الكتاب الثالث

كُتب في كارنَنْتَم١
(٣-١) ينبغي أن نضع في حُسباننا، ليس فقط أن الحياةَ تنقضي يومًا بعد يوم وأن رصيدَنا الباقي يتناقص، بل أيضًا أننا إذا امتدَّ بنا الأجلُ فلا ضامن لنا أن عقولنا ستظل محتفظةً بالقُدرة على فهم العالم وتأمُّله، تلك القدرة التي تُشكِّل خبرتنا بالأمور الإلهية والإنسانية. فإذا أدرَكَنا العَتَهُ فلن يتوقَّفَ فينا التنفسُ ولا الغذاءُ ولا الخيالُ ولا الرغبة، بل قبل أن تذهب هذه سيذهب استخدامُ المرء لنفسه استخدامًا صحيحًا، تقديرُه الدقيق لما يتوجب فعله، قدرتُه على تحليل الانطباعات، وعلى معرفة هل عليه أن يرحل مختارًا عن الحياة٢ أو لا، هذه وكل الأمور الأخرى التي تتطلب حسابًا حصيفًا. فلنُعجِّل إذن، ليس فقط لأن الموت يدنو حثيثًا، بل أيضًا لأن قدرتنا الفكرية على معرفةِ الطبيعةِ الحقَّة للأشياء وتسيير أفعالنا وفقًا لهذه المعرفة سيعروها الزوال قبلنا.٣

(٣-٢) شيءٌ آخر عليك أن تلحظه؛ أنه حتى النواتج العرَضية لما يتم وفقًا للطبيعة لا يخلو من فتنةٍ وجاذبية. حين يُخبَز رغيفٌ، على سبيل المثال، فلا بُدَّ من أن تحدث تشقُّقاتٌ هنا وهناك ضد ما يقصده الخباز. على أن هذه التشقُّقات غير المُتعمَّدة تجذب العين بطريقةٍ ما وتُثير الشهية. التِّين أيضًا ينفلق عند تمام نضجه. وفي حالة الزيتون الذي يُنضَج على شجرته فإن قُرب التحلُّل نفسه يمنح ثمرتَه رونقًا مُعيَّنًا. كذلك سنابل القمح المنحنية إلى الأرض، وجَفن الأسد المُغضَّن، والزَّبَد المُتدفِّق من فم الخنزير، وغير ذلك كثير؛ كل أولئك أشياءُ تبدو بعيدةً عن الجمال حين تُؤخَذ على حِدَة، ولكنَّ تَرتُّبَها على عمليات الطبيعة يُضفِي عليها جمالًا وجاذبية. ومن ثَمَّ فأيُّ إنسانٍ لديه شعورٌ واستبصارٌ عميقٌ بتشغيلات «الكل» سوف يجد لذةً ما في كل جانبٍ منها تقريبا، بما في ذلك النواتج العَرَضية. مِثلُ هذا الإنسان سوف تُبهِجه زمجرة الوحوش بهجةً لا تقل عن بهجته بكل تمثيلات المُصوِّرِين والمثَّالِين، سوف يرى لونًا من التفتُّح والوسامة في امرأةٍ أو رجلٍ عجوز. ومثل هذا الإنسان سيكون قادرًا على أن ينظر بتوقُّرٍ إلى الفتنة الآسِرة في غلمانه أنفسهم. وكثيرٌ من مثل تلك المُدرَكات لن تروق كل إنسانٍ بل ذلك الذي أصبح على أُلفةٍ حقيقيةٍ مع الطبيعة ومع أعمالها.

(٣-٣) شَفى أبقراط٤ ما لا يُحصَى من الأمراض ثم مَرِض هو نفسه ومات.٥ تنبَّأ المُنجِّمون الكلدانيون بموت الكثير من الناس ثم لم يلبث كلٌّ منهم أن وافَته مَنِيته. الإسكندر، وبومبي، ويوليوس قيصر، أفنوا مُدنًا بكاملها يومًا بعد يوم وذبحوا عشرات الآلاف من الفرسان والرَّجْل في ميادين المعارك، غير أن أجلهم هم أيضًا قد حان لكي يفارقوا الحياة. طويلًا ما تأمَّل هيراقليطس٦ في الحريق النهائي للعالم، غَيرَ أن ماء الاستسقاء ملأ بطنه ومات مَكسُوًّا بكمادةٍ من روث البقر. مات ديمقريطس بالقُمَّل، وقتلت سقراطَ حشَراتٌ من صنفٍ آخر.٧
ماذا يعني كل هذا؟ لقد صَعِدتَ السفينة، أَقلعتَ، رَسَوتَ، فارحل الآن. فإذا كان لحياةٍ أخرى فلن يخلو حتى هذا الشاطئُ من الآلهة، وإذا لم يكن هناك أي حياةٍ أو حِسٍّ فلن تعود تعاني من الآلام واللذَّات،٨ ولن تعود مُستعبدًا لوعاءٍ جسديٍّ هو سيدٌ بالغُ الدناءة بقَدْر ما إنَّ عبدَه بالغ الرفعة؛ فهذا عقلٌ وروحٌ، وذاك مجرَّد ترابٍ ودم. ٩

(٣-٤) لا تُضيِّع ما تبقَّى من عمرك في الانشغال بالغير، ما لم يكن ذلك تصلًا بوجهٍ ما من أوجه الخير العام. لماذا تُجرد نفسك من الوقت من أجل مهمةٍ أخرى؟ أعني أن التفكير حول فلان، ماذا عساه يفعل ولماذا يقول أو يُضمر أو يُخطِّط وكل هذا الخط من التفكير، يَضِلُّ بك عن التأمُّل الدقيق في عقلك المُوجِّه نفسه.

لا … عليك أن تجتنب في مسار فكرك كل ما ليس له هدفٌ أو فائدة، وبخاصةٍ كلَّ ما هو فضوليٌّ خبيث. رُض نفسك على ألا تُجيل بخاطرك إلا تلك الأفكارَ التي بوُسعِكَ إن سُئلتَ فجأةً: «فيم تفكر الآن؟» أن تقول لتوِّك ما هي بصراحةٍ فتكون إجابتك دليلًا على أن أفكارك مستقيمةٌ وحسنةٌ وتليق بكائنٍ اجتماعيٍّ لا يُلقي بالًا لخيالات اللذة أو المُتع الحسية على الإطلاق، ومُبرَّأٍ من أي غَيرةٍ أو حسدٍ أو شكٍّ أو أي شيءٍ يُخجِل المرء من أن يعترف أنه خَطَرَ له.

فإنسانٌ مثل هذا، إذا لم يعُد يتنازل عن مكانه بين الصفوة الأخيار، هو أَشبَه بكاهنٍ وخادمٍ للآلهة، إنه يُلبِّي نداء الأُلوهة القابعة داخله، والتي تجعل المرء غير مُلطَّخ بالملذَّات وغير مُنغَّص بالآلام، لا تناله الإهانة ولا يعرف الخبث … مقاتلًا في أنبل حرب … لا يَجرِفه أيُّ انفعال، مُتشرِّبًا بالعدل حتى النُّخاع، يتقبل بمِلءِ قلبِه كُلَّ ما يُصِيبه وكلَّ ما هو مقسومٌ له، وقلما يتطلع إلى الآخرِين ما عساهم يقولون أو يفعلون أو يُفكِّرون؛ فبِحَسْبه ما يُكِبُّ عليه من عمل لكي يُتِمَّه، وبِحَسْبه نصيبُه المقدورُ من «الكل» لكي ينصرف إليه بهمةٍ لا تنقطع. فأمَّا عمله فيتقنه أيَّما إتقان، وأما نصيبه المقدور فهو قانع به؛ فنصيب كل امرئٍ هو رفيق رحلته وهو حادِيه في آنٍ معًا.

وهو يذكر أيضًا أن كل كائنٍ عاقلٍ هو قريبُه، وأن رعاية جميع البشر هي أمرٌ تقتضيه طبيعة الإنسان. وعلى المرء ألَّا يتخذ آراء الجميع بل آراء الذين يعيشون وفق الطبيعة فحَسْب. أمَّا أولئك الذين لا يعيشون كذلك فإنه لَيذكر دائما أي صِنفٍ من البشر هم في بيوتهم وخارجها، في ليلهم ونهارهم، يذكر ماذا يكونون ومع من يعيشون حياتهم الآثمة؛ وبالتالي فهو يزدري أي إطراءٍ يأتي من مثل هؤلاء، إنهم أناسٌ غيرُ راضِين حتى عن أنفسهم.١٠
(٣-٥) لا تفعل شيئا ضد إرادتك، أو دون اعتبارٍ للصالح العام، أو دون رَويَّة، أو بدوافعَ مُصطرِعة. لا تَصُغْ أفكارك في أسلوبٍ مُتكلَّفٍ مُبهرَج.١١ لا تكن ثرثارًا مُتطفلًا، ثم لتكن الأُلوهةُ التي داخلك هي حارسة الكائن الذي تكونه؛ كرجلٍ، مُسنٍّ، سياسيٍّ، رومانيٍّ، حاكم، رجلٍ يقوم بوظيفته مثل جنديٍّ رهن إشارةِ استدعاءٍ من الحياة، ومستعد للذهاب،١٢ لا يحتاج إلى قَسَم ولاء ولا إلى شهادة أيِّ إنسان. كن مرحًا أيضًا، وغنيًّا عن أي عونٍ خارجي وعن أي سكينةٍ تأتيك من الآخرين. واجبك أن تقوم بذاتك ولا تقوم بغيرك.١٣

(٣-٦) إذا عَثَرتَ في حياة الإنسان على أي شيءٍ يُفضِّل العدالة والصدق والاعتدال والشجاعة — وباختصارٍ شيءٌ يَفضُل اكتفاءَ عقلك بذاته، ذلك الاكتفاءَ الذي يُمكِّنك من العمل وفقًا للعقل الصحيح ومن قَبول ما ليس لك به يدٌ من أحكام القضاء — أقول إذا أمكنك أن ترى شيئًا أفضلَ من هذا فاتجِهْ إليه بكل قلبِك وتمتع بما وجدته أفضل. ولكن إذا لم يتبينْ لك ما يفضُل الإلهَ نفسَه القابعَ في داخلك والذي يحكمُ جميعَ اندفاعاتِك، ويُمحِّصُ أفكارك، والذي نأى بنفسه، على حد قول سقراط، عن كل إملاءات الحواسِّ، والذي يعنو للآلهة ويرعى بني الإنسان؛ إذا وجَدتَ كل ما عداه ضئيلًا حقيرًا بالقياس إليه فلا تأبه لكل ما عداه؛ فأنت إذا مِلتَ مرةً إلى أي بديلٍ آخرَ فسيكون من العسير والمُعنِت أن تستعيد الصدارة لذلك الخير الذي تملكه ولا تملك غيره؛ ذلك أن من الضلال أن يُوضَع أي شيءٍ آخر، من مثل إطراء الناس أو السلطة أو الثروة أو اللذة، في منافسةٍ مع الخير العقلي والاجتماعي. قد تروقك كل هذه الأشياء لحظةً صغيرة، ولكنها قد تأخذ بزمامك فجأةً وتحملك بعيدًا؛ فعليك، مرةً أخرى، ببساطةٍ وحرية، أن تختار الأفضل وتَتشبَّث به.

– «ولكن الأفضل هو ما ينفع.»

– إذا كان نافعًا لك ككائنٍ عاقل فاتخذه، ولكن إذا كان نافعًا لك كمجرد حيوانٍ فانبُذْه وتمسَّكْ بحكم العقل دون مكابرة. كن فقط على بينةٍ من أنك قد أَعمَلتَ الرأي على نحوٍ صحيح.

(٣-٧) لا تَعُدَّه نافعًا لك أيَّ شيءٍ سوف يضطرك يومًا إلى أن تُخلِف وعدك، أو تتخلى عن وقارك، أو تكره أحدًا، أو تَشُك، أو تلعن، أو تُرائي، أو تشتهي أيَّ شيءٍ يتطلب التستُّر بالحيطان والحُجُب؛ فالرجل الذي أسلم قياده لعقله وأُلوهته وقدَّس عُلوَّها وامتيازها، لا يجعل من حياته مأساةً، ولا يئن، ولا يلجأ إلى الوحدة ولا إلى الصحبة الزائدة. والأهم أنه سوف يعيش دون سعيٍ إلى الموت ولا فرارٍ منه، ولن يبالي على الإطلاق بما إذا كانت مدة إقامة روحه في جسده ستطول أو تقصر. وحتى إذا تعين عليه أن يرحل هنا والآن فسوف يرحل بسهولةٍ كما لو كان يؤدي أي عملٍ آخر تقتضيه الأمانة واللياقة. إن شغله الوحيد طُول حياته هو ألَّا يحيد بفكره عن أي شيءٍ ينتمي إلى الكائن العاقل والاجتماعي.

(٣-٨) في عقل من هُذِّب وطُهِّر لن تجد أثرًا لصديدٍ أو لقروحٍ متهيجةٍ أو لتهيُّجٍ مُؤلمٍ تحت الجلد. إن أجله لا يُوافِيه قبل أن تكتمل حياته كشأنِ ممثلٍ يغادر المسرح قبل أن ينتهي دورُه وتتم المسرحية. وفضلًا عن ذلك، فلن تجد فيه أيَّ تذلُّلٍ عبوديٍّ أو تصنُّعٍ أو اعتمادٍ على الآخرِين أو انفصالٍ عنهم، أو أي شيء يُستجوَب عليه أو أي شيء يُتستَّر له.

(٣-٩) احترِمْ ملَكَة الرأي؛ فإليها يرجع كل شيء وعليها يتوقفُ ما إذا كان عقلك المُوجِّه ما زال يُضمر أي حكمٍ غيرِ متفقٍ مع الطبيعة أو مع جبلَّة الكائن العاقل. وهذه الملَكة هي التي تكفُل لك التفكير المُتأنِّي، والأُلفة بالآخرين والطاعة للآلهة.

(٣-١٠) تَمسَّكْ بهذه الأشياء المعدودة وأَعرِض عما سواها؛ اذكر أن كلًّا منا لا يعيش إلا اللحظة الحاضرة، وما أَضأَلَها في الزمن، وأن كل ما سواها من العمر هو إما ماضٍ غير عائدٍ وإما مستقبلٌ غير معلوم؛ فما أَقصرَ مُدةَ المرء إذن في هذه الحياة، وما أَصغَر البُقعةَ التي يقطنها على الأرض! وقصيرٌ أيضًا مجدُه بعد وفاتِه مهما امتد،١٤ فهو قائمٌ على تعاقُبِ قليلٍ من البشر سرعان ما يموتون ولا يعودون يعرفون أنفسهم ناهيك بمن مات منذ زمنٍ بعيد!
(٣-١١) أَضِف هذا إلى القواعد المذكورة للتو؛ ضع لنفسك دائمًا تعريفًا أو وصفًا للشيء الذي يعرض لعقلك؛ بحيث يمكنك أن تتبين بوضوحٍ أي صنفٍ من الأشياء هو في جَوهرِه وتَجرُّده، وفي كليته وفي أجزائه، وبحيث يُمكنك أن تُفضِي إلى نفسك باسمه الصحيح وأسماء تلك العناصر التي يتركَّب منها والتي سوف ينحلُّ إليها.١٥

لا شيء يُؤدِّي بك إلى سُمو العقل مثل قدرتك على أن تَعرِض كل عنصرٍ من عناصر خبرتك في الحياة على الفحص المنهجي والصادق، وقدرتِك على أن تنظر إلى الأشياء دائمًا بحيث يمكنك في الوقت نفسه أن تتأمل أي صنفٍ من العوالم هذا وأي دورٍ يُسهِم به هذا الشيء أو ذاك في هذا العالم، وأي قيمةٍ يتحلى بها كل شيءٍ بالنسبة إلى «الكل» وبالنسبة إلى الإنسان الذي هو مُواطِن هذه المدينة العُليا التي تُعَد سَائرُ المدن مجرد عائلاتٍ فيها.

سل نفسك إذن ماذا يكون هذا الشيءُ الذي يَعرِض لي الآن؟ وأي نوعٍ من الفضائل يلزمني لمواجهته؛ اللطف مثلًا أم الشجاعة أم الصدق أم الولاء أم البساطة أم الاكتفاء الذاتي … إلخ. إذن علينا في كل حالةٍ أن نقول: هذا جاء من الله، هذا من تصريف القَدَر وغَزْله، أو شيء أشبه بالمصادفة والاتفاق، وهذا من أحد إخوتي من بني الإنسان، قريبي وزميلي، وإن كان لا يعرف ما يليق بطبيعته ذاتها. غير أني أعرف؛ ومن ثَمَّ أُعامِله برفقٍ وعدل، مُتبعًا في ذلك القانون الطبيعي للأُخوَّة، على أن أحاول برغم ذلك أن أعطيه ما يستحقه بالضبط في الأمور المحايدة أخلاقيًّا.

(٣-١٢) إذا ما انصرفت إلى المهمة التي بين يديك، متبعًا العقل الصحيح بكل العزم والجد وخلوص النية، دون أن تسمح لأي شيء أن يشتتك، بل حافَظتَ على الجانب الإلهي فيك نقيًّا ثابتًا كما لو كان مقدرًا عليك أن تُقبض حالًا، إذا تمسكت بذلك غير طامعٍ في شيءٍ ولا متوجس من شيء، بل راضيًا بما تفعله الآن وفقًا للطبيعة وبصدقٍ بطولي في كل ما تقول وتقصد، فلسوف تعيش سعيدًا، ولم يملك أي إنسانٍ أن يصدك عن ذلك.

(٣-١٣) تمامًا مثلما أن الأطباء دائمًا جاهزون بأدواتهم ومباضعهم لعلاج أي حالة طوارئ، ينبغي أن تكون لديك مبادؤك العقلية جاهزةً لفهم الأمور الإلهية والإنسانية،١٦ وأداءِ كل فِعل، مهما كان ضئيلًا، بوعيٍ بالرابطة التي تربط الإلهي بالإنساني؛ فلن يَتسنَّى لك أن تُجيد أي عملٍ يتعلق بالإنسان دون أن يكون لديك أيضًا مرجعيةٌ إلى الأمور الإلهية، والعكس بالعكس.

(٣-١٤) لا تتخبط ولا تخدع نفسك أكثر من ذلك؛ فما أحسبك سوف تقرأ مُدوَّناتك، ولا تواريخك عن قدماء الإغريق والرومان، ولا مختاراتك من الأدب التي أعددتَها لزمن شيخوختك. أَسرِع إذن إلى النهاية، وأَقلِع عن الآمال الزائفة. أَنقِذ نفسك إن كان لنفسك عندك أدنى اعتبار، قبل أن يفوت الأوان.

(٣-١٥) إنهم١٧ لا يعرفون كل ما تَعنيه هذه الكلمات؛ السرقة، والبَذْر، والشراء، والاستجمام، والواجب؛ فذاك شيءٌ يحتاج إلى رؤيةٍ أخرى غير رؤيةِ العين.
(٣-١٦) الجسد، النفس، العقل. إلى الجسد تنتمي إدراكات الحِس، وإلى النفس تنتمي النوازع، وإلى العقل تنتمي الأحكام. أمَّا استقبال انطباعات الحِس فتُشارك فيه الأنعام. وأمَّا الاستجابة لخيوط دُمى الرغبة فتُشارك فيه الوحوش والمأبونون ومن على شاكلةِ فالاريس١٨ أو نيرون. وأمَّا امتلاك العقل كمرشدٍ إلى ما يبدو فعلًا مناسبًا فيُشارِكُ فيه أولئك الذين لا يؤمنون بالآلهة، والذين يخونون أوطانهم، والذين يقترفون الإِثمَ من وراء الأبواب المُغلَقة.

فإذا كان كل شيءٍ آخرَ مشتركًا مع كل ما ذكرت، يبقى هناك ذلك الذي يُميِّز الإنسان الصالح؛ أن يرضى ويَقنَع بما يجري عليه به القضاء وتنسجه خيوط قدَره، وألَّا يُدنِّس أُلوهته التي تقبَع داخل صدره أو يُعكِّر صَفوَها بخليطٍ من الانطباعات المُشوشة، بل يحفظها في سكينةٍ واتصالٍ وثيقٍ بالله، لا يقول غَيرَ الحق ولا يفعل غير العدل.

وإذا أنكر كلُّ الناس أنه يعيش حياةً بسيطةً ومتواضعةً وراضيةً فإنه لا يغضب على أيٍّ منهم، ولا يتنكَّبُ الطريق التي تُؤدِّي إلى الغاية النهائية للحياة؛ إلى هذه الغاية ينبغي أن يأتي نقيًّا، مُطمئنًّا، مُتأهبًا للرحيل، مُصطلِحًا تمامًا مع قدَره دون أي إكراه.

١  هي هينبرج الحديثة بالنمسا، وكانت مركز قيادة ماركوس في حملاته الشمالية في أوائل السبعينيَّات من القرن الثاني الميلادي.
٢  بالانتحار، وكان مباحًا في الأخلاق الرُّواقية في ظروفٍ معينة. ويُقال إن مؤسِّسي الرُّواقية زينون الكتيوني وكليانثيس قد اختتما حياتَيهما بالانتحار في ٢٦٣ق.م و٢٣٢ق.م على الترتيب.
٣  يقول المعري في وصف هذه الحال:
بَقَائِيَ فِي الدُّنْيَا عَلَيَّ رَزِيَّةٌ
وَهَلْ أَنَا إِلَّا غَابِرٌ مِثْلُ ذَاهِبِ؟
أي إن امتداد الأجل مصيبةٌ ورُزْء، وما الشيخ المُعمَّر إلا حيٌّ كميت. ويقول آخر:
مَنْ شَاخَ فِي النَّاسِ مَاتَ حَيًّا
يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَشْيَ هَالِكْ
وفي الكتاب العزيز: وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ (يس: ٦٨)؛ أي نُعِدْه إلى حالٍ كحال الطفولة في الضعف والعجز، وفيه وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا (الحج: ٥)، وأَرذَلُ العُمر آخرُه في حال الكِبَر والعجز والخَرَف.
٤  أبقراط (هيبوكراتيس)، أبو الطب، طبيبٌ معاصرٌ لسقراط عاش في القرن الخامس قبل الميلاد.
٥  يقول المعري:
دَاءُ الْحَيَاةِ قَدِيمٌ لَا دَوَاءَ لَهُ
لَمْ يَخْلُ بُقْرَاطُ مِنْ سُقْمٍ وَأَوْصَابِ
٦  هيراقليطس من الفلاسفة السابقِين على سقراط pre-Socratic، نَبَه في نهايات القرن السادس وبدايات القرن الخامس قبل الميلاد. تنبَّأ بأن العالم كله سوف يشمله احتراقٌ عام. وقد أخذ الرُّواقيون عنه فكرة الاحتراق الدوري وتجدُّد العالم.
٧  يعني مجلس القضاة الذين حكموا على سقراط بالموت عام ٣٩٩ق.م.
٨  تعج «التأملات» بالحديث عن احتمالات المصير الإنساني بعد الموت، والتي يضعها ماركوس جميعًا في حسبانه (الفناء أو الإمحاء، والتشتُّت، والبقاء)، وإن كان يميل ميلًا إيمانيًّا إلى الاحتمال الأخير؛ أي خلود الروح ودوام الحياة إلى الأبد على نحوٍ آخر.
٩  ثنائية العقل/الجسد: dualism ثَيمةٌ تتكرر في التأمُّلات، مع ازدراءٍ واضحٍ للجسد المادي (جثة، طينة من التراب والدم … إلخ)، وإجلالٌ واضحٌ للعقل (الحاكم المُوجِّه، الأُلوهة الداخلية في الإنسان)، يقول المعري في معنًى قريب:
تَجَاوَرَ هَذَا الْجِسْمُ وَالرُّوحُ بُرْهَةً
فَمَا بَرِحَتْ تَأْذَى بِذَاكَ وَتَصْدَأُ
١٠  رغم اعتقاد ماركوس بقرابةِ بني الإنسان جميعًا ودعوته إلى الإحسان إليهم وتحملهم، فثَمَّ صوتٌ آخرُ مُصاحبٌ لذلك في التأمُّلات يُشِير إلى «آخرِين» غير مُحدَّدِين، يذكرهم دائما بصيغة الغائب (هم)، ويزدريهم ازدراءً شديدًا. والحق أن ماركوس لم يكن مُعجبًا بمُعاصرِيه، فما بالُك بالطغام الجاهلِين منهم.
١١  يقول بول فرلين في قصيدة «الفن الشعري»: «خُذ البلاغةَ واهصِر عنقَها.»
١٢  تشبيه الحياة بنوعٍ من الخدمة العسكرية؛ تشبيه سيرد غير مرة في «التأمُّلات». والاستعداد للرحيل عن الحياة؛ خاطرٌ سيتكرر كثيرًا (في الكتاب الرابع مثلًا: «كزيتونةٍ ناضجةٍ جاهزةٍ لِلسُّقوط»)
١٣  لا يمنع هذا أن يقول ماركوس في الكتاب السابع، ١٢: «قم بنفسك … أو بغيرك.»
١٤  ضآلة الحياة، والبقعة الجغرافية، والعمر، والمجد، حين يُنظَر إلى كل ذلك في الإطار الأعرض للأشياء، أو «من منظور الأزل» sup specie aeternitatis.
١٥  التحليل الردِّي أو الاختزالي reductive analysis؛ أي رَدُّ الشيء إلى أجزائه المُكوِّنة وتجريده من مظاهره الخارجية العرضية، أداةٌ يستخدمها ماركوس في السياقات الأخلاقية والمادية جميعًا، ويعني به شيئًا مختلفًا عن «الاختزالية» أو «الردِّية» reductionism بمعناها السلبيِّ الحديث.
١٦  تومئ المُماثلات الطبية إلى أن كتابة «التأملات» كانت ضربًا من العلاج الذاتي بالنسبة لماركوس. يتجلى ذلك بصفة خاصة في الكتاب الخامس-٩؛ حيث يقول ماركوس: «لا تعُدْ إلى الفلسفة كما يعود الطفل إلى المعلم، بل كما يعود الأرمد إلى إسفنجته ومرهمه، أو يعود آخرُ إلى كِمَادته وغَسولِه.»
١٧  صيغة الغائب التي دأب ماركوس على استخدامها ليشير إلى «آخرِين» غير مُعيَّنِين، بغير قليل من الازدراء.
١٨  طاغية أكراجاس في صقلية في النصف الأول من القرن السادس قبل الميلاد. اشتُهر بالقسوة والساديَّة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤