كتاب الثورات

لسلامة موسى

هذا كتاب تجسدت فيه نفس سلامة موسى، وهو كتاب الثورات، وحياة سلامة موسى تاريخ ثورات، فهو الكاتب الثائر في كل فصول حياته، ثائر على طرق حياتنا، ثائر على طرق عاداتنا، ثائر على تقاليدنا، على ثقافتنا التي قال فيها في كتابه هذا: الثقافة الأوروبية هي التي حطمت العقائد والتقاليد الهندية، وأكسبت الشخصية الهندية استقلالًا جديدًا، فحل التفكير محل التقليد، والنهضة مكان الجمود … لم ينهض بالأمم الشرقية التي ذلت تحت أقدام الاستعمار سوى أولئك الذين لقنوا الثقافة الأوروبية وعبوا منها … أما الذين قنعوا بالثقافة الشرقية فقد قعدوا ولا يزالون قاعدين.

قال الشرق في الهند بإعدام الأرملة، وبنجاسة خمسين مليون هندي، إلى أن قالت الثقافة الغربية بلسان طاغور وغاندي ونهرو: إن الإنسان الهندي فوق الآلهة الهندية، وإن الشعب الهندي فوق المهارجة، وإن رغيف الخبز للجائع خير من اللؤلؤ والألماس للمهراجا! وتجرأ شاعر الهند طاغور على أن يقول:

إني لأود أن تصيب الهند صاعقة تحطم جميع معابدها، ثم تعود بعد ذلك فتنشئ دينًا جديدًا.

وأولًا وأخيرًا ثار على طربوشنا، وهبك الله عمره، فهو كاتب نسيج وحده، بين كبار كتاب مصر، انتهت إليه، بعد الشميل وصروف وفرح، قيادة رسالة الفكر والعلم والتطور، فهو لا يقيم للأدب وزنًا ما لم يكن بنَّاء، وله فيما يكتب آراء لا أدري مقدار وزنها، أذكر أنه قال في حملته على الطربوش ما معناه: إننا إذا طرحناه جانبًا ولبسنا البرنيطة نصبح نفكر بعقلية غربية، ونبتعد عن طريقنا الشرقية التي لم تعد تصلح للحياة في القرن العشرين.

مسألة فيها نظر إلى حد ما، أظن أننا إذا طعمنا لوزة خوخًا، فالجذر يظل جذر لوز، ولكن الثمرة تتغير، ولهذا قال السلف: الملبوس لا يعمل القسوس، وعرق الأصل نزَّاز.

لا أظن أن سلامة موسى اكتسب مبادئه الثورية من ملبوسه، ولا أنا كذلك، فقد كنت يوم كنت ألبس الغنباز ثائرًا كما كنت بعده، ولا أظن أن البنطلون الذي ضيق عليَّ استطاع أن يحول بيني وبين حريتي، فالثائر المطبوع لا يحول دون ثورته عشرة أذرع مقصورًا، أو كم يرد جوخ.

لقد انقطعت عنا أخبار سلامة موسى حقبة من الزمن حتى كاد ينساه الناس؛ ولهذا لا بد لنا من إلمامة تعيد إلى الأذهان ذكرى هذا الكاتب المتمرد، فهو صاحب المجلة الجديدة التي أصدرها سنين فكانت بوق الثورة الصارخ: أيها الشرقيون، أعدوا طريقًا للجديد إذا كنتم تطلبون الحياة.

وهو أول من ألف كتابًا في العقل الباطن أذاعته مجلة الهلال كهدية لقرائها عام ١٩٢٨.

وله في هذا الموضوع أيضًا كتاب اليوم والغد، ونظرية التطور وأصل الإنسان، وحرية الفكر وأبطالها في التاريخ، وأحلام الفلاسفة، وغاندي، والحكمة الهندية، والسيكولوجية في حياتنا اليومية، والنهضة الأوروبية.

ما ذكرت هذا إلا لتظهر عناوين كتبه أنه كاتب تقدمي، كما يعبرون اليوم، وربما جاء يوم قال فيه الآتون بعدنا: إن سلامة موسى هو ممن أيقظوا نواطير مصر النائمة عن ثعالبها … فكلمة: طائر يغني في غير سربه، تصح في هذا الكاتب لا في ابن الرومي، فهو أديب في كوخ لا في برج عاجي، أديب شعبي يكتب ليفيد، يبتعد عن القديم حتى في تعبيره، وحسبك قوله في مقدمة كتابه العقل الباطن: وقد توقيت فيه، بقدر الإمكان، ذكر الألفاظ العلمية؛ لأنه موضوع لجمهور القراء، كما توقيت فيه الألاعيب الأدبية الرخيصة، مثل: «رأيت فيما يرى النائم» بدل «حلم»، و«الجاثوم» بدل كابوس، إلخ.

وبعد أن غاب عنا سلامة موسى سنين، إذا به يطلع علينا بكتاب الثورات، وهو كتاب الساعة، وحسنًا صنعت دار العلم للملايين إذ نشرته، فنحن أحوج ما نكون إليه، فلا تجديد بلا ثورة، وحسبك برهانًا على أن الثورة لا بد منها،أإن أولى الثورات كانت في السماء، أما أبى إبليس أن يخضع وثار فاستقل؟ ولكن بمملكة الشر. لا بأس … أما قال شاعرنا:

إذا أنت لم تنفع فضر فإنما
يرجى الفتى كيما يضر وينفع

يلم الأستاذ سلامة موسى بتاريخ الثورات والرجال الذين صنعوها، ولكنه لا يأخذ التاريخ بعفشه ونفشه، بل يأخذ منه المواد التي تولد الانفجار، وهو يقول: في هذا التاريخ مركب كيماوي يتسلل إلى خلايا المخ، فيحرك الذكريات ويصل بيننا وبين الأبطال، ويثير الحنين إلى الضحايا، فيحدث التغير والتطور في نفوسنا حتى لنعود أبطالًا، وحتى لنرضى أن نكون ضحايا.

والكاتب متألم جدًّا حتى إني أخشى عليه أن يكون قد تجاوز حدود الإنصاف حين قال:

عانيت بعض المظالم، كما عانيت في عام ١٩١٩ و١٩٥٢، واعتقلت اثني عشر يومًا لأني قلت: «إن في مصر من يعيشون بألف جنيه في اليوم، ومن يعيشون بثلاثة قروش في اليوم، وأحيانًا لا يجدون هذا المبلغ!» ولذلك ألفت هذا الكتاب وأنا في شهوة من تلك الشهوات الذهنية العليا التي تنتاب المؤلف وتقارب الإلهام، وأحسست طرب العاصفة، ولذة الانتقام من الذين خانوا الإنسانية والشرف. وأية لذة أكبر من أن يحس المؤلف وهو يكتب أنه يبصق على وجه تشارلس الأول ولويس السادس عشر، وتوفيق وفؤاد وفاروق؟

قال ابن الرومي في ختام أبيات واصفًا نفسه ومعرفًا الناس بها: ماذا يقول القائلون بعدي؟

ونحن ما عسانا نقول في كتاب سلامة الذي يقول: إني أفرج بهذا الكتاب عن توترات صمتُّ بها أكثر من نصف قرن!

للمؤلف أن يكتب ما شاء من حقائق، وربما أن سلامة موسى ما كتب غير الحقائق، ولكنه ألا يرى معي أن كلمة «الدخاخني» مثلًا، التي ذيَّل بها اسم محمد علي لم تعد تليق بهذا الرجل، كما أنها لا تحط من قدره؟ فليته استغنى عنها وعن أخوات لها في مثل هذا المؤلف النفيس النافع.

وهناك أيضًا ألفاظ ليست أسمى من بضاعة الشارع بكثير، قال الأستاذ سلامة موسى: إنه صام نصف قرن، وأقول أنا: إن فطوره كان ألذ وأشهى لو نقى جو المائدة.

أعجبني قوله: إن الثورة إذا لم ينضم إليها الشعب لا تنجح وإن كان مشعل نارها أفراد قلائل، وقد نص الرئيس لنكولن: إن من حق الشعب أن يغير الحكومة بالطرق الدستورية، وإذا لم يستطع فله أن يغيرها بالقوة.

ويسفه سلامة كتَّابًا وشعراء مدحوا «فاروق» وأباه، ثم يعد قصائد شوقي في عباس وفؤاد وفاروق عارًا على الأدب المصري، ثم ينحى باللائمة على الأدباء الذين لم ينطقوا بكلمة تستحق البقاء في مدح الجيش أو قادته الذين أنقذوا الشعب المصري من شرور فاروق.

إن سلامة كان يتخيَّل أمامه المتطاول على حقوق الشعب ولو كان بينهما دهور، فيرشقه بقنابل نعوته ويقول له: مليح هيك أم يلزمك أكثر؟

قد لا يزيد هذا الكتاب الخواص علمًا بتاريخ الثورات العالمية ومقدماتها ونتائجها، ولكن المؤلف يؤدي فيه رسالته على حقها إلى العوام، وهو يكتب لهم، فإذا سمينا كتابه هذا كتاب الشعب لا نعدو الحق.

أما في الحقل المصري فأظن أنه يفيد جميع الناس خاصة وعامة؛ لأنه فصَّل تاريخ ثورات مصر بأوجز كلام.

كلنا يسمع بثورة أحمد عرابي، ولكن سلامة أنار أذهاننا وأشبعها من هذا البحث، كما وصف الثورات المصرية حتى قال في وصف الوفديين بعد فؤاد سراج الدين: ثائرون راكعون.

وسلامة موسى، في كتابه هذا، ليس مؤرخًا فقط، بل هو فيلسوف اجتماعي وصاحب رسالة، وإن كنا صرنا في زمان يدعي فيه كل إنسان أنه صاحب رسالة حتى بائع الكوسا والبطاطا. أما رسالة سلامة فتلخص في قوله: يجب أن يرسخ في أذهان الشعب أن الصناعة هي الحضارة، وأن أمة تعيش بالزراعة فقط لا يمكن أن تكون متمدنة بما تحمل كلمة التمدن من معاني القوة والرفاهية.

ويتمنى على «الثورة» أن تنقذ مصر بمساواة المرأة بالرجل مساواة تامة، ويرى أن على المصري الصادق في وطنيته أن يكافح رجعية الشرق كما يكافح استعمار الغرب، وكلا المرضين شر من الآخر.

ولعل خير كلمة تستحق أن تسمى مسك الختام هي ذاك التعبير العامي: على سلامتك يا موسى. لا ينقصك إلا العصا، ومع ذلك فجرت ينبوع الفكر بدونها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤