كيف يُخترع الاختراع

لماذا تكثر المخترعات الجديدة في الولايات المتحدة الأمريكية؟ لماذا اخترعت الغسَّالات الكهربائية، وكذلك الكناسات، ومكيفات الهواء للغرف، والثلاجات والمصانع التي تدار بالأزرار؟

السبب الوحيد أن أجور العمال، وكذلك الخدم في المنازل، قد ارتفعت ارتفاعًا عظيمًا، فظهرت الحاجة أم الاختراع، وهي إيجاد أجهزة وآلات تقوم مقام الخَدَم في المنازل، وتؤدي أعمال العمال في المصانع.

والمصانع بالأزرار هي أعجوبة زماننا، ففي روسيا مصنع واحد، واحد فقط، يكفي الاتحاد السوفيتي كله (وهو ٢٠٠ مليون إنسان) بما يحتاجه من البستونات، وفي أمريكا مصانع تصنع من السيارات هذه الأيام عددًا أكبر مما كانت تصنع قبل عشرين سنة، ولكن مع عدد أقل من العمال؛ وذلك لأن كثيرًا من آلات هذا المصنع تعمل أوتوماتيكيًّا، أي إنها تعمل بذاتها بلا حاجة إلى عمَّال سوى الإشراف البعيد، بحيث صار عامل واحد يعمل مقدار عاملين أو خمسة عمال أو أحيانًا عشرة عمال قبل عشرين سنة.

أجور العمال عالية، فالحاجة ملحَّة إلى الاستغناء عنهم بالاختراع أي اختراع الآلات، الآلة تعمل بالمجان، أو على أعلى تقدير بقوتها أي وقودها.

•••

ما الذي منع الشعوب القديمة مثل المصريين والإغريق والرومان من الاختراع؟ شيء واحد، هو الرق.

لأن العبد، مثل الآلة، يعمل بالمجان، أي بقوته فقط.

فلماذا يخترعون الآلات ما دام عندهم عبيد؟

وكذلك الشأن عند العرب لم يخترعوا؛ لأنهم كانوا يمارسون الرق.

لقد ألَّف الإغريق والعرب في الفلسفة والرياضيات، أي في التفكير النظري؛ لأن المفكرين عندهم لم يكونوا عمليين، أي لم يتصلوا بالعمل اليدوي؛ لأن العمل اليدوي كان مقصورًا على العبيد، ولو لم يكن عند الإغريق والعرب عبيد لكان التفكير يتجه نحو الاختراع لتخفيف أعباء العمل.

لم يكن الإغريق والعرب ناقصين في القدرة على الاختراع، ولكنهم مارسوا الرق، فاستغنوا عن الاختراع.

بل إنَّ الرقَّ مسئول أيضًا عن ارتخاص قيمة المرأة العربية؛ إذ ما دمت أستطيع أن أشتري جارية أتصرف بها كما أشاء لماذا أطالب أو أسلم بحقوق للزوجة؟

ووجود الجارية المشتراة والزوجة الحرة في بيت واحد يوجد جوًّا سيكولوجيًّا يساوي بين الاثنتين في المعاملة، بل وربما يرفع الجارية على الزوجة إذا امتازت الأولى على الثانية بصفات في الجمال أو السن أو الرشاقة.

وكما منع الرق المخترعات عند الشعوب القديمة كذلك في عصرنا الحديث، منع انخفاض أجور العمال في الزراعة، والفقر والجوع الذي عاش فيه فلاحونا، مع استعمال الآلات الزراعية قلل من استعمالها كثيرًا.

وهذا زيادة على أننا لم نفكِّر في الاختراع للزراعة.

ارتفاع أجور العمال في أمريكا أدى إلى اختراع الآلات للاستغناء عنهم، وانخفاض الأجور في مصر أدى إلى الاستغناء عن الآلات وإهمال الاختراع.

•••

كيف يخترع الاختراع؟

لا بدَّ من حال اقتصادية اجتماعية معينة تؤدي إلى حال سيكولوجية ذهنية معينة، كيف اخترعت الكتابة مثلًا؟

لما انتشرت الزراعة في مصر احتاجت الحكومة إلى أن تجمع من المحصولات حق فرعون، ولم يكن من الممكن الاعتماد على الذاكرة، فكانت الصور الأولى أي الهيروغليفية لتسجيل تسليم المحصولات لمعابد الكهنة وخزائن الدولة.

ثم ازداد السكان وزاد الإنتاج، وكثر الوارد على المعابد والمخازن، فصارت الحاجة ملحة لإيجاد حروف مبسطة لسرعة الكتابة وسهولة القراءة، فظهرت حروف جديدة هي أصل الكتابة في العالم كله.

لماذا اخترع المصريون القدماء السنة الفلكية الأولى في العالم وهي السنة التي نعمل بها في أيامنا بأسماء يناير وفبراير … إلخ؟

الجواب: أنهم مارسوا الزراعة، وكان الشهر عندهم قمريًّا قبل أن يعرفوا الزراعة، ولكن الزراعة لا يمكن أن تعتمد على القمر، فاحتاجوا إلى سنة أخرى لا تتغير أيامها في اختلاف السنين كما تتغير بالشهور القمرية، فكان من ذلك هذه السنة الشمسية التي نعمل بها إلى الآن.

الكتابة والتقويم نشأ كلاهما من الحاجة «المادية»، ومخترعاتنا، أي مخترعات الشعوب المتمدنة، بل غير المتقدمة تنشأ في أيامنا أيضًا من الحاجة المادية.

ونستطيع أن نتصفح التاريخ ونسأل: لماذا هذا الاختراع هنا وليس هناك؟ فإنك واجد على الدوام حاجة مادية ملحة، هي في صميمها اقتصادية اجتماعية، تبعث جوًّا سيكولوجيًّا ذهنيًّا يطلب الاختراع.

وهنا استنتاج: هو أن الشعب الذي يسحق عماله بالأجور التافهة، إنما يضع بذلك سورًا بينه وبين الاختراع.

لأن العمال المسحوقين يكونون عندئذٍ أرخص قيمة وأقل نفقة من آلات الحديد، والشعوب التي لا تزال تمارس الرق في عصرنا، إنما تسد المستقبل والاختراع في وجوه أبنائها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤