الفصل العاشر

لقيت زبيدة من زوجها مينو أول الأمر شغفًا وهيامًا وطرقًا في الغزل وشكوى الصبابة لا عهد لها بها، فكان يجثو أمامها في ذلة واستعطاف كما يجثو الراهب في محرابه، ويتمتم في أذنها بأحاديث من الحب والوله تختلط بإشارات وحركات ينتفض لها قلب كل فتاة، وقد أتقن مينو هذا الفن بعد أن تدرب عليه طويلًا في مجتمعات باريس، وكان كثير من شبان أوربا في هذا الحين الذي كثرت فيه الثورات، وخرجت فيه الأمم على كل قديم، وتغلب فيه المذهب الأبيقوري، يعدون إغراء المحصنات بأساليب الختل والكذب فنًّا رفيعًا وثقافة عالية، لا يكمل الرجل بغيرها، فالذي لا يغازل أبله، والذي لا يستنزل فضيلة المرأة البتول من قمة قدسها إلى أسفل درك لا يعد رجلًا كامل الذوق واسع العلم بالحياة، وكلما صعب نيل الفريسة زادت مهارة الصائد، وكلما مُزِّقت الحجب كان العمل فتحًا مبينًا، وإذا تنافس فرسان العصور الوسطى في الشجاعة وإغاثة الملهوف والأخذ بيد الضعيف، فإن فرسان أوربا في هذا العصر كانوا يتنافسون في نصب الحبائل للغيد الفاتنات، ولقد سرى الداء إلى النساء فلم يعد الطهر طهرًا، ولا العفاف عفافًا، حتى إن المرأة كانت تباهي بكثرة عشاقها، وتحاول بكل وسائل الإغراء أن تزيد في عددهم، وفتحت الأبواب في كل قصر لتلاقي الأخدان واجتماع الخلان في جهر وعلانية، وأجاد الشبان دروس الغزل، وأعدوا لكل نوع من النساء نوعًا خاصًّا منه، كأنهم باعة ثياب يبيعون لكل مستام ثوبًا على قده، وقد قطعوا الصلة بين اللسان والقلب، وبين الوجه والضمير، فهم يتحدثون عن الحب وليس في قلبهم منه إلا فتكات اللص وشهوات البهيم، ويبكون في ضراعة ووجد وضميرهم يسخر ويقهقه من غرور المرأة وقرب وقوعها في الشرك.

ولكن مينو كان زوجًا، عُقد له على زبيدة بكتاب الله وسنة رسوله بعد أن أعلن إسلامه وسجله بالدفاتر، فلماذا يعصف به الحب ويدلهه الغرام، ومحبوبته بين ذراعيه، وهي له وحده لا يزاحمه في حبها مزاحم؟ ألأن النشوة الأولى بهرت الرجل ولعب بلبه ما رأى من زوجته من سحر وفتنة، وهو من أخبر الناس بفنون الجمال؟ أم لأن الرجولة كانت عاتية طاغية فلم يملك إلا أن يجد لما يجيش في نفسه متنفسًا بالغزل وبث الغرام؟ أم لأن العادة جرفته فأخذ يكرر في بيت الحاكم برشيد تلك الدروس التي حفظها وأجاد إلقاءها في حفلات فرنسا؟

وكانت زبيدة بعد زفافها في بحر مائج مضطرب من الأفكار والهواجس، أترضى بما قسمه لها القدر، وتقنع بهذا الزوج الذي سيجلسها على عرش مصر، فتجزي زوجها حبًّا بحب؟ أم تسخط على صلة دفعها إليه أمل كاذب مغرر فتنكمش بقدر ما يحسن بها الانكماش، ولا تعطي هذا الفرنسي إلا ما تسمح به الفتاة الملول؟ لم يكن في الجنرال مينو شيء يغري المرأة بالرجل قط: وجه غليظ دميم القسمات ثقيل الملمح، وجسم بدين إلى القماءة أقرب، وكرش بارزة كأنها الزق المنتفخ، ثم هو وقد خطا نحو الخمسين لم يبق فيه مأرب للنساء ولو كان في جمال يوسف الصديق، فكرت زبيدة طويلًا وقدّرت طويلًا، وسار بها الفكر في شعاب مترامية البعد كثيرة الالتواء، فجال بخاطرها محمود وما أنعم الله به عليه من كمال في الخَلق والخُلق، وجمال في النفس والجسم، ورجولة ناضجة تهوي إليها قلوب النساء، وعقل راجح يلعب بألباب الرجال، جال ذلك بخاطرها فثار حبها القديم، وهاجت عواطفها الكامنة، وتأججت بفؤادها نار من الوجد طالما أخمدتها بماء دموعها؛ لأنها لن تصل بمحمود إلى ما تريد من ملك مصر، ولأن حبه لا يحقق لها تلك الأحلام الذهبية التي منَّتها بها رابحة العرافة، وماذا تعمل وقد خلقها الله من آمال وطموح، وسلحها بعزيمة ماضية الحد ترد عنها كل ما يصدها عن هذه الآمال؟ محمود ريحانة قلبها ونور عينيها ومطمح غرائزها، وهي لو أرادت أن تعيش كمثيلاتها لم ترض به بديلًا، ولنعمت في ظل حنانه بالحب والنشوة الحلوة والسعادة التي تصبو إليها كل فتاة، ولكنها لا تريد أن تكون كمثيلاتها ولو أحرق الوجد فؤادها، وجشَّمها إسكات غرائزها النهمة عناء طويلًا، وأين الحب وأين لذته، وأين محمود وأين جهارته، من مُلك سامق البنيان عزيز السلطان تعنو إليه الوجوه وتنحني الرءوس؟ هكذا مضت أيام زبيدة، وهي تفكر وتثير غبار الماضي، لا يمر بخاطرها ذكر محمود حتى تثور عليه حزينة متألمة، فإذا نسيته أو شغلها عنه شاغل حنت إليه وتشبثت بخياله تبثه وجدًا متأججًا وحبًّا كمينًا، ولكنها أبت في النهاية على الرغم من طموحها وتضحيتها في سبيل هذا الطموح بكل غالٍ، أن تمنح قلبها رجلًا جر العار إليها وإلى أهلها، فقد فرّ أبوها من المدينة يوم خطبتها، وبخع الحزن نفس أمها أسفًا، وجانبتها عشيرتها فأصبحت أشبه بأسيرة في جيش الأعداء، وإن أحاطت بها صنوف النعيم، ثم هزت رأسها في تصميم وقالت: محال أن يظفر هذا الفرنسي بحبي، وفي ذات صباح أطلت من نافذة قصرها فرأت الجنود والحراس وقد التفوا حول امرأة في ملاءة بالية، وهي تصيح في وجوههم وتقذفهم بأبلغ ما تضمنته معجمات العامة من شتائم، فأطالت زبيدة النظر فإذا هي رابحة العرافة، فأرسلت في عجل إحدى وصائفها لتأمر الجند بإدخالها، وبعد قليل دخلت رابحة وهي تصخب وتلعن، والنساء دائمًا أشد جرأة على الجنود الغزاة من الرجال؛ لأنهن يتسلحن بالضعف، ويملكن من وسائل التشهير والصراخ والولولة ما ليس في مُكنة الرجال، دخلت رابحة على زبيدة مربَّدة الوجه، وبعد أن تنهدت طويلًا، قالت: أسعد الله صباح الملكة.

– الملكة؟ هكذا مرة واحدة يا رابحة؟ إن الفرنسيين لم يدعوا في مصر ملكًا ولا ملكة ولا أميرًا ولا أميرة.

– نعم، ولكن كل هذا لن يحول دون أن تكوني ملكة، إن علمي لن يكذب أبدًا، اللهم إلا إذا محيت خطوط كفك اليمنى.

– وهل تمحى خطوط الكف؟ ليتها تمحى!

– لن تمحى؛ لأنها صورة في كتاب القدر.

– ولكن أين أنا الآن من هذا الملك الموهوم؟ وهل زواجي هذا الفرنسي يقربني خطوة إليه.

– لا أدري؛ لأنني أعرف الغايات ولا أعرف الوسائل، وكثيرًا ما دهشت لأعاجيب القدر، وكثيرًا ما كتمت ما أراه من لمحاته حتى لا يسخر الناس مني، وكثيرًا ما تُوقعني صناعتي في مشكلات يصعب منها المخرج، أذكر أني قبل أن يدخل الفرنسيون البلد بسنة واحدة كنت مارَّة بهذا القصر، وكان به عثمان خجا حاكم المدينة فوسوس إليه شيطانه وزين له غروره أن يدعوني لأبصر له كفه حتى يتسلَّى بالضحك مني والاستخفاف بتكهُّناتي، فدخلت عليه وهو متكئ في صلف وكبرياء على مقعد طويل، والجند حوله شاكو السلاح، والرهبة تُطبق على أنحاء المكان، والشيخ البربير يحتال جهده على أن يستلَّ ابتسامة خفيفة من بين شفتيه لكثرة ما يقصُّ من نوادره المضحكة ونكاته البارعة. دخلت فلم أسلم عليه؛ لأن الدماء البريئة التي كان يريقها كل يوم ظلمًا، والأموال التي يغتصبها اغتصابًا حبست لساني ودفعتني إلى ازدرائه واحتقاره، كيفما كانت سطوته وكيفما علا مقامه الزائف، وما أنا والخوف من سطوته، ونحن الضعفاء الفقراء قد حصننا الضعف وصدَّ عنا الفقر يد الظالمين؟ دخلت فلم أسلم فجمجم الحراس مستنكرين في رياء وملق فلم أُبَالِ بهم، ثم قلت: ماذا تريد مني يا عثمان؟ أتريد أن أبحث في كفك عن مدينة أخرى تخربها بعد أن أتممت خراب رشيد؟ فنهرني سليم بك، وكان في المجلس، وهَمَّ بطردي، ولكن الشيخ البربير قال شيئًا من الشعر معناه أن طنين الذباب لا يضير، وأن السحاب لا يضرها نبح الكلاب، وهو في قرارة نفسه يريد أن يذود عني هؤلاء الكلاب. فضحك الحاكم كأنه فهم الشعر، ومدَّ إليَّ كفه قائلًا: انظري يا محتالة لعلك ترين في كفي أني سآمر بقتلك. فنظرت في خطوط كفه وهالني ما نظرت! رأيت خطًّا فيها لا يظهر إلا في كف من يموت مصلوبًا، فوجمت وتمتمت، وترددت بين الصراحة وفيها الضرب والهوان أو الموت، والمداجاة وفيها الخلاص من براثن هذا الأحمق. ولكني عاهدت الله وعاهدتني أمي أن أكون أمينة على علمي، فرفعت رأسي في اعتزاز وجرأة وقلت: أيها الحاكم إنك ستموت، فضحك مَن بالمجلس وصاح الشيخ البربير قائلًا في سخرية مصنوعة: أفادك الله يا رابحة! ما كنا نظن أن أحدًا مخلدًا في الأرض: وكُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ هاتي كفك يا رابحة، إني أرى فيك أنك ستموتين، ولكني لويت عنه وجهي وقلت: أيها الحاكم إنك ستموت في هذا البلد بعد سنتين، وسيكون موتك بين السماء والأرض. فضحك سليم بك، وقال الشيخ البربير ساخرًا: أخشى يا سيدي الأغا أن يكون لك جناحان تخفيهما تحت ثيابك، ثم التفت إليَّ وقال: انصرفي يا رابحة، إن شيطانك اليوم ساخط عليك، يأبى أن يطلعك على لمحة من الغيب، فانصرفت بعد أن لمحت في وجه الحاكم الفزع والغضب فعلمت أنه فهم ما قلت على الرغم من سخرية أصحابه بي واستخفافهم بقولي.

– ولكن عثمان خجا فرَّ بجنوده يوم دخول الفرنسيين المدينة، وأكبر الظن أنه لن يعود ما داموا فيها.

– إنه سيعود حتمًا، وسيعود بعد أيام، وسيصلب في رشيد.

– وإنني سأكون ملكة حتمًا؟ ومتى؟

– قريبًا وإن كنت أعتقد أن حكم الفرنسيين لا يدوم طويلًا.

– لا يدوم طويلًا! إذًا متى أكون ملكة؟

– ستكونين ملكة فلا تخافي.

– وكيف لا أخاف وقد عقد القدر مآلي بمآلهم بعد أن أصبحت زوجة لأحد كبرائهم؟

– هذا ما لست أدريه، لكن الذي أعلمه حقًّا أنك ستكونين ملكة مصر، والله وحده هو الذي يصرِّف الأسباب ويقلِّب الليل والنهار، لقد زرت أمك منذ أيام فساءني ما رأيت من ذبولها وشدة حزنها لاختفاء أبيك، أما أعجب العجب فابتهاج أخيك علي الحمامي وازدهاؤه بصهره الجديد! لقد نسي المسكين كل معنى للرجولة بعد أن أغدق الجنرال عليه وجعله رئيس التجار وموضع الشفاعات، وأجرى عليه النعم، فهو اليوم يركب جواده في كبر وتيه، وأمامه ثُلَّة من الجنود الفرنسيين توسع له الطريق، ولن تذهب سفينة إلى القاهرة أو الإسكندرية إلا بإذن منه، ولن يصدر هذا الإذن إلا بمال يكاد يصل إلى قيمة ما تحمله السفينة، كل هذا ثمن أسرِك يا فتاتي في هذا السجن الجميل المشرف على نهر النيل المبارك. وبينما هي في الحديث إذا صوت جهير تتردد صيحاته في الأفق تبينتا فيه صوت الشيخ علي سريط وهو يقول: «طأطئوا الرءوس، للعروس، وإن ذهب الإسلام، وعبث الذئب بالأغنام».

فتجهمت زبيدة ووجمت رابحة ثم قامت وهي تقول: سأطأطئ الرأس للملكة، أما الإسلام فله رب يحميه، وانفلتت كأنها الطائر المروع، وبعد خروجها دخل المترجم إلياس فخر ليلقن زبيدة درسًا في اللغة الفرنسية، وقد عهد إليه مينو في ذلك، فكان يلقي عليها جملًا بالفرنسية مع بيان معانيها بالعربية ويطلب إليها تكرارها، وكان لهذه الجمل سبيل واحدة، فكلها من أمثال: أحبك، لقد ملأ حبك قلبي، لقد ملكت فؤادي، إن غيابك يؤلمني، إلى غير ذلك من أمثال هذه الترهات، وكانت زبيدة تكرر هذه الجمل ذاهلة حزينة كأنها بريء من العصور الوسطى يُحمل على الاعتراف بوسائل التعذيب، وبعد انتهاء الدرس أخذ المترجم كعادته يفيض في عظمة الجنرال وشرف محتده وعلو منزلته، ويصور لها ما ينتظرها من المجد الشامخ والعز السامق، وهي تهز رأسها بحركات آلية لا أثر للحياة فيها، وبعد قليل سمعت أصوات الأبواق، وعلا صياح الجند بالتحية لقدوم الجنرال مينو، واصطف الحراس واهتزت أرجاء المكان، ودخل مينو القصر في عظمة وجبرية، فسار توًّا إلى حجرة زبيدة فانحنى أمامها يقبل يدها، وحيا إلياس فخر بإيماءة من رأسه، وقال: كيف تلميذتك اليوم؟ إنها أدهشتني بالأمس، فقد فهمت كل ما ألقيته في أذنها من الجمل اللطيفة، ثم التفت إلى زبيدة قائلًا: ألم تكن لطيفة يا حبيبتي؟ فأسبلت عينيها في ضجر يشبه الخفر، وقالت بعد أن تنهدت: نعم لطيفة، ثم قامت تتعثر في أذيالها كما يمشي الحالم، وغادرت الغرفة، وهنا التفت مينو إلى إياس وقال: سيكون يوم الجمعة يومًا تاريخيًّا في رشيد، أتعرف حاكم رشيد التركي عثمان خجا؟

– كيف لا أعرفه يا سيدي وفي كل بيت في هذه المدينة من ظلمه دماء ودموع؟

– أرسل إليَّ نابليون من عشرة أيام كتابًا من أبي قير يخبرني فيه بانتصاره على مصطفى باشا كوسه، وأنه أسر من جيشه عددًا عظيمًا بينهم عثمان خجا هذا.

– ولكن عثمان خجا كان قد فر إلى إستانبول عند دخول الفرنسيين.

– نعم ولكنه عاد مع جيش مصطفى باشا ليطردنا من مصر، ويقضي على البقية الباقية من رشيد، قاتل الله هؤلاء الترك! نريد أن نصانعهم فيأبون إلا الانضواء تحت راية أعدائنا الإنجليز، أرسل إليَّ نابليون كتابًا كما قلت يشيد فيه بانتصاره الحاسم، ويطلب مني أن أجمع مجلسًا من العلماء والأعيان لإصدار فتوى بقتل عثمان خجا، وقد اجتمع المجلس وأصدر الفتوى، وسيصل المسكين إلى رشيد بعد أسبوع، ثم أخرج من جيبه ورقة فقرأها إلياس، وترجم لسيده ما فيها، فكانت هذه عبارتها لم تغير فيها حرفًا: «وصلتنا مكاتبتكم، بالأمر أننا نستخبر ونكشف عن جميع الأعمال التي حدثت في طرف عثمان خجا كردلي، وننظر إن كان حصل منه الشر أكثر من الخير، وبموجب هذا الأمر بحضور: حضرة سيدنا شيخ الإسلام العالم المتورع الشريف أحمد الحضري المفتي، ونقيب الأشراف المكرم المحترم الشيخ بدوي، وقدوة الأعيان أحمد أغا السلحدار، والمكرم علي شاويش كتخدا، وقدوة التجار إبراهيم الجمال، والشريف علي الحمامي، والشيخ مصطفى طاهر، والشريف إبراهيم سعيد وبحضور جماعة المسلمين خلاف المذكورين أعلاه.

ثم حضر رمضان حموده، ومصطفى الجيار، وأحمد شاويش عبد الله، والحاج حسن أبو جوده، وبدوي دياب، وحسن عرب، وثبت من إقرارهم ومن شهاداتهم أن عثمان خجا المذكور كان ظلمهم ظلمًا شديدًا بالضرب والحبس بدون وجه حق، ونهب أملاكهم، وخلاف ذلك سئل جماعة من المسلمين الحاضرين في المجلس إن كان حصل من عثمان خجا الشر أكثر من الخير، فكلهم قالوا بلسان واحد: إنه حصل من عثمان خجا الشر أكثر من الخير، وبسبب ذلك يقطع رأس عثمان خجا حاكم رشيد سابقًا».

وبعد أن أتم إلياس قراءة هذه الفتوى، دخل علي الحمامي فحيا الجنرال كما تُحيا الملوك، وانتحى ناحية قاصية في الغرفة حتى إذا أومأ إليه مينو بالجلوس جلس مطرق الرأس يجمع أطراف ثوبه في أدب وذلة، ويخفي قدميه تحت الكرسي مبالغة في الخضوع، فلما اطمأن به المجلس سأل مينو: هل سافرت السفن إلى القاهرة؟

– نعم يا سيدي سافر اليوم عشرون سفينة محملة بالأرز الأبيض، فيكون ما بُعث به إلى القاهرة في هذا الشهر سبعين سفينة، منها ثلاثون محملة قمحًا.

– هل تألم التجار من إرسال هذا المقدار العظيم؟

– إنهم دائمًا يتألمون يا سيدي، ولو ترك لهم الأمر ما سمحوا بسفينة واحدة؛ لأنهم يبيعون أردب القمح خفية بسبعة عشر ريالًا، في حين أنه يُباع للجيش الفرنسي بثلاثة ريالات، أما الأرز فكثيرًا ما ضُبطت السفن وهي ذاهبة به إلى دسوق ليباع هناك بسعر مرتفع، ثم التفت إلى المترجم ليعينه في ترجمة ما يصعب على الجنرال فهمه، وقال: هؤلاء التجار يا سيدي لا يملأ عيونهم شيء، وهم يعلمون حق العلم أن هذه الحبوب ترسل إلى الجيش الفرنسي الذي يدفع عنهم فتك الترك ونهب العرب، ومع هذا لا يخرجون شيئًا من الأرز أو القمح إلا بعد التهديد والتعذيب، ولولا الخوف الذي يملأ نفوسهم ما جادوا على الجيش بحبة واحدة، ومن الغريب المعجب أني كنت بالأمس عند الحاج سالم الغزولي، وهو رجل ماكر ختال واسع الحيلة، عبقري في تزويق الكذب وإحاطته بإطار من الأيمان التي تغمس صاحبها في النار، لذلك أعددت العدة لمكره ومحاله، فبعثت حوله العيون وأصحاب الأخبار حتى علمت أنه يخبأ قدرًا عظيمًا من الأرز في مخازن داره، فلما ترادفت عندي الأخبار ذهبت إليه في دائرته بعد أن أرسلت إلى داره طائفة من العمال والحمالين لينقبوا جدار مخازن الدار، ويستخرجوا منها ما يجدونه من أرز وقمح، فلما رآني تهلل وجهه بشرًا، ونثر فوقي من عبارات الترحيب والشوق ما تعجز عنه أم عاد إليها وحديها بعد لوعة وإياس، والعجيب أن لألفاظه رنين الذهب الخالص الذي لم يشبه زيف، ولم يخلط به ما يكدر معدنه الكريم، ثم وثب مع التحية إلى امتداح الفرنسيين والإشادة بعدلهم وسماحة حكمهم، وأخذ يوازن بينهم وبين الترك في ذلاقة لا يستطيعها سواه، ثم التفت إليَّ وقال: كن معهم يا سيدي الشريف كما أنت، ولا تبال ما يقول الناس، فإنهم اعتادوا الظلم فإذا رُفع عنهم تشوقوا إليه، وأسفوا على أيامه الماضية، إن الخفافيش لا تعيش إلا في الظلام، فإذا سطع عليها النور اضطربت ولاذت منه بالفرار، وهؤلاء العبيد الذين نسومهم الخسف لو أطلقنا سراحهم في الصباح لعادوا إلينا في المساء، ولحنوا إلى الذل الهنيء في ظلال ساداتهم، ثم انطلق إلى حديث ثانٍ وثالث، وأظنه كان يتوجس أني جئت لطلب شيء فأخذ يملأ الحجرة حديثًا حتى لا يتسع فيها قول لغيره، وحتى يصرفني بسحر محاضرته عن أن أنبس بكلام، ولكني قاطعته وهو ينتقل إلى موضوع فسيح يستطيع أن يتكلم فيه اليوم كله، وطلبت منه مائة إردب أرز للجيش الفرنسي، فقال: آه يا سيدي هؤلاء الفرنسيون لو أطعمناهم المن والسلوى ما كافأناهم، ولو شوينا لهم فلذات أكبادنا ما وفينا ديننا لهم! من يضن على هؤلاء المجاهدين بقوته وقوت عياله؟ إنه لن يكون إلا حجرًا صلدًا لا خلاق له من الرجولة والإحساس الكريم.

ولو أن لقمة كانت في أذيال السحاب، وكان لي نهوض الطائر لحلقت حولها واختطفتها لأضعها في فم فرنسي، إن ما نحن فيه من نعمة واطمئنان وثروة لم يكن إلا منحة أيديهم وفضل سماحتهم، دع مسألة الدين بالله عليك يا سيدي، فإن الدين لله، وأنف العمامة راغم، وأنف العلماء راغم، على أن صفات الوفاء والاعتراف بالجميل وشكر المحسن على إحسانه لا تعرف مذهبًا ولا جنسًا ولا دينًا، من يا سيدي لا يبذل كل ما عنده للفرنسيين؟ ولكني أقسم بذات الله العلية، وقدرته الصمدانية، وبقبر المصطفى صاحب المقام المحمود، والشفاعة العظمى في اليوم المشهود، إني لا أملك حبة أرز ولا أحوز حبة قمح، وإليك الدائرة يا سيدي الشريف ففتش كل مكان فيها إن شئت، ولقد كنت أتمنى أن تمتلئ هذه المخازن سمنًا وعسلًا وحبًّا لأهبها جميعًا للفرنسيين! آه ما أشد حزني حين أريد فلا أقدر، وقد كنت في أيام الترك أقدر ولا أريد! ليت الأرض تمور بي مورًا، وليت الموت ينسفني نسفًا، بعد أن عجزت عن أن أعمل شيئًا يكون آية إخلاصي للفرنسيين وفنائي في حبهم، وبينما هو منهمر في حديثه كالسيل الهدّار؛ إذ أقبل أحد عماله صائحًا في ذعر وهلع: يا سيدي إن بعض عمال السيد علي الحمامي نقبوا جدار المخازن بالدار، وهم الآن يحملون كل ما فيها من أرز وقمح، فبهت الرجل وهو ممن لا يبهتون سريعًا، غير أن المفاجأة خلطت عليه أمره وأذهلته لحظة عن نفسه استطاع بعدها أن يثوب إلى طبعه، فالتفت إليَّ وأخذ يقهقه ويضرب الأرض بقدميه، ويهز كتفي هزًّا عنيفًا، ويقول والضحك يفصل كل كلمة من كلماته عن صويحباتها: كنت أختبر ذكاءك يا سيدي! وكنت من الغرور بحيث أظن أن حلاوة منطقي وبريق ألفاظي يذهلانك عن الحق، وأقسم بذات الله العلية، وقدرته الصمدانية، ولو أنك خُدعت لاحتقرتك وازدريتك، وحزنت أشد الحزن أن يكون سليل النبي الكريم فَدْمًا مغفلًا، أما الآن فالحمد لله ثم الحمد لله على أن لم يضع أملي فيك وأنت صديق ابن صديق، وعزيز ابن عزيز، خذ ما حمله رجالك من مالي حلالًا وإن شئت فادفع ثمنه أو فدع.

فعجبت من حسن انفلات الرجل وسرعة عارضته، ودفعت له الثمن وهو مرح ضحوك، وهنا قال الجنرال: هذا رجل ذكي دوّار ولكني أخشى ألا نكون قد تركنا لأهل البلد من الحبوب ما يكفيهم.

– الواقع يا سيدي أنهم في ضائقة، ولكن غلة العام القابل ستكون وافرة.

وفي هذه اللحظة دخل إينال مملوك الجنرال الخاص وقال في صوت خافت: حان وقت الجمعة يا سيدي الجنرال، والجنود على استعداد لموكب الصلاة التي ستكون في مسجد زغلول، فظهر على وجه مينو الامتعاض الذي يظهر على وجه مريض تُقدم إليه جرعة لا تساغ، وقام في تثاقل وهو يقول: الصلاة، الصلاة، دائمًا الصلاة، ولا شيء غير الصلاة! ثم خرج فإذا موكب حافل من فرسان الفرنسيين وجنود المماليك والترك، وقد حمل كل فارس الراية الفرنسية خفاقة في الهواء متخايلة في الفضاء، والموسيقى تعزف النشيد الوطني الفرنسي، وكان مينو في وسط الموكب فوق جواد كميت يختال في مشيته كأنما سرى إليه زهو صاحبه، حتى إذا بلغ الركب المسجد دخل مينو حاسرًا عن رأسه، فتلقاه الإمام وفي يده عمامة خاصة به كانت تحفظ في خزانة بالمسجد، فلما وضعها على رأسه طافت حول شفتيه ابتسامة خفيفة مبهمة، تذكر عندها باريس، وتذكر ملاهيه في مرسيليا وبوردو، وعجب من الضرورة التي دفعته إلى دين لا يعرفه بعد أن طلّقت فرنسا كل دين، وتذكر هنري الرابع الذي اعتنق المذهب الكاثوليكي ليفوز بملك فرنسا وقال: ليس بغالٍ أن يشترى عرش فرنسا بقداس، تذكر كل هذا فتملكه زهو الملوك، وطاف بنفسه أنه فوق طبقة البشر، غير أن صوتًا جهيرًا في هذه اللحظة انطلق من المئذنة فصك أذنيه صائحًا: الله أكبر! الله أكبر! فلم يلبث المسكين أن نكس رأسه في استخذاء، وعلم أنه لا شيء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤