الكتاب الحادي عشر

(١١-١) هذه خصائص الروح العاقلة: إنها ترى ذاتها، وتُشكِّل ذاتها، وتجعل نفسها أيَّ شيءٍ تريد، وتجمع لنفسها الثمار التي تحملها (بينما لغيرها تحمل النباتاتُ ثمارَها، والحيواناتُ نِتاجها). وهي تُحقِّق غايتها حيثما وُضع حد الحياة. فإذا كان من شأن الانقطاع في باليه أو مسرحية أن يُجهض العمل كله، فإن الروح العاقلة، في أي مشهدٍ حيثما قُوطِعَت، تكون قد أَكملَت عملَها بتمامه؛ بحيث يحق لها أن تقول «هذا ما عندي.»١
والروح العاقلة، فضلًا عن ذلك، تجتاز العالم كله والخلاء المحيط به، وتستكشف شكله، وتمد نفسها في لانهاية الزمان،٢ وتُحيطُ بالتجدُّد الدوري ﻟ «الكل» وتفهمه. وتَفهَم أن من سيأتي بعدنا لن يشاهد شيئًا جديدًا، مثلما أن من سبقنا لم يَشهَدْ أكثر مما نشهده. هكذا اطِّراد الأشياء؛ فمن بلغ الأربعينَ ولديه أدنى درجةٍ من الفهم فإنه بمعنَى ما قد شَهِد كل ما كان وكل ما سيكون.٣

من خصائص الروح العاقلة أيضًا حُبُّ الجار، والصدق، والتواضُع، وأن ترفع نفسها فوق كل شيء، وهذه الأخيرةُ من خصائص القانون أيضًا. لا فرق إذن بين مبدأِ الفلسفةِ الحقيقي ومبدأِ العدالة.

(١١-٢) ستَرخُص عندك قيمة الأغنية أو الرقصة المسلِّية، أو مباراة المصارعة، إذا ما فككت الخطَ اللحني للأغنية إلى نغماتٍ مفردةٍ وسألت نفسك في كل واحدة: «هل هذا شيءٌ يتملكني؟» ولسوف تتراجع عن الاعتراف بذلك. كذلك الأمر إذا أخذتَ الرقصة بتحليلٍ مماثلٍ لكل حركةٍ وكل رقصة، وكذلك الأمر في المصارعة. تَذكَّر إذن، باستثناء الفضيلة والأفعال الفاضلة، أن تتجه مباشرةً إلى الأجزاء المُكوِّنة لأي شيء، وفي تَشريحِك له ستتخلص من سحره. وعليك أن تُطبِّق المنهج نفسه على الحياة كلِّها.٤
(١١-٣) ما أَنبلَ النفس التي تكون مستعدةً، إذا اقتضى الأمر، أن تُفارقَ البدن لساعتها لكي تفنى أو تتناثر أو تبقى بعد البدن.٥ ولكن ليكن ذلك الاستعداد نابعًا من رأي المرء ذاته واقتناعه الخاص، لا من مجرد الرغبة في المعارضة ومخالفة المألوف، كما هو شأن المسيحيِّين.٦ ليكن استعدادًا مُتعقلًا جادًّا صادقًا طبيعيًّا خاليًا من التصنُّع والمَسرَحة.٧

(١١-٤) هل صنعتُ شيئًا ما من أجل الصالح العام؟ إذن فقد تَلقَّيتُ أجري. لتكن هذه دائمًا قَناعتَك ولا تكُفَّ أبدًا عن صُنع الخير.

(١١-٥) ما هي حِرفتُك؟ أن أكون إنسانًا صالحًا، ولكن هذا لا يتأتى إلا خلال المفاهيم الفلسفية؛ المفاهيم الخاصة بطبيعة العالم، والمفاهيم الخاصة بالطبيعة الحقة للإنسان.

(١١-٦) في البداية عُرضت التراجيديات على المسرح لكي تُذكِّر الناسَ بالأمور التي يمكن أن تحدث لهم، وبأن هذه الأحداث تُحتِّمها الطبيعة، وأن ما يُؤثِّر فيك في المسرح ينبغي ألَّا يكرثَك على المسرحِ الأكبر للحياة. بِوُسعِك أن ترى كيف يتعين على الأشياء أن تتبدَّل وأنه حتى مَن يَصِيحون،٨ «أيْ كيثايرون!» ينبغي عليهم أن يتحملوها.

ثَمَّةَ أيضًا بعض الأقوال المفيدة عند التراجيديِّين، وبخاصةٍ:

«إذا لم تعُد الآلهة تكترث بي وبطفلَيَّ؛ فهذا أيضًا له ما يُبرِّره.»٩

ثم:

«الأشياء المُجرَّدة، الوقائع العجماء، ينبغي ألَّا تُثير غضبك.»١٠

ثم:

«السنابل الناضجة تُحصَد، وكذلك حياة الكائنات.»١١
وبعد التراجيديا أُدخِلت الكوميديا القديمة.١٢ وكان ثَمَّةَ قيمةٌ تعليميةٌ في صراحتها غير المُحدَّدة، وهذا الكلام المكشوف كان بنفسه تحذيرًا مفيدًا من الغرور — ديوجينيس أيضًا تبنَّى هذه السمة لهدفٍ مماثل.١٣ وبعد هذا انظر في طبيعة الكوميديا الوسيطة، والغرض من التبنِّي اللاحق للكوميديا الجديدة، التي انحَدرَت بالتدريج إلى مجرَّد فنِّ التقليد. صحيحٌ أن هؤلاء الكُتَّاب أيضًا قالوا بعض الأشياء الجيدة، ولكن انظر إلى أية غايةٍ انتهت الحركةُ بأكملِها لهذا الصِّنف من الشعر والدراما؟
(١١-٧) من الجليِّ البيِّن أنه ليس ثَمَّةَ حالةٌ حياتيةٌ أنسب لمُمارسةِ الفلسفةِ من هذه الحالة التي تمر بها الآن.١٤
(١١-٨) الفرعُ الذي يَنبَتُّ عن الفرع المُجاوِر ينبَتُّ بالضرورة عن الشجرة كلِّها. كذلك الإنسان الذي ينفصل عن إنسانٍ آخر، يكون قد سقط من المجتمع كلِّه. وإذا كان فرع الشجرة ينقطع بفعلِ غيرِه فإن الإنسان يفصل نفسه بنفسه عن جاره، بسبب كراهيته هو ورفضه، غيرَ مُدركٍ أنه بذلك إنما فصل نفسه عن المجتمع الأوسع لرفاقه المواطنِين. غير أن هناك هبةً منحنا إياها زيوس الذي جمع المجتمعات؛ وهي أن بِوُسعنا أن نلتئم مرةً أخرى بجارنا ونستعيد مكاننا في الكيان الكلي. غير أنه إذا تكرر ذلك مرارًا فإن مثل هذا الانفصال يجعل من الصعب على من عزل نفسه أن يندمج مرةً ثانيةً ويستعيد وضعه السابق. جملة القول أن الفرع الذي ينمو مع الشجرة منذ البداية ويُشاركها حياتها ليس كالفرع الذي انفصل ثم أُعيد وصله، إنما ينطبق عليه قول البستانيِّين: «إنه يُشارك بقية الأَفرُع في الجِذع ولكن لا يُشارِكها في العقل.»١٥

(١١-٩) كما أن أولئك الذين يقفون في طريقك لِيصُدُّوك عن المُضي في الطريق المستقيم لن يستطيعوا أن يصرفوك عن الفعل القويم؛ كذلك ينبغي عليك أن تُوازن بين الجانبَين، فتكون ثابت الرأي والفعل من جهةٍ ورفيقًا من جهةٍ أخرى بمن يَضعُ العثراتِ في طريقِك أو يَنقِم عليك تقدُّمَك؛ فأن تسخط عليهم هو أيضًا ضعفٌ منك، مثله مثل أن تنحرف عن مسارك أو ترتدع عنه؛ فكلاهما بمثابة إهمال الواجب؛ أن ترعوي عنه أو أن تصطدم بعشيرتك ورفاقك في الطبيعة.

(١١-١٠) «ليست هناك طبيعةٌ أدنى من الفن.»١٦ فالفنون ما هي إلا محاكاةٌ لطبيعة الأشياء. فإذا صح ذلك فإن تلك الطبيعة التي هي الأكمل والأشمل بين كل الطبائع لا يمكن أن تكون أقلَّ شأنًا من أي ابتكارٍ فني. فإذا كانت الفنون جميعًا تُنتِج الأدنى من أجل الأعلى، فإن هذا أيضًا هو سبيل الطبيعة الكونية. والحقُّ أنه ها هنا يكمُن مصدر العدالة الذي تستمد منه بقية الفضائل وجودها؛ إذ لن يكون للعدالة أثرٌ إذا نحن ركَّزنا اهتمامنا على الأشياء اللافارقة indifferentia أو إذا كنا سُذَّجًا لا نَثبُت على مبدأ.١٧
(١١-١١) لا تَفرِض الأشياءُ الخارجيةُ، التي تطلبها أو تتجنبها، نفسَها عليك فرضًا، إنما أنت، بمعنًى ما، من يخرج إليها. فلْيَهدأ حكمك عليها وسوف تهدأ هي بدورها، ولن تَراك تسعى إليها بعدُ ولا تتجنبها.١٨

(١١-١٢) الروح كُرويَّة الشكل تظل محتفظةً بهيئتها ما لم تَنتَأْ تجاه شيءٍ أو تنكمش من شيء، وما لم تشِبَّ أو تخمُدْ، بل تَبقَى محتفظةً بنورٍ دائم ترى به حقيقة الأشياء جميعًا وترى به «الحقيقة في ذاتها».

(١١-١٣) فلانٌ يحتقرني؟ هذا شأنه. أما أنا فسأظل حريصًا على ألا يَبدُر مني أي لفظٍ أو فعلٍ يستوجب الازدراء. سيكرهني فلانٌ؟ هذا شأنه. أما أنا فسأظل رفيقًا حسن النية تجاه الجميع، ومستعدًّا لأن أُظهِر فلانًا هذا على خطئه؛ لا بتأنيبٍ ولا بتصنُّع التسامُح، بل بنبالةٍ وإخلاصٍ حقيقيَّين، مثل فوكيون العظيم (ما لم يكن مُتهكِّمًا في قوله).١٩ هكذا ينبغي أن يكون ضميرنا الباطن، الذي تراه أعينُ الآلهة: ينبغي أن ترانا الآلهةُ غير ساخطِين ولا شاكِين. وماذا يَضيرُك إذا كنتَ الآن تَفعلُ ما تُسيغُه طبيعتُك وما يفي بالغرضِ الحاضرِ لطبيعة العالم — إنسانًا أُسنِد إليه تحقيقُ الخيرِ العامِّ على هذا النحوِ أو ذاك؟

(١١-١٤) يَحتقِر بعضهم بعضًا، ويُنافقه رغمَ ذلك. يُريدون العلو والترقِّي، وينبطحون رغم ذلك!

(١١-١٥) ما أَشدَّ كذبه وتصنُّعَه ذلك الذي يقول: «لقد عَقدتُ النية على أن أكون مخلصًا لكَ.» ماذا تفعل أيها الرجل، وما الداعي لهذه المُقدِّمات؟ الأفعال سوف تكشف كل شيء. الإخلاص ينبغي أن يكون مكتوبًا على جبينك، متجليًا في نغمة صوتك وبريق عينَيك، تمامًا كما يقرأ المحبوب كل شيء في أَعيُن مُحبِّيه. للصلاح والإخلاص شميمٌ نافذٌ لا يُخطِئه العابر. أمَّا تكلُّف الإخلاص فأَشبَه بالخِنجر. لا شيء أكثر شَينًا من صداقة الذئاب. فبُعدًا لها. الرجل الصالح والطيِّب والخيِّر تَنضَح نظرته بهذه الصفات كلها ولا تُخطِئه العين.

(١١-١٦) عِش الحياةَ على أفضلِ نحوٍ ممكن. بوُسعِ الروح أن تفعل ذلك إذا كانت غير مكترثةٍ بالأشياء غير الفارقة indifferent. وستكون غيرَ مكترثةٍ بهذه الأشياء إذا نظرت إليها ككلٍّ وإلى كلٍّ منها على حدة، وتَذكَّرَت أنْ لا شيء من هذه الأشياء يُصدِر حكمًا عن نفسه أو يَفرِض نفسه علينا؛ فالأشياء ذاتُها خاملة. وإنما نحن الذين نُنتِج الأحكام عنها ونَطبَعها في عقولنا. وإنَّ بِوُسعِنا ألَّا نَطبَعها على الإطلاق، وأن نمحُو في الحال أي حكمٍ تَصادَف انطباعُه. تَذكَّرْ أيضًا أن انتباهنا إلى هذه الأشياء لا يمكن أن يَدومَ إلَّا لحظةً قصيرةً ثم تنتهي الحياة. وما الصعب في ذلك على أية حال؟ فإذا كانت هذه الأشياء متفقةً مع الطبيعة فتقبَّلها وستَجِدها سهلةً يسيرة، وإذا كانت ضد الطبيعة فابحث عما هو متفقٌ مع طبيعتك واسعَ في طلبه حتى لو لم يأتِ معه بمجد؛ فمن حق كل إنسانٍ أن يلتمس ما هو خيرٌ له.

(١١-١٧) في كل شيءٍ يَعرِض للخبرة انظُر في مَصدرِه الذي منه أتى، وفي مُكوِّناته، وإلى أي شيءٍ يتحول، وأيَّ صنفٍ من الأشياء سيكون بعد أن يتحول، وأن التغيُّر لن يضيره شيئًا.

(١١-١٨) إذا ما أساء إليك أي شخصٍ فانظر:
  • أولًا: ماذا تكون، في نظري، علاقتي بهم، وحقيقة أننا خُلِقنا من أجل بعضنا البعض، ومن جهةٍ أخرى أنني خُلقتُ لأكون قائدَهم، مثلما يقود الكبش سِربه والثَّور قَطيعه؟ ولكن ابدأ من المبادئ الأولى. إذا كانت الأشياء جميعًا ليست مجرَّدَ ذراتٍ عشواء، إذن فالطبيعة تحكم الكل، والأدنى، بالتالي، خُلق من أجل الأعلى، والأعلى من أجل بعضهم بعضًا.
  • ثانيًا: أي صنفٍ من الناس هم على موائدهم، وفي فراشهم … إلخ؟ والأهم، أيُّ صنف من السلوك تُمليه آراؤهم عليهم. وبأي اعتزازٍ ورضًا ذاتيٍّ يفعلون ما يفعلون؟
  • ثالثًا: إذا كان ما يفعلونه صوابًا، فبها ونِعمَت، وإذا كان خطأً فمن الواضح أنهم يفعلونه عن جهلٍ ومن غير قصد؛ فمثلما تكره النفس أن تُحرم من الحقيقة، كذلك تكره أن تُحرم من القدرة على أن تُعامِلَ كل شخصٍ كما يستحق؛ وبالتالي فإن الناس يَسوءُهم أن يُوصَفوا بالظلم أو الجحود أو الطمع. وباختصار؛ أن يُوصَفوا بأنهم يُسيئون لجيرانهم.
  • رابعًا: أنت نفسُك ترتكبُ أخطاءً كثيرةً، وإن كُنتَ تُحجِم عن ارتكاب مثل أخطائهم بدافعِ الخوف أو اعتبار السمعة أو غيرِ ذلك من الدوافعِ الدنيئة.
  • خامسًا: لَستَ حتى واثقًا من أنهم يُخطِئون؛ فكثيرٌ من الأشياء يجري فعلها كجزءٍ من خطةٍ أكبر. وعلى المرء بصفةٍ عامةٍ أن يعرف الكثير قبل أن يُمكنه أن يقطع بحُكمٍ على أفعال شخصٍ آخر.
  • سادسًا: عندما يأخذك الحَنَق أو الضَّجَر فتذكَّرْ أن حياة المرء مجرَّدُ لحظةٍ وسرعان ما سنكونُ جميعًا في قبورنا.
  • سابعًا: ليست أفعالهم هي ما يَسوءُنا؛ لأن لها أساسَها في عقلهم المُوجِّه، بل حُكمنا نحن على هذه الأفعال. فامحُ هذه الأحكام، واعقِد العزم على أن تتخلى عن تقييمك لجُرمٍ مُفترَض، وسيذهب غضبك في الحال. وكيف تمحو الأحكام؟ بأن تَذكُر أن جُرم غيرِك لا يُلحِق بك عارًا؛ فالعار هو الضرر الوحيد وإلَّا لكنتَ أنت أيضًا مُذنبًا بإلحاق الكثير من الضَّرَر وصِرتَ لِصًّا وَغْدًا.
  • ثامنًا: أكبر الألم إنما يأتي من الغَضَب والحَنَق الناتجَين، لا من الأسباب الأصلية لِغضَبنا وحنَقنا.
  • تاسعًا: للرفق تأثيرٌ فعالٌ لا يُقهر، بشرط أن يكون أصيلًا لا تصنُّع فيه ولا نفاق؛ فماذا عسى أن يفعل لك أعنفُ الناس إذا ما بقيتَ رفيقًا به، وبذلت له النُّصح ما استَطعتَ وبيَّنتَ له خطأه في نفس الوقت الذي يحاول فيه إيذاءك؟ «لا يا بُنيَّ إنما خُلقنا لغاياتٍ أخرى غيرِ هذا. لا سبيل إلى أن تُصيبَني بأذًى؛ فما تؤذي إلا نفسك يا ولدي.» وتَرفَّقْ إليه في الحديث وبِيدِك المبدأُ العامُّ الذي يقضي بذلك؛ فالنحلُ لا تفعل ذلك ولا أيُّ مخلوقات جَبلَتها الطبيعة على الاجتماع. ولا يَشُوبنَّ نُصحَك أيُّ شيءٍ من السخرية أو التوبيخ. ولْيكُن نُصحًا مُترفِّقًا غيرَ جارح، ولا تُحدِّثْه كأنكَ تُلقي محاضرةً تريد أن تنتزع بها إعجاب الآخرِين، بل تَحدَّثْ إليه وكأنه وحدَه من غير شُهود.
تَذكَّر هذه المبادئ التسعة كأنها هدايا من ربَّات الفنون. ولتكن إنسانًا ما حَييتَ. وتَجنَّب التملُّق بقَدْر ما تَتجنَّب الغضب في التعامُل معهم؛ فكلاهما ضارٌّ ولا يُؤدِّي إلى الصالح العام. وتَذكَّرْ في نوبات غضبك أن الغضب ليس من الرجولة في شيء، وأن الرحمةَ واللينَ أكثرُ إنسانيةً وبالتالي أكثرُ رجولة؛ فالرُّحَماء هم ذَوُو القُوَّة والبأس والشجاعة وليس القُساة ولا الساخطون. فكلما تَحكَّمتَ في انفعالاتك كنتَ أقرب إلى القوة.٢٠ فالغضبُ دليلُ ضعفٍ شأنُه شأنُ الجزَع؛ فالغاضب والجَزِع كلاهما أُصِيب وكلاهما استَسلَم.

ودونك هديةً عاشرةً من قائد ربَّات الفنون (أَبولُّو)؛ أن من الجنون أن تتوقَّع من الأشرار ألَّا يقعوا في الخطأ؛ أن تطلُب ذلك هو أن تطلُب المستحيل، ولكن أن تَسمحَ لهم أن يفعلوا مثل ذلك بالغيرِ ولا يفعلوه بك هو خَطلٌ واستِبداد.

(١١-١٩) ثَمَّةَ أربعةُ أدواءٍ أساسيةٍ تُصيب العقل المُوجِّه كن على حذرٍ دائمٍ منها كلما صادَفتَها، وقل في كل حالةٍ: «هذه الفكرة لا لزوم لها.» «هذه قد تُضعف وشائج المجتمع.» «هذا الذي تهمُّ بقوله لا يُعبِّر عن قناعتك الحقيقية.» (أن تقول ما لا تقتنع به هو قمة التناقُض). أما الرابع فهو عندما تُبكِّت نفسَك على أي شيء؛ فهذا دليلٌ على أن الجزء الأكثر ألوهةً فيك قد خَضعَ واستسلم للجزء الأدنى والفاني — أي الجسد — ولذَّاتِه العنيفة.

(١١-٢٠) كل ما هو من عُنصُرَي الهواء والنار فيك يميل بطبيعته إلى أعلى. ورغم ذلك فهو يُطيع مَيلَ «الكل» ويظل راضخًا هنا في الكُتلة المُركَّبة (الجَسَد). وكل ما هو من التراب والماء فيك، رغم مَيلِه إلى الهبوط إلى أسفل، يُرفَع إلى أعلى ويبقى في وضعٍ غيرِ طبيعيٍّ بالنسبة له. إذن حتى العناصر تعنو ﻟ «الكل»، وتُرغَم على البقاء في موضعها المُخصَّص لها، حتى يأتي نذير الفَناء مرةً أخرى من المَصدَر نفسه.

أليس من العجيب إذن ألَّا يتمرَّد، ويتبرَّم بمكانه المَمنوح له، إلا الجزءُ العاقلُ منك؟ ورغم ذلك فليس مفروضًا عليه شيءٌ غيرُ ما يتفقُ مع طبيعته، ولكنه ما يَزال يأبى أن يُذعِن، وما يزال يرتد في الاتجاه المُعاكِس؛ فكل اتجاهٍ نحو الظلم والإفراط والغضب والأسى ما هو إلا رِدَّةٌ عن الطبيعة. وفضلًا عن ذلك، فمتى أحس العقل المُوجِّه بالاستياء من أي حدثٍ فهذا أيضًا تخلٍّ عن واجبه المنوط به؛ فهو لم يُفطَر على العدل إلى البشر فحَسبُ بل فُطِر أيضًا على تمجيد الرب وخدمته؛ فهذا أيضًا شكلٌ من أشكال التناغُم مع الفطرة ولعله أهمُّ وأوجبُ من أفعال العدل.

(١١-٢١) «من لا يثبت على غايةٍ واحدةٍ في الحياة لا يمكن أن يبقى هو نفسه واحدًا طَوال حياته.»٢١ لا يكتمل هذا المبدأ ما لم تُضِف إليه أيضًا ماذا ينبغي أن تكون هذه الغاية؛ فمثلما تَتعدَّد الآراء حول ما يعتبره الأغلبية خيرًا بطريقةٍ أو بأخرى ولا ينتزع الإجماع إلا فئةٌ واحدةٌ من الأشياء وهي الأشياء التي تصُبُّ في الصالح العام؛ كذلك ينبغي أن يكون هدفنا الذي نُكرِّس له أنفسنا هو هدفٌ اجتماعي؛ أي صالح إخواننا المُواطنِين؛ فمن يُوجِّه كل جهوده إلى هذا الهدف فسيكون مُتسقًا في كل أفعاله، ويكون، من ثَمَّ، هو الشخص نفسه طَوالَ حياته.

(١١-٢٢) قارن فأرَ الجبلِ بفأرِ المنزل: انظر كم هو مُروَّعٌ مُستنفَرٌ فأرُ المنزل.

(١١-٢٣) اعتاد سقراط أن يُطلِق على الاعتقادات الشائعة اسم «بعبع»؛ أشياء تُخيف بها الأطفال.٢٢

(١١-٢٤) دَأَب الإسبرطيون في احتفالاتهم على أن يضعوا مقاعد للغُرباء في الظل، وأن يجلسوا هم أنفسهم حيثما شاءوا.

(١١-٢٥) اعتَذَر سقراط لبيرديكَّاس المقدوني عن عدم تلبية الدعوة لزيارته قائلًا: «حتى لا أموتَ أَسوأَ مِيتةٍ؛ أن أَتقبَّل معروفًا لن أكون قادرًا على ردِّه.»٢٣

(١١-٢٦) ثَمَّةَ قاعدةٌ في الكتابات الأبيقورية تشير بأن تتمثل في ذهنك على الدوام واحدًا من أولئك الذين كانوا يتبعون طريق الفضيلة في الأزمنة السابقة.

(١١-٢٧) يقول الفيثاغوريون: «تأمَّلوا السماءَ في الفجر.» كي نُذكِّر أنفسنا بثبات تلك الأجرام السماوية، التي تُؤدِّي الشيء نفسه على الدوام وبالطريقة نفسِها، ونُذكِّر أنفسنا أيضًا بنقائها وتجردها؛ فليس على نَجمٍ حِجاب.

(١١-٢٨) تَذكَّرْ سُقراطَ بملابسه الداخلية عندما أَخذَت كسانثيبي٢٤ سُترتَه ومَضَت، واذكر ماذا قال لأصدقائه الذين أَجفَلوا منه خجلًا عندما رأَوه بهذه الحال.

(١١-٢٩) لا في الكتابة ولا في القراءة يُمكِنك أن تُعلِّم قبل أن تتعلم، كذلك الأمر، وأكثر، في الحياة.

(١١-٣٠) «أنت عبدٌ … فلا صوتَ لك.»٢٥
(١١-٣١) «وكان قلبي يضحك في داخلي.»٢٦
(١١-٣٢) «سوف يلعنون الفضيلة، ويُغلِظون القول.»٢٧
(١١-٣٣) ليس غير مجنونٍ من يطلب تِينًا في الشتاء؛ ومجنونٌ بالمثل من يأمل في طفلٍ بعد فوات الأوان.٢٨

(١١-٣٤) اعتاد إبكتيتوس أن يقول: عندما تُقبِّل طفلك ينبغي أن تقول لنفسك «ربما تموت غدًا.»

– «ولكن هذا شؤم.»

– يرد إبكتيتوس: «كلَّا، ليس شؤمًا ما يُشير إلى عمليةٍ طبيعية، وإلَّا لكان شؤمًا أن تتحدث عن حصاد القمح.»

(١١-٣٥) عِنبٌ فجٌّ، عُنقودٌ ناضج، زبيب؛ كُلُّه تغيُّر، لا إلى عدم، بل إلى شيءٍ غيرِ مَوجودٍ بعد.٢٩
(١١-٣٦) ليس بِمُكنةِ لصٍّ أن يسرق إرادتَك.٣٠

(١١-٣٧) يقول إبكتيتوس أيضًا: علينا أن نكتشف منطقًا للقبول، وفي مجال رغباتنا أن نحرص على أن تكون كل حركةٍ مشروطةً، ذاتَ هدفٍ اجتماعي، ومتناسبةً مع قيمة هدفها. أمَّا عن الرغبة الحسية فيجب أن نظل بمنأى كاملٍ عنها. وأمَّا النفورُ فعلينا ألَّا نُبديه بإزاءِ أي شيءٍ خارجٍ عن قدرتنا.

(١١-٣٨) مرةً ثانية: «الخِلافُ هنا ليس هينًا … إنها مسألة الجنون أو العقل.»٣١

(١١-٣٩) اعتاد سقراط أن يسأل: «ماذا تريدون؟ نفوس الكائنات العاقلة أم غير العاقلة؟»

«العاقلة.»

– أي صنفٍ من الكائنات العاقلة؟ الصالحة أم غير الصالحة؟

– «الصالحة.»

– لماذا إذن لا تَسعَون إليها؟

– «لأنها لدينا.»

– لماذا إذن تَقتَتلون وتَصطرِعون؟٣٢
١  انظر أيضًا: ٣-٨، ١٢-٣٦.
٢  في النظرة الشاملة للوجود، انظر: ٩-٣٢: «عندئذٍ ستُوفِّر لنفسك مكانًا رحبًا بأن تفهم الكون كله وتستوعبه في عقلك، وبأن تتفكر في أبدية الزمان.»
٣  انظر أيضًا: ٢-١٤: «الأشياء جميعًا هي ما هي منذ الأزل، تبدأ وتعود دوالَيكَ، وسيَّان أن يرى المرء نفس المشهد لمائة عام أو مائتَين أو ما لا نهاية من الأعوام.» وانظر: ٧-٤٩: «ومن ثَمَّ فإنه سيَّان أن تتأمَّل الحياة البشرية أربعين سنة وأن تتأملها عشرة آلافٍ من السنين؛ فأي جديدٍ عساك تراه؟»
٤  تحليلٌ ردِّيٌّ مُغالطٌ وغير مُقنِع؛ فالكل أكبر من مجموع أجزائه وليس مجرد مجموعٍ جبري لها. وحين تجتمع بعض المُكوِّنات لتُكوِّن منظومةً أو نسقًا «تبزغ» لهذا النسق الأَعقَد صفاتٌ «جديدة» ليست في المُكوِّنات، تنشأ «جِدة» novelty حقيقية. للكل إذن صفاته الجديدة وقوانينه الخاصة التي يجب أن نتوجَّه إليها مباشرة ونُقابلها على أرضها وندرُسها بحقها الشخصي.
٥  يومئ السياق هنا إلى أن ماركوس يقصد الموت الاختياري بالدرجة الأساس.
٦  كان المسيحيون في عصر ماركوس يُضطهدون ويُستتابون بأن يعلنوا الارتداد عن عقيدتهم ويبرهنوا على ذلك بتقديم أضحيةٍ إلى الإمبراطور، ولكنهم كانوا في الأعم يرفضون ذلك ويختارون الاستشهاد، وهو ضربٌ من العناد والتحدِّي والمظهرية من وجهة نظر غير المسيحيِّين.
٧  المهم هنا أن يكون القرار بإنهاء حياته قائمًا على شيء أقوى وأرسخ من مجرد الحماس للشهادة أو الرغبة في اتخاذ وضع مسرحي، انظر: ١٠-٨: «وإلَّا فاجعل لك مَخرجًا عاجلًا من الحياة، لا بانفعالٍ بل ببساطة وحرية وتواضُع، جاعلًا هذا الرحيل إنجازًا واحدًا مُشرِّفًا في حياتك على أقل تقدير.»
٨  هو الجبل الذي أُلقي عليه أوديب طفلًا وليدًا بهدف التخلُّص منه، والاقتباس من سوفوكليس — أوديب ملكًا — ١٣٩١.
٩  من المسرحية نفسها، أبيات ٧-٤١.
١٠  نفسه، أبيات: ٧-٣٨.
١١  نفسه، أبيات: ٧-٤٠.
١٢  الكوميديا القديمة يُمثِّلها أرسطوفانيس (مات عام ٣٨٦ق.م)، والكوميديا الجديدة يمثلها مناندروس (مات عام ٢٩٢ق.م)، انظر: أحمد عتمان، الأدب الإغريقي، ص٣٨٩–٤٣٠.
١٣  عُرِف ديوجينيس، الفيلسوف الكلبي، أيضًا بِسُخريته القاسية. ومن الواضح أن ماركوس يُؤيِّد الصراحة المُطلَقة وكثيرًا ما اتخذها هو نفسه.
١٤  لاحِظْ أن ماركوس في مواضعَ أُخرى من «التأمُّلات» يعتبر نفسه فيلسوفًا فاشلًا. في ٨-١ على سبيل المثال يقول ماركوس: «لقد تبدَّد أملُك وصار من الصعب عليك أن تنتزع لقب فيلسوف، كما أن خطَّك في الحياة يمضي عكس ذلك.»
١٥  انظر: ٨-٣٤؛ حيث يجيز ماركوس إعادة الالتئام بالمجتمع من غير هذه التحفُّظات.
١٦  اقتباس من مصدرٍ شعريٍّ غيرِ معروف.
١٧  استنتاجٌ مستغلقٌ لا يستقيم لنا إلا بتأويلاتٍ ظنية.
١٨  انظر في ذلك: ٥-١٩، وقارن بفقرة ١١-١٦.
١٩  فوكيون (٤٠٢–٣١٨ق.م) سياسيٌّ وقائدٌ أثيني لُقِّب ﺑ «الصالح». وقد حُكم عليه بالموت بِتناوُل السُّم عام ٣١٨ق.م. قيل إنه سئل قبل تناوُله السم هل لديه أي رسالة يريد أن يبعث بها إلى ابنه، فما كان جوابه إلا أن قال إنه ينبغي ألَّا يَحمِل في نفسه ضِغنًا ضد الأثينيِّين؛ وذلك «لِكرمِ ضيافتِهم الذي أَشرَبه الآن!»
٢٠  «وإنما الشَّدِيد الذي يَملِك نفسَه عند الغضَب.»
٢١  مصدر هذا المبدأ غير معلوم. ولعله من صَوغ ماركوس نفسه؛ فالاتساق في الحياة وفي الأفعال هو مبدأٌ سقراطي (أفلاطون، الدفاع ٣٣a ورُواقي (انظر: شيشرون، في الواجبات: ١-١١١). في أهمية الهدف والغاية، انظر: ٢-٥، وانظر أيضًا: ١-٨ حيث يذكر ماركوس أنه تعلم من أبولونيوس أن يظل دائمًا الرجلَ نفسَه.
٢٢  عن إبكتيتوس، استنادًا إلى أفلاطون (محاورة أقريطون ٢٤٦، و/أو فيدون evv).
٢٣  ربما تكون ذاكرة؛ إذ إن أركيلاوس ملك مقدونيا (مات في عام ٣٩٩ق.م) هو الذي دعا سقراط كما روى أرسطو وسينيكا.
٢٤  زوجة سقراط.
٢٥  اقتباس عن شاعرٍ مجهول.
٢٦  الأوديسية ٩-٤١٣. وتشير إلى أن أوديسيوس كان يتلذذ بانتصاره على الكيكلويس بوليفيموس.
٢٧  عن هزيود: الأعمال والأيام، ١٨٦.
٢٨  احتمل ماركوس وفاة سبعة من أبنائه الأربعة عشر في سن الرضاع أو الطفولة المُبكِّرة. وتحض الرَّواقية على التجمَّل في مواجهة موت الابن وعدم الجزع لرحيله. وقد سجل ماركوس إعجابه بأبولونيوس أمام الخطوب «لا يُبدِّله الألم المفاجئ أو فقدان ابنٍ أو المرض الطويل.» (١-٨). وفي ٩-٤٠ يقول: «يدعو غيرك: كيف أُنقِذ ولدي الصغير؟ أما أنت فادعُ: كيف أتعلم ألَّا أخاف من فقده؟» وفي ١٠-٣٤ يقول: «أبناؤك أيضًا مُجرَّد أوراق» … أي مُجرَّد أشياءَ تافهةٍ وزائلة حين تضعها في الإطار الأعرض للأشياء، شأنها في ذلك شأن المديح والمَلام والشهرة. وفي ١٠-٣٥ يقول: «العقل الذي يقول: «أطفالي يجب أن يعيشوا.» … هو عينٌ (مريضة) تطلب الألوان الخضراء أو أسنانٌ (مريضة) تطلب الطرِيَّ من الطعام.»
٢٩  عن إبكتيتوس.
٣٠  عن إبكتيتوس.
٣١  عن إبكتيتوس.
٣٢  لم يَرِدْ هذا الحديث عن سُقراطَ في أي مصدرٍ آخر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤