زواج العقل

حين نواجه أية مشكلة في حياتنا نجدنا في اختيارين في معالجتها، هل نعالجها بالعاطفة أم بالعقل؟

فإذا عالجناها بالعاطفة فنحن أطفال وسرعان ما نندم على سلوكنا؛ لأن العاطفة تزول وتبقى المشكلة كما هي لم تُحل، بل نندم أكثر إذا كنَّا قد تطورنا في معالجة عاطفية يدوم أثرها السنين الطويلة، بل قد يدوم طيلة حياتنا كما هو الشأن في الزواج أو اختيار العمل الذي نرتزق به.

أما إذا عالجنا مشكلاتنا بالعقل فإن حلَّ المشكلة يتجاوز الانفعال الحاضر إلى رسم الصورة أو الخطة في المستقبل، عندئذٍ يكون الحل سليمًا يتفق مع إرادتنا العاقلة في محيط مجتمعنا وظروفه.

تأمل شجارًا ينشأ من النقاش الحاد مثلًا بينك وبين شخص آخر، فإن أول ما تلجأ إليه هو التعبير عن غضبك بكلمات مهينة أو استفزازية، وهذه هي العاطفة التي قد تجلب عليك أضرارًا.

ولكن سلوك العقل يوحي إليك بالابتسام والتسليم له في بعض ما قاله، ثم التعقيب بلطف ورقة، ثم الإقناع، وتخرجان كلاكما صديقين بلا حماقة أو سِباب أو تعنيف.

هذا مَثَلٌ ساذج لظرف طارئ، ولكن حياتنا مملوءة بالمشكلات التي نواجهها بالعاطفة فنسلك سلوك الأطفال القاصرين، أو بالعقل فنسلك سلوك الناضجين المجربين.

اعتبر الزواج مثلًا، فهناك من يتزوج باندفاع العاطفة لا يتلبث ولا يتأمل في رؤية العقل، وسرعان ما تأتي ساعة الندم على هذا السلوك بعد شهر أو أسبوع من الزواج، فقد تزوجها لفورة عاطفة جنسية، فلم يسأل عن أخلاقها أو ثقافتها أو سلامة عقلها أو الوسط الاجتماعي في أسرتها أو قدرتها الاقتصادية سواء فيما تمتلك أو فيما تدبر مما يعطى لها، بل لم يعرف اتجاهاتها وأذواقها، عندئذٍ يجد كل يوم ما يدهشه من سلوكها، بل ما يصدمه ويؤسفه.

كذلك الشأن في الفتاة التي تختار أول طارق يسأل عنها، وما هو أن يتم الزواج حتى تجد في عاداته الظاهرة والخفية ما تشمئز منه وتلعن اليوم الذي تمَّ فيه الزواج.

واختيار الزوج (أو الزوجة) لهذا السبب يجب أن يكون خاضعًا للعقل وليس للعاطفة، وهناك مَن يفهم من عبارة «زواج العقل» إيثار المال في أحد الزوجين على سائر الميزات، وهذه حماقة، بل جنون.

إنما نعني بزواج العقل أن نختار الفتى أو الفتاة اللذين نجد فيهما الكفاءة للأبوة قبل كل شيء، ثم الكفاءة للمعاشرة المتمدنة، وبعد ذلك الجمال أو المال، وكان يجب ألا يكون للمال أي اعتبار في الزواج، ولكن مجتمعنا الاقتنائي يقدر الناس بما يملكون، خاصة أن الزوجة في كثير من الأحيان، بل في معظم الأحيان لا تكسب، بل ولا تملك شيئًا.

والكفاءة للأبوة (والأمومة أيضًا) تعني قبل كل شيء القدرة على إيجاد نسل صالح ممتاز بالذكاء والصحة، والكفاءة للعِشرة المتمدنة تعني أسرة حسنة وتربية سابقة وتجارب اجتماعية، مثل العمل في متجر أو مكتب أو مصنع، أما الجمال فميزة لا شك فيها، ولكن مَن منَّا يساوي الجمال بالذكاء؟

إن الإنسان حيوان الذكاء، والذكاء وحده هو الذي يحل أية مشكلة يحدثها الجمال.

وإذن يجب أن نقول: إن فرصة الاختيار للزوج أو الزوجة هي فرصة التعقل الرزين المتمهل، وليس فرصة الاندفاع المهرول.

بل يجب أن تكون هذه حالتنا في جميع شئوننا ومشكلاتنا طِيلة حياتنا، فالوقاحة والعناد والسِّباب والاندفاع كلها من إيحاء العاطفة، وكلها مما يتسم به الأطفال، أما الرجل الناضج أو المرأة الناضجة فكلاهما يأخذ بسبيل التعقل لمواجهة الظروف.

ويجب علينا حين نواجه مشكلة أن نسأل: هل أنا الآن أحلها بطريق العقل المتزن أم بطريق العاطفة المنفعلة؟

يجب أن نقف هذه الوقفة في كل مشكلة مهما تكن تافهة أو خطيرة.

وليست هذه الوقفة مما يسهل علينا؛ لأن العاطفة تطغى وتدفعنا إلى العمل أو الإجراء الطائش، في حين أن العقل الهادئ لا يتحرك إلا بعد السؤال.

وكثير من الخيبة في الشبان يُعزى إلى أنهم اختاروا العمل الذي يرتزقون به بالعاطفة الوقتية وليس بالعقل المتبصر، فلما تورطوا فيه ندموا؛ ولذلك يحسن بالآباء حين يجدون أبناءهم مقبلين في حماسة على اختيار دراسة معينة بُغية الارتزاق في المستقبل أن يناقشوهم بالكلمات المهذبة المغرية حتى يبصروهم بالمستقبل.

وأحيانًا نجد في الشبان اندفاعًا عاطفيًّا نحو مغامرة مالية نفهم لأول تأمل أنهم غير أكفاء لها، ولكن العاطفة تطغى عليهم فلا يجدون من خلالها منفذًا إلى العقل، ويتورطون في مغامرات قد تنتهي بالخيبة والمرارة.

في كل عمل، في كل سلوك، نجد أمامنا اختيارين يجب أن نكررهما:
  • هل أنا الآن أسلك بعاطفتي الغامرة أو أسلك بعقلي المتبصر؟

  • هل أنا الآن أسلك سلوك الأطفال المندفعين أم سلوك الرجال الناضجين؟

وكثيرًا ما أتأمل الحياة الزوجية التَّعِسة بين زوجين، فلا أتمالك الإحساس والاقتناع بأن أحدهما طفل عاطفي، وكثيرًا ما يكون هذا في الزوجة التي تزوجت وهي تجهل حقائق الحياة، وتصدق المناظر السينمائية فتتوهم أنه يجب على زوجها كلَّما التقى بها عقب عودته من عمله وهو متعب أن يبسط ذراعيه ويعانقها في اشتهاء حار كما لو كان روميو، وهي تبكي لأقل استفزاز، وتغضب لأقل معارضة، وهي تنفق على زينتها كما لو كانت طفلًا يلعب بالشخاشيخ، هي تحب الحلوى واللب وتطلبهما كل يوم، وتأكل وتتخم حتى تسمن فتترهل، فإذا تقدمت بها السن قليلًا تناوبتها مخاوف عن صدود زوجها، وأنه ربما يطلقها، فهي تلح عليه أن يبيعها (أي يهبها) منزلًا أو أرضًا، وتتعسه كل يوم بهذه المحاولات حتى يكره حياته معها، بل يفكر بالفعل في الانفصال عنها.

وكل هذا؛ لأنها وقفت في نموها عند حد العاطفة التي استرشدت بها دون العقل، وقفت عند حد الطفولة.

أيها الشاب: اختر زوجتك بعقلك وعاملها بعقلك.

وكذلك أيتها الفتاة تعقلي ولا تنفعلي.

العاطفة اندفاع أعمى، والعقل رؤية بصيرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤