الخمور والمخدرات

من المعقول، بل من الواجب، أن نعاقب المتجرين بالمخدرات.

ولكن ليس من المعقول أن نعاقب المرضى الذين يتعاطون المخدرات، يجب أن نضع المتجر بالمخدرات في السجون، ولكن يجب أن نضع المتعاطين لها في المصحات.

***

الحضارة القائمة تحتاج إلى مقدار من المخدرات، ولكن ليس إلى المخدرات الفاتكة مثل الكوكئين والهيروين والمورفين، وإنما إلى منبهات خفيفة مثل القهوة أو الشاي أو الدخان أو الخمر.

المخدر حين يكون خفيفًا يكون منبهًا، مثال ذلك: حين نجد رجلًا قد تهافت وارتخت أعضاؤه في إغماء وقتي حتى صار قلبه لا يدقُّ إلا دقات ضعيفة بطيئة، حين نجد رجلًا على هذا الحال، فإننا ننبهه بكأس من الخمر.

كأس من الخمر ينبه، فيهب القلب وينشط بعد فتور، ويذهب الإغماء ويفيق الرجل.

ولكن أربع كئوس أو خمسًا من هذه الخمر تخدر وتبنج فينام من يشربها.

ولذلك لنا الحق في أن نذكر الخمور باعتبار أنها منبهة مثل الشاي والقهوة إذا تناولناها ونحن متعبون في قلة، وهذا هو ما يفعله جميع المتمدنين تقريبًا.

والإكثار من الخمور مثل الإكثار من الطعام يحطم الصحة.

ولكن حين نقارن بين المخمور بالخمر وبين المخدر بالهيروين فإن المقارنة تشبه المقارنة بين رجل في الجنة وآخر في جهنم.

•••

حضارتنا مقلقة مرهقة، تبعث التوتر في عقولنا وأعصابنا وتملؤنا بالشكوك والمخاوف والهموم، وغيبوبة النوم ليست في أساسها راحة للجسم، وإنما هي راحة العقول والأعصاب؛ لأن النوم يريحنا من الوعي، أي من الشكوك والمخاوف والهموم، نحو ثماني ساعات كل يوم.

بل أحيانًا تقوم الأحلام مقام العلاج، العلاج الوقتي، فتخفف من همومنا؛ لأنها ترسم لنا صورًا وخيالات جميلة، تلغي بها الواقع الذي لا نحتمله في يقظتنا مما أحدث لنا مخاوفَ وهمومًا وتوترات، فنستيقظ في الصباح ونحن مرتاحون بعض الشيء.

ولكن النوم لا يكفي لشفائنا؛ ولذلك نحتاج إلى نوم صناعي إلى جنب النوم الطبيعي.

ولعله، أي النوم الطبيعي، كان يكفي لو كنَّا نعيش في حضارة أخرى لا ترهقنا بالمخاوف والشكوك.

ولذلك احتاجت جميع الأمم، بلا استثناء حتى الأمم المتوحشة، إلى أنواع من الخمور التي عرفها المصريون القدماء، كما عرفتها قبائل التتار، كما تعرفها كل أوروبا وأمريكا الآن، بل كما تعرفها الصين التي تصدِّر الشمبانيا هذه الأيام.

نحتاج إلى نوم صناعي بالخمور، فإذا لم توجد الخمور فإننا نضيق بأنفسنا، فنتشاجر لأقل استفزاز في البيت، وقد يزيد الضيق حتى نفكر في الانتحار أو نقع فيه.

الخمور تُصلح ما بين الزوجين المتخاصمين.

وكثير من المشاجرات الزوجية، بل كثير من حوادث الطلاق، كان يمكن تلافيه لو كانت الخمور مألوفة في بيوتنا كما هي مألوفة في أوروبا وأمريكا.

بل عندئذٍ ما كان يمكن المخدرات الوبيلة أن تتفشى؛ إنما تتفشى هذه المخدرات الوبيلة حين لا توجد الخمور، وهذا هو ما ثبت للأمريكيين.

•••

تجربة أمريكية استمرت عشر سنوات يجب أن ندرسها في رزانة التعقل وشرف الذهن.

فقد هبَّ رجال الدين في الولايات المتحدة يدعون الشعب إلى منع الخمور صنعًا وبيعًا، ونجحت دعايتهم التي انتصروا بها على العلميين من السيكولوجيين والاجتماعيين.

لمن يصنعها أو يبيعها، ولكن، وهذه الكلمة كبيرة القيمة لنا، لم يسن قانون لمعاقبة من يشربها.

فماذا حدث بعد ذلك؟

حدث أولًا أن الخمور لم تمنع، وإنما كانت تصنع في السر صنعًا سيئًا؛ ذلك لأن صانعها كان يعرف أنه معاقب حتمًا، أصنع خمرًا سيئة قليلة التكاليف أم خمرًا حسنة كثيرة التكاليف، فآثر السيئة على الحسنة حتى يزيد كسبه.

ولكن هذه الخمور السيئة كانت أهون الشرور.

أما الشر الخطير فهو أن المخدرات الوبيلة، مثل الحشيش والأفيون والهيروين والكوكئين والمورفين دخلت في أمريكا وتعودها الشبان والكهول والنساء.

لم تكن أمريكا تعرف هذه المخدرات قبل إلغاء الخمور، ولكنها عرفتها بعد إلغائها.

وندم الأمريكيون؛ لأنهم استمعوا إلى دعاية رجال الدين.

وعادوا، بعد عشر سنوات من الفساد، فأذنوا بصنع الخمور وبيعها، هذه تجربة ويجب أن ننتفع بتجارب الأمم إذا كنَّا عقلاء.

•••

كل من الخمور والمخدرات الأخرى تلصق بمتعاطيها وتعوده تناولها كل يوم.

التعويد هو أسوأ ما في الخمور والمخدرات، ولكن شارب الخمر، حين يجد كفايته في ثلاث أو أربع كئوس وهو في سن الثلاثين لا يحتاج إلى زيادتها إلى خمسين حين يبلغ السبعين أو الثمانين من العمر.

أما متعاطي المورفين مثلًا فإنه يبدأ بجرام أو أقل كثيرًا، ثم يحتاج إلى زيادة مطردة في مقدار ما يتعاطاه، حتى إن ما يتناوله بعد عشر سنوات يكفي لقتل رجل لم يتعود تعاطي هذا المخدر، ثم الإقلاع عن تعاطي الخمور، حتى بعد الإدمان، سهل بالمقارنة إلى تعاطي المخدرات، فإن من يقع فيها يكاد يعجز العجز التام عن إبطالها.

•••

مع كل ما ذكرنا نحتاج إلى أن نعترف بأن هناك أفذاذًا من الرجال والنساء لا يحتاجون إلى القهوة أو الشاي أو الدخان، كما لا يحتاجون إلى الخمور والمخدرات، ولكن هؤلاء أفذاذ لا نقيس عليهم، وهم في الأغلب يحيون حياة إيجابية، يحبون أعمالهم، ولا يرهقون أنفسهم، ولا يطمحون إلى المستحيل، هم قانعون هادئون لا يتوترون أو يقلقون.

ولكننا لسنا كلنا كذلك.

قد يقال: إن الدِّين يحرم الخمور، وأنا أشك في أنه يوجد دين قد حرم الخمور تحريمًا قطعيًّا، ثم هناك مَن يزعم أن الدِّين يحرم أيضًا التدخين، ولم أنسَ بعدُ أن «يعقوب» قد بارك على أبنائه قبل وفاته ودعا لهم بالوفرة في دماء الأعناب، أي في الخمور.

نستطيع أن نصنع الخمور في مصر من الزيت والشعير والبلح والقصب، نستطيع أن نزيد دخلنا القومي نحو مائة مليون جنيه كل عام بصنع الخمور، بل ربما نستطيع أن نزيد الدخل مائتي مليون جنيه، ثم نكسب مع ذلك استغناءنا عن المخدرات الوبيلة.

•••

قلتُ في بداية هذا الفصل: إن الحضارة القائمة تحتاج إلى مقدار من المخدرات.

وذلك لأنها ترهقنا بهموم وتوترات ومخاوف، وتنصب أمامنا مطامع نعجز عن تحقيقها، وعندئذٍ نحتاج إلى أن ننسى همومنا أو نفر منها بالمخدرات، وقد يقال: إن التحايل النفسي يمكن أن يشفينا من هذه التوترات والهموم، وهذا صحيح، ولكنه يحتاج إلى نفقات غير يسيرة، بل أحيانًا مستحيلة.

وإذن نجد في الخمور العلاج الميسر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤