يَتولَّون السلطة على الناس؟ مُتجبِّرِين، مُتحجِّرِي القلب. ورغم ذلك كيف كانوا منذ قليلٍ عبيدًا لكل تلك الحاجات وكل تلك الأشياء. وأيَّ منقلبٍ، بعد قليل، سينقلبون.

(١٠-٢٠) ما تُقدِّمه طبيعة العالم لكل شيءٍ فهو لخيره، وإنه لخيرِه في لحظةِ تقديمه.

(١٠-٢١) «الأرض تُحب المطر، والسماء الجليلة تُحب أن تمطر.»٧ العالم كله يحب أن يخلق المستقبل. أقول للعالم إذن: «إنني أبادلك الحب.» أليس هذا ما قيل أيضًا من أن «هذا يحب أن يحدُث»؟٨

(١٠-٢٢) إمَّا تعيش هنا، وقد أَلِفتَ العيش، وإمَّا تتقاعد، وهذا قرارك، وإمَّا تموت، فقد انتهت خدمتك. وليس من خيارٍ آخر. ابتهج إذن … ابتهج.

(١٠-٢٣) ليكن واضحًا لك دائمًا أن العُشب ليس أكثر خضرةً في أي مكانٍ آخر.٩ وأن كل شيءٍ هنا مثل كل شيءٍ على قمة جبلٍ أو على شاطئ بحرٍ أو حيثما شئت.١٠ فلن تجد قُدَّامكَ إلا قول أفلاطون: «السُّكنى بين جُدران مدينةٍ كالسكنى في شقِّ جبل.»١١

(١٠-٢٤) ماذا يكون عقلي المُوجِّه الآن بالنسبة لي؟ ماذا أجعل منه وفيم أستعمله؟ هل نضب فيه الفهم؟ هل انبَتَّ عن حياة المجتمع؟ هل انصهر في الجسَد الهزيل والتحم به فجعل يتأرجح على تيَّاراته؟

(١٠-٢٥) العبد الذي يهربُ من سيده هو آبِق، والقانون هو سيدنا؛ من يخالِفِ القانون، إذن، فهو آبق. كذلك من يأسَى أو يغضب أو يخاف إنما يرفضُ نظامًا ما، في الماضي أو الحاضر أو المستقبل، فَرضَه مُدبِّر الأشياء جميعًا؛ وهو القانون، الذي يَقسِم لكل إنسانٍ نصيبه، من يخاف إذن أو يحزن أو يغضب إنما هو آبِق.

(١٠-٢٦) يُودِع الرجل بَذرته في الرحم ويرحل. بعدها يتولى الأمر سببٌ آخر ويُؤدِّي عمله وينتج طفلًا. أية نتيجةٍ هائلةٍ من أية بداية! ثم يَزدَرِد الطفلُ الغذاء في زوره، وهنا يتولى الأمر تعاقُبٌ سببيٌّ آخر فيخلق إحساسًا وحركة، وحياةً بأَسْرها وقوةً وشتَّى الأشياء الأخرى الرائعة.

تأمَّلْ إذن ما يجري في مثل هذا الأَمرِ الخفي. وانظُر «القوة» وهي تفعل فِعلَها، تمامًا مثلما نرى «القُوة» وهي تحمل الأشياء إلى أسفل وإلى أعلى. انظر «القوة» لا بالعين، وإن لم تكن أقلَّ وضوحًا.

(١٠-٢٧) تأمل دومًا كيف أن ما يحدث الآن قد حدث من قبل، وسوف يحدث في المستقبل بنفس الطريقة. شاهد بعين عقلك مسرحياتٍ كاملةً، بنفس المشاهد — كل ما تعرفه من خبرتك أو من التاريخ الأقدم — كل بلاط هادريان على سبيل المثال، بلاط أنطونينوس بأكمله، بلاط فيليب، الإسكندر، كرويسوس.١٢ كل أولئك كان مسرحياتٍ كالتي تراها الآن، ولا اختلاف إلَّا في فرقة المُمثِّلِين.
(١٠-٢٨) ما أَشبَه الإنسانَ المُتبرِّم بكل شيءٍ والساخطَ على كل شيءٍ بخنزير الأضحية يَرفُس ويَصرُخ. كهذا الخنزير أيضًا ذلك الإنسان الذي يَندُب، صامتًا، في مَخدَعه كلَّ القيود التي تربطنا بها. وحده الإنسانُ العاقلُ من أُلهم أن يختار الاستسلام طوعًا لما يحدث. على أن الاستسلام المَحضَ ضرورةٌ مفروضةٌ علينا جميعًا.١٣
(١٠-٢٩) في كل شيءٍ تقوم به تعوَّد أن تسأل نفسك: «تُرى هل الموتُ أمرٌ يدعو إلى الخوف لأنه سيحرمني من هذا؟»١٤
(١٠-٣٠) كلما أخطأ شخصٌ في حقك التفِت فورًا إلى نفسك وانظر كيف تُخطئ أنت أيضًا بنفس الطريقة؛ قد يكون ذلك بإسباغ قيمةٍ على المال أو اللذَّة أو الصِّيت، أو ما شابه.١٥ بالتفاتِك إلى نفسك سيَخمُد غضبُك في الحال، وبخاصةٍ إذا أَضفتَ إلى ذلك أن الإنسان مدفوعٌ إلى ما يفعله؛ فماذا عساه أن يفعلَ غيرَ هذا؟ أو، إذا كان بِوُسعِك، فأزِح عنه هذا الدافع.
(١٠-٣١) عندما ترى ساتيريون أو يوتيخيس أو هيمن، فتَصوَّرْهم في حلقة سقراط؛ عندما ترى يوتيخيون أو سيلفانوس فتصور إيوفراتيس Euphiate، وعندما ترى تروبايوفوروس تَصوَّرْ ألكيفرون، وعندما ترى سيفيروس تَصوَّرْ كريتو أو كسينوفون؛ لكل واحدٍ إذن ضريبٌ في الماضي. عندئذ تأمَّل هذا أيضًا؛ أين أولئك الناس الآن؟ في لامكان، أو لا أحد يعرف أين. هكذا ستنظر دائمًا إلى الحياة الإنسانية كمُجرَّدِ دخانٍ ولا شيء، وبخاصةٍ إذا تذكَّرتَ أيضًا أن ما تَبدَّل ذات يومٍ لن يعود إلى أَبدِ الدهر. لماذا إذن هذا الكرب؟ لماذا لا تَقنَع بأن تقضي أَمدَكَ الزمني القصير بسلاسةٍ ونظام؟

ومن أي موقفٍ ماديٍّ أو أي فرصةٍ للفعل تُريد أن تتهرب؟ وهل كلُّ ذلك غيرُ تدريبٍ لذلك العقل الذي تَفحَّص كلَّ شيءٍ في الحياة بنظرةٍ دقيقةٍ وعلمية؟ ابقَ إذن حتى تَتمثَّل كلَّ هذا أيضًا، كالمعدة القوية تَتمثَّلُ كل طعام، أو كالنَّار الذكيَّة تُحيل كلَّ ما يُلقَى فيها إلى لهبٍ وضياء.

(١٠-٣١) لا تجعل نفسك عُرضةً لأن يقال عنك بحقٍّ إنك غير مُخلصٍ أو غيرُ صالح، بحيث لا ينالك بهذا إلا كاذبٌ أفَّاك. إن هذا الأمر راجعٌ إليك بالكامل، فمَن ذا الذي يحول بينك وبين أن تكون صالحا أو مُخلصًا؟ عليك فقط أن تُقرِّر ألَّا تظل على قيد الحياة ما لم تمتلك هذه الخصال؛ فالعقل أيضا لا يُحبِّذ أن يعيش من لا يمتلكها.١٦

(١٠-٣٣) في أي ظرفٍ ماديٍّ معطَى؛ ما الذي بِوُسعِك أن تفعلَه أو تقولَه بأقصى انسجامٍ مع العقل والرشد؟ فأيًّا ما كان ذلك فإن بإمكانك أن تفعله أو تقوله، ولا تنتحل عذرًا بأي «عوائقَ في طريقِك»؛ فما أراك تكُف عن عويلك ما لم يذُق عقلك نفس اللذة التي يجدها المُنغمِسون في الترف حين يستجيب لأي ظرفٍ عارضٍ استجابةً إنسانيةً قويمةً منسجمةً مع الفطرة؛ إذ ينبغي على المرء أن يعُدَّه متعةً أيَّ فعلٍ يمكنه أن يُؤدِّيه وفقًا لطبيعته. وإن بِوُسعِه ذلك في كل مكان.

والآن، إذا كانت العجلةُ لم تُمنَح القدرةَ على مواصلةِ حركتِها حيثما أرادت، ولا الماءُ ولا النارُ ولا أي شيءٍ محكوم بالطبيعة أو غيرِ عاقلٍ فما أَكثرَ العقباتِ والعوائقَ التي تعترضها؛ فإن العقل لديه القدرة، بطبيعته وبإرادته، على أن يمضي خلالَ كلِّ عقبة.١٧

ضع نُصب عينَيك هذه الإمكانية التي تُمكِّن العقل من أن يمضي خلال كلِّ الأشياء، كالنار إلى أعلى، كالحجر إلى أسفل، كالعجلة تَنزلِق على المُنحدَر، ولا تَبحثْ عن أي شيءٍ آخر؛ فأي عوائقَ أخرى إمَّا أن يقتصر تأثيرها على الجسد الذي هو شيءٌ ميت، وإما ألَّا تأثير لها على الإطلاق إلا من خلال الحكم (الرأي) ومن خلال استسلامِ العقلِ نفسه.

وإلَّا فإن كل من يصادف عقبةً سيصبح هو نفسه سيئًا في الحال. والآن، في جميع الكائنات العضوية الأخرى فإن أي أذًى يَلحَق بأيٍّ منها يجعلها أسوأ في ذاتها. أمَّا في حالة البشر فإن الشخص في الحقيقة يصبح أفضل وأجدر بالثناء إذا استخدم الظروف التي تُصادفه استخدامًا صحيحًا. وتَذكَّرْ بعامةٍ أنْ لا شيءَ يَضُر مواطن الطبيعة إلا ما يَضُر الدولة، ولا شيء يَضُر الدولة إلا ما يَضُر القانون. ولا شيء مما نُسمِّيه المحن يضُرُّ بالقانون. إذن ما هو غير ضارٍّ بالقانون فهو لا يَضُر الدولة ولا المواطن.١٨

(١٠-٣٤) مَن تشرَّب المبادئ الصحيحة تَكفِه تَذكِرةٌ شديدة الاختصار والشيوع لكي يتخلص من كل ألمٍ وخوف. مثال ذلك:

أوراق١٩
البعض تبعثره الريح على الأرض …
هكذا هي أجيال البشر.٢٠
أطفالُك أيضًا مجرد «أوراق». «أوراقٌ» أيضًا تلك الأصوات التي تهتف بمدحِ الملك، وتلك اللعناتُ من مُناوئيك، وهذا الملام الصامت أو السخرية المكتومة … مجرَّد «أوراق» مُماثِلة أيضًا أولئك الذين سيَتلقَّون وينقلون مجدك المستقبلي للأزمنة التالية؛ فكل هذه الأشياء «تُنتَج في فصل الربيع»، كما يقول الشاعر،٢١ ولكن لا تلبث الريحُ أن تذروها، ثم تُنتِج الغابة أوراقًا أخرى مكانها. كل الأشياء قصيرةُ العمر، فما لك تلتمسُ وتتجنَّب كلَّ شيءٍ كما لو كانت الأشياء باقيةً إلى الأبد. بعد برهةٍ ستُغمِض أنت أيضًا عينَيك، وسرعان ما سيأتي آخرون ينعون الرجل الذي يَدفنُك.

(١٠-٣٥) العين السليمة ينبغي أن ترى كل ما هو قابلٌ للرؤية ولا تقول: «أريد الأشياء الخضراء فقط.» فهذا حال عينٍ مريضة، والسمع السليم والشم السليم يجب أن يكون مُؤهَّلًا لإدراك كل ما يمكن أن يُسمع أو يُشم. والمعدة السليمة ينبغي أن تتقبل كلَّ الطعام بنفس الطريقة التي تتقبل بها الطاحونة كل ما صُنِعَت لطحنه. وكذلك العقل السليم ينبغي أن يكون مستعدًّا لكل الاحتمالات. العقل الذي يقول: «أطفال يجب أن يعيشوا.» أو «ينبغي أن يمتدح الناس كل ما أفعل.» هو عينٌ تريد الألوان الخضراء أو أسنانٌ تطلب الطريَّ من الطعام.

(١٠-٣٦) ليس ثَمَّةَ من بلغ من السعد بحيث لا يقفُ حول فِراش موته من هو سعيدٌ بما سيُحيق به. هَبْه كان صالحًا وحكيمًا، ألن يكون هناك واحدٌ لحظة وفاته يقول لنفسه: «أخيرًا يمكننا أن نتنفس الصُّعَداء، ألا بعدًا لهذا «الناظر»، صحيحٌ أنه لم يكن فظًّا تجاه أيٍّ منا، ولكني كان بوسعي أن أحس بنقده الصامت لنا جميعًا.» هذا ما يُقال عن رجلٍ صالح. أمَّا في حالتنا نحن فكم من أشياءَ أخرى تجعل الكثيرِين يرغبون في التخلُّص منا. تَذكَّرْ ذلك إذن عندما يحين موتكَ ولسوف تكون في رحيلكَ أكثر ارتياحًا إذا قلت لنفسك: «إنني راحلٌ عن مثل هذه الحياة التي يتمنى فيها حتى رفاقي الذين جاهدتُ كثيرًا من أجلهم وصليتُ لهم ورَعَيتُهم؛ يَتمنَّون أن أرحل عنها عسى أن يجدوا في موتي بعض الفرج والفائدة؛ ففيم التشبُّث بهذه الأرض والرغبةُ بهذه الحياة؟»

على ألَّا يدفعك هذا الشعور بأية جفوةٍ تجاههم وأنت راحلٌ من هذه الحياة، بل كن وفيًا لمبدئك وخُلقِك؛ ودودًا، رفيقًا، محسنًا، ومن جهةٍ أخرى لا يكن تركك إياهم كأنه انخلاعٌ من الحياة، بل انسلالٌ يسيرٌ للروح من غلاف الجسد كما يَخبُره من يموتون في هدوء؛ فقد رَبطَتك الطبيعة بهم وجَعلَتهم رفاقك ويحلو لها الآن أن تحلَّ هذا الرباط. فليكن انصرافك كانصراف المرء عن أهلٍ وعشير، ولكن من غير مقاومةٍ أو إرغام؛ فهذه أيضًا واحدةٌ من طرق اتباع الطبيعة.

(١٠-٣٦) تَعوَّدْ، جُهد ما تستطيع، أن تسأل نفسك كلما فعلَ أيُّ شخصٍ فعلًا: «ماذا يرمي هذا الشخص بهذا الفعل؟ ما هي نقطته المرجعية هنا؟» ولكن ابدأ بنفسِك ووَجِّه السؤال إلى نفسِكَ قبل أي شخصٍ آخر.

(١٠-٣٧) تَذكَّرْ أن ما يُحرِّكنا ويَشُد خيوطنا هو ذلك الجزء الخفي في داخلنا؛ إنه القوة على الفعل، إنه مبدأ الحياة، إنه، إذا جاز القول، الإنسان نفسه؛ لذا تلتفت وأنت تتأمَّله إلى الوعاء الذي يحتويه والأعضاء المُشيَّدة حوله؛ فهذه أداةٌ، كالفأس، لا تختلف إلا في أنها متصلةٌ بالجسد. ولا جدوى في هذه الأعضاء من دون القوة الفاعلة التي تُحرِّكها وتُوقِفها أكثر من جدوى المكوك من دون النَّسَّاج، أو القلم من دون الكاتب، أو السوط من دون الحوذي.٢٢
١  انظر: ٥-١٨ (لن يصيب الكائنَ أي شيءٍ لم تُؤهِّله الطبيعة لِتحمُّله)، ٧-٣٣ (الأَلَم المُبرِّح يقتلنا، أمَّا الألم المُزمِن فهو مُحتمَل)، ٨-٤٦ (لم تَجلِب لك طبيعة العالم شيئًا فوق احتمالِك).
٢  فِقرةٌ عسيرةٌ ومُبهَمةٌ إلى حدٍّ كبير، يريد بها ماركوس أن يُخفِّف من رهبة الموت؛ فالتحلُّل عند الموت هو جزءٌ من عملية تغيُّرٍ وتجدُّدٍ أزليةٍ تُحتِّمها الطبيعة. والطبيعة ليست مُهملة أو غير مكترثة؛ ومن ثَمَّ فلا يمكن أن يَلحَق أي ضررٍ بالجزء المُفرَد من الطبيعة في هذه العملية. وختام الفقرة أكثرها إبهامًا؛ وربما يقصد منها أن عملية التغيُّر في اتجاه التحلُّل تجري منذ الولادة.
٣  جُزرٌ أسطوريةٌ عند نهايات الأرض تُرسِل الآلهة إليها المحظيِّين من الموتى.
٤  في الانتحار كمَعقلٍ أخيرٍ للحرية وملاذٍ للكرامة، انظر: ٣-١، ٨-٤٧، ١٠-٣٢.
٥  لا سبيل إلى معرفة ماذا يقصد ماركوس بهذه الكلمات التعجُّبية الخمس، في هذه الفقرة المبهمة التي تدُل على أنه كان يكتب لنفسه حقًّا.
٦  قبيلةٌ جرمانية حاربها ماركوس فيما حارب في حملاته العسكرية.
٧  الاقتباس من مسرحية يوريبيدبس المفقودة «خريسيبوس» (شذرة ٨٩٨).
٨  هنا يستخدم ماركوس تلاعبًا لفظيًّا ليبين حقيقةً عميقة عنده؛ فالكلمة اليونانية philei (يحب) يمكن أن تعني أيضًا «يميل إلى»، «دأب على»؛ فماركوس يأخذ النمط المألوف المُطَّرد للأشياء كدليلٍ على، وتعبيرٍ عن، حب الطبيعة لأن تخلُق عالمًا مُنظمًا.
٩  أي إن هذه البقعة من الأرض مثل أي بقعةٍ أخرى.
١٠  قارن بفقرة ٤-٣ (إنهم يبحثون عن منتجعاتٍ لهم … فما زال بإمكانك كلما شِئتَ ملاذًا أن تطلبه في نفسك التي بين جنبَيك؛ فليس في العالم موضع أكثر هدوءًا ولا أبعد عن الاضطراب مما يجد المرء حين يخلو إلى نفسه)، في كلتا الفقرتين يُذكِّر ماركوس نَفسَه بأن تغيُّر المكان ليس تغيُّرًا للعقل، وأن الانتجاع الحق هو في العقل.
١١  «كالراعي يتدرَّع بنُقرةٍ في الجبل ويحلب قطعانه إذا تَثغو.» — الاقتباس عن أفلاطون — ثيايثيتوس، والصلة غير واضحةٍ لأَوَّل وَهلة. وقد ورد قول أفلاطون في سياق المقارنة بين الفيلسوف والسياسي الحاكم الذي يمكنه أن يحلب شعبه منفصلًا ومُعَمَّى عنه ونفعيًّا مثل راعي القُطعان في مزرعةٍ جبلية.
١٢  ملك ليديا في القرن السادس ق.م، قيل إنه كان أغنى رجل في العالم. هزمه قورش ملك الفرس عام ٥٤٦ق.م.
١٣  القدَر يُوجِّه العُقلاء ويُجرجِر الحَمقَى.
١٤  انظر: ١٢-٣١.
١٥  أي بإسباغ قيمةٍ على «الأشياء الأسواء» أو «غير الفارقة» indifferents.
١٦  في الانتحار، انظر: ٣-١، ٨-٤٧، ١٠-٨.
١٧  العقل يتكيف مع العقبات ويداورها ويحيلها إلى حوافز، انظر: ٥-٢٠.
١٨  المواطنة في «مدينة العالم»، الانتماء الكوني، يمنح المرءَ حصانةً من الأذى.
١٩  أي أوراق شجر.
٢٠  الاقتباس من الإلياذة، الكتاب السادس، بيت ١٤٦.
٢١  هوميروس.
٢٢  هنا يستخدم ماركوس صورة عرائس الماريونيت أو الدُّمى استخدامًا جديدًا غير الاستخدام الساخر المعهود عنده (دُمى تُحرِّكها خيوط الرغبة حيث شاءت).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤