ثورة على القديم

جدد الله في حياته الأزلية الأبدية مرتين؛ الأولى: حين كانت الأرض خربة وخالية، والظلام يسودها، فقال: ليكن نور، فكان نور. وعلى ضوء المصباح الوهاج الذي اسمه كن فكان، أبدع الأشياء، وكانت وكان الإنسان خاتمة أعماله، وفيه التقى العالم الأكبر، كما قال الشاعر.

وبعد حين، رأى الله أن أبناء آدم زاغوا وفسدوا، فشاء أن يقوم بتجديد جديد شامل، فأرسل الطوفان العرمرم، وأفنى بني البشر إلا نفرًا قالوا إنهم كانوا من الصالحين. ولا تزال الطبيعة تحذو حذو والدها، وكل الله إليها السهر على ما خلق، ولذلك نراها تهم من حين إلى حين بتجديد ما قدم وحدث، تارة بالماء، وطورًا بالهواء، وأحيانًا بالنار. وإذا تأملنا رأينا أن الطبيعة هي أكبر مجدد، فلولا غضبتها التي تعبر عنها بالزلازل لما رأينا البيوت المبنية بالوحل المجمد المجفف تُشاد بالأسمنت المسلح، ولما رأينا مدنًا جديدة تخطط بالبركار والزاوية على أحدث طراز.

فلا نعجب إذن متى رأينا الأدباء من شعراء وكتاب يثورون على القديم، ويحاولون خلق الجديد. إن لكل شيء أزياء تتغير وتتبدل، فليس هذا من خصائص الثياب وحدها، فللأدب أزياء وإن اختلفت أسماؤها، فجوهرها واحد؛ ولذلك قالوا كلاسيكي ورومنطيقي ورمزي وسريالي، بيد أن جوهر القماش واحد، ولكن التفصيل يتغير، والقص تارة يكون على القد، وطورًا يكون بشكل الجرس العبودي، كما هي حال لباس نساء اليوم.

أما سيد المجددين في نظري فهو عزرائيل؛ إنه يجدد الناس غصبًا عن رقبتهم، ولعله شاعر أكبر ونحن لا ندري. تصوَّر لو كنا بقينا جميعًا على وجه الأرض، فكيف كانت حال الدنيا؟!

باطل الأباطيل. إن طلب المجد الأدبي كأكل الترمس يُسلِّي ولا يُغذِّي، ولو ما كانت الحياة مسخرة لتسوقنا بعصاها، لما فكرنا بما نسميه تجديدًا.

إن الذين يتنكرون للماضي لفي ضلال، فهم لن يفلتوا من براثن الأمس، وبرهاني على ذلك أننا ما زلنا نحني الهام عندما يذكر راسين، وهوميروس، وشكسبير، وفرجيل، وامرؤ القيس، وسليمان، وداود، ومحمد، وعيسى وغيرهم، وكأني بالمصير القريب الذي يصير إليه تجديدنا لا يكون غير ما صار إليه كل تجديد، فلنفتش عن الجديد في عقول النوابغ. أما هذه الدساتير: افعل كذا، فلا تؤتي ثمارها في إحياء الفن الحيِّ الباقي.

منذ قرن بالضبط، كانت الثورة الأدبية في لبنان حين عرف الصحافة، وقرأ كتب الفرنجة، وتعرف كُتَّابه إلى نوابغهم العظام، فقلدوهم قدر طاقتهم، ولكنهم في كل حال جددوا، فطعَّموا الأدب العربي، فنورت بساتينه وأثمرت، ثم كانت الهجرة اللبنانية إلى أقاصي الأرض، فقامت مدارس أدبية في كل قطر من أقطار المسكونة — وهذه من أعطيات فجر القرن العشرين لنا — وما مر ثلث هذا القرن حتى طلع علينا في لبنان شعراء ينحون نحو فرلين، وبودلير، ومالرمه، ورمبو. وهذه من هبات ما بعد الحرب الأولى.

واليوم يريد أن يتناسى أبناء هذا الجيل أسلافهم الذين زرعوا لهم فأكلوا، أما هم فعملهم قلع لا زرع، وقطع لا غرس.

وما خَفَتَ صوت لبنان الرمزي في الشعر حتى سمعنا العراق ينفض عنه غبار النعاس، ويرفس عواميد الشعر، فلا قافية ولا وزن حتى ولا لغة.

لام إخواننا العرب في جميع أقطارهم الأدباء اللبنانيين المهاجرين لأنهم تنكبوا عن جادة اللغة؛ فما قولهم بأصحابنا اليوم في لبنان وغيره؟ لقد حطموا المكاييل والموازين، ولم يكتفوا بالثورة على الأوزان والقوافي، بل ثاروا على اللغة وقواعدها فصاروا إباحيين أدبيًّا يزدرون كل قديم. وإخال هؤلاء بعد ربع قرن على الأكثر لا يجدون مَن يقرأ لهم هذا الجديد.

إن بين القديم جديدًا لا يبلى كما في الشعر الجديد ما لا يستحق أن يُتلى، فيا ليت شعري كيف يتخلص العربي من أدبه القديم؟ هل يستطيع أحد منا أن يتملص من ملامح سلالته؟ وإذا كان ذلك، فكيف نقدر أن نمحو أثر الماضين منا؟

لقد غالى الماضون في إحاطة القديم بهالة قدسية؛ محافظةُ منهم على تراث أمتهم، فالشاعر الأصيل، قديمًا كان أم حديثًا، هو من تتمثل فيه من صور الغابرين أشياء، ولكنها لا تكون هي بالذات، كما أننا نحن نحمل في أجسادنا ملامح أجدادنا وإن كنا لسنا إياهم بالذات، كذلك يجب أن تظل فينا ملامح شعراء جنسنا، بل ملامح جميع النوابغ في هذا الفن منذ كان حتى هذه الساعة.

إن شعراء اليوم ينشدون الفن الرفيع في صورة فكرية، ولا يأبهون لجمال الكلمة وموسيقى العبارة، فكأنهم فيما ينظمون يحاولون حل قضايا منطقية أو جبرية هندسية فيناجون الفكر لا الذوق.

إنَّ الجيد في دواوين شعرنا كحبات قمح في عدلٍ من تبن. كان القدماء يحشون الأوزان حشوًا ليقدموا لنا طبقًا منظمًا، أما اليوم فينثرون الحب نثرًا، ومن أين لنا المناقير الفولاذية؟! فلنُعْنَ بجمال الكلمة وموسيقاها، وأما الفكر فالنثر كفيل بإملاء كرشه.

فلندع الشعراء بلا مواد شرعية تفرض عليهم ونقول لهم: أولًا وثانيًا وثالثًا؛ فالشاعر الحق لا يُعنى بالأرقام. ليس الفن إلا صورة لما كان ويكون وسوف يكون، وكلما دنت الصورة الفنية من الواقع كانت أحب إلى القلوب وأقرب إليها. الفن إذن تصوير للحياة ومشاكلها، والصورة الفنية الناجحة مهما كان موضوعها تلذ لنا إذا كان قائلها ملهمًا.

لسنا ندعو إلى الكلام الموزون؛ فالقرآن الكريم ليس شعرًا موزونًا، ومع ذلك تحلو لنا قراءته وتطيب، وسفر نشيد الأناشيد ومراثي أرميا ليست شعرًا موزونًا، ولكنها شعر بالمعنى الصحيح.

فأنتم يا أتباع الشاعر العظيم إليوت، لم يقل زعيمكم هذا بالتنكر للماضي كل التنكر، بل قال: المهم أن يحس الشاعر بالماضي إحساسًا مستمرًّا، ولا يكف عن تنمية هذا الإحساس خلال أطوار حياته المختلفة. وعندي أن الشعر لا يكون في خلق الصور الغريبة البعيدة عن واقع الحياة، بل في التعبير عن مشاعر الحياة العادية تعبيرًا يستحلى ويستملح.

أما المقاييس والأوزان والتعابير فلكل جيل منها ما يلائم زمانه؛ لأن لكل جيل عناية بالفن تختلف عن عناية من تقدموه. أما النقاد الهواة فكالواعظين الذين يتبارون في كنائسهم كل على حدة، ولا يسمع أحد منهم عظة زميله في دلِّ الناس على دروب الخلاص والسعادة الأبدية.

اقترحت مرة على بعض الكهنة أن يوحدوا عظاتهم، ويسمع بعضهم لبعض، ويتذاكروا مواضيعهم ليهدوا من يسمعونهم سواء السبيل، وإلا ظلت الرعية تائهة عن الدرب.

إنَّ الشعر كألوان الطعام المختلفة في مأدبة عامرة، فما لا يحلو لك يطيب لغيرك، فلا تقل هذا قديم وهذا جديد؛ فليس في الدنيا جديد لا أثر للقديم فيه، وأكثرنا ادعاءً بالتجديد ونبذ كل قديم لا يزال يرزح تحت أعباء عظمة الشعراء القدماء، ويقدس ما قالوا، ولا يهاجم إلا معاصريه ليهدم ما بنوا، ويبني بحجارته بيتًا ينعم فيه، إلى حين تأتي الساعة التي يأتي فيها من يهده بمخله ومعوله.

أما محاولة الشباب التخلص من كل قديم، حتى اللغة وأصولها، فهذه طفرة توحيها السياسة الحاضرة، فكلما تُخلع الملوك وتُدك عروشها، كذلك يحاولون إسقاط أمراء البيان عن كراسيهم. أنا أحب كل جديد، ولكني أؤمن إيمانًا يشبه اليقين أن لكل لغة خواصها، فلو نظم الفرنجي قصيدة طويلة النفس على قافية واحدة لأضحك الناس كما أضحكهم غوتيه حين حاول ذلك، وكما أضحكهم ابن أبي ربيعة حين نظم مقطوعة وصل بعض أبياتها ببعض. أما الوزن، وهو محاولة خلق الموسيقى الكلامية، فهو الذي يميز شاعرًا من شاعر، وإلا لكان كل الناس شعراء يفصلون عباراتهم الخالية من الموسيقى ويسمونها شعرًا. لا بد يا إخواني من الرنة الموسيقية؛ فأوجدوها واعملوا ما تريدون.

أما الكلام الشعري غير المقيد بوزن فلا يخرجه لذيذًا شهيًّا إلا من كان شاعرًا وزانًا في الأصل، فقصائد نزار قباني غير المقيدة بالتفعيلة القديمة لا تخلو من تفعيلة جديدة تشيع الموسيقى فيها، فهذه قصيدته الجديدة «شئون صغيرة» ذات تفعيلات خاصة يهزك إيقاعها ويدعوك إلى استعادة قراءتها. راجعها إذا شئت في مجلة شعر الفصلية، لصاحبها الشاعر يوسف الخال، زعيم الشعر الجديد.

فهذه القصيدة الرائعة تدفعني إلى القول: إن نزار قباني هو شاعر الوقت، جدَّدَ ولم ينبذ القديم نبذًا قصيًّا، ولو وفق الآخرون إلى مثل هذا لرحبنا بجديدهم، فقد صور لنا طورًا عشنا به زمنًا رغدًا. وهذا هو الشعر الرفيع.

إن للشعر إبَّانًا، والظاهر أن القباني لا يزال في ذلك الإبَّان، لا يزال عنده أشياء صغيرة يجعل منها شعرًا خالدًا كبيرًا.

وعبد الوهاب البياتي، داعي دعاة الشعر الإليوتي، لا ينأى بنا شعره عن الموسيقى الشعرية التي ألفناها، ولولا إكثاره من التكرار وقفزاته العجيبة لكان سيد الموقف.

وبعدُ، فلماذا نتعب؟ فالزمان، وهو المغربل الأعظم، كفيل بردنا إلى الصواب، وإرشادنا إلى خلق شعر جديد حقًّا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤