الفصل الأول

في اليوم الثاني من شهر يولية ١٧٩٨م كانت الشمس تدرُج من خدرها، فترسل أشعتها فوق النيل برَّاقة وهَّاجة كالذهب النضار، وقد تكسرت أمواجه وهبَّت عليه نسمة شمالية وئيدة الخطا، بلل البحر الأبيض أذيالها بمائه، ونفحها ببخاره المملوء بعناصر القوة والحياة.

وكانت مدينة رشيد في هذا الصباح جاثمة فوق الشاطئ الغربي، بعظمة منازلها وارتفاع مآذنها، تنعم بلذة الهدوء الذي احتواها في أثناء الليل، إلا ما كان من العَمَلة الذين اتجهوا أفواجًا إلى مضارب الأرز (الدوائر)، وإلا ما كان من زُمر الفلاحين الذين قدموا من الشمال والجنوب لبيع حاصلاتهم من الخُضَر والفاكهة، واللبن والبيض والدجاج، وقد أخذ فتى منهم غض الشباب يرسل صوته عذبًا مشجيًا بأغنية يذكر فيها ما يبذله من الجهد لجمع مهر حبيبة فؤاده، ثم يتم الأغنية بأن كنوز الأرض وثروة «البك الكبير» بمصر لا تكفي مهرًا لهذا الجمال الرائع والحسن الفتَّان، ويسمعه بعض النساء والعذارى اللائي بكرن إلى النيل لغسل ثيابهن وملء جرارهن، وقد انتثرن على شاطئه في ثيابهن الزاهية الألوان كأنهن عقد اختلفت حباته حول جيد الحسناء، وقد زاد جمال الصبح في جمالهن، وأمنَّ نظرات العيون فكشفن عن سوق خدال، ومعاصم رَخْصَة صافية البياض، لولا ما يحبسها من حجول وأساور لسالت في الماء، كما يسيل الماء.

ضحكت إحداهن في دلال وعُجب، وقالت لإحدى صويحباتها: أتسمعين غناء هذا الفلاح الأبله؟

فأجابت: لعله يا فاطمة يتغزل في جاموسة لأحد جيرانه يريد شراءها، فأسرعت فتاة لا تعرف مكر النساء ولا أساليبهن، تقول في سذاجة: ولكنه يصفها بأنها سوداء العينين، صغيرة الأذنين! فأرسلت فاطمة ضحكة مغرية الرنين وقالت: إنها الجاموسة بعينها كما قالت سعاد! وهي التي من أجلها يكدر علينا هذا الفلاح الجافي جمال هذا الصباح بصوته المنكر، من أين يأتي لهؤلاء الفلاحات الجمال؟ ولو قدر لهن شيء منه لطمسنه ببلاهتهن وقذارتهن، وجهلهن بطبائع الرجال، إن الجمال مهارة قبل أن يكون خلقة وفطرة، والمرأة التي لا تستطيع التعبير بعينيها وابتساماتها، وأسارير وجهها عما تحب وتكره، والتي لم تدرس طبائع الرجل، ولم تعرف مواطن ضعفه وغروره، لن يكون لها حظ عند زوجها، ولو بلغت في الجمال ما بلغت زبيدة بنت البواب.

ارتفعت الشمس وعاد النساء بجرارهن، واستيقظت المدينة الآهلة بسكانها، الزاخرة بنزلائها من جميع أقطار الشرق، فقد بلغت رشيد في هذا الحين شأوا بعيدًا من الثروة واتساع التجارة واستبحار العمران، وكانت ترد إليها السفن من مصر والشام، وتركيا وأوربا، محمّلة بأصناف البضائع، وكانت تمتد على شاطئ النيل من الشرق، ويحيط بها من الغرب الكثبان الرملية التي ملأها نشاط أهلها بالنخيل والكروم، وأشجار الزيتون والتين، وكان بجهتها الشمالية والجنوبية حدائق فيح، وبساتين خضر، ازدحمت بأشجار الموز والليمون، والبرتقال والنارَنج، وأنواع الزهر والرياحين، فكان النسيم في غدوه ورواحه يحمل أريجها إلى المدينة، لا يكاد يخلو منه منزل ولا طريق، فحيثما ذهبت شممت عطرًا، وأينما أقمت تنفست طيبًا.

وكانت شوارعها ضيقة ملتوية، تقوم على حافتيها منازل بُنيت بطوب صغير الحجم أجيد إحراقه، حتى أصبح كالحجر الصلد، وصناعة هذا الطوب خاصة بأهل رشيد ودمياط، وأعظم ما كانت رشيد تزهى به شارعان عظيمان، أحدهما شارع البحر، والثاني شارع موازٍ له يبتدئ من مسجد المحلى، وينتهي جنوبًا بالمسجد الجامع المسمى بمسجد زغلول، وهو من المساجد النادرة المثال بمصر، تزيد رقعته على رقعة الجامع الأزهر، به مساكن لطلاب العلم الغرباء، وكان يلقي الدروس به طائفة من كبار علماء المدينة، أشهرهم الشيخ أحمد الخضري، والشيخ إبراهيم الجارم، والشيخ محمد صديق.

وكان يسكن عظماء المدينة وكبار تجارها بشارع دهليز الملك، وهو يبتدئ من الغرب بمسجد العرابي، وينتهي في الشرق إلى النيل، ويمتاز بسعته واستقامته، وبالمنازل على جانبيه فقد كانت فخمة البناء شاهقة الارتفاع، تتألف في أكثرها من أربع طباق، وتكثر بها الزخارف الفنية والشبابيك، والمشربيات التي أبدعت صناعتها من قطع الخشب الصغيرة المخروطة، ذات الأشكال الهندسية البارعة الدقة، الرائعة الحسن، وكان يسكن بهذا الشارع عثمان خجا حاكم رشيد من قِبل مراد بك، وكان رجلًا فاتكًا بطَّاشًا، ظالمًا جماعًا للأموال أين وجدها ومن أي طريق وصل إليها، وكان به منزل محمد بدوي جوربجي سردار مستحفظان، والسيد محمد البواب، والسيد إبراهيم الجمال — وهما من كبار تجار الأرز بالثغر — والحاج عبد الله البربير شاعر المدينة وزجَّالها، إلى غير هؤلاء من الأعيان والعلماء والكبراء.

وميناء المدينة أشد أحيائها ازدحامًا وأكثرها جلبة وصخبًا، تراصت به السفن آتية من أقطار الشرق والغرب، وسار ملاحوها في شارع البحر يلغطون، وقد اختلفت أزياؤهم وألسنتهم وألوانهم، واختص شارع البحر بمضارب الأرز فطل عليه منها أكثر من ثلاثين دائرة، يبيض فيها الأرز بطواحين تدور بالخيل والبقر، وكان بهذا الشارع متجران: أحدهما لفرنسي يدعى مسيو فارسي، وهو يتجر في الحبوب والعقاقير الطبية، والثاني لإنجليزي يتجر في المنسوجات الحريرية والصوفية، هو مستر أوليفر نيكلسون، وقد كان عند بدء تاريخنا هذا في سن الأربعين، رحب الجسم قوي العضل، يدل تألق عينيه الزرقاوين على قوة العزم، ويوحي انبساط أسارير وجهه بالوداعة واللطف وسلامة دواعي الصدر، وكان كامل الثقافة وافر العلم بأحوال الدول والأمم.

في ضحوة هذا اليوم جلست زبيدة بنت السيد محمد البواب في غرفة نومها، وكانت تلبس قميصًا من الحرير الأبيض الشفاف، يتسع كماه ويضيقان عند الرسغين، فوق صدار من القطيفة القرمزية طرّز بالقصب، وكثرت أزراره حتى التصق بعضها ببعض، أما سروالها فكان من الأطلس البنفسجي واسعًا فضفاضًا، زُيِّن عند نهاية الساقين بطراز من الفضة المموهة بالذهب، وقد انتطقت فوقه بحزام حريري، جعلت عقدته إلى الجانب الأيسر من خصرها، واتشحت بوشاح (يُسمى الشُّمار) دمشقي الصنعة، بديع الألوان، وكان فوق رأسها قرص من القطيفة رصّع بالماس ونفيس الجواهر، أما شعرها: فقد ضفر «بالصّفا» وهو خيوط من الحرير وصل بها كثير من القطع الذهبية، وفصل بين كل قطعة بنظم من اللؤلؤ.

جلست زبيدة في غرفة نومها ثم اتجهت إلى المرآة ذاهلة حالمة: فرأت وجهًا كأنه إشراقة الصبح أو صفحة البدر، أو تبلُّج الحق بين ظلمات الشكوك، به عينان حوراوان امتزجت بهما صولة السحر بنشوة الخمر، فكانتا شباك الفتنة لصيد القلوب، وأنف أحسن الله تقويمه وأبدع تكوينه فزاد وجهها جمالًا، وثغر درّي ياقوتي، تهيم به الشفاه، وتحوم حوله القلوب ظمأى، كما تحوم طيور الصحراء حول معين الماء العذب النمير، ثم رأت صدرًا صافي البياض ممتلئًا بالأنوثة الناضجة، يعبث بالعقول، كأنه سبيكة من لجين، استعارت من الزئبق لينه فظهرت ناصعة رجراجة.

كانت زبيدة في الثامنة عشرة من عمرها، وقد تفتح فيها الشباب كما تتفتح زهرات الربيع، وجالت بنفسها خواطر وثارت بها نزعات لم تعرفها في عهد الطفولة الغريرة، وأحست بما تحسه الفتاة في هذا السن، من ميول متدفقة يكبتها الحياء وتكظمها بقية من أدب ودين، وللعُرف قانون لم يكتب في أوراق، وهو أشد القوانين عنفًا، والناس أكثر له طاعة وقبولًا، وللمجتمع آداب، يحكم بها المرء بنفسه مستكينًا مستسلمًا.

كانت زبيدة فارعة القد ممتلئة الجسم، جرى حديث جمالها الفاتن من فم إلى فم، وتنقل من دار إلى دار، حتى أصبحت مضرب المثل بين فتيات المدينة، ومقياس الجمال كلما عرض ذكر الجمال، وتهافت أبناء التجار والأعيان والحكام على خطبتها والتقرب من قدس حسنها، ولكنها كانت ترد كل توسل بالإدلال، وكل إغراء بالرفض والإباء، ولم تكن أمها لتستطيع أن تعمل شيئًا أمام هذه الحسناء الجامحة، ولم يكن أبوها — وهي وحيدته — ليرد لها كلمة أو يقف بينها وبين ما تكره أو تحب، كانت الفتاة المدللة العابثة المتحكمة، وقد ملأتها ثقتها بجمالها كبرًا وغرورًا، وزادتها ثروة أبيها الضخمة ميلًا إلى الإسراف، والتأنق في الرفَه، وإنفاق المال الكثير على الحليّ والجواهر والملابس، فكانت في جمالها وأزيائها، ودلالها وإبائها جَنَّةً محرمة الثمرات، وأملًا حلوًا عزّ على كل شيء حتى على الخيال.

جلست زبيدة أمام مرآتها ورأت ما رأت، فابتسمت ابتسامة لؤلؤية، ثم عبست وتجهمت أساريرها، ثم رفعت حاجبيها وشخصت بعينيها كالمفكرة المأخوذة، ثم قالت تحدث نفسها: ولِمَ تكذب «رابحة» العرافة؟ أليس في حسني ما يذل له كل عزيز، ويخضع لسطوته كل ذي نفوذ وسلطان؟ ألم يسر ذكر جمالي مع كل سائر؟ ويطر مع كل ريح؟ نعم إن رشيد مدينة نائية عن القاهرة مقرِّ عظماء الحكام وكبار الأمراء، ولكن الملاحين الذين يسافرون إليها في كل يوم لا يزال يحفظون ويتغنَّون بتلك الأغنية السائرة، التي نظمها سرًّا الحاج عبد الله البربير والتي فيها:

الحسن كله في رشيد في بيت
وإن كنت تنكر إسأل البوَّابْ

لا، لا، لن تكذب رابحة، وهي لم تتكهَّن بشيء مستحيل أو بعيد المنال، لقد سمعت من أبي ما أخبره به السيد أحمد المحروقي زوج خالتي من أن السيدة نفيسة زوج مراد بك لها حظ من الجمال، وهي مع ذلك صاحبة الصولة والنفوذ في حكم مصر، فلِمَ لا أكون حاكمة مصر؟! إن كان بها فتاة تشبهني، فأنا أول من يأخذ بيدها إلى كرسي المملكة.

ثم ضحكت ضحكة اليأس والاستخفاف وقالت: ألستُ أتشبث بخيوط من الوهم، وتعبث بي عاصفة هوجاء من الخيال الكاذب؟ من أنا حتى أكون حاكمة مصر؟ بنت السيد محمد البواب أحد تجار الأرز برشيد! هاها. وهذا كل ما أقدمه من الذرائع لأكون أول سيدة بمصر؟! لا يا زبيدة هذا لا يكفي، ثم إنني جميلة فائقة الحسن فاتكة اللحظات، رائعة القسمات، لم تطلُع الشمس على أنضر مني وجهًا ولا أملد عودًا، ولا أشدَّ إغراء وفتنة! وهذا أيضًا لا يكفي يا زبيدة، فإن منازل الرفعة لا تنال بالجمال، وحكام مصر وبكواتها يتصاهرون فيما بينهم لحصر الملك فيهم، وجمع السلطة في أسرهم، لا يغريهم سحر العيون ولا اعتدال القدود.

حقًّا إنني أتعلق بأمل خدَّاع وغرور مضلل!! وسأسقط من القمة التي أنشبت فيها أظافري مهشَّمة العظام، مفككة الأوصال، حينئذٍ سأفيق بعد أن قضيت زهرة شبابي في جنون وأحلام، وحينئذ سأنظر حولي وقد بلغت الثلاثين أو نحوها، فأجد الخُطَّاب وقد طاروا وتركوا عش فاتنتهم حطامًا مبعثرًا، ثم أنظر في هذه المرآة التي أمامي فلا أرى فيها تلك الفتاة الناعمة التي أراها اليوم، ولكني أرى فيها امرأة سواها، دبت في وجهها الغضون، وخمد من عينيها ذلك البريق الساحر اللماح، وأخذت شعرة بيضاء تطل من طُرتها كأنها راية التسليم البيضاء، يلوح بها الجندي المنهزم.

لا، لا، الله لعن الله تلك العرافة، ولعن الله اليوم الذي قابلتها فيه!

ثم أطالت النظر في المرآة، فرأت فحصة رائعة الحسن في خدّها الأيمن، فابتسمت، فزاد الابتسام تلك الفحصة ظهورًا وحسنًا، فعاودها الأمل، ورفعت رأسها في شمم وعزة، وهمست: ولكن العرافة لا تكذب، إنني لم أعرض عليها كفِّي، وقد كنت جالسة بجانب أمي فجذبتها ونظرت فيها لحظة، ثم صاحت دهشة حائرة، وكانت الحيرة تبدو في عينيها حقيقة لا تكلف فيها، وكان شيء يشبه الذهول يتحكم في أسارير وجهها، صاحت: إنني لم أر في حياتي هذا الخط في كف غير كفك وكف إبراهيم بك الكبير، إنه خط الملك!! خط العظمة! خط الحكم! ولكن ما هذا يا ربي؟! سبحانك لا رادّ لمشيئتك، انظري يا زبيدة! ما أنا بمخطئة، انظري يا مليكتي! أترين هذا الخط الذي يمر بأسفل الإبهام قويًّا بارزًا، ثم لا يقف عند ذلك كأغلب الأكف، بل يمتد إلى نهاية الأصابع الأخرى حتى يصل إلى الخنصر، هذا هو خط الملك!! انظري إلى كفي، فهل ترينه؟ ثم إلى كف أمك فهل تجدين له أثرًا؟! ثم إذا شئت فانظري إلى أكف أهل رشيد جميعًا، وأنا زعيمة بأنك لن تعثري على مثله.

دُهشتُ ودهشت أمي، وقهقهت قهقهة المذهول وقالت: ما هذا يا رابحة؟ ما هذا الكذب الصراح؟ كنا نرضى منك بدون هذا، وأين نحن من الحكم ومن مراتب الحكم؟ إن الحكم في مصر قسمة بين البشوات والبكوات، ولم يناله مصري أنبتته أرض مصر، إننا نعيش في بلادنا غرباء نتلقف فتات ما يتركون، إن ابنة عثمان خجا تأنف أن تزور بيت رشيدي كيفما علا مقامه، وعظم جاهه، إنها لا تسميننا إلا بالفلاحين، كأن الله خلقنا من طين وخلق الترك من مسك وكافور، بنتي تحكم مصر؟! دعيها أولًا تحكم رشيد، أو شارع دهليز الملك، قبل أن تطيري بها في جو الأحلام والأكاذيب، لعلك تظنين أنه كلما عظمت الأمنية عظم الأجر، ولكن الأماني المعقولة شيء، وهذا الجنون الجديد شيء آخر.

قالت أمي هذا، فتطاير الشرر من عيني رابحة، ووثبت من مكانها كمن لدغه ثعبان، ووضعت يدها في جيبها في حنق وغضب، فأخرجت أنصاف الفضة التي كانت أمي أعطتها إياها، وقذفت بها في وجه أمي وهي تصيح: جنون جديد! هذه أنصافك يا سيدتي فإني في غنى عن مالك بما وهب الله لي من علم ومعرفة، وإذا كنت تظنين أن تكهني دجل وخرافة، فلِمَ دعوتني؟ ولِمَ أرسلت خادمًا بعد خادم ملحة في طلبي؟ لعل الذي جرَّأك عليَّ أني أتقبل أجرًا لقاء الإفضاء ببعض ما يتكشف لي من ملامح الغيب، والله لولا مسّ الحاجة ما تدليت إلى هذا الحضيض، ولا سمعت اليوم من سيدتي نفسية التي تظنني امرأة أفاقة أفاكة، هذا السب الشنيع، حقًّا إن كل شيء يمتهن إذا بِيع بالمال: فالجمال يمتهن إذا بيع بالمال، والجاه يمتهن إذا بيع بالمال، والعلم يمتهن إذا بيع بالمال.

قالت كل ذلك وأوصالها ترتعد، وفمها يقذف بالزبد كأنما مسها شيطان، ثم زايلها الغضب دفعة واحدة والتفتت إليَّ وحنت رأسها في إجلال وخشية وقالت: والآن تحيتي وخضوعي لمولاتي زبيدة ملكة مصر، ثم انفلتت كما ينفلت الطائر من الشبكة، فلم نر لها أثرًا.

هذا ما جرى من رابحة العرّافة، أذكره كلمة كلمة كأنما أقرأه في لوح مكتوب، فهل كان كل ذلك كذبًا وزورًا؟ وهل أنا مخاطرة بحياتي وجمالي وشبابي، في سبيل كذب وزور؟ إن التردد يكاد يقتلني! ما هذه الأرجوحة التي أرتفع بها مرة، وأنحط أخرى؟ يقين يتملكني فأكاد أرى العرش الذي سأجلس عليه، ثم يجيء الشك فيمحو كل هذه الآمال كما يمحو النهار آية الليل، فلا أرى أمامي إلا جنة أصبح ماؤها غورًا، وعاد ريحانها حطامًا، وأنظر فإذا أنا في صحراء العمر المحرقة، وقد غدا الشباب النضر الريان في هذه الصحراء سرابًا خداعًا مخاتلًا، إذا جئته لم أجده شيئًا، إن الزهرة إذا تفتحت اليوم ذبلت غدًا، والبدر إذا تم كماله درج إلى النقص والمحاق، وهل بعد بلوغ الفتاة الثامنة عشرة غاية للنضج وتفتح الأنوثة وتفجر الميول؟ فإذا أهملها الخُطَّاب في هذا السن ذوى عودها وخبت نارها، وذهبت بشاشاتها، كالثمرة إذا لم تُجْنَ والزرع إذا لم يحصد، هكذا قضت الطبيعة القاسية المستبدة بكل حيٍّ، فقد جعلت لكل شيء أوانًا، فإذا ذهب أوانه تبدّل خلقًا آخر، فزهدته النفوس وتقحمته الأعين.

إن ابن خالتي محمودًا العسال فتى يزدهي به الشباب، وتعتز به الفتوة، إنه زينة الأنداد وفخر الأمثال: جمال وجه إلى كرم خلق، إلى جرأة وإقدام، إلى كياسة وحزم، ثم إلى ثروة وجاه عريضين، وما رأيته مرة إلا اختلج قلبي له، وهفت روحي إليه، وأحسست في شفتي بدبيب يكاد يدفعهما إلى تقبيله، وجرت في جسمي نشوة عجيبة لا أعرف لها كنهًا ولا أستطيع لها وصفًا، أهذا هو الحب الذي يَتَغَنَّى بأناشيده الرجال والنساء؟ إن كان إياه فإنه حب عنيف تحكَّم في نفسي، وملأ عليَّ يقظتي وأحلامي، أما محمود فلم يدع وسيلة يُدلي بها إليَّ إلا اتخذها، ولم يترك كلمة من كلمات الغرام إلا سكبها في أذني، يغري مرة ويتذلل أخرى، ثم يصف ما يلاقيه من الهجر وصفًا يستنزل العُصم، ويهز الجبال الشم، وأنا أنصت إليه في وجوم وذهول ورعب، وقلب مضطرب خفَّاق، فإذا زادت بي ثورة الوجد كدت أثب عليه فألتهمه ضمًّا وتقبيلًا لولا أطياف ذلك الخيال الخداع، والأمل الختال، التي كانت تسرع إلى نفسي فتجتذبني من السماء إلى الأرض، وتطفئ نار نزواتي، وتهدئ من خفقات قلبي، ذلك الخيال الذي يصور لي المُلك الموهوم، والذي يوسوس إليَّ أن من قُسم لها أن تكون حاكمة مصر لا ينبغي لها أن تصغي إلى كلمات الغرام من أي شخص، ولو كان في جمال محمود العسال ورجولته، أسمع هذا الوسواس الخناس فيعود إليَّ هدوئي، وأرده عني بكلمات تقتل الأمل وتجتث الرجاء، ويعلم الله أني أقولها وكل حرف منها سكين في فؤادي وغصة في حلقي، إنه زهد في جميع الفتيات لأجلي، ولو أنه رفع إصبعًا لأجملهن لطارت إليه شغفًا، واهتزت كالعصفور للقائه شوقًا، ولكنه أبى أن يتزوج إلا بي، ذكرت له أمه بنت الشيخ الجارم «رقيَّة» — وهي مَن هي في جمالها وخفة روحها ومنصب أبيها — فأبى، ثم ذكرت له بنت السيد أحمد المحروقي زوج خالتي — وهي بنت الشرف والسيادة والجاه — فأبى، فهل حُكِمَ عليَّ وعليه أن نبقي هكذا محرومين من ثمار هذا الحب، ومن تلك الجنة الدانية القطوف، وبيننا وبينها كلمة تقال؟!

وبينما هي في أحلامها وأحاديث نفسها؛ إذ سمعت صوت حركة لدى البابا، ففزعت واتجهت إليه، فإذا قطتها تدخل متباطئة، حتى إذا أبصرت سيدتها جرت نحوها وأخذت تتمسح بها في حب وحنان، فأخذتها زبيدة بين يديها وطفقت تقبلها والقطة تزمزم وتقلب وجهها فوق خديها، ثم وضعتها أمامها وضحكت ضحكة الفتاة العابثة اللعوب، وأخذت تقول: تعالي أيتها القطة الماجنة الخبيثة، واعترفي لي كما اعترفت لنفسي، أتحبين غيري؟ لا؟ تحبينني أنا وحدي؟ أليس هناك قط في خيالك قد يكون ملك القططة؟ أراضية أنت عن حياتك كما هي؟ ألا يكدر عليك صفوك طيف كاذب يطمعك فيما لا يمكن أن يكون؟ لا؟ ما أسعدك يا قطتي، وما أوفر حظك من الحياة! أنت أعقل من سيدتك المفتونة بالأوهام، ولكن ألا تحبين أن تكوني قطة الملكة؟ الخدم أمامك ووراءك! والوصائف تدللك! وأصحاب الحاجات تتملقك! تحبين هذا؟ بلا شك؟ نعم يا قطتي، نعم يا قطتي، إن قلبي يحدثني أنني لست واهمة، وإن صوتًا يهمس في نفسي ألا تخافي ولا تحزني، وأن «رابحة» العرافة لم تكذب، أكاذبة رابحة؟ لا؟ صدقت، إنها قالت مرة: إن أبي سيسافر إلى استانبول فلم يمض أسبوع حتى دعاه داعٍ للسفر إليها من حيث لا يتوقع، وألحت مرة على عمتي أن تحذر ابنها من الماء فمات بعد شهر غريقًا، وقالت للورا بنت الخواجة نيكلسون: إن ضيفًا سيزور أباها من بلاد بعيدة فحضر عمها بعد يومين.

لا، لا يا قطتي، إن رابحة لا تكذب، وليس عليَّ إلا أن أرتقب وأصطبر.

وما كادت تتم جملتها حتى رأت خادمها الخاص «سرورًا» يقبل نحو غرفتها ويقول: إن سيدي محمودًا حضر منذ ساعة، وهو جالس مع سيدتي الكبيرة، وقد أرسلتني لأدعوك إليهما، فقالت زبيدة: فيم يتحدثان يا سرور؟

– لا أدري يا سيدتي، إنه حديث طويل، وسيدي محمود هو الذي كان يتكلم، وسيدتي تهز رأسها وتربت كتفه.

– أما فهمت موضوع الحديث؟

فأطرق الخادم في خبث وقال: أنا يا سيدتي لا أفهم الكلام السريع، فإن سيدي محمودًا كان منطلقًا في حديثه كما ينطلق النمر في بلادنا خلف الغزال، وكل ما فهمته كلمات متقطعة مثل: نذهب إلى مصر، السعادة، طال الزمن، هل هذا يجوز …

– فهمت يا سرور، تعالي يا قطتي وساعديني على الثبات والصبر.

وخرجت تمشي في دلال وعُجب، والقطة تدخل بين قدميها وتخرج في أثناء مشيها، وهي تكاد تعثر بها في كل خطوة، حتى نزلت إلى أمها في الطبقة الثانية من المنزل، فلما رأتها أمها قالت: أهلًا بعروسي الحسناء، تعالي بجانبي يا فتاتي وأنصفيني من ابن خالتك هذا، فقد حطم رأسي بكثرة حديثه هذا الصباح! ولولا حبي له وإعجابي بخلقه وأدبه ورجولته، وضعفي أمام وجهه الوسيم، لكان لي معه شأن آخر.

فحيَّت زبيدة ابن خالتها بعينين مطبقتين تصنَّعت فيهما الحياء والخفر، ثم جلست إلى جانب أمها ورفعت رأسها قليلًا نحو محمود، وقالت: كيف حال خالتي زينب اليوم؟

– الحمد لله، ولكنها لا تزال عاجزة عن المشي، ولا تزال تقاسي آلامًا مبرحة في ساقيها، وبخاصة في الليل.

– كانت هنا بالأمس «بدور» الدلالة وقالت: إنها كانت أصيبت بهذا المرض، ولم يشفها منه إلا دهن ساقيها بزيت ساخن خلط به دُقاق الفلفل الأسود، والقرفة والمر.

– عملنا يا زبيدة كل شيء، ولم نترك في تذكرة داود علاجًا إلا جربناه، واضطررت آخر الأمر إلى استشارة الطبيب الفرنسي «شوفور» فقال لي: إنه مرض في المفاصل، وإن له مرهمًا في فرنسا، ولكن هذه الحرب بين الدول سدَّت سبل البحار، فلم يصل إلى مصر إلا قليل جدًّا من البضائع التي كانت تُغرق الأسواق.

– صحيح، إن أبي يقول: إن التجارة في كساد لقلة البضائع التي تسافر من رشيد أو تأتي إليها؛ لأن ناسًا يقفون في البحر ويغرقون السفن.

كانت نفيسة أم زبيدة جالسة تعبث بسبحتها، وهي بادية العبوس تكاد تحترق غيظًا من الحديث في السفن والتجارة؛ لأنها كانت تود لو أن محمودًا قذف بنفسه على قدمي زبيدة يبللهما بدموعه، ويشتكي لها لوعة الحب والغرام، وليس أشهى لدى المرأة في سن اليأس من أن تشهد منظرًا للحب، أو تسمع عنه حديثًا، لقد حرمتها الطبيعة الحب الذي لم تنسَ حلاوته، فلا أقل من أن تراه في غيرهما، ولقد ودَّعت راحل الشباب من عهد بعيد، فهل يحال بينها وبين أن تسمع عنه خبرًا؟!

وهل يجوز في شرعة الإنصاف أن تُجحد هذا الحق الضئيل، الذي اكتفى به أبو نواس حينما نهاه المأمون عن الخمر فقال:

جُل قصدي منها إذا هي دارت
أن أراها وأن أشم النسيما

وهل عليها من حرج إذا طافت بها ذكريات الماضي، فحنت إلى رؤية أطيافها في فتى أو فتاة؟!

ثم إن نزوات القلوب لا تموت، ولكنها تفقد وسائلها من صحة وفتاء، وحسرات الشيخ على الشباب إنما هي حسرات الجائع يرى الطعام عن بعد، فلا يستطيع إليه وصولًا، ولا يجد له سبيلًا، إن ألذ شيء عند العجائز أن يقضين النهار كله في أن فلانة خُطبت، وفلانة تزوجت، وأن يحضرون الأفراح ويشاهدون العروس ليلة جلائها.

لما رأت أم زبيدة الحديث تافهًا، خطر لها بحق أن وجودها قد يكون سببًا في كبح جماح عاطفة محمود فقامت مسرعة وهي تقول: يا حسرتي! لقد نسيت أن أنظر فيما تعده الطاهية لغداء اليوم، ثم ذهبت نحو المطبخ ولقبقابها العالي جلبة وقعقعة.

وهنا نظر محمود إلى زبيدة في ذل واستجداء، وقد أحست في لمحة خاطر ما وراء هذه النظرة، وهدتها فطرتها النسوية الماكرة إلى السكوت حتى تتفتح لها السبيل التي يجب أن تسلكها، فأطرقت إطراق المذنب الخاضع الذي وطد النفس على تلقي ما يُقذف به من تهم، وهنا قال محمود: لقد وعدتني في آخر لقاء لنا يا زبيدة أنك ستفكرين في الأمر، وستصارحينني بما انتهى إليه رأيك، وسألتك الرحمة بي فيما تفكرين، والإشفاق عليَّ فيما تبتين، ووالله ما لقيتك بعدها إلا خفت أن أسألك عما هداك إليه التفكير من الحكم لي أو عليَّ؛ لأني رأيت من الخير لي أن أعيش في نعمة من الشك، وأن أستمر في مداعبة أمل واهن أضعف من أنفاس المحتضر، والذي قال: إن اليأس إحدى الراحتين لم يكن يعرف أن العشاق كالغريق يتوكأ على الثُّمامة، وأنه لولا ما يلازم الحب من الرجاء والخوف لكان إحساسًا حقيرًا كإحساس الجوع والعطش، مضى شهران يا زبيدة وأنا في هذا الشك، فهل لديك اليوم كلمة أقوي بها أملي، وأتوسم فيها وجه سعادتي؟ لا تقولي: «لا» يا زبيدة، فإنه لم يبق لي إلا وتر واحد ضعيف من أوتار الأمل، أعزف عليه أنشودة غرامي، فإذا قطعته يا زبيدة سكتت أنشودتي، وسكتت معها نبضات قلبي، قولي: «نعم» يا حبيبتي، وإذا عز عليك أن تقوليها فلا تقولي: «لا».

كانت لواعج الحب تضطرم في نفس زبيدة، وكانت تحس كأن سكاكين مثلّمة تحز في قرارها؛ لأنها كانت تهوى ابن خالتها وتراه المثل الأعلى للزوج والحبيب، وتتمنى لو ألقت بنفسها بين ذراعيه، ومزجت دموعها بدموعه، ولكن المسكينة كان لنفسها ناحيتان: ناحية يكتم فيها الوجدان وتطغى النزوات، وناحية ألقت بزمامها إلى العقل واستسلمت إلى سلطان الإرادة، وطالما تحكمت الثانية في الأولى، وأسكنت صيحاتها، فالتفتت إليه وقالت: أنت لا تشك يا محمود أني أحبك كما أحب أخي عليًّا، وأني كلما فكرت في أمرك ارتفع في نظري هذا الحب الأخوي الطاهر الشفاف على حب الزوجة لزوجها، فأضن به أن يذهب من يدي لاستبدل به حبًّا ماديًّا أرضيًّا، قلقًا مضطربًا، ربما دام وربما لا يدوم.

– حبًّا قلقًا مضطربًا؟ إن حبي يا حبيبتي لو تجسم لكان ركانة في الجبال، وصلابة وبأسًا في الحديد، إنه قطعة من الروح وفلذة من القلب، فإذا زال زالت الروح، وذهب القلب معه، إن الحب الأخوي نفحة وراثية، والحب الغرامي نفحة روحانية، وشتان ما بين النفحتين!! إن الحب الأخوي أثر المعاشرة والإلف، والحب الغرامي أثر الوحي والإلهام، لا تغالطيني يا حبيبتي، وإذا رضيت أن أكون لك أخًا فأطلقي لهذا الحب قليلًا من فضلة العنان، ليكون حبًّا قدسيًّا تتعانق فيه الروحان، وتتلاقى الشفتان.

– هل سألت أبي؟

– لقد أمللته حتى إنه كاد يفر مني، ولما ضاق بي ذرعًا آخر الأمر، التفت إليَّ حزينًا وقال: «إنك تزيد في آلامي يا بنيَّ بكثرة الإلحاح، لقد ذكرتك أمامها مرات، ويعلم الله أني لم أترك وصفًا مما يرغِّب النساء في الرجال إلا خلعته عليك، ولكني لم أَرَ منها اتجاهًا إليك ولا رغبة فيك، وقد عاهدت نفسي ألا أجري إلا على ما أرادت، وألا أدفعها إلى أمر لا ترغب فيه، فإذا رضيت بك زوجًا فإنني أكون أسعد خلق الله بهذا الزواج»، أما أمك: فقد قضيت معها ساعة اليوم فلم أجد منها إلا موافقة تامة ورضًا كاملًا، غير أنها كانت كأبيك تخشى أن تلزمك إرادة أو تحملك على عزيمة، فالأمر بين يديك يا زبيدة، إن في فمك كلمة هي الحياة أو الموت، فأشفقي على ابن خالتك المسكين!!

نظرت إليه زبيدة في شيء من القلق مكتوم وقالت: لم يبق إلا رضاي؟! وهذا شيء هين، ولن يخلو زواج من عقبات، وهذه عقبة صغيرة أسأل الله أن يُقدرني على تذليلها، فدعني الآن يا محمود، فإن لكل شيء أوانًا، والذي سُطِّرَ في لوح القدر سيكون، ولا بد أن يكون، وماذا أكون أنا أمام علم الله وقدرته؟

وهنا ظهرت عند باب السلم الشيخة أمينة، وهي امرأة كفيف تحفظ القرآن وتقرأ في بيوت أغنياء المدينة، وكانت تقودها فتاة صغيرة قذرة الجلباب حافية القدمين، أصاب الرمد عينيها بدموع لا تنقطع، فأوشكت أن تشبه من تقودها، دخلت الشيخة أمينة وهي تقول: صبحكم الله بالخير جميعًا، وكفاكم شرور هذا الزمان، إن المدينة اليوم في ثورة جامحة، فإن عثمان خجا لم يكتفِ بما يفرضه من الضرائب والمكوس والمصادرات في كل يوم، حتى ابتكر ضريبة جديدة لا تترك للفقير ما يقتات به، ولا تُبقي للغني ما تبقَّى له من قليل.

وهنا ظهر الحزن والهم على وجه محمود العسال، ونهض واقفًا وهو يقول: لا يمكن أن نعيش يومًا آخر مع هؤلاء المماليك، ثم حيَّا زبيدة ومال إلى أذنها وهو يهمس: طال الصبر يا زبيدة فإلى متى؟ ثم أسرع نحو الباب.

وعندئذٍ قامت زبيدة متثاقلة حزينة، فهُرِعَتْ إلى غرفة نومها لتكتم آلامها، وما وصلت إليها حتى رمت بنفسها على السرير وكتمت أنفاسها الحرَّى في وسادة من الحرير، وأخذت تبكي بكاء مكتومًا اهتزت له أضلاعها في خفقات مضطربة، وهي تقول: أحبه!! … أحبه!! …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤