«جانين» … والوجودية … ومارون عبود!

تحت هذا العنوان نشرت مجلة الصياد الخطيرة هذا المقال أو الكتاب المفتوح الموجه إلينا من شاعر الوقت الملهم الأستاذ نزار قباني.

يجد هذا المقال من يريد الاطلاع عليه في العدد اﻟ ٦٤٤، الصادر في اليوم الثالث من شهر كانون الثاني سنة ١٩٥٧، ص٢١، وهي السنة الرابعة عشرة من عمر المجلة المديد.

أستاذنا الكبير

تأخرت عن موعدك الأخضر قليلًا، كان علي أن أسبق الشمس إلى ستائرك، ولكن الوهج المغني في بور سعيد أكل أعصابي … كل أعصابي، سرق السلام من قلبي، جبلني بجمرة جرح، جعلني جرحًا يمشي، فلا تؤاخذني إذا وصلت متأخرًا؛ لأن الكتابة إليك رحمة وسلام، واللعب بالحرف، بالفاصلة السكرى، يحتاج إلى حد أدنى من السكون، وهذا ما لم أعرفه ولا أريد أن أعرفه.

هل نبدأ الآن؟ هل تفتح لي قلبك؟

يعتبر بعض الناس أنفسهم سعداء الطالع إذا وُجِدوا في امتدادٍ زمانيٍّ واحدٍ مع واحد من هؤلاء العباقرة الذين أعطوا الإنسانية تراثًا لا تزال الأرض تشرب منه وتسكر؛ الذين عاشوا في عصر بيتهوفن وليست، والذين كتب لهم أن يعيشوا في نفس الفترة الزمانية التي عاش فيها تولستوي أو ليونارد دافنشي … أو وورد ثورث … أو غوغان … أو رودان … أو شيللي، كل هؤلاء يعتبرون أنفسهم من رفيعي الأقدار.

ويوم يجيء الدور إلينا ويسألنا سائل: وأنتم يا شعراء الفترة الممتدة من عام ١٩٤٠ صعودًا إلى هذا اليوم، من هو الكبير الذي كان يُقيِّم آثاركم، ويزن الريش النابت في أجنحتكم، ويدوزن الأنسجة الطرية في حناجركم؟ يوم يواجهنا سائل بمثل هذا السؤال سنقول له بدون أدنى تردد: «كتبنا شعرًا في عصر مارون عبود، وعلى محك هذه السنديانة الماردة برينا أقلامنا، وتركنا أسماءنا …»

سنديانة … نعم وجدت الكلمة، سنديانة من هذه السنديانات التي تفتح زنودها لمئات العصافير الزائرة، لا تبخل على واحد بخيمة ظل، أو سرير ورق أخضر، أو زوَّادة قش تحمله إياها قبل أن يذهب.

من هنا ينبع مجد السنديان، مجدك يا أستاذي، يا مضيف الأجنح المليسة الزغب، يا حاضن الشرانق الحبلى بألف شلة حرير، يا مالئًا مناقير العصافير الهابطة إليك زهرًا ورمَّانًا وحبات كرز.

قلَّ أن عرف الأدب العربي ناقدًا تطهرت ريشته من سواد الحقد، وتبرأ جده من حليب الكراهية العكر. هل تذكر معارك النقد الأدبي في مصر بين العقاد والرافعي والمازني وطه حسين؟ لقد كانت أشبه بمعارك الدجاج والديكة … ريش نافش، ومخالب تغرز في الأعناق، ومناقير استبدلت الغناء بالعض وفقء الأعين.

ويظهر أننا لم ننته حتى اليوم من أسلوب النتف والهبج؛ فما زال الدجاج الناقد لدينا كثيرًا، وما زالت الغرائز الدجاجية هي السلوك المميز لأكثر نقادنا في سورية ولبنان، فكل أثر أدبي يدخل مختبرهم مفقود، وكل خارج من هذا المختبر مولود.

فإذا تحدثت اليوم عنك، عن السنديانة التي تسكن العصافير وتظلها وتطعمها، فإنما أتحدث عن سلوكية جديدة، عن ظاهرة غريبة في تاريخ النقد لدينا، فلأول مرة يتحرر الحرف، على يدك، من رجس الشتيمة، ليصبح أداة عبادة لا مطرقة حدادة، لأول مرة نعرف معنى التسامح، معنى الغفران، معنى «التعايش الفني» — إذا صح لي أن أستعير التعبير من قاموس السياسة — حيث يقول بعض الساسة «بتعايش سلمي» بين شتى النظم السياسية على تباين دروبها وغاياتها، فلماذا لا نطبق هذه النظرية في الفن، وننادي «بتعايش فني» تعيش فيه المذاهب الفنية على تباينها جنبًا إلى جنب، حتى يتولى الزمان أمر الفصل في هذه المذاهب وتقييمها.

أستاذنا الأمير

ما قلته في شعري كرامة لشعري، حياة ثانية للحروف التي عاشت معي حياتها الأولى؛ لقد عاشت «قصائدي» بين يديك كما تعيش البنت المدللة في بيت أمها وأبيها: حلوى، وأثواب، وأشياء أخر.

ولكن، لماذا أنت غاضب على «جانين»، متمسك بالوزن والموازين؟ «فجانين» هذه تعيش في أحد أقبية سان جرمان، لا في برقة ثهمد، إنها تلبس البنطلون والخف المقطع، وتلثغ بالفرنسية، وتمزق ثوانيها وتهبها لليل، لجحيم الجاز، للاشيء. إنها تعيش حضارة معينة، ونحن كصيادي صور لا يهمنا أن تكون هذه الحضارة حضارة قلق وسواد وتشرد، أو أن يكون القبو الذي ترقص فيه كقبو المعزى، كل ما يهمنا أن نرسم جانين هذه في إطارها الزماني والمكاني، أن نفاجئها وهي في وسط حلبة الرقص ترمي خصلة من شعرها لليل، وخصلة لله.

إنني أعالج بقصيدتي هذه فلسفة كاملة هي الوجودية، وأحاول بلقطات صغيرة أن أخلق الجو لقارئ لم تقده قدماه إلى هذه الأقبية؛ لذلك كان لا بد من تغيير المخطط التقليدي للأداء.

كان من المستحيل عليَّ أن أكتب عن جانين والجاز والمونمارتر بالبحر الطويل أو البسيط؛ لأن صلة الموضوع بإطار العرض حقيقة لا يمكن الفرار منها، هل تريد تجربة صغيرة؛ إذن فاسمع يا معلم الذوق:

يا دار «جانين» بالعلياء فالسند
أقوت وطال عليها سالف الأمد

أعوذ بالله وبك وبكل صاحب ذوق جميل من مثل هذه السماجة، البيت كما ترى مهندس وفق مخطط الأجداد، موزون بميزان صيدلي، مرسوم بالمسطرة، ومع هذا فهو مصيبة المصائب، لماذا؟

لأن الخياط الذي فصل البيت فصله على جسم «مية» المواطنة السمراء في صحراء نجد، فحين ألبسناه، بعد ألف وثلاثمائة سنة، «لجانين» المواطنة الفرنسية القاطنة في الرقم ٧٣ بولفار سان ميشال في باريس أغمي عليها.

قلت في مقالك القيم: إن بحور الخليل هي أنغام الجدود وموسيقاهم الكلامية، وإن القافية هي وقفة نغم على حدود اللانهاية، كما قلت: إن الخليل هو واضع النوطة الموسيقية لأهازيجنا وأغانينا. هذا كلام حسن، ولكن له تتمة.

لم يعبد أحد موسيقى الشعر عبادتي لها، فهي أساس البناء الشعري لديَّ، ولكني لا أتصور موسيقى الشعر إرثًا أبديًّا لا يأتيه الباطل من أمامه أو من خلفه، لا أتصورها حكمًا من أحكام محكمة التمييز لا يقبل الاعتراض أو الطعن، بل لا أتصورها قيمة خالدة لا يجوز اللعب فيها أو لمسها. إن كون «البُزُق» أو «الموال» من تراث الأجداد لا يمنعني أو يمنعك من أن نطرب لآلة مستحدثة كالبيانو، أو الكلارينيب، أو الأوبوا، أو أن نقف موقف المتعبدين من «بولونيز» شوبان وسمفونية بيتهوفن الريفية و«بحيرة بجع» تشايكوفسكي.

على نفس المقياس أقول: إن كون الخليل بن أحمد هو الذي وضع النوطة الموسيقية لأهازيج الأجداد لا يمنعني أن أحاول من جانبي أن أجرِّب حظي في وضع النوطة التي تلائم الإطار الحياتي الذي أعيش فيه، بل لا يمنع أي فنان من بلادي أن يبدع سمفونيته الخاصة، فيحذف نغمة، ويضيف نغمة، ويعمر كونًا شعريًّا بألف شكل وألف أسلوب.

الفن الشعري كالفن المعماري يمكن فيهما توليد أشكال لا حصر لها، فكما أن الفن المعماري يعتمد على وحدة أساسية — هي الحجر — لإخراج ألوف التصاميم، فإن بإمكان الشعر أن يأخذ الوحدة الأساسية للنغم — أي التفعلية أية تفعلية — لتوليد أشكال شعرية لا نهاية لها. هذا تمامًا ما يحدث في السمفونيات العظيمة؛ حيث تكون النواة فيها نغمة بسيطة، ثم تبدأ الإضافات على النواة الأساسية، نغمة تنادي نغمة، وقرار يجذب قرارًا، ورعشة وتر هنا، وشكوى كلارينيت هناك، حتى يكتمل بناء السمفونية العام، وتنعقد حلقاتها، وتغدو عالمًا كاملًا بشموسه ومحيطاته ومجراته، وتزحلق نجماته.

انطلاقًا من هذه النقطة كتبت قصائدي التي أعجبتك: «حبلى»، و«خبز وحشيش وقمر»، و«سامبا»، وأخيرًا «رسائل جندي مصري في جبهة السويس»، فهي جميعًا محاولات لتطوير النغمة الأساسية واللعب بها. إنني لا أدعي كمال هذه الأشكال الجديدة، فلا شكل نهائي في الفن، وإنما أقول: إننا نحاول أن نعطي الصلصال القديم وجودًا جديدًا، لا تزال يدنا في الطين، ولا تزال أزاميلنا تبني وتكسر، تضيف وتلغي، وربما مر وقت طويل قبل أن تفرض هذه الأشكال نفسها على الذوق العربي، ولكن هذا يجب أن لا يثنينا عن إتمام المحاولة، كما أن النقاد يجب أن لا يتعجلوا الحكم على هذه المحاولات التي لم يتجاوز عمرها بضع سنوات؛ لأن من هذه المحاولات ما نجح وبدأ يجد استجابة من جانب القراء العرب.

سيدي الأستاذ:

أنت في تفكيرك وكتابتك ولقطاتك التي تشبه لقطات السيزاما شيء مدهش حقًّا، والأدهش من هذا كله قدرتك الرائعة على تكييف ثقافتك العريضة وذوقك الرهيف مع اختلاف الفصول واتجاهات رياح الفكر والذوق، أما قلمك فهو أصبى من الصبا نفسه، أحلى من دفقة العافية.

الذين وصلوا إلى سنك من أدبائنا لا يزالون في قاعات المجامع العلمية الرطبة يعانقون أكياس الماء الساخن، ويتعاطون أدوية الروماتيزم، وينظمون قصائد موسمية تجلب الروماتيزم من مسافة ألف ميل.

أما نحن الذين عاصرناك وأحببناك، ومسحنا مناقيرنا الصغيرة بجذعك الرحيم العظيم، وسرقنا الحب من جيوبك الممتلئة، فما رددت منا منقارًا ولا آذيت جناحًا … أما نحن فسوف نقول لمن يسألنا عن خصائص عصرنا وطابعه: كتبنا شعرًا في عصر مارون عبود.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤