خاتمة

أمَّا بعد … فما المُراد من كتابي هذا؟

المراد يا ربي هو طاعتك فيما أمرتنا به في كتابك الكريم … وها هي ذي آياتك العظيمة:

أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ (سورة الروم: من الآية: ٨).

كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (سورة البقرة: من الآية: ٢١٩).

أَنْ تَقُومُوا لِلهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا (سورة سبأ: من الآية: ٤٦).

قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (سورة الأنعام: من الآية: ٥٠).

كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (سورة يونس: من الآية: ٢٤).

… الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ (سورة آل عمران من الآية: ١٩١).

فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (سورة الأعراف من الآية: ١٧٦).

وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (سورة النحل الآية: ٤٤).

وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (سورة الحشر الآية: ٢١).

وهكذا … وهكذا … في آياتك الكثيرة يا ربي دعوة إلى التفكير … وخلقتَ لنا آلة للتفكير … فلم نستخدمها كثيرًا … واكتفى أكثرنا بالتلقين، دون تفكير … واستخدم بعضنا التفكير داخل جدران التلقين … ولم يعملوا بقول رسولك : «لا عبادة كتفكُّر» … لأنَّ التفكُّر إذا أدَّى إلى معرفتك الحقيقة، وليست فقط المعرفة التلقينية، فقد أصبح عبادة … لأنَّ العبادة في جوهرها هي معرفة قدرتك، وتقديرك حق قدرك … وهذه المعرفة العُليا لا يكفي للوصول إليها حفظ وترديد العبارات المُلقَّنة … ولقد قالها الرسول صلوات الله عليه: «وهل ينفع القرآن إلَّا بالعلم؟!»

وقد جاء في قرآنك الكريم: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ … (سورة لقمان: من الآية ٢٧) حقًّا يا ربي! وهل لو تحوَّلت الأشجار إلى أقلام والبحار إلى مداد يُمكن أن نكتب بها كل عجائب صنعك؟! وهل يُمكن لكلِّ ما عندنا من فكر يتجدَّد بتجدُّد العلوم والأزمان أن يصل إلى بعض ما عندك من أسرار خلقك؟! ما نحن إلَّا بشر ضعيف فوق كوكب صغير خلقتَ مثله بقدرتك غير المحدودة ما لا حصر له من ملايين الكواكب والشموس … وأنت وحدك الأعلم بما خلقت فيها من مخلوقات قد تكون أقوى منَّا إدراكًا … ولقد سلَّحتنا من فضلك بسلاح الفكر لندفع به عنَّا شر الأقوى من وحوش الأرض، وشر الأذكى من مخلوقاتك في كوكب آخر قد يُهدِّد بقاءنا … ولا بُدَّ لذلك من فكر مُتجدِّد يتسع ويرتفع لإدراك بعض أسرارك المعجزة.

ولقد قمت يا ربي بتدريبنا وتوسيع مداركنا البشرية على مراحل … بدأت المرحلة الأولى فيها بأداة «اللغة» المعروفة للناس، بكلامٍ مبينٍ مُوحًى به منك، ليس فيه تفصيلات علمية لا يُدركها بعد عقلنا البشري في تلك المرحلة، ولكن فيه إشارات لذوي الألباب … وأنت يا ربي تعرف مواقيت المراحل القادمة التي يستطيع فكرنا أن يقترب فيها خطوات من المعرفة التي أردتَ لنا بها أن نكشف شيئًا من أسرار خلقك، وهيَّأت لنا فيها لغة أخرى صالحة لذلك هي لغة القوانين العلمية والمعادلات الرياضية التي يُمكنها الكشف عن تركيب الذرة وتكوينات العناصر في أنواع خلقك … ولذلك لا بُدَّ لرجل الدين المُتعمق أن يعرف هذه اللغة العلمية ليزداد معرفة بالله وقُربًا من أسرار خلقه.

وحتَّى في هذا فطن عالم مؤمن مثل «أينشتين» إلى ما جعله يقول إنَّ العلم الذي يُمارسه هو أيضًا نابع من نوع من الإلهام الإلهي.

لقد علَّمنا الله فيما علَّمنا بعض أدوات العلم الذي أراد لنا التقدُّم فيه … من ذلك «مبدأ السببية»، أساس العلم … فهو تعالى وإن كانت إرادته هي العليا، ويكفي أن يقول للشيء: كُن فيكون … إلَّا أنَّه أراد أيضًا أن يُعلِّمنا أنَّ الإرادة — حتَّى إرادته أحيانًا — تكون على أساس السبب والمُسبِّب، كما جاء في قوله تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (سورة الإسراء: الآية ١٦). وكان من الممكن أن يكتفي بالإرادة، ويقول: «وإذا أردنا أن نهلك قرية دمَّرناها تدميرًا» … ولكن الله تعالى أراد بحكمته وعلمه أن يقول لنا: فلتكن لكم إرادة، ولكن لتكن هناك أيضًا الأسباب التي توصل إلى تحقيق هذه الإرادة … والله أعلم.

ومهما يكن من أمر فقد أرانا الله تعالى الفرق بين الإرادة وبين الأسباب الموصلة إلى تحقيقها … كذلك «معرفة الله» وهي الهدف الأسمى من «العبادة»، ثمَّ طريق الوصول إلى هذه «المعرفة» وهو «الفكر» …

ويجب أن نُفرِّق بين «العلم الصرف» الذي يُقرِّبنا إلى معرفة الله، والعلم التطبيقي «التكنولوجيا» الذي هو المسئول عن القنابل الذرية والإنسان الآلي والقلق الحضاري … وقد سبق أن ذكرت ذلك في بعض المؤتمرات الأوروبية … ومسئولية إنقاذ البشرية تقع اليوم على رجال الفكر بالتعاون مع رجال الدين على دعم القوى الروحية … وإن كان الاتفاق على معنى واحد لكلمات: «القوى الروحية» و«الفكر» و«العلم» و«الثقافة» ليس من الميسور دائمًا عندنا، وهو ما يُؤدِّي إلى سوء الفهم واختلاف الأحكام.

كذلك في «الدين» على وجه العموم: هنالك من يرى فيه الغرض الأصلي وهو «الوصول إلى الله»، وهناك من يراه في «الشعائر» و«الطقوس» … وهناك من يتبع بكل دقة الشعائر التي أمر الله تعالى ولا يعتبر أنَّه قد وصل … إنَّما هو اتبع الطريق الذي أراده الله للوصول إليه لأنَّه السلم الذي يرتقي عليه …

إنَّما الوصول ذاته هو القمة … وهي معرفته وحبه تعالى … وحب الله ليس هو الحب الذي نعرفه من البشر للبشر … لأنَّ الحب البشري له أسبابه وأعضاؤه التي خلقها الله لنا وبها … والله ليس بشرًا مثلنا؛ فهو لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ (الشورى: ١١) … إذن «حب الله» هو: «حب نوره»، ونوره تعالى ليس مصدره القلب وحده … ولا العقل وحده … ولكنَّه في كلِّ ما يُضيء كياننا البشري ويرفعنا لنسمو على أنفسنا …

وأخيرًا … فإنَّ من واجبي أن أنبه إلى خطر أخشى استفحاله يتعرَّض له الإسلام وأهله والفكر وأهله من انتشار «الغوغائية»، وهي القوة الغاشمة التي تقوم على مجرد الإشاعة ونبذ «التفكير» … التفكير الذي أوصى به الله تعالى ورسوله صلوات الله عليه … وكان أن قام نفر اتخذ من «الغوغائية» البعيدة عن «التفكير» سلاحًا للسيطرة على العقول … وكان من أثر ذلك ما تعرَّض له في الإسلام أمثال: «ابن رشد» و«ابن سينا» من اضطهاد، وفي المسيحية أمثال: «جاليليو» و«كوبرنيكوس» … وكانت الحُجَّة التي في يد قادة «الغوغائية» هي دائمًا: الدفاع عن الدين ضد الإلحاد … وتتكفَّل الإشاعة بالباقي … فإذا كل من اتجه إلى «التفكير» في دين أو علم قد حاصرته «الإشاعة» وطاردته.

والإسلام اليوم في نهضة تحتاج إلى فهمٍ صحيحٍ لكتاب الله الكريم وحديث رسوله الشريف … وأسلوب القرآن مبين، وحديث الرسول واضح … ولكن «الإشاعة» لا تقرأ ولا تفكر … وفي هذه «الأحاديث الأربعة» «مع الله وإلى الله» أطلقت «الإشاعة» القول بأنَّ المُؤلِّف تجرَّأ وتطاول على الله تعالى بمخاطبته … ولو قرءوا القرآن بعناية وفكر لوجدوا الله تعالى يخاطب الإنسان بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (سورة الانفطار الآية: ٦).

وبقوله تعالى يُخاطب الناس: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا (سورة البقرة: من الآية: ١٦٨).

وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ (سورة النساء من الآية: ١).

وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (سورة الصف الآية: ١٠).

بل إنَّ الله تعالى يُخاطب الكافرين أيضًا في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.

(سورة التحريم الآية: ٧).

أمَّا الإنسان فهو أيضًا يُخاطب ربه … كما جاء في القرآن الكريم: رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا .

(سورة الكهف من الآية: ١٠).

وكما جاء في كتابه الكريم: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (سورة الأعراف من الآية: ٨٩).

أليس في كل هذه الآيات مخاطبة الله تعالى للإنسان والناس والمؤمنين والكافرين … كما أنَّ فيها مخاطبة من الإنسان والناس لله سبحانه وتعالى؟!

اللهم احفظ الإسلام ممن يُسيء فهمه وفهم المؤمنين به … واعف عنا واغفر لنا وارحمنا.

توفيق الحكيم
رمضان ١٤٠٣ﻫ/يونيو ١٩٨٣م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤