مواثيق العهد الجديد

مجموعة خطب فخامة الشيخ بشارة الخوري أيلول ١٩٤٣–١٩٥١

نشكر لوزارة الأنباء تفضلها علينا بنسخة من «مجموعة خطب» فخامة الشيخ الرئيس. لقد أحسنت هذه الوزارة إلى تاريخ لبنان بجمعها مواثيق استقلاله في كتاب يليق بأمجاده، وأحسنت إليَّ «خصوصًا» إذ جادت بها عليَّ بتاريخ ٢٠ / ٦ / ٥٢؛ فأتاحت لي فرصة التحدث عن صاحب الفخامة كأديب رفيع، ورئيس أسمى، وقائد أعلى، ومجاهد لا يكل، وبنَّاء لا يمل.

عرفت الشيخ بشارة يافعًا ملء أهابه الطموح، وشابًّا يدفعه نبله إلى الأمام، فشق طريقه بثبات كالعناد، ورأيته كهلًا وجد الطريق إلى المعالي، أفلا يذَر المطي بلا سنام! كما قال أبو الطيب.

جمع الكفاءة من أطرافها، عظاميٌّ عصاميٌّ ضم إلى ميراثه التالد أسمى الطريف من الأمجاد، حمل مشكاة الثقافة الوضاءة فما ضل طريقه ولا تاه. صبا منذ نشأته إلى استقلال بلاده. شبت بين ضلوع نشأته الأولى نيران هذا الميل، وأذكاها العِرْق المتين الذي أورثته إياه الأجيال، وإن النار بالعودين تذكى، وانصب كالكوكب المنقض في ليلة الاستعباد السوداء، فكان شيخ المعارضين يوم كان الناس يحنون الرقاب للانتداب.

كان في أعين المستعمرين قذًى، وفي حلقهم شجًا، استرضي ولم يرض، فظل وإياهم في حرب سجال لم تضع أوزارها، لا هو يثق بهم ولا هم يركنون إليه. وإن أنْسَ، لا أنْسَ مشهد موكب الشيخ بشارة، زعيم المعارضة، بعد عودته من سفرته النضالية، لم أنس وقوف القائد «المدور» بوجه الموكب ليحول دون اختراق عدو الانتداب سوق عالية شاقًّا طريقه إلى بيته. كانت معركة حامية كاد ينطق فيها المسدس، وأخيرًا مرَّ، ولم يبلغ بيته فحسب، بل بلغت البلاد أقصى أمانيها في تلك الهنيهة، وظلت الحرب مستمرة حتى كان الظفر. أرادوا أن ينحوه فنحَّاهم، وأقصوه فأقصاهم.

كان في محنة الجهاد يوم كان ينعم غيره في الفراش الدافئ الوثير. كان على الأرض يوم كان غيره على السرير. كانت تلقى على بيته القنابل، فرُوِّع ولكنه ثبت وما ارتخت له عزيمة. إيمان يشع نورًا، ورجاء أمرع من الربيع، ومحبة لا حد لها ولا طرف، لم يحطم أحدًا ليرقى إلى المنصب على جثته، ولا نعم بما نعم به الذين كانوا في أحضانهم يدغدغون ويتعلمون ويتمتعون في بيوتهم بنفوذ مطلق قلَّما ضاهاه نفوذ أحد اليوم.

وخاض معركة الرئاسة معارضًا فربحها خصمه «الموالي» بصوت أو صوتين — لا أذكر تمامًا — ولكن الشيخ ما كلَّ ولا ملَّ، ما انزوى ولا التوى، ظل يرفع الصوت جهرة مطالبًا بالاستقلال، منافحًا عن الدستور، مناديًا بالتقرب من الجار. والجار ركن الدار.

لكن الرجل اجتاز تلك العقبة وفاز، وضع ميثاقه الوطني فبنى بيت الاستقلال على «العضادتين»، ولا يزال قائمًا رفيع العماد، وسيظل إلى الأبد؛ فالعرض لا يفسخ الجوهر.

وما حلت له الحياة أيامًا حتى مرَّت فكانت زيارة راشيا، وهناك في تلك الغرفة المشرفة على الوادي راودوا الشيخ عن رجال حكومته، فما باع الاستقلال لا بكثير ولا بقليل؛ آثر الشقاء والهوان على سلامة الأوطان، وأصرَّ، ومن عادته الإصرار الهادئ، على أن يعود ورجال حكومته، فنصرت الدول الحق المغتصب، وعاد الجبار إلى عرينه.

لقد كنت شاهدًا عيانيًّا لهذه الحقبة، منذ سقوط عبد الحميد وانهيار سلطانه إلى سيطرة الانتداب والجلاء، وسوف أنشر حقائق لا يأتيها الباطل لا من خلفها ولا من بين يديها، وإذ ذاك يعرف أصحابنا أن لا بد للحق من إرسال نوره.

إن هذا الرجل، وهو ثالث ولاة لبنان تاريخيًّا، وأولهم استقلاليًّا، لرجل ذو صدر رحب، يسع لبنان جملة وتفاريق: حلم يزن الجبال رزانة، وأنفة تتعالى كشماريخ قمم لبنان، تواضع فيه جلال أوديته وأبهتها، وعقل واسع رحب كسهوله، وحكمة غامضة غموض كهوفه، ومثلها يحتوي على أسرار أجيال وأجيال من طور الظرَّان إلى عهد الذرة.

مصباح سحري الأنوار يخترق أحشاء ظلمات المشاكل والأزمات، رُبَّان رابط الجأش لا يعرف الهلع إلى قلبه سبيلًا:

يقول لها متى جشأت وجاشت
مكانك تحمدي أو تستريحي

فضربة مجدافه المحكمة تضع السفينة في مقرها الأمين. هذا هو المسئول الذي يسهر لأجلنا، ويؤدي حسابنا ثم لا يعييه ترصيده. إن درايته ولباقته ولياقته وحكمته كالعارض الذي يستقبل أوديتنا لا يفرغ حتى يمتلئ ويمطر أرضنا خيرًا وحقًّا وجمالًا.

ليقل الناس الآن، فيَّ وفي كلامي، ما شاءوا؛ فموعدنا التاريخ. إنني لأقول مع بولس الرسول:

من سيفصلني عن محبة سيدي يسوع المسيح؟ أشدة أم ضيق أم اضطهاد، أم جوع أم عري، خطر أم سيف؟ فإني متيقن أن لا موت ولا حياة، ولا ملائكة ولا رؤساء ولا قوات، ولا أمور حاضرة ولا مستقبلة، ولا علو ولا عمق، ولا خليقة أخرى تقدر أن تفصلني عنه.

وإذا قلت أنا هذا بلسان رسول الأمم، فللشيخ وحده الحق أن يقول بلسان بولس أيضًا: «بالحبس أفضل منهم، وبالاضطهاد أفضل منهم، وفي جميع البلايا أفضل منهم. كنت بأخطار من جنسي، وبأخطار من الأمم، وبأخطار من أخوة كذبة.» وما علينا إذا زدنا نحن كلمة على قول ماربولس: وبإلقاء القنابل على بيتي أفضل منهم.

وأما الآن فلنتكلم عن هذه الخطب التي أوجدت لنا مجال القول فكان ذا سعة: إنها تاريخ حقبة من أجلِّ وأخطر حقب تاريخ لبنان؛ ولذلك يحق لي أن أتكلم عنها مثنى وثلاث ورباع إذا اقتضت الحال، فكما تُحفظ خطب رؤساء الولايات المتحدة في مضاجعها في القصر الأبيض، كذلك يجب أن تصان هذه في أسفاطها ذخيرة للذرية.

ترى لو قام واحد بعد مائة عام ونظر في خطب رئيس لبنان الأول الذي كافح وناضل لأجل استقلال وطنه، دافعًا ثمنه نوم العينين، فما عساه يحكم على شخصية الشيخ بشارة خليل الخوري؟

ترى إذا عصرنا هذه الخطب كلها فماذا تقطر؟ إنها تقطر ولا ريب محبة وإيمانًا ورجاء: محبة للوطن وبنيه حتى الأعداء منهم، وإيمانًا بحقه أن يكون سيد نفسه، ورجاء ببقاء هذا الاستقلال. وإذا كان الإنشاء هو الرجل، فهذا هو الشيخ بشارة خليل الخوري؛ أمَا هو الذي قرَّب لبنان من جيرانه فأحبهم وأحبوه؟ أمَا هو الذي عمل بقول مثل بلاده: جارك القريب خير من أخيك البعيد؟

رأت حكمته الفائقة أن الأيام التي كان يستغنى بها عن الناس الأباعد قد ذهبت، وصارت «ملكة اليمن التي أتت من أقاصي الأرض لتسمع حكمة سليمان» تستطيع أن تفطر في بيتها صباحًا، وتتعشى في القدس في الموعد.

لهذا فتح صدر لبنان المضياف للضيوف الخفاف الظل، فأنشأ المطار الدولي بين صخب الناعين وصياح المتعنتين. لم يدع مشروعًا عمرانيًّا يرفع شأن البلاد في أعين أمم الأرض إلا صب عليه جام عنايته. أجل، راحت الأيام التي كانوا يرون فيها كل الأعوام سائحًا. لقد تشابكت المصالح، وصارت كل دولة، مهما ضخمت، معرضة لأصابع، إما خفية وإما ظاهرة، تمتد إليها، فلنكن حكماء منصفين فلا تعمي الأهواء بصائرنا.

ما لي كلما حاولت الدخول في الخطب كأديب أرى شيئًا يجذبني إلى ناحية أخرى، سأخرج ولا أعود. يقول نقاد الأدب: الشاعر الفلاني كان صادقًا أو مخلصًا فيما قال. وأنا أؤكد أن الشيخ بشارة — ولا أظن أن أحدًا ينفي — لم يكن ليستطيع القول بهذه السهولة لو لم يكن مخلصًا فيما يقول، فهذه الخطب البليغة البسيطة في وقت معًا، هي من آيات السهل الممتنع في هذا العصر، تراها خالية من كل بهرج وزخرف، ومع ذلك تجدها في أسمى ذروات الفن الأدبي. إن هذا لأصدق دليل على إخلاص قائلها.

قد يقول ذوو المآرب غير هذا، والشيخ يعرف ذلك، وقد أشار إليه في تأبين الزعيم المغفور له عبد الحميد كرامي: احترمت الحكومة معارضتك، كما احترم الشعب حكمك، والحكم والمعارضة يتمم أحدهما الآخر عندما تحسن المقاصد، وتستقيم النيات، وتتحد القلوب عند مصلحة الوطن العليا.

ثم ختم التأبين بروعة أدبية فائقة فقال: اللهم أخذت منا وطنيًّا مثاليًّا، وعلمًا من الأعلام، وركنًا من الأركان، فاصطفيته لجوارك، فليكن لديك، جل جلالك، وهو ومن سبقه من لبنانيين أماثل، واستقلاليين أفاضل، سفراء للبنان، فهم إن ستروا وجوههم مهابة أمام وجهك يفتحون قلوبهم ليضرعوا أمام عرشك، لتُجنِّبَ لبنان المصائب والويلات، ورأسها الانشقاق والخلاف والحقد والضغينة.

حقًّا إن الضغائن هي رأس بلايانا، وإنني كلما رأيت غبارها يسد الفضاء ترحمت على ابن كلثوم الذي قال:

وإن الضغن بعد الضغن يفشو
عليك ويخرج الداء الدفينا

إن من يحسدك على نعمة لا يُذهب ضغنه وحقده إلا زوالها، فعبثًا تتعب. إن الله، تقدست أسماؤه، عندما أراد أن يطهر رسوله الأكرم من كل غلٍّ أرسل ملاكه فشق قلبه وأخرج منه «النقطة السوداء»، فقل لي: هل تستطيع ذلك؟ إذن فاعمل واترك التاريخ يقول كلمته فيك، ويصدر حكمه العادل عليك.

قالوا: كتَب الجاحظ: تعلم العقل أولًا، والأدب ثانيًا، ولعل هذا التعبير أصدق وصف لخطب الشيخ. تأمل هذا التعبير لأرى إن كنت تؤيدني.

قال في المرحوم عبد الحميد كرامي: فلبست حلته — أي الإفتاء — يافعًا، فكنت طويل النجاد، رفيع العماد، وسدت العشيرة أمرد، وهل الإفتاء إلا معين كثر رواده، وتزاحم قصاده؟ وإن هو إلا علم تأتم الهداة به، فكم أنرت سبيلًا! وهديت حائرًا! وشفيت غليلًا! حتى انقادت إليك الزعامة مختارة. أعرفت أنه مر بثلاثة شعراء في هذه الجمل القصيرة؟ وكم تجد لهذه من أخوات إذا قرأت وتمعنت.

والشيخ، سدد الله خطاه، ككل أديب أصيل يحسن الاستفادة من التاريخ، ويستمد منه صوره وأفكاره؛ ولذلك قال لكرامي: وسخر الله القدر ليصرعك في ذكرى الاستقلال ليتحد يومك بيومه، ويمتزج ذكرك بذكره.

إن العاطفة الحادة تُسيِّر قلم الشيخ فيحيا بها كلامه، ثم لا تنس ذلك الترصيع الأنيق، الذي قلَّما خلت منه خطبة من خطبه الخالدة. اقرأ خطبة الشجرة التي قالها عام أول، وكذلك خطبة عام ١٩٥٠، فلو كان الرئيس امرأً هو غيره لما استطاع أن يعالج موضوعًا واحدًا في كل عام من أعوام ولايته، ويجلِّي فيه ويقول جديدًا كل مرة. إن خطبة «رسالة الحب للشجرة اللبنانية» لمن روائع الشعر، ولو لم يتذكر الرئيس مقامه السياسي لما سبقه أديب في ميدان الإنشاء الرفيع. إن بلاغة البساطة لأعظم البلاغات وأسماها.

وفي تأبين الزعيم الشهيد المغفور له رياض الصلح يُحلِّق الرئيس ويُدوِّم في أعلى الآفاق، عاطفة نارية، وبلاغة مع موسيقى بيانية عزَّ نظيرها، جمل متقطعة لا تقع على الأذن حتى تنفذ إلى القلب. اقرأ معي وانتبه، فهنا كما في تأبين كرامي تلميح رائع: وطنية كانت لك جلبابًا، ودون من كنت تتقي درعًا ومجنًّا، تحدرت كماء المزن ما في نصابك كهام، وحملت سيفًا ماضيًا به من قراع الدارعين فلول.

لا أظن أن في الإمكان أكثر مما كان، فتأبين رياض، رحمات الله على رياض، صورة كاملة له حتى إنها تكاد تكون تاريخًا لحياته. رسم ناتئ الخطوط، بارز الملامح، متناسق الألوان، تقرأه فترى ذلك الزعيم العظيم حيًّا أمامك بلحمه ودمه، فكأن في قلم الشيخ شيئًا من سحر عرافة، عين دور فأرانا بأعيننا شبح رياض كما أصعدت تلك صموئيل لشاوول.

وخلاصة القول: لئن جميع الأميران فخر الدين وبشير الرأي وشجاعة الشجعان، فقد ضم الشيخ بشارة إلى هذين سحر البيان. وهكذا نرى أن الله لم يبخل على لبنان بشيء. وإن تعدوا نعم الله لا تحصوها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤