الأحاديث الأربعة

هذا الكتاب «الأحاديث الأربعة» يضم الأحاديث التي نُشرت بعنوان: «مع وإلى الله» والتي أثارت الضجة المعروفة بين الناس … مع أنَّها لم تخرج عن كونها نوعًا من المناجاة مع الله تعالى … أستدرك وأقول: «إنَّها مناجاة بلغتي الخاصة، وثقافتي الخاصة، تعبيرًا عن حُبي الخالص لربي.»١ فلن أقبل الفكر الذي يصدر بلا تفكُّر عن غير عقلي الذي خلقه الله ليُفكِّر، ولا أرتدي بلا مناقشة ما خرج من قلب وعقل الآخرين دون تأمُّل فيه وتمحيص.

أمَّا الضجة التي حدثت فهي طارئة ودخيلة على القضية التي سأفرد لها مكانًا نظرًا لأهميتها.

هذا وقد رأيت عند إعادة الطبع في هذا الكتاب استبعاد كل الكلمات والأسطر التي كُتبت تخيُّلًا منسوبة إلى الله؛ مراعاة للحساسية الدينية التي لا أريد إطلاقًا أن تُسبِّب إزعاجًا لأي مؤمن، كما حرصت على تخريج الأحاديث الشريفة والأفكار التي وردت في الأحاديث الأربعة والتي قال عنها بعض العلماء إنَّها أحاديث موضوعة، ضعيفة، أو غير موجودة؛ فعدت إلى المصادر التي استقيتها منها فإذا بها أحاديث حسنة الإسناد لا يكاد يخلو منها كتاب من أمهات الكتب الإسلامية!

والقضية التي يجب أن تُناقَش بجدية، تتلخَّص في أنَّ بعض علماء الدين يُريدون أن يكون لهم وحدهم حق تشكيل عقلية الأمة على أساس العلم الديني الذي درسوه هم من الكتب المعتمدة لديهم طبقًا للنصوص التي قرءوها وأقروها وحدها … وقرءوها على طريقتهم، أي منفصلة عمَّا استجد في العالم من معارف وإضافات.

ونراهم في نفس الوقت لا يعترفون لمن ليس منهم بحق التوجيه والتشكيل لعقلية الأمة على أساس العلم والثقافة العصرية، بغير أن يكون هذا الأساس العصري خاضعًا لرقابتهم وموافقتهم، وهم على ما هم عليه من انفصال عن حركة الفكر في أزمانه المتجددة، دون تفريق بين الثابت في الدين، والمتغير بتغير الزمان والمكان … في حين أنَّ رجال الرأي والعلم يجدون أنَّ تشكيل عقلية الأمة يجب أن تُسهم فيه كل العناصر الإنسانية القائمة على النشاط الذهني والشعوري للإنسان: من عقيدةٍ دينيةٍ، وفكر علمي، وأدب، وفن، وثقافة متجددة بتغير العصور من قديمة وحديثة، ما دام الإسلام صالحًا لكلِّ زمانٍ ومكانٍ.

والخلاف الأساسي هنا بين بعض علماء الدين ورجال الفكر المعاصر: هو أنَّ علماء الدين هؤلاء يعتمدون فقط على العلم والثقافة التي كانت موجودة في عهد النبوة بأسانيدها المعتمدة عن هذه الفترة.

أمَّا رجال الفكر، فيعتمدون على ذلك أيضًا، ويضيفون إليه كل ما وصلت إليه العهود الحديثة من علمٍ وثقافةٍ.

إنَّ تراث الأقدمين ليس إلَّا إفراز عقول وقلوب بشرية عاشت في ظل معطيات حضارية تختلف عن يومنا هذا بما حدث من إضافات الحياة المُتجددة.

وعليه فلا يجب أن نقف عند حدود تلك المعطيات الأولى وحدها، ونجعلها قيدًا لأفكارنا أو حدًّا لا نتخطاه … فنظل مئات السنين ندور في حلقة مفرغة حول عصرٍ واحدٍ فقط كأنَّ الإسلام لا يصلح إلَّا له ولأفكاره وظروفه وحدها: وهو عصر الإسلام الأول، نبني عليه كل تفكيرنا، وننسى أنَّ الإسلام صالح لكل العصور والأزمان، لأنَّه من اليسر بحيث يصلح للحياة والتقدُّم في كل عصر وزمان ومكان.

والله تعالى أكبر، وعلمه أوسع، ورحمته أعمق، وغفرانه أرحب.

توفيق الحكيم
شعبان ١٤٠٣ﻫ/مايو ١٩٨٣م
١  حديثي مع الله وإلى الله، في مقالاتي الأربع، التزمت فيه أدب الحديث مع ربي:
  • (١)

    كرَّرت أكثر من مرة أنَّه لم يُخاطبني، وإنَّما أنا الذي أُجيب مستلهمًا ما يُمكن أن يكون رد الله على تساؤلاتي مستلهمًا من قرآنه الكريم، وسُنَّة نبيه صلوات الله عليه.

  • (٢)

    تأويلي لبعض الآيات في حديثي استقيته من أمهات كتب التفسير، والأحاديث استقيتها من أمهات الكتب الإسلامية.

  • (٣)
    الردود التي نُسِبَت تخيُّلًا إلى الخالق راعيت فيها أن تكون مقتضبةً مثل «أكمل»، «استمر وأنت المحاسب على ما تقول»، أو آية مثل ردِّه عليَّ بقوله: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (سورة الإسراء: الآية ٨٥) … إلخ، سامح الله من أساء فهمي، ومن أساء الظن بقصدي، ومن افترى عليَّ ما لم أقله، ومن أراد تنفيري من الإسلام دين السماحة واليسر.
  • (٤)

    يهمني أن أُشير إلى دهشتي مِمَّا وجدت ضمن كتابات السابقين من مُفكري الإسلام ومتصوفيه زوَّقوا الأحاديث ونسبوها إلى الله شعرًا ونثرًا في أساليب جريئة مِمَّا لا أتصوَّر إقدامي على مثله؛ تأمَّل ديوان ابن الفارض رحمه الله، وكتابات ابن عربي.

    راجع كتاب المواقف والمخاطبات «للنفري» طبعة دار الكتب المصرية، وكذلك كتب النسبة والفتوحات المكية «لابن عربي» والطبقات الكبرى «للشعراني» وكشف الظنون ولطائف الإعلام في إشارات أهل الإلهام ومكاشفة القلوب «للغزالي».

    من مخاطبات النفري: «يا عبد قل ربي عرج بي إليه وقال لي ارتفع إلى العرش فارتفعت فلم أرَ فوقه إلَّا العلم ورأيت كل شيء لجة، وقال للجة: انحسري، فرأيت العرش وأفنى العرش فرأيت العلم فوق وتحت، ورفع العلم فارتفع فوق وتحت، وبقي عالم ومدَّ العلم ونصب العرش، وأعاد اللجة، وقال لي اكتب العلم، وردني إلى العرش فرأيت العلم فوقي واللجة تحتي، وقال لي ابرز إلى كل شيء فسله حتَّى تعلم العلم النافع …»

    ومن مواقفه: «أوقفني وقال لي مَن أنت ومَن أنا، فرأيت الشمس والقمر والنجوم وجميع الأنوار، وقال لي ما بقي نور في مجرى يجري إلَّا وقد رأيته، جاءني كل شيء حتَّى لم يبقَ شيء، فقبَّل بين عيني وسلم عليَّ ووقفني في الظل …»!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤