قصائد

ديوان لنزار قباني

كلما دق الكوز بالجرة رفع الشعراء عقيرتهم متحاملين على الخليل بن أحمد وعروضه، يخلعون عليه ما يدور على لسانهم من الألقاب مسمين أوزانه الشعرية أسماء غريبة. وهو ذا اليوم شاعر ملهم هو نزار قباني، فهذا الشاعر الفذ يسمي بحور الشعر العربي «الأقفاص الستة عشر»، ويسمي علم العروض «قبوًا»، كما سمى الوجوديون مجمعهم «قبو التابو»، فذكرني بقبو المعزى وهدير الفحول في أوائل تشرين.

زار نزار هذا القبو في باريس فقال في الحلوة التي رآها فيه:

كان اسمها جانين
لقيتها، أذكر، في باريس من سنين
أذكر في مغارة التابو …
وهي فرنسية
في عينها تبكي
سماء باريس الرمادية
كان اسمها جانين
وهي وجودية
تعيش في التابو … وللتابو.

ظلام نعم، كما تعيش العنزة في القبو، فما قتل رجولة الشعب الفرنسي إلا هذه الأقبية، وهي التي تعتصر شبابنا وتبصقهم كما نبصق ألياف قصب المصِّ.

اسمع يا نزار، ليست بحور الخليل أقفاصًا وقماقم، ولكنها أنغام الجدود وألحانهم، تلك كانت موسيقاهم الكلامية، أما قلت أنت في قصيدتك عندنا:

والمواويل لدينا
وجدت قبل السماع

أعرني أذنك هنيهة، يا من تؤمن «بالموال»، ألا تدرك أنه موزون مقفى؟! إذن ليست القوافي زوايا حصن معد لحبس الشعر، ولكنها وقفة نغم على حدود النهاية، وانطلاقة مع موجات الأثير ليظل يتنقل من فلك إلى فلك، ومن نظام شمسي إلى آخر سديمي يُدَّخر فيه.

ليست هذه الأوزان من صنع الخليل، ولكن الخليل وضع النوطة لأهازيجنا وأغانينا التي أعجبك منها البحتري وابن المعتز، وما دام هناك شاعران أعجباك فيكون اللوم على الشاعر، لا على الأقفاص التي صنعها «نجاركم الأكبر»، كما قلت، فوقِّع دائمًا إذا لم تزن لئلا تخرج من ملكوت الشعر كما أصابك في قصة راشيل شوارزنبرغ. إن أوزاننا ذات ألوان وطعوم مختلفة، كذلك «الرأس» الذي وصفه الجاحظ، وإذا كان الذي قرفك من تلك الأوزان هو تلك السماحة «التعدي على الكار»، حتى صار الشعر الموزون هراء، فأنتم شعراء اليوم سوف تصيرون مقلدين في نظر الآتين بعدكم، ولا يعصمك أنت في الغد إلا شخصيتك البارزة وعبقريتك الشعرية في الموزون والمكيل.

قال عنترة: «وخلا الذباب بها يغني وحده …» وهذا ما ينطبق على أوزان الشعر العربي. لقد غنت حقبة وحدها، فما عليكم إلا أن تملئوها موسيقى، فعبِّئوها كلامًا مرنانًا.

قلد الشاعر سعيد عقل الشاعر العامي ميشال طراد في موضوعاته الشعرية، فناجى ما ناجى من أشياء، وأنت قلدت الاثنين، بيد أن شخصيتك الفذة ظلت بارزة فلم تنعدم في هؤلاء وأولئك كما يتمنى البهائي أن ينعدم في ذات وجدانية الله.

أنت، يا نزار، شاعر حقًّا، فليتك تظل ملتفتًا إلى ذاتك غير مبالٍ بغيرك. أنت قادر على تطويع الوزن لأنك ذو قريحة وذوق فني، فلا تهم في مثل: «كان اسمها جانين، لقيتها أذكر في باريس من سنين …» إن من يعصى عليه الوزن يلجأ إلى المد والإردب والشنبل، وقد رأيتك في ديوانك «قصائد» أقل توفيقًا منك في «طفولة نهد». قالوا عن البحتري الذي نوهت به أنه أراد أن يشعر فغنَّى، أما أنت «في سامبا» فقد شعرت وغنيت ورقصت، وإني أتحداك أن تأتينا بمثلها في الشعر المتفلت من الوزن والقافية.

قال غيري: النثر مشي، والشعر رقص. فارقص لنصفق لك، أنت في سامبا وطفولة نهد أول، أما في هذه «القصائد» فلست، ولماذا؟ لأنك تقريبًا اجتررت الكثير من ماضيك الفني، لقد اجتررت شال أخيك سعيد عقل كما اجتر سعيد شال ميشال طراد وقمره.

اعذرني إذا صرحت، فأنت لم تقف عند حد الشال، بل انحدرت إلى التنورة والجورب.

لم ننس نحن بعدُ أثر الفسطان والجورب فينا، ولكننا كنا نكتم سرهما وخبرهما كما قال المتنبي: «وأعفُّ عما في سراويلاتها.» ومع ذلك أنت خيِّر في كل ما أعطيت حتى «قصيدتك الشريرة»، فالفن لا شر فيه. وبعد هذه القصيدة الجريئة لم يعد أتباع أبي نواس يعتبون علينا، ولا يباهوننا في صراحتهم، فأنت دخلت الدور والقصور والخدور، ووصفت لنا ما لم يصفه قبلك شاعر، فكأنك طالعت كتاب السجينات لشيخنا فؤاد حبيش.

قال نزار: «إن سعيد عقل قمة في الشعر العربي؟» وأنا أقول: هم ثلاث قمم: سعيد، ونزار، وميشال طراد، وثلاثة أقانيم متساوون في عظمة الشال، وكرامة الفسطان، وانسدال التنورة، ورفعة القمر. أما نزار فيستحق وحده وسام ربطة الساق؛ لأنه قال أبياتًا منظومة في «الجورب المقطوع».

أنت شاعر يا نزار، أقولها وأثنيها وأثلثها، وابتهارك في تهافت النساء عليك يذكرنا بعمر بن أبي ربيعة، أنت ذاك ولكن من نوع آخر. كان عمر يشتهي اللحم والدم، وأنت إلى الثوب الأنيق أميل. وهذا ذوق رفيع لو لم يرافقه انحدار إلى «الكلسات».

ففي شعرك قصص ابن أبي ربيعة، وحسن ختام قصص أبي نواس، وحلاوة كلام جرير، وفتك بشار العقيلي، ألست تقول لنا:

قالت: فما ماضيك؟ قلت: تفرَّجي
جثث وأمراض وبئر أفاعي
عودي لأمك، ما أنا بحمامة
فغريزة الحيوان تحت قناعي
ما أنت حين أريد إلا لعبة
بلهاء تحت فمي وضغط ذراعي

أما قال بشار حين قالت له تلك الضحية السمينة بعدما عضها وفتك بها تلك الفتكة الذريعة:

كيف بأمي إذا رأت شفتي؟
أم كيف إن شاع منك ذا الخبر؟
قولي لها: بقَّة لها ظفر
إن كان في البق ما له ظفر

لا بأس إن ذكرنا هذه الغارات الفنية، وإن كنا لا نريد أن نحلل ونفكك وندلل على هفوات اللغة والعروض، فوصية الشاعر لنا في مقدمة «طفولة نهد» هي أن لا نفعل ذلك كيلا يبقى في يدنا غير جثة الجمال وجنازة العطر. والشاعر قباني يسألنا أيضًا أن ننحي المنطق، وإذا نحينا المنطق صرنا نقادًا بلا عقل، فكيف العمل ومن يخلصنا من سعيد؟

أما المواضيع القروية فأراها أجدر بالشعر العامي، وإن كانت لم تعص على نزار الذي تكلم شعرًا بما يشبه العامية، ولكنه فصيح إلا في ألفاظ لا بد منها للموضوع.

وبعد، فهذا شاعر في كلامه حلاوة كلام جرير، ولكنه يفوقه خيالًا، لأنه يصور بكلمة واحدة ما يصوره غيره بكلام، وفي اعتداده بنفسه هو مثل عمر بن أبي ربيعة، هو المحبوب دائمًا والتارك لا المتروك، وإن تحرق عمر على بعضهن، فنزار لا يرى فيهن جميعًا غير لعبة يلهو بها. دامت له هذه الطفولة الرائعة، وهذه الفصاحة الغضة البضة، فهو محدِّث من الطراز الأول. اسمع هذا الختام لقصيدة عنوانها «طفلتها»:

أخذتها مقبِّلًا باكيًا
أما بها من أمها رائحة

وموضوع هذه القصيدة له أخ في شعرنا العصري أولها: رأى بنت يهوى، ولعل الروعة كلها والفن كله في تنقية نزار لشعره وتعمده إجادة الختام، فإنه يطلقه قنبلة صخابة كقوله في ختام قصيدة «حبلى»:

شكرًا، سأسقط ذلك الحملا
أنا لا أريد له أبًا نذلا

عفوًا عن هذه الجناية؛ جنايتي أنا، أهملت المطلع وهو رائع جدًّا جدًّا، لم يقل شاعر، حتى هوميروس، أروع منه في الدلالة على الموضوع:

لا تمتقع! هي كلمة عجلى
إني لأشعر أنني حبلى

أما القصيدة الشريرة، وهي زهرة شر على صدر الفن، فهذا مطلعها:

مطر … مطر … وصديقتها
معها ولتشرين نواح
أشذوذ أختاه، إذا
ما لثم التفاح التفاح؟!
نحن امرأتان لنا قمم
ولنا أنواءٌ ورياح

أما قصيدته المشهورة «خبز وحشيش وقمر» فهي مسك ختام قصائد نزار قباني، وإني لا أرجو أن يكون ذلك؛ لأن شاعرنا الفريد لم يقل كل ما عنده بعد.

اسمع ثانية يا نزار: أنت في الأدب العربي رابع ثلاثة عبدوا اللحم وليس عندهم للروح شيء، الصوفية والميتافيزقية لا محل لهما في شعرك، ولا تعرف شيئًا عنهما، فشعرك كله في وصف النزوات الجامحة، والقشعريرات المتوثبة. يغتفر لك هذا القرم للحم ما في عبارتك من حلاوة جذابة، وما في كلمتك الحية من صورة رائعة، فكأنك كيميائي كلام تؤلف من جسمين ثلاثة جسمًا جديدًا، وهذا منتهى الفن.

قلت: إنك لا تؤمن إلا بسلطان الكلمة، ونحن مثلك، ولكن الكلمة تُصلح مَن لهم آذان تسمع من ذوي السلطان ولا يقولون: «لم سمعنا ولم قشعنا.» فإذا كنا نؤمن بسلطان ليس لنا فيه سلطان، فالأحرى أن نقدم ونؤخر في حروف الكلمة لتصير لكمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤