أيها الآباء: ارحموا الأبناء

نبهتنا جرائم التلاميذ والطلبة، وهي جرائم الانتحار وجرائم الاعتداء على الممتحنين أو المدرسين وقت الامتحانات، إلى ضرورة التفكير الجدي الرحيم بشأن أبنائنا، بحيث نهيئ لهم الوسط التعليمي الذي يسعدهم بدلًا من أن يتعسهم، ثم كذلك الوسط العائلي والوسط الاجتماعي.

فأما الوسط التعليمي فيجب أن تتعدد فيه الفرص للنجاح، وأن تؤلف الكتب الحسنة للمذاكرة، وألا نسد في وجه التلميذ أو الطالب أبواب الرزق، بأن نمنعه من الالتحاق بإحدى الكليات بحجة أن رسوبه قد تكرر في الامتحانات التي تهيئه للكلية، والذي يجب ألا يغيب عن بال الآباء والأساتذة والمدرسين أن الشاب أو الفتاة فيما بين الخامسة عشرة والعشرين من العمر، بل أحيانًا بعد ذلك إلى سن الخامسة والعشرين مريضٌ نفسيًّا، ومرضه أقسى عليه (أو عليها) من أي مرض يصيب الجسم، فإنه يمكنه أن يتحمل السلَّ (أي الدرن)، حتى في شهوره الأخيرة، أكثر مما يمكنه أن يتحمل الإرهاق النفسي، الذي يتألف من مجموعة من الشهوة الجنسية المكظومة، إلى أعباء الدرس، إلى الخوف من الفشل، إلى الإحساس بمسئوليته أمام أبويه … إلخ.

هذه المجموعة من الكظم والإرهاق تزيد في آلامها على آلام الدرن حتى في شهوره الأخيرة المميتة، وهي تحدث أحيانًا ما يمكن أن نسميه «جنون المراهقة»، وهو ليس جنونًا مريحًا، وإنما هو توتر عاطفي مقلق لا يطاق، ومن هنا مغامرة الشاب بارتكاب الجريمة أو بالانتحار الذي يعد جريمة ذاتية.

ولم يكن آباؤنا أو جدودنا يعانون هذا التوتر، أو كانوا يعانون جزءًا صغيرًا منه فقط؛ ذلك لأنهم كانوا يتزوجون قبل أن يبلغوا السادسة عشرة، وكانوا يقنعون بالدراسة الابتدائية، أو حتى هذه كانوا يستغنون عنها، وكانوا كذلك قانعين بالمركز الاجتماعي الذي كان يتيحه لهم مجتمع ساذج قليل المباريات قريب الأهداف.

كنا قبل ثلاثين أو أربعين سنة نضع غمامة على عيني الفتاة، وعلى عقلها أيضًا بالحجاب، فكانت تعيش في جهل وتسعد به سعادة الحيوان الذي يحيا في غيبوبة بعيدًا عن الوعي بالحياة، وكانت تتزوج وهي دون الخامسة عشرة، وسرعان ما كان الأبناء يشغلونها بكثرتهم عن التفكير فيما يتجاوز في الطموح جدران البيت، أما الآن فهي تتعلم، وتتأخر في الزواج، وتطمح وتتحمل المسئوليات، وكل هذا إرهاق كثيرًا ما تعجز عن تحمله.

وهذا هو واقعنا الآن، وأسوأ ما فيه أننا أخذنا بعادات المتمدنين في التعليم بدرجاته المرهقة، دون أن نأخذ بأساليب الترفيه للتلاميذ والطلبة، ذلك أن الشبان والفتيات يختلطون في أوروبا في دور التعليم أو خارجها، وهذا الاختلاط ترفيه بلا شك، يحول دون التوترات التي قد تؤدي إلى الجنون، كما أن وسائل التيسير وتوفير الفُرص للنجاح في الامتحانات أكثر مما هي عندنا، وحسبنا المقارنة بين امتحان التوجيهية عندنا وامتحان المتريكيوليشن في إنجلترا، وهذا إلى وفرة الاستمتاعات الأخرى التي يُحْرَمُها أبناؤنا ويستمتع بها أبناء الأوربيين والأمريكيين، مثل المباريات الرياضية والأندية العديدة والدور السينمائية والتليفزيون، ولكن أهم من كل ذلك الاختلاط بين الجنسين.

ولكن في مصر نجد آباء يقسون على أبنائهم، فيمنعونهم مما يرفه عنهم أعباء الدرس بالاختلاط مع الجنس الآخر، وبالاشتراك في الأندية والألعاب الرياضية، بل أحيانًا يمنعونهم حتى من قراءة المجلات الأسبوعية المصورة، كأنهم يجب ألا يضيعوا دقيقة من وقتهم في غير الدرس والتهيؤ للامتحان.

وعندئذٍ يحدث الكظم الذي يؤدي إلى التوتر، أي إلى المرض، فإذا جاءت أيام الامتحان تلقاها الشاب أو الفتاة بخوف مسرف، يعود بعضه بلا شك إلى أنه لم يذاكر دروسه كما كان يجب لكثرتها وصعوبتها، كما يعود بعضها الآخر إلى الكظم المؤدي إلى التوتر.

وإني أعرف رجالًا في الأربعين والخمسين من أعمارهم يمكن أن أقول: إن نفوسهم مريضة، أو على الأقل ليست سليمة إلى الحد السوي، ومرجع مرضهم أنهم فيما بين سن ١٥ وسن ٢٥ كابدوا كظومًا وتوترات مرهقة عودتهم من العادات الجنسية والذهنية السيئة ما لم يستطيعوا التخلص منه بعد ذلك.

وهناك اعتقاد يشيع بين العامة من الآباء، هو أن الاستقامة في الأبناء تعني تجنب الملاهي والملذات، واتخاذ أسلوب من السلوك يشبه النسك، والشاب الذي يفعل ذلك عن رغبة في العزوف يعد مريضًا لا شك فيه؛ إذ هو شاذٌّ لا تنطوي نفسه على شهوات الشباب، أما الشاب الذي يفعل ذلك؛ لأنه مقهور يخشى سلطة الأبوين، أو يرهب مخالفة التقاليد ونقد المجتمع، فيعد مرهقًا إلى حد المرض، وكثيرًا ما نجد مثل هذا الشاب (أو الفتاة) ينفجر في النهاية انفجارًا فجائيًّا لم يكن يتوقعه أبواه أو سائر أعضاء أسرته أو أصدقائه، ومن هنا قصص الفتاة التي تفر مع أحد الجيران وتتزوجه، أو تستبدل بدينها دينًا آخر لهذه الغاية، أو ذلك الشاب الذي يرتبط بعلاقة مجهولة مع الخادمة … إلخ.

كل هذا يحدث من الكظم الجنسي الذي تزيد وطأته في مجتمع انفصالي مثل مجتمعنا، الذي يرتاب في أية صداقة بين شاب وفتاة ويحرمهما هذا الهناء الذي يسعد به أبناء الدنيا كلها دوننا، ثم نزيد نحن هذا الإرهاق بإرهاق آخر، هو تحريم المرفهات الأخرى التي تخفف من وطأة الدرس والامتحان.

ارحموا أبناءكم أيها الآباء، لا تحملوهم على الجنون والإجرام، يسِّروا لهم الاختلاط بالجنس الآخر، رفهوا عنهم بالتنزه وارتياد الملاهي، واكفلوا لهم نزهة سنوية لا تقل عن شهر على الشواطئ ولا تلحوا عليهم بالإمعان في المذاكرة، فكِّروا في مستقبل أبنائكم جديًّا، ولكن مع الرحمة والحنان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤